فكر

حركة النهضة التونسية من النشأة إلى الحكم (ج1)

محطات في مسير التطور والتعثر

مفتتح:

إنَّ الركود الذي حكم إيقاع الحياة في البلدان العربية بما يعني سيرها باتجاه حاضر لا يكف عن تكرار نفسه، وحين استيأس الجميع بعدم البديل واستحكام المأزق التاريخي غير القابل للإصلاح اندلعت بغتة شرارة الاحتجاجات في تونس لتتحول سريعًا إلى ثورة عظيمة تُوِّجت بالإطاحة برأس النَّظام البوليسي الحاكم(1) . وقد كانت حركة النهضة جزءًا من هذه الثورة بكل مكوناته بعد أن خاضت مسيرة طويلة منذ السبعينات في استعادة الهوية الإسلامية للفرد التونسي بعد اختطافه نحو التغريب والعلمنة المتوحشة من القيم والدين بله السلوك المتصالح مع مبادئ الخير، ثم الثقة بمقدرة الإسلام على تشكيل الحكم وتأطير مساره نحو العدالة والحكم الرشيد عبر مبادئه العامة المتشكلة من الوحي، والاجتهاد الراشد بهذه المبادئ نحو التطابق مع الواقع والتكيُّف به، وأنَّ الانفصام المزعوم بالمغالطات والتوهم في كون الإسلام منفصلًا عن الحكم قاصرًا على المحراب وزوايا التعبد غير وراد في المذهبية الإسلامية وإنما هي صدود مصنوعة لمنع الاتصال بين أداء المناسك وإدارة الممالك، واِلتحام الوحي بالواقع، وقد كان لهذه الحركة المباركة الجهود العظيمة في إحداث الصحوة الإسلامية التونسية حتى تسنمت مقاليد الاعتراف القانوني الدولي، و تشارك الحكم مع غيرها في فترة ما بعد الثورة.

وهذه المسيرة المباركة مرّت بمنعطفات كثيرة وكبيرة ما يجعلها محل اعتبار واستثمار من الحركات والتوجهات الحادية حذوها في المنهج والهدف، وضمن سلسلة الحوارات والندوات التي قام بها مركز دراسات الإسلام والشؤون الدولية التابع لجامعة صباح الدين زعيم في تركيا وبالتعاون مع كلية الدراسات الإسلامية التابعة لجامعة حمد القطرية حول دراساته للتجارب الإسلامية في الحكم التي بدأت بالسودان ثمَّ مصر ثمَّ تونس، فقد ارتأيت أن أقوم بتلخيص هذه المادة من هذه الندوات وغيرها من الندوات على شكل كبسولات يتناولها المهتمون بشأن الحركات الإسلامية السياسية، فتفيد في رصيد الخبرة والتجربة لمن يسرون في هذا الدرب القاصد الواعد بالنصر والتمكين.

النهضة: الولادة والرؤية

يقول الصحبي عتيق(2) تعيش تونس في واقعها الثقافي علمانية مفرطة، حيث كان الاستعمار، وطمس هوية، وتفكيكها، ثم استقلال ونفوذ خارجي عن طريق العلاقات الاقتصادية، تشكلت من هذا الواقع ثلاث قضايا كبرى هي: التجزئة/ الدولة القُطْرية، الاستبداد، العلمنة والتغريب. وكان التغريب قد مس كل القطاعات، فهُمِّش الإسلام وأُبعد عن مجالات التربية والثقافة والسياسة والقانون، بنهج متطرف جدا، رغم إعلان الدستور أنَّ الإسلام دين الدولة.. 

هذا الرحم المجتمعي الحامل لهذه الجرثومة هو سبب ولادة حركة النهضة، مستندة في رؤيتها بداية نشأتها إلى التصور السني الأشعري المشوب قليلًا بالفكرين الماتريدي والاعتزالي، أشعرية منفتحة، ولم تتقيد بمذهب فقهي واعتمدت فقه السنة للسيد سابق مدرسا تداوليًّا بين قواعدها، وهو نوع من التمرد على المذهب الرسمي المالكي.

وقد مثلت الحركة خطًّا تجديديًّا من خلال روافد ثلاثة:

1-رافد الفكر الموروث، إذ يمثل التدين التقليدي، من منجز جامع الزيتونة، والأشعري المالكي، والصوفي الطرقي 

2-رافد التجديد الإصلاحي الذي تزعمه الأفغاني، ومحمد عبده، والكواكبي، وغيرهم. 

3-رافد الإخواني الحركي، والذي كان حاضرًا بقوة فكرًا وتنظيمًا. 

وهي بهذه الروافد تعتبر نفسها امتدادًا موضوعيًّا لحركة الإصلاح التونسي الذي مثله خير الدين التونسي والثعالبي وابن عاشور. 

وقد تمثلت المدرسة الإصلاحية عدة أبعاد، هي: 

أ- اعتبار الإسلام مرجعية شاملة بما فيها بُعد السياسي. 

ب- استيعاب الحداثة، والاقتباس من الغرب. 

ج- الاستفادة من التراث الإسلامي الواسع، والمنجز المعرفي الإنساني.

وفي مشوارها الطويل التطوري كانت منظومتها الفكرية القيمية كما حددها المؤتمر العاشر في مايو 2016م، قرار التخصص في العمل السياسي وفصل الدعوي عنه، ومنطلقها أربع مبررات هي:

تغيُّر وضع الحرية. –  تحرر الخطاب الديني- تراجع ظاهرة الملاحقات – ومحاصرة الظاهرة الدينية- إحراج الأطراف السياسية لها في الجانب القانوني. فكان توجه التمايز بين الدعوي والسياسي، والخروج من المراوحة بين الحركة الشاملة والحزب السياسي.

إذن نمط المجتمع التونسي وتأثره بالغرب وأنماطه بصورة قوية تفوق أكثر المجتمعات العربية هو سبب ولادة النهضة، فكانت معركة الهوية وجدل مرجعية الدستور- رغم تنصيص أغلب الدساتير العربية على مرجعية الشريعة في القانون- حيث برز رأيان في ذلك، رأي مع تنصيص مرجعية الشريعة للقانون، ورأي يرى الشريعة متناقضة مع مدنية الدولة، فالتوجهات الحاكمة في تونس هي:

– توجه تغريبي قوي. توجه ليبرالي واقعي مؤمن بالنمط المجتمعي المختلف مع الإسلام دون معاداة للإسلام. 

– توجه فكري استشراقي، يمثله دكاترة كلية الآداب. 

– توجه مقاصدي جديد أحيانًا، يحافظ على المقاصد ويختلف في التفاصيل، وتقدم قراءات أحيانًا بطريقة صريحة وأحيانًا بطريقة مقنعة وخفية. 

– توجه دستوري، وهي معركة تأويل الدستور، رغم مادة الإسلام دين الدولة، غير أنهم يقولون هذه المادة وصف ليس أكثر، في حين أن الأمر ليس وصف الوضع الاجتماعي في الدستور، بل يحتوي على قواعد تنظيمية، فلا معنى للتنصيص على الإسلام دينًا للدولة إلا باعتماده مصدرًا للتشريع.

يعيش المجتمع التونسي هاجس الحريَّات ويخشى من حركة النهضة أن تضيِّق فيها، كما يهتم بقضايا العنف ضد المرأة، المساواة في الإرث، الجندرة، وفتح الباب للمثلية الجنسية، وتغيير أدوار المرأة والرجل، وتغيير النَّمط الاجتماعي، وتفكيك الأسرة، موضوع المخدرات، الأمهات العزباوات، حيث في تونس أكثر من ألف ولادة خارج الإطار الشرعي كل سنة المعلنة رسميًّا، إلى جانب ما يتم سريًّا، التمييز العنصري.

وفي هذا السياق يقول العجمي نورين(3): الإسلام غائب من الطرح العالمي بعد أن كان القائد والقطب الأبرز في منظومة دولية تتردد بين الحرب ومن يقودها المصالح المادية والجيوسياسية وبين السلام الذي هو جوهر رسالة الإسلام ، فلم يعد الإسلام كتلة وقوة حضارية تاريخية، ولكنه أصبح معطى ثقافيا يحمل الرسالة الثقافية كدين والآثار التاريخية لدوره كقوة فرضت على العالم فرضت نظام هيمنة ينحو نحو تحقيق التوازن والعدالة، وقد أفلت تلك المنظومة، فأصبح الإسلام محل مطامع قوى نافذة، فتمددت على حساب تراجعه وتغذت من فقدانه القدرة على بسط نفوذه الروحي، وأن يكون نظامًا يسود العالم وإطارًا للعلاقات الدولية.

فقد مركزه في العالم الناهض وتقهقر  قرونًا، وكان تراجعه التدريجي إيذانا بدورة حضارية  يكون فيها منقادا ومحل أطماع ، وذبل التجديد فيه فتآكل، ولم وحدة جغرافية ولا جهة مبادرة تاريخية ، ولا شرطيا يبسط النظام ، ويقيم العدالة الاجتماعية ، فبدل الوحدة تفككا وبدل القوة هوانا ، فالدولة العثمانية دخلتها الحضارة الإسلامية مرحلة تدبير المسلمين شؤونهم دون الارتكاز إلى مرجعية ثقافية موحدة ، لأنهم ما عادوا وحدة سياسية ولا قوة حضارية مهيمنة ولا قوة عسكرية مهابة وقد دخل في البلاد الإسلامية والمنطقة العربية في عالم يقوده الغرب الذي ستقوم ضده تيارات ثقافية ودينية إصلاحية إحيائية مرحلة التصدي للغرب الصاعد المهيمن الذي يرى في الإسلام دين عالم مقاومة أساسية لغربنة العالم وتوحيده تحت راية التمظهرات العصرية والثقافة اليهودية المسيحية المشبعة بالروح الصليبية التي كانت وقود حروب زحزحة الإسلام من مركز القيادة إلى حالة التبعية بمفعول الانحطاط الداخلي أولا ، وبمفعول التشكل المضاد للإسلام كقوة فاتحة للعالم وإبادة لشعوب ما تزال على هيئتها الأولى لا فارق بين طبيعتها وثقافتها غير مؤهلة لمقاومة روحية وعسكرية للغرب المتمدد المتمدن المحكوم بروح الظفر والمدجج بسلاح السيطرة والإبادة العرقية والثقافية ، لا يرى في خصوصية الشعوب إلا جاهلية ينبغي أن تسحقها القوة المسلحة والجامحة.

ورغم مرور قرون على انطلاق دورة حضارية غربية لم تستطع الوقوف في وجهها مقاومة الإمبراطورية العثمانية الواقعة تحت مقعد انحطاطها الداخلي وفشل محاولتها في الإصلاح في التماسك، ولم توفق  التيارات الإصلاحية الإحيائية التجديدية في نفخ الروح في هذا الجسد المحتضر ، لكنها تبلورت في نهضات وصحوات وحركات تحرر تنشدُّ تارة إلى المرجعية الإسلامية ، وتارة تقتبس الأنموذج الغربي ممتزجا بعناصر من الثقافة والحضارة الإسلامية حتى غدت نهضة الأمة الإسلامية المنشودة حالة صراع داخلي بين المرجعيات ، خاصة مرجعية فك الارتباط بالغرب ، ومرجعية الاتباع من داخل منظومته الموحدة للعالم ، وقد عُرفت مرجعية فك الارتباط وجماعتهم بالإسلام  الثقافي ، وهي تسمية حديثة تعطي حالة ثقافية وسياسية متنوعة ومتشرذمة، لا رابط بينها إلا ما ترى فيه أنظمة التبعية والخنوع من خطر يتهدد دورها وكياناتها التي رسم حدودها الاستعمار لضبط حالة التشظي التي دشنها وهو يوزع تركة الرجل المريض لا على ورثته الشرعيين، وإنما على شركاء قيادة العالم الجديد / عالم ما بعد الإسلام .

النهضة التونسية من النشأة إلى الحكم 2 حركة النهضة التونسية من النشأة إلى الحكم (ج1)

والإسلام لم يكن عرضا تاريخيا ولا ثقافة عفوية لشعوب لم تغادر حالة الطبيعة، بل كانت فترة إنسانية، وطفرة حضارية، ومؤسسا للمدنية في مواجهة التوحش والقوة الغاشمة العمياء. فقد استلهمت حركات الصحوة والإحياء من عقيدته التحريرية ومن شريعته السمحاء ومن تمجيده للحياة وللتهذيب الاجتماعي ولمكارم الأخلاق وللعدالة بين البشر، مشروع نهوض وطاقة مقاومة وبناء، حتى عادت في فجر الألفية الثالثة لتكون لا مجرد معطى جغرافي ومسرحا للأطماع وإنما فاعلاً جيوسياسيًّا ولاعبًا سياسيًّا في خريطة العالم ضمن قواه الفاعلة ومنظومة تأثير تستدعي مكوناتها المتوزعة  على الخارطة لإحداث التوازن أو لتكون على خطوط المصالح بما يحفظ الاستقرار.

والعالم المتحضر لا تحكمه القيم فقط ولا تُسوى صراعاته بالحوار والتفاهم فحسب ، خاصة وأن جغرافية العالم الإسلامي تختزن أثمن ثروات العالم ، لذلك يتم جرِّ الإسلام السياسي دون وعي منه وإدراك لخساسة لعبة الأمم وهوى القوة الشديدة ، وجره إلى أجندات القوى التقليدية لتجعل منه وقودا لحساباتها فستستنفذ طاقاته التاريخية لا في عملية الانبعاث الحضاري، وإنما في صراعات المحاور والحروب بالوكالة ، ولعله لهذه الأسباب وغيرها اختارت بعض الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية (النهضة( أن تعلن نفسها أحزابا مدنية ضمن منظومة الأحزاب الديمقراطية والمحافظة، لا المنتسبة إلى حالة الإسلام السياسي الممتد تاريخيا وجغرافيا، ولعل هذه الأحزاب المرشحة لتكون من ركائز إقامة دولة القانون وترسيخ العدالة والديمقراطية في بلدانها تحتفظ لنفسها بمسافة الأمان مع بقية مكونات الساحة الإسلامية ، وبفك الارتباط بتجارب لم تقدم الصورة  الأمثل لإسلام عائد ، لعله تحتفظ بإمكانات القيام بدور يجعل من الإسلام ولو جزئيا في مساحة جغرافية محدودة فرصة إبراز طابعه البناء كفاعل جيوسياسي، لا توظفه قوى السيطرة العالمية في صراعاتها وإنما يوظف طاقاته التجديدية الإبداعية في تحقيق مصالحة مع العصر والنفع العام في عالم لا خلاص له إلا بتغذية نوازع الخير وإرادة العيش المشترك التي جاءت الرسالات السماوية للتبشير بها وتكريسها. .

يقول الدكتور حسن بن حسن(4) : النهضة بعد خمسين سنة من انبعاثها وأزيد من أربعين عاما من العمل الدعوي والسياسي المحترف نجحت في بناء مدرسة متميزة من العمل الإصلاحي والأداء السياسي، والمدرسة الإصلاحية لا تتحدد بالقدرة الإنتاجية لاختياراتها الأساسية الكلية وبقوتها التوجيهية نحو النجاح وبالمحركات العقلية الفكرية.

تقاليد النقد والتقييم هي أحد المحركات العقلية والفكرية، وتتحدد المدرسة الإصلاحية بمنابع الإمكان والقدرة وأسباب التجدد، وحين تجف منابع الإمكان وتضمر أسباب التجدد تكون الحركة الإصلاحية في طريق الأفول والاندثار.

لقد مثلت حركة النهضة داخل مشهد حركات التنفيذ والإصلاح في العالمين العربي والإسلامي قصة من القصص القليلة للأداء السياسي المجدد الناقد المبتكر القادر على التفكير خارج الصندوق، الواعد بآفاق كثيرة والمجتهد في امتلاك واستجماع أسباب النجاح، هذا التميز النسبي لا يزال تحت الاختبار وهو يعود إلى أربعة أركان وعوامل:

1-اختيارات فكرية أساسية توجه نحو النجاح والفاعلية وتعتبر الأفعال بمآلاتها ونتائجها 

2-امتلاك مفاتيح كبرى للوعي التاريخي لفهم العصر ومسالك التأثير فيه، والوعي التاريخي هو: وعيٌ بالانتماء لعصر امتلاك مفاتيح فهم العصر. 

3-القدرة على التعلم الدائم أي النهضة حركة تتعلم. 

4-القدرة على المواكبة المعقولة للاحتياجات الوظيفية والاستراتيجية للمراحل السياسية التي مرت بها وقد لعب مؤسسها ورئيسها الغنوشي دورا رياديا في ذلك. وهذا الدور الذي لعبه لا يعني إرجاع كل إنجازاتها على مدى العقود الماضية إليه، فالنهضة بنيت بآلاف الأيدي ومئات العقول ومئات المفكرين … والغنوشي أسهم بقسط وافر في بناء اختيارات النهضة الكلية ذات القدرة العالية الكلية، وكذا في صناعة محركاتها العقلية ومنابع القدرة والإمكان فيها، وبناء قدرة التعلم. 

وأركان مدرسة النهضة هي: 

1-اختيارات فكرية سياسية توجه نحو النجاعة والفاعلية وتتبنى حس مسؤولية الحركة، وتجعل النجاح والفشل معيارا لمدى صحة التوجهات الكبرى في منهج التغيير الاجتماعي وفي إدارة الصراع السياسي. 

2-مقاصد الشريعة اعتبار مآلات الأفعال حاسم في العمل السياسي.

يقول أحد المفكرين عن رجل السياسة والفكر، أن هناك تمييزا بين نوعين من الأخلاق، أخلاق المسؤولية وأخلاق القناعة، أخلاق القناعة هي أخلاق رجل الفكر والعلم عليه أن يعبر عن قناعاته بكل شجاعة فلا يساوم في القناعة الفكرية، لكن رجل السياسة إذا تصرف بمنطق أخلاق القناعة يؤدي إلى نتائج كارثية رجل السياسة يتصرف بمنطق أخلاق المسؤولية أي باعتبار نتائج الأفعال ومآلاتها، لأنه يتحمل مسؤولية الدماء والأعراض والأموال والفعل السياسي بمعنى من معانيه ينعقد فيه المصير الاجتماعي..

الاختيارات الثقافية الأساسية التي توجه نحو النجاعة والفاعلية وتبني حس المسؤولية الحركية وتجعل النجاح والفشل معيارا لمدى صحة التوجهات الكبرى هو الركن الأول. من هذه الاختيارات الآتي:

1-التمييز الصارم بين الدين والتدين، حيث الدين وحي مطلق الكمال من الله لا تسري عليه مفاهيم التقادم والنجاح والفشل، أما التدين فقراءة المسلم لدينه وترجمته العملية لهذه القراءة ، قراءة تزيد وتنقص جودة ، وتحمل في أحشائها مصيرها وتنطوي على نجاحها وفشلها.

والمسلم في العمل السياسي في الإصلاح الاجتماعي يتدين بقراءته وهذه القراءة تزيد وتنقص جودة وتحمل في جنباتها مصيرها.

التحكم الكامل في النتائج والمآلات متعذر في التغيير الاجتماعي السياسي، ولكن التهوين منها عنوان من عناوين الفشل، وهذا التهوين موجود في الحركات الإصلاحية، استخفاف بالنتائج، كلما تقع كارثة يقولون نحن مطالبون ببذل عناية لا بتحقيق غاية مع أن بذل العناية يفترض تحقيق الغاية..

2-من هذه الاختيارات الفكرية الثقافية المنزلة التي ينزلها أو المكانة التي يحتلها التفاعل مع الواقع في الوعي الإصلاحي لحركة النهضة في حسن التفاعل أو سوء التفاعل مع الواقع ، فينعقد مصير الفكرة  الإصلاحية من عدة وجوه، فالفكرة الإصلاحية تزداد نجاحا بقدر إجابتها لاحتياجات الواقع ومطالبه، بل إن الطلب هو صيغة المثول التاريخي للفكرة حتي في العلوم الإسلامية هناك علوم شبه مغلقة ، كعلم الحديث وعلم القرآن، وعلوم مفتوحة للإضافة والتجدد تسمي علوم تحت الطلب ، كعلم الفقه، فلا وعي في الفكرة الإسلامية وعيا ملموسا إلا بقدر ما تخوله قراءة احتياجات الواقع ومطالبه، والواقع بالنسبة لإرادة التغيير كإكراهات يتعين التخطيط الجيد لمغالبتها، وفرص يتعين اغتنامها، وخيوط للفعل يتعين التقاطها، وفي كل واقع مهما كان عسره خيوط للفعل يمكن للحركة الإصلاحية أن تلتقطها، وخاصية الإنسان أنه كائن قادر على الاطلاع يعي الوضعية التاريخية مهما كان عسرها.

قانون الإصلاح يتخصص ويتغير بالانتقال من مجال إلى آخر، ولا يوجد مفتاح واحد لكل أبواب الإصلاح رغم تداخل مجالاته وهو ما يفضي إلى التخصص، فمفاتيح الإصلاح تتخصص من باب إلى آخر، كفصل السياسي عن الدعوي، ومنح إدارة الصراع وتدبير الشأن السياسي الخصوصية التي تستحق..

3-اختيار الحرية بابا للإصلاح السياسي وللمستقبل والديمقراطية نهجا لاسترداد الشعب لأسلابه وسيادته على ممتلكاته

وقد أسهم الغنوشي في بحث تفاصيل تفرعات فكرة الديمقراطية إضافة لمن سبقه في الكتابة عنها كالكواكبي وتوفيق الشاوي، كما رفع التحفظات عليها داخل الحركات الإصلاحية وفي مواجهة أعبائها وأثقالها في الممارسة والسير عقب الثورة ببوصلة سليمة.

توسيع طاقة استيعاب الفكرة الإسلامية لمنجزات الحداثة، والحداثة هي العنوان الكلي لتجربة الإنسان الغربي الحديث والمعاصر بحلوها ومرها ولقصة انتزاعه لِمِقْود الحضارة.

في مرحلة تأسيس النهضة وإثباتها لوجودها غلب نقد التغريب والاستلاب والهزيمة الحضاريين والمظاهر السلبية للحداثة،

وفي مرحلة نمو النهضة وتوسعها غلب الاقتباس النقدي لمظاهر نجاح الحداثة، مميزة في ذلك بين الخصوصية والكونية في هذه التجربة الحضارية وتعميق النظر في الحداثة اقتصر على الديمقراطية والحقوق والحريات الأساسية، وبدرجة أقل على دور المرأة في المجتمع، وما سوى ذلك ظل موسوما بالتفاعل العملي مع النسخة البورقيبية للتحديث وبدون تنظير كاف.

النهضة بإمكانات جدية للقراءة الأشمل والأجود للحداثة والتجديد الحضاري في نطاقات فكرية نوعية في هذا الباب

فأركان النهضة هي:

الأول: اختيارات ثقافية توجه نحو النجاعة والفاعلية والنتائج. 

الثاني: مفاتيح كبرى للوعي التاريخي أو لفهم العقل وتياراته الغلابة ومسالك التأثير فيه. 

الثالث: القدرة على التعلم الدائم، قدرة الإنسان على القراءة، و التعلم ذات منزلة وخطورة استثنائية في الوحي، فهي الجواب الذي بينه الله لتساؤل الملائكة عن إفساد الإنسان في الأرض، حيث سألوا عن عنصر أخلاقي في هذا الإنسان، فلم يكن الجواب عنده استعدادات أخلاقية عالية بل قال:( علم آدم الأسماء كلها)، وهي الخاصية الكبرى للنوع الإنساني كما ترد في أول سورة نزلت  في القرآن )اقرأ باسم ربك الذي خلق…  اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان مالم يعلم (، فالقدرة على التعلم والاستعداد للتعلم خاصية إنسانية كبرى، وخاصية النهضة أنها حركة تتعلم من أخطائها، فلها تقاليد دورية في النقد والتقويم ، تقييم شامل لمسار الحركة عام 1484م ، 1986م، 1995م ، المؤتمر العاشر 2016م . .

النهضة تتعلم من أخطائها وانتصاراتها، تتعلم من خيبات الزمن السياسي العربي ، كالوعي بأهمية النخبة ومواقع النفوذ ،-  وقد تنبه الغنوشي لما جرى في الجزائر بداية التسعينات حين فاز الإسلاميون بنسبة 89% لكن النخبة المتنفذة الأقلية قلبت الطاولة على الجميع- ، الوعي بأهمية ميزان القوى ، الوعي بالانقسامات المدمرة – الزمن السياسي العربي دمرته الانقسامات فكان العدو الداخلي عوضا عن توجيه السهام نحو العدو الخارجي- الاستفادة من تجارب الشعوب والأمم الأخرى كما هو الشأن في الانتقال الديمقراطي في تونس كما فعل الوزير سمير جيلو الذي صاغ ملامح العدالة الانتقالية بالاستفادة من تجارب الأمم.

من تعلمات العقل القيادي النهضاوي الكبرى القدرة على التفكير خارج الصندوق مرات عديدة ومن ذلك كسر أربعة أقفاص فولاذية هي:

– ما ورثوه من اليسار القطيعة السياسية التنظيمية مع الآخر وبالخصوص الحزب الحاكم، حصل كسره مع نداء تونس بعد الثورة.

– ما وُجد لدى حركات الإصلاح من تهوين للنتائج والمآلات فبذل العناية بمنطق السنن يؤدي إلي تحقيق غاية. 

– قفص اليوتوبيا الدموية الجامحة الذي عادة ما يسجن الثورات ويتوهم القطع مع الماضي لتصفية رموزه. 

– النظرة التآمرية للعلاقات الدولية، وتخيل أن العالم كله تحكمه المنظمات السرية ويشتغل ضد نهضة العرب والمسلمين وهي نظرة لا تعي حقيقة هذه العلاقات ودون الاشتغال عليها بأدواتها.

أهمية المجتمع الدولي في مقاومة الاستبداد، ومنها أهمية الصورة الخارجية في تحقيق التجربة الديمقراطية فهي تسهم في خنق المستبد وفي إفشال الانقلاب.

مسار التعلم لا يزال مفتوحا وطويلا، والقدرة على التطور والنجاح وامتلاك مفاتيح التأثير في العصر تتعقد في القدرة على التعلم

الركن الرابع: القدرة على الاحتياجات الوظيفية والاستراتيجية لمختلف المراحل السياسية، وهذا الركن سيتجلى في إدارة الانتقال الديمقراطي بعد الثورة وسيكون الحديث عنه مشبعة في فقرة النهضة وتجربة ما بعد الثورة.

النهضة التونسية من النشأة إلى الحكم 3 حركة النهضة التونسية من النشأة إلى الحكم (ج1)

الثورة ودور النهضة.

عاش العالم العربي – حسب قول الصحبي عتيق – عهوداً من الاستبداد، وحيف اجتماعي، وانعدام الحرية والحوكمة الرشيدة، واستشراء الفساد، وعدم استقلال القضاء، هذا المناخ أفرز الثورة رغم عدم توقعها 17 ديسمبر 2010م، وهي ثورة شعبية أسبابها اقتصادية اجتماعية، ثم التحقت بها النخب والشباب الكثير . وقد كان للنهضة دور هو النضال المستمر عقوداً.(5)

دور النهضة قبل الثورة.

كان النضال ضد الاستبداد المتراكم لسنوات من نصيب الإسلاميين خاصة ومعهم نقابيون وحقوقيون، وكلها أطراف ساهمت في ضرب الاستبداد تاريخيا، وساهمت في تشكيل الزخم الثوري وصناعة الواقع الجديد بتونس، وأهم العوامل المؤثرة في هذا الوقع الجديد:

قمع الحريات، محاكمات سياسية للنقابيين والإسلاميين، حملات الاسـتئصال ضد الإسلاميين سنة 81، 84، 88، 90، انسداد أفق الإصلاح السياسي والاقتصادي، انتشار الفساد وتسلط العائلة، ضرب منظمات المجتمع المدني، استفحال البؤس والحرمان، تزايد البطالة خاصة للشهادات العليا.

وكان وجود منظمة قوية في تونس هو الاتحاد العام للشغل قادرة على تأطير العمال والشارع، وجمعية الحفاظ على المساجين، وجمعية المجتمع المدني سببا في انكشاف زيف الصورة التي قدمها نظام ابن علي وتهاوت كل رهاناته في التنمية والعدالة والحرية وحقوق الإنسان، وتحت الضغط الشعبي هرب الطاغية .

سمات الثورة هي: غياب قيادة سياسية لها، غياب الخلفية الأيديولوجية لها، حضور الشباب، التحام الثورة مع قوى الشعب، السلمية.

موقف الجيش التونسي حمايتها ورعايتها حتى تشكلت الهيئة العليا للانتقال الديمقراطي ونُظمت الانتخابات.

الهيئة العليا لتحقيق هدف الثورة هيئة شبه تشريعية تأسست في مارس 2011، وعينت من قبل الحكومة، كان لها دور مفصلي في مرحلة الانتقال الديمقراطي، وهدفها الإشراف على الانتقال والاصلاحات السياسية الدستورية، ضمت 12 حزبا سياسيا، و19 نقابة ومنظمة، ومجموعة من الشخصيات الفكرية المستقلة من كل المشارب.

دور النهضة في الثورة

خاضت النهضة مواجهات عديدة ضد نظامي بورقيبة وابن علي حتى تم إسقاطه، حافظت الحركة رغم تعرضها للسجون والمنافي على طبيعة مشروعها السلمي، ورسخت صورتها الدولية بأنها حركة سلمية رغم شراسة رغم شراسة الحملة عليها جاءت الثورة وجسم الحركة منهكا، وصورة الحركة مشرقة والشعب متعاطف معها، وانخرط شبابها وشاباتها فيها.

بكل هذه الأرصدة النضالية الأخلاقية بعيدا عن الثأر والانتقام ساهمت في إعادة بناء الوطن على الحرية والعدالة والتنمية، ولها حضور قوي في الشباب والأحياء الشعبية وقطاع المحاماة.

وقد سارت الثورة إلى مرحلة تجاوز الإفشال وهو تنظيم أول انتخابات نزيهة 2011م، منح الشعب ثقته للنهضة بنسبة 39% وعدد الأصوات مليون وأربعمائة وثمانية وتسعون ألف، وعدد المقاعد 89 من أصل 217 مقعدا.

وقد اختارت النهضة نهجا تشاركيا في الحكم، حيث قادت مفاوضات أشركت كل الأحزاب اليسارية، وتوخت الحوار، وتجنبت كل طرق المغالبة.

معركة الحركة كان هو الاعتراف، الاعتراف الدولي، اعتراف النخبة، اعتراف المجتمع، كانت مشوهة نصف قرن فكان التطبيع والاندماج مع الإدارة والدولة والاعتراف الدولي، ومثل عامل استقرار، وقد برز التطرف بعد وجود الحركة المتسامحة الوسطية، رغم مساهمة الحركة بفكرها المعتدل في كبح التطرف والعنف، وتجنيب البلاد كثيرا من الكوارث، بكثير من الحكمة والتنازلات والحوار الوطني حتى ينجح المسار الديمقراطي.

نجحت في الفضاء السياسي في دعم الحريات وحقوق الإنسان، وقضايا المرأة، ولم تنجح في المجال الاقتصادي الاجتماعي من حيث تحسين ظروف معيشة الناس والتنمية الجهوية والأمور الاقتصادية المطلوبة.

والنهضة – حسب قول العجمي نورين(6) – حركة تصالحت مع الدولة دون رغبة من طرف واحد. لم تكن هي الطرف الداعي للمصالحة إليها بقدر ما كانت رغبة متبادلة ومطلبا شعبيا وضرورة تاريخيا ومسألة استراتيجية للدولة دون أن يكون هناك إجماع من النخبة حولها، إذ قبلت بذلك على مضض، وما انفكت تبدي المساوئ والتشكيك في قدرة الحركة على هضم الحداثة والتقيد بالتعامل الديمقراطي، والترفع عن فرض نمط مجتمعي على التقاليد التونسية عن طريق الضغط والإكراه.

بينت التجربة أن النهضة أكثر طرف كان يتوفر على شروط قابلية القيام بمراجعات شجاعة واقتراح عرض سياسي يتمثل بالانتقال بالأوضاع من حالة أمنية بوليسية وحكم فردي استبدادي إلى دولة مدنية ديمقراطية تحترم هوية الشعب المسلم ورغبته في المصالحة مع ثوابته الثقافية والدينية ورغم ما يبدو في الأمر من مقاومة، وانتظر الغرب الأوروبي من النهضة تقديم نموذج – هو الأول في التاريخ العربي المعاصر – دولة مدنية ديمقراطية ، وكان يمكن للتجربة أن تفي بوعودها لولا الموجة المضادة في مصر وليبيا واليمن وتلكئ العواصم الأطلسية في مناصرة الشعب السوري، وعندها قامت بالإجهاض الداخلي للثورة التونسية عبر الاغتيالات السياسية والعمليات السياسية ومحاصرتها من الخارج عبر مدفعية إعلام الثورة المضادة ، وقطع الامدادات والينابيع التي يمكن أن تمد الزخم الثوري بعناصر الحياة والرخاء ، ولولا الموجة الشعبوية الهدامة التي تكفلت بمواصلة العمل التخريبية  الذي سبق المصادقة على الدستور ، وتركيب نظام ديمقراطي تعددي ، جيوبلوتيك إسلام.

علاقة النهضة بالدولة

لا يمكن أن تتصور علاقة النهضة بالدولة قبل الثورة خارج إطار مقاومة الاستبداد كما لا يمكن تصور علاقة النهضة بعد الثورة خارج نطاق الديمقراطية، وهنا انتقلت من موقع المعارضة إلى موقع المشاركة في الحكم تصالحت مع المجتمع ومع قيم الديمقراطية، ورعت ديمقراطية إدماجية تشاركية ثم التأسيس لها على مراحل ثلاثة:

مرحلة الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة. 

مرحلة صياغة الدستور عن طريق مجلس تأسيسي منتخب. 

مرحلة تفعيل الدستور وبناء المؤسسات الدستورية.

وعلى مدى عشرية كاملة تعاقبت فيها عشر حكومات لم تعرف الاستقرار ولم تخرج من العجز الاقتصادي المالي، عجز المديونية وزيادتها، وتدهور المقدرة الشرائية، وتفشي الفقر والبطالة، والتفاوت الجهوي، وانخرام التوازن بين الاقتصاد المنظم والاقتصاد الموازي، ودمقرطة الفساد بالتوازي مع دمقرطة سياسية، وقد فشلت النخبة والطبقة السياسية الحاكمة في تحقيق معادلة التنمية والديمقراطية، ومسار بناء الديمقراطية وتنفيذ الإصلاحات الكبرى، فكانت ديمقراطية منقوصة.

أطروحة الثورة المضادة تعتبر عشرية الانتقال الديمقراطي فاشلة ، أضعفت الدولة وفككت مؤسساتها لعدم كفاءة الحاكمين  الجدد ، وأن تقوية الدولة وعودة هيبتها يقوم على أنقاض الحكم الديمقراطي وإقصاء النهضة ومحاسبتها وتصفية المكاسب الدستورية التي منها النظام البرلماني المعدل ، ومراجعة القانون الانتخابي الضامن للتعدد، للعودة للحزب الواحد، ونظام انتخابي يعتمد النسبية لا يمنح الفائز أغلبية مطلقة تعفيه من البحث عن شركاء ، وهو ما فتح الباب للمحاصصات الحزبية وللمزايدات وابتزاز الأقلية للأغلبية ، وكان هذا التجاذب والاستقطاب على حساب التنمية والأولويات الحقيقية للبلاد والمواطن.

لم تنح النهضة منحى الحسم الثوري وتصفية الإرث القديم بالكامل، وإنما اعتماد تمشٍّ يراعي القواعد القائمة والإطار الدستوري، وتفكيك المنظومة بتوسيع ممكناتها لتكون منظومة حكم ذات مضمون ديمقراطي تعددي إدماجي، الخيار التصالحي التدرجي نهجا إصلاحيا محافظا.

لقد ترجم دستور 2014م مطالب الحركة السياسية والمجتمعية في المصالحة مع الهوية العربية الإسلامية من خلال الفصل الأول للدستور، وضمان الحقوق والحريات، والفصل بين السلطات، والتداول السلمي، والحق في التنمية، وتوزيع السلطة في إطار وحدة الدولة من خلال إقرار الديمقراطية التشاركية والحكم المحلي والتدبير الحر بما عبر عن مواقع موازين القوى الجديدة، وقبول جميع الأطراف السياسية والاجتماعية بالعمل تحت سقف الثورة والدستور.

كان هناك أطراف متصارعة ليس حول البرامج السياسية والاقتصادية والتنموية وإنما حول العلاقة بين الدولة والمجتمع وتشكيل بنية السلطة، وتموقع البلاد ضمن مدار حضاري في تقاطع مع محاور دولية وإقليمية ورضع دولي مضطرب متصارع حول النفوذ.

وقد كانت انتخابات 2019 الرئاسية والتشريعية محطة تجلٍّ لأزمة منظومة الحكم الجديد وأزمة طبقة سياسية لم يكتمل في داخلها الفرز بين القديم والجديد ، أفرز هذا الواقع صعود التيارات الشعبوية الفوضوية شديدة التوتر في أخذها الديمقراطي والمصالحة الوطنية وحياد القوى الصلبة والإدارة تجاه الصراعات والتجاذبات الحزبية ، تمركز الشعبوي  في قصر قطاج بفوز قيس سعيد رئيسا ، وداخل البرلمان عن طريق كتلتي الحزب  الدستوري الحر التابع للنظام القديم ، وائتلاف الكرامة، وأدوات صراع منظومات لا تعمل من  أجل التعايش والاحتكام للدستور واحترام التزامات الدولة ومبدأ استمراريتها، وإنما زحزحة المنظومة ليتحول مركز الثقل من المجتمع ودولة القانون إلى الدولة الأمنية السلطوية بدعوى بناء الدولة القوية والعادلة، وقد أدى هذا الوضع لارتباط أحزاب بأنظمة إقليمية معادية لثورات الربيع العربي، عملت على ترذيل المؤسسات الدستورية والمنظومة الحزبية ، وتدشين مرحلة ديكتاتورية دستورية (حالة استثناء).

النهضة التونسية من النشأة إلى الحكم 4 حركة النهضة التونسية من النشأة إلى الحكم (ج1)

النهضة وتجربة الحكم من المعارضة الاحتجاجية إلى بناء الديمقراطية.

الحركة الإسلامية التونسية صحوة تدين في مجتمع شكلته دولة الاستقلال خارج إطار ثوابته الثقافية والحضارية وفق منوال تبعي تغريبي ومدار حضاري أوروبي مُوْليا ظهره لحاضنته العربية الإسلامية ، فقادت النهضة عملية إحياء إسلامي ، ومعركة وجود وتجديد، ومقاومة الاستبداد ، ثم بعد الثورة انتقلت إلى بناء الدولة الديمقراطية بعد ثلاثة عقود من مقاومة الاستبداد والفساد والتبعية كانت ضريبته سجون وتنكيل في حرياتهم وأعراضهم دون  حيدة عن خط الإصلاح الوطني المعتدل ، في ظل تنمر غربي وصهيوني ضد كل  إسلامي مقاوم ،  كما تفننت أنظمة نيوكيالية في التنكيل بالشعوب وإرساء أنظمة حكم فردي وراثي ، ومناويل ثقافية تغريبية ومناويل تنمية تخدم مصلحة  فئات وجهات محددة على حساب الشعب المهمش الفقير المحروم حتى أضحت صاحب المصلحة الأولى في   التغيير فكانت ثورة الحرية والكرامة 2011م التي دشنت مسار الانتقال الديمقراطي.

الإسلاميون والحكم التطبيع مع الدولة وبناء الديمقراطية.

لقد أصبح الانفتاح السياسي وبناء ديمقراطية تعددية إدماجية وتفكيك المنظومة الأمنية القمعية خيارا استراتيجيا لإخراج تونس من تأخرها الديمقراطي والتاريخي وإحلال دولة المواطنة محل طبائع الاستبداد.

وقد مثلت مرحلة ما بعد الثورة للنهضة حالة تأهيل في تجديد هندستها القيادية وهيكلتها التنظيمية وخطها السياسي وموقعها من الدولة ووظيفتها السياسية والمجتمعية، وقد ترجم المؤتمر التاسع والعاشر بعد الثورة هذا الوجه الجديد في ظل العالمية والشرعية القانونية وشراكة الحكم بعد الانتخابات.

وقد شكلت مرحلة ما بعد الثورة – حسب قوله الباحث حسن حسن(7)- اختبارا جديدا للمرونة العقلية للنهضة ولذكائها السياسي ولقدرتها على التأقلم مع ضرورات وظيفية جديدة وعلى تحمل القسط الأوفر من أمانة إنجاح المسار الديمقراطي، وقد ارتطمت النهضة بشراسة عداء طيف سياسي وإمكانات مرصودة من أطراف إقليمية ودولية لتدمير الربيع العربي وخاصة بعد انقلاب مصر.

العقلنة هي العثور على الطريق الأقصر مسافة، الأقل كلفة، والأضمن نتائج نحو بناء دولة ديمقراطية قوية غنية عادلة، والاهتداء بتجارب الأمم ودروس التاريخ.

العقلنة هي العثور على مسالك العقل في التاريخ، وهذه المسالك بالنسبة للانتقال وبناء الديمقراطية هي اليوم معايير مستقرة للديمقراطية، نحتها تجارب الأمم ودروس التاريخ.

ليست النهضة من تضع العجلة من الصفر في هذا الباب، ولكننا مطالبون بالوعي وتمثل الرصيد الإنساني والإضافة إليه.

الديمقراطية الناجحة مركب من مبادئ ثلاثة:

قدرة السلطة التنفيذية على الحكم كاملاً كما لم يحصل خلال عشرية النهضة.

سلطة القانون، الناس أمامه سواء في حماية الحقوق الأساسية والحريات العامة والفصل بين السلطات.

المسؤولية السياسية أمام الهيئات الرقابية، أمام الرأي العام والناخب، أي ممارسة الحكم وتحمل مسؤولية القرار والأفعال، والديمقراطيات العريقة لم تصل إلى مرحلة الأمان والاستقرار إلا بعد مراحل طويلة من الاضطراب السياسي والصدمات

يختلف حدة ومدة من بلد. فلو تم عرض السلوك السياسي للنهضة بعد الثورة على تاريخ الديمقراطيات ومعايير العقلنة السياسية كما تبلورت في التاريخ لكانت الحصيلة محترمة جدا.

قدمت النهضة للعالم قوة ضمان للمسار الديمقراطي قادرة على تحمل أثقاله وامتداداته الزلزلية حتى في أسوأ الوسط السياسي، قوة فاعلة مستوعبة لامتحانات الديمقراطية ودروسها، مستوعبة لخصائص الطليعة الديمقراطية وشروط العقلنة السياسية.

التشكل في قوة عقلنة سياسية يفترض مستوى عال من الوعي بتاريخ الديمقراطيات العريقة، وكيف خرجت من الضعف إلى القوة، فلا بد من اكتساب المعرفة بأسباب نجاح الديمقراطيات في البلدان التي نجحت فيها.

ما تعرضت له ديمقراطية تونس من الصراع والتعقيم السياسي والتهديد والفوضى والشعبوية والانقلاب والعنف الرمزي والدعاية المضللة والتدخل الأجنبي تعرضت لها شعوب أخرى مع الفروق بطبيعة الحال.

من خيارات النهضة في تاريخ العقلنة السياسية وتجارب الانتقال الديمقراطي:

التعامل مع الذاكرة الجريحة لمرحلة الاستبداد بمنظومة العدالة الانتقالية.

القدرة على تحمل توترات الشرعية والاضطلاع بالمظاهر السلبية للحرية في الديمقراطية الناشئة.

بناء مجال عام أو إطار قانوني للمناقشة العامة.

اختيار التوافق في إدارة مرحلة بالغة التعقيد.

العمل على ترسيخ ثقافة الاعتراف الشامل للجميع بالجميع، والابتعاد عن محاكمة النوايا، لأن هذا مسلك إجرامي في السياسة ، ومعالجة التهم الكيدية باللجوء إلى القضاء أي

الحارس القانوني للديمقراطية من نواقضها.

العقلنة صراع لغة وتعبيرات اللاعقل، وفي جميع محاور الصراع الآنفة لم تخطئ النهضة الاختبارات الصحيحة، قد تختلف في مدى نجاعة إدارة هذا الاختيار أو ذاك، فمثلا إدارة التوافق مدى نجاعتها، إدارة هذا الاختيار، ولكن أصل الاختيار سليم بالعرض على تاريخ الديمقراطيات.

تركزت استراتيجية الحركة المضادة للثورة من اليوم الأول على شل قدرة الحكومات التي تعاقبت بعد الثورة على النجاح الاقتصادي، وعلى سلب الثورة شرعية الانجاز وعلى صناعة الدعائية للفشل، وتمهيد الطريق للشعبوية، والاستقطاب السياسي الثنائي الحاد، واتهام النهضة بالاغتيالات وتسفير الشباب إلى بؤر التوتر، وقطع تحالفات الثورة وشريان إنجازها – العلاقات مع قطر وتركيا وليبيا- والحرب الشرسة على مظاهر التعافي في مؤسسات الدولة وخاصة الأمنية والفضائية منها .

حرصت النهضة كقوة عقلنة للمشهد السياسي تحملت أثقاله وامتداداته الزلزالية مستوعبة لامتحانات الديمقراطية ودروسها، وكانت  خطتها على محورين :

– إعادة هندسة المشهد السياسي بتمكين الغربال السياسي للمناقشة العامة وللانتخابات من الاشتغال السليم وبالتقريب من منطقة الوسط وبترسيخ ثقافة الاعتراف المتبادل وتنمية المشتركات والإدارة التوافقية للمرحلة السياسية.

قطع خط الرجعة على الاستبداد وتحصين الديمقراطية ضد الالغاء عن طريق الاشتغال على عدة محاور:

– إرساء المؤسسات الضامنة لاستقلال القضاء والقيام بدوره في حماية المسار الديمقراطي وتأسيس الهيئات الدستورية المستقلة وقد حققت في ذلك نجاحات نسبية.

العدالة الانتقالية هدفها علاج في جراح الذاكرة وجبر أضرار الضحايا وإحلال السلم في العلاقات السياسية وعلى طي صفحة الماضي والتعافي والتوجه المعاصر للمستقبل، وحققت نجاحات نسبية.

الاشتغال على الصورة الخارجية للنهضة والتجربة التونسية الناشئة، وهذه الصورة لعبت دورا كبيرا في تحصينها.

محور الزمن، فالزمن هام في معركة الثورة ضد أعدائها ، كان معركة صراع على الوقت ، وقد حرصت النهضة على إحداث فجوة زمنية ترسخ فيها ثقافة الديمقراطية لدى المواطنين وتتمكن فيها مؤسسات الدولة من التعافي ومن مواكبة الزمن السياسي الجديد ، وقد مكنت تونس من تنفس الحرية لمدة عشرية ثمينة كان لها أثر كبير في التحصن الجزئي لديمقراطيتنا ضد الإلغاء ، فالانقلاب لم يستطع إلجام الناس بالخوف ولا تزييف الوعي لدى قطاع واسع من النخبة ولا تسويق لصورته الدولية.

يتبع…

الهوامش:

  1. انظر: إنقاذ الأمل الطريق الطويل إلى الربيع العربي، د. نادر كاظم ص 9.
  2. الدكتور الصحبي عتيق باحث وأكاديمي تونسي عضو المكتب التنفيذي لحركة النهضة- مهمات إدارية وتنظيمية فكرية، سجين سياسي سابق، وعضو المجلس الوطني التأسيسي، له عدة أبحاث ومصنفات منها: مقدمات في فلسفة التربية الإسلامية ومفاهيم تربوية، رسالته الدكتوراة الاجتهاد في الأصول والمقاصد وتطبيقاته المعاصرة. قدّم ورقة في ندوة مركز دراسات الإسلام والشؤون الدولية التابع لجامعة صباح الدين زعيم بعنوان: الحركة والثورة والإسلام، والمجتمع الدور، والسياقات، والخيارات. ولم نستعرض هنا تسلسل الورقة وإنما نختار منها ما يتناسب مع هذا التخليص ضمن الأوراق الأخرى القريبة المحتوى من هذا الجزء الأول من الاستعراض.
  3. العجمي نورين باحث وأكاديمي تونسي في الفلسفة والسياسة والفكر، وله مشاركات في دورات تدريبية الإعلام والاتصال والرقابة الديمقراطية، عضو الهيئة التأسيسية لحركة النهضة منذ سنوات، عضو المكتب التنفيذي ونائب رئيسها المكلف بالفضاء الاستراتيجية، برلماني منذ العام 2014- 2019م. قدّم ورقة في مركز دراسات الإسلام والشؤون الدولية التابع لجامعة صباح الدين زعيم بعنوان: النهضة والدولة من مقاومة الاستبداد إلى بناء الديمقراطية.
  4. الدكتور حسن بن حسن، باحث وأكاديمي، يعمل أستاذا في جامعة قطر بدولة قطر، ومستشار سابق للبحث العلمي بجامعة قطر وباحث في الفلسفة، له مؤلفات في النظرية التأويلية، وحوارات في الثورة والمستقبل والإرهاب، قدّم ورقة لمركز دراسات الإسلام والشؤون الدولية التابع لجامعة صباح الدين زعيم في تركيا بعنوان: الإطار النظري والرؤية السياسية في فكر الحركة ورئيسها الغنوشي.
  5. من ورقة بعنوان: الحركة والثورة والإسلام، والمجتمع الدور، والسياقات والخيارات.
  6. من ورقة له بعنوان: النهضة والدولة من مقاومة الاستبداد إلى بناء الديمقراطية.
  7. من ورقة له بعنوان: الإطار النظري والرؤية السياسية في فكر الحركة ورئيسها الغنوشي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى