زكي عبدالله الميلاد كاتب وباحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات المعاصرة والدراسات الفكرية من مواليد عام 1965م، محافظة القطيف بالمملكة العربية السعودية، وهو رئيس تحرير مجلة الكلمة التي تعني بشؤون الفكر الإسلامي وقضايا العصر والتجديد الحضاري، وتصدر من بيروت منذ عام 1993م.[1]
نال كتابه عصر النهضة كيف انبثق ولماذا أخفق على جائزة الكتاب السعودي فرع الفكر والفلسفة عام 2017م، ولديه العديد من الإنتاج المعرفي منها نظرية تعارف الحضارات وكتابه محنة المثقف الديني مع العصر وكتاب المسألة الحضارية كيف نبتكر..في عالم متغير وغيرها من الكتب والدراسات والأبحاث.[2]
يأتي كتاب زكي ميلاد في 220 صفحة وهو المنشور عام 2016م، عن النادي الأدبي بالرياض بالاشتراك مع المركز الثقافي العربي ببيروت، وقد بوبه في خمسة فصول، ويرى المؤلف أن الحديث عن النهضة وعصرها إنما هو حاجة دائمة ومستمرة، ففيه نضجت وتبلورت قضايا وإشكاليات النهضة والإصلاح حيث يقول “تتأكد الحاجة إلى هذا العصر في ظل ما نلمسه اليوم من انحدار حضاري خطير”[3] ، فيعيد الباحث زكي الميلاد قراءة إشكاليات النهضة العربية، حيث قام باستعراض أبرز آراء الباحثين والمفكرين الذين قدموا دراسات وأبحاث في القرن الماضي عن فكر النهضة العربية، محاولاً استنطاق هذه الدراسات واستخراج أبرز الأفكار والفرضيات التي ناقشتها. وبخلاف الكتابين السابقين لم يرجع زكي ميلاد إلى مصادر أو كتب أو مقالات رواد النهضة العربية، إنما اعتمد على الدراسات الحديثة التي تناولت عصر النهضة العربية محاولاً الإجابة على سؤال كيف انبثق عصر النهضة ولماذا أخفق؟ وسوف نستعرض أهم ما تناوله زكي ميلاد في كتابه من آراء وأفكار.
كيف انبثق عصر النهضة؟
حاول الباحث زكي ميلاد في الفصل الأول من الكتاب الإجابة عن سؤال كيف انبثق عصر النهضة؟ وذلك باستعراض أربع أطروحات، فالأطروحة الأولى ترى أن عصر النهضة انبثق على إثر الحملة الفرنسية على مصر عام 1798م، ويوافق على هذه الأطروحة المفكر محمد عابد الجابري (1935-2010م) وألبرت حوراني وعلي محافظة، أي أن النهوض كان وفق مؤثر خارجي، أما الأطروحة الثانية فترى أن عصر النهضة ظهر وتشكل نتيجة نهوض ذاتي في القرن الثامن عشر، وينسب هذا الرأي إلى الأديب محمود شاكر (1909-1997م) وكذلك إلى المؤرخ الأمريكي بيتر جران، ويرى الأول بأن هناك أعلام عربية ظهرت في العالم العربي وساعدت بالنهوض الذاتي، بينما يرى الثاني بأن مصر شهدت تطوراً ذاتياً على الصعيد الفكري والاقتصادي.
وأما الأطروحة الثالثة فينفرد بها الدكتور فهمي جدعان الذي يرى بأن عصر النهضة بدأ مع ابن خلدون في القرن الرابع عشر ميلادي، والأطروحة الرابعة فإن عصر النهضة انبثق مع ظهور جمال الدين الأفغاني (1838-1897م)، وأن تأثير الأفغاني عجل بظهور الحركة الإصلاحية ويؤيد هذه الأطروحة كلاً من: مالك بن نبي(1905-1973م) والدكتور وحسن حنفي وعبدالرحمن الرافعي(1889-1966م) وغيرهم.
ويتعرض ميلاد بالنقد لهذه الأطروحات الأربعة إلا أنه لا يحدد موقفه منها ولا يرجح أحدها بشكل مباشر، ولكن نجد بأنه يرجح أطروحة الأفغاني بطريقة غير مباشرة، كما أن العرض اقتصر على الجوانب الفكرية أو الإنتاج المعرفي بينما النهضة تكون شاملة للعديد من المجالات أهما الاقتصاد والمجتمع. ونرى بأن ما يسمى عصر النهضة ما هو الإ عصر الإصلاح والحركات الإصلاحية التي انبثقت عنه فالأجدى أن يكون السؤال عصر الإصلاح متى انبثق؟ وليس عصر النهضة ذات المفهوم الواسع.
المدنية في كتابات رواد النهضة
تتبع زكي ميلاد في الفصل الثاني من الكتاب إلى البحث عن التمدن في كتابات رواد النهضة، كون المدنية مصطلح استخدم للإشارة إلى تقدم أوروبا، ويقسم زكي ميلاد الكتابات التي تناولت فكرة المدنية وعلاقتها بالدين إلى ثلاثة أزمنة أساسية، الزمن الأول ارتبط برفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي والذين طرحوا بأن الشرع الإسلامي لا يمانع الاستفادة من المدنية في أوروبا حيث عبر عنها الطهطاوي بالمنافع العمومية وأطلق عليها خير الدين التونسي بالتنظيمات الدنيوية.
أما الزمن الثاني فقد عرف اتجاهاً تعارض الدين مع المدنية ليتصدى له محمد عبده (1849-1905م) ويؤكد عدم تعارض بين الدين والمدنية، وأما الزمن الثالث فقد حدده ميلاد ببداية القرن العشرين وقد ارتبط بالمتأثرين بمحمد عبده مثل محمد فريد(1868-1919م) والشيخ مصطفى الغلاينيي (1886-1944م)، الذين أكدوا تلاقي الإسلام مع المدنية، بل اعتبروا مبادئ الإسلام هو قمة المدنية، وقد تحفظ ميلاد عن هذه الفكرة كونها طوباوية عن الواقع والموضوعية.
ثم يذهب زكي ميلاد في بحثه ليوضح تراجع فكرة المدنية في الفكر العربي، استثنى من ذلك مالك بن نبي الذي استبدل المدنية بالحضارة كما فسر هذا التراجع بنظرية القطيعة بين مرحلتي الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر.
لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟
يعود زكي ميلاد في الفصل الثالث إلى السؤال الذي حاول شكيب أرسلان (1869-1946م) الإجابة عليه، ويضع ميلاد ملاحظاته على السؤال، فملاحظته الأولى ينبه بقيمة السؤال الذي أصبح متلازماً مع خطاب النهضة العربية، والملاحظة الثانية أن هذا السؤال أفرز أسئلة أخرى اختلفت في الصيغة والتقت في المضمون، ومنها سؤال روجيه جارودي (1913-2012م) لماذا الحضارة الأوروبية استمرت والحضارة الإسلامية انقطعت؟ وسؤال البوطي (1929-2013م) لماذا تحجرت الحضارة الإسلامية وازدهرت الحضارة الغربية؟، والملاحظة الثالثة بأن السؤال ما زال معلقاً وثابتاُ رغم مرور ما يقارب مائة عام على طرحه.
ثم يعرّج ميلاد إلى إجابة شكيب أرسلان وتأثيرها في العالم الإسلامي، ويعطي زكي ميلاد رأيه في كتاب أرسلان، فيمتدح خلود السؤال وحضوره، ويرى بأن مادة الكتاب هي ابن بيئته.
لماذا عصر النهضة أخفق؟
حاول زكي ميلاد في الفصل الرابع الإجابة عن الشق الثاني من السؤال الذي وسم به عنوان الكتاب “عصر النهضة .. كيف انبثق؟ ولماذا أخفق؟”، ويرى ميلاد أن أكثر من اعتنى بدراسة إخفاق عصر النهضة هم حسن حنفي ورضوان السيد، وعبدالاله بلقزيز، ويبدأ بحسن حنفي الذي تحدث تحت عنوان كبوة الإصلاح، حيث يرى حسن حنفي أن الخط البياني لفكر النهضة كان تنازلياً، يؤيد رضوان السيد ما ذهب إليه حنفي بانحدار خطاب فكر النهضة معتبراً أن محمد عبده أقل ثقافة من الأفغاني، وهكذا دواليك.
ووافق عبدالاله بلقزيز ما طرح حنفي والسيد، حيث أسماها بلقزيز بالقطيعة بين الخطاب الإصلاحي ممثلها (الأفغاني، الكواكبي، محمد عبده)، والخطاب الصحوي ممثلها (حسن البنا، سيد قطب،..الخ)، وأعطى بلقزيز فروق بين الخطاب الإصلاحي والخطاب الصحوي، حيث ميز الخطاب الإصلاحي بكونه دعوة فكرية هدفها التجديد وقوامها تحرير الوعي، بينما خطاب الصحوة، دعوة سياسية لتكوين دولة وتطبيق الشريعة، حيث لم يكن نخبها من المثقفين مثل الإصلاحين، بل جيشاً من المناضلين المتمسكين بالفكرة السياسية.
ثم يضع ميلاد ردود معاكسة للأطروحات الثلاثة، فوضع نقد القرضاوي الذي سار مخالفاً لما ذهب إليه حنفي، حيث يرى القرضاوي بأن الخط البياني كان تصاعدياً، فمحمد عبده كان أقرب إلى الانضباط بمحكمات الشرع من شيخه الأفغاني وهكذا دواليك، كما يضع ميلاد نقد محمد عمارة (1931-2020م) الذي يرى بأن السياق التاريخي الذي ظهر فيه رواد النهضة كان مغايراً عن الجيل الذي سبقوه.
ويقدم ميلاد نقده لهذه الأطروحات الثلاث، حيث يرى بأن الخط البياني كان متبايناً ما بين الصعود والنزول، كما يعزي إلى غياب الفكر الشيعي بين هذه الأطروحات رغم أن رائد النهضة الأفغاني كان شيعياً.
وفي الفصل الخامس فيستعرض ميلاد ثلاث دراسات بارزة تناولت تأريخ فكر النهضة، اشتهرت في القرن الماضي وهي كالتالي:
1. الفكر العربي في عصر النهضة لألبرت حوراني الصادر عام 1962م.
2. المثقفون العرب والغرب.. عصر النهضة لهشام شاربي الصادر عام 1970م.
3. أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث الصادر عام 1979م.
فقدم عرضاً لهذه الدراسات وقارن بينها ونقدها، ورجح ميلاد بأن وعي فهمي الجدعان تفوقت على باقي أقرانه.
مقارنات وملاحظات:
1. المقارنات:
اتفق البرت حوراني وعلي محافظة بأن لحظة انبثاق فكر النهضة كان مع الحملة الفرنسية على مصر، بينما تحفظ زكي ميلاد على رأيه مؤيداً اطروحة جمال الدين الأفغاني باعث فكر النهضة العربية، أما من ناحية استخدام المصادر واسلوب التأريخ لهذا العصر، فنجد بأن حوراني عاد إلى نصوص وكتابات رواد النهضة الذين اتخذهم قاعدة للانطلاق منها في تأريخ فكر النهضة، بينما اتخذ علي محافظة اتجاهات محددة كقاعدة لينطلق منها في البحث في الكتابات والنصوص والحركات المتعلقة بهذه الاتجاهات، أما بالنسبة لزكي ميلاد فلم يرجع إلى نصوص وكتابات رواد النهضة وإنما استخدم أبرز الدراسات التي تناولت فكر النهضة العربية من عدة جوانب مختلفة.
حاول حوراني تحليل نصوص وكتابات رواد النهضة، بينما ركز محافظة على السرد التاريخي دون الدخول في بُنيات النصوص وتفكيكها، أما ميلاد حاول تفكيك الدراسات التي تناولت فكر النهضة كما أنه حاول الإجابة على سؤال لماذا فشل فكر النهضة؟ وقد غاب هذا السؤال لدى حوراني ومحافظة، ونجد أن حوراني ومحافظة شمل كتابهما التاريخ السياسي رغم أن محور الكتابين التأريخ الفكري، بينما تميز ميلاد بالعناية بالتاريخ الفكري ولم يعط للتاريخ السياسي مساحة في كتابه.
غفل حوراني عن رجال الدين أو التيار السلفي الإصلاحي في كتابه وكذلك زكي ميلاد، بينما تناولهم محافظة في سرديته واعتبرهم باكورة فكر النهضةـ كما أن محافظة تناول الحركات والتيارات الفكري بعكس حوراني وميلاد اللذان تناولا الأشخاص على حساب الحركات والتيارات الفكرية، كما أن الثلاث الدراسات وقعت تحت تأثير المشرق العربي وانتاجه الفكري وإغفال المغرب العربي والجزيرة العربية وإن كان محافظة تناول بعض الحركات في الجزيرة العربية إلا إنه لم يتعمق في مقاربته.
2. ملاحظات:
الملاحظة الأولى: أغفلت الدراسات الثلاث التي تناولناها عن دور الدولة العثمانية -الحاكمة آنذاك- في التأثير الفكري والاجتماعي على مناخ الفكر العربي سواء عبر الكتّاب الأتراك أو عبر نظامها، كما أن الاطروحة التي تذهب بأن العرب في مصر حدث لهم صدمة حينما دخلت الحملة الفرنسية مصر، لكن قبل هذا التاريخ عرفت الدولة العثمانية تقدم أوروبا وحداثتها، ومن غير شك بأن الدولة أثرت على ولاياتها العربية.
الملاحظة الثانية: طرحت الدراسات الثلاث بعض الفرضيات دون اختبارها، فحوراني وضع فرضية أن الأمة العربية أكثر الشعوب اعتزازاً بلغتها وكذلك بأن الأفغاني شيعياً دون استدلال أو تمحيص، كما أن محافظة سلّم بفرضية الفكر الغيبي الجامد والحركة السلفية الإصلاحية البرهانية كما أنه طرح أن باب الاجتهاد أغلق منذ القرن الرابع الهجري دون اثبات، وكذلك ميلاد الذي سلّم بشيعية الأفغاني دون أن يبين من أين استدل بذلك.
الملاحظة الثالثة: لم تعير الدراسات الثلاث الاهتمام بالتحولات الفكرية لرواد النهضة، فوقعوا في انتقائية اختيار نصوص الرواد، فمحمد عبده الشاب ليس محمد عبده الكهل، فوجدنا علي محافظة يضع محمد عبده مع تيار الرابطة العثمانية كونه استدل بإحدى مقالاته التي امتدح فيها الدولة العثمانية بينما نجد في مؤلفات محمد عبده وخاصة كتابه الإسلام والمدنية بأنه كان ضد الدولة العثمانية وأنه يرى لا عزة للإسلام إلا بالعرب.
الملاحظة الرابعة: لم يخل كتاب ألبرت حوراني من الاستشراق وهو الذي يكره صفة مستشرق، فنجده يرجع كل مؤلف أو فكرة إلى الغرب باعتبارها الأصل وما وجد في العالم العربي هو التأثير القادم من الغرب، بينما نجد علي محافظة وزكي ميلاد امتزجت كتابتهم بالحنين إلى النهضة العربية دون أن يتخللها تبجيل مبالغ فيه لذلك العصر.
الملاحظة الخامسة: لم يتم إعطاء مساحة كافية في الدراسات الثلاث لرجال الدين أو رواد الحركات الإصلاحية السلفية، وإن تم تناولها في كتاب محافظة إلا إنه لم يتعمق في دراسة هذه الحركات أو الشخصيات، فتصنيفه للشوكاني معتبراً إياه منتمياً للحركة السلفية تحتاج إعادة نظر ودراسة، أما بالنسبة لحوراني وميلاد فلم يتم تناول رجال الدين المجددين في مقارباتهم.
وفي الأخير تناولت الدراسات الثلاث عصر النهضة من زوايا مختلفة، فقد أرخ حوراني للفكر عبر رواد النهضة بينما تناول محافظة الاتجاهات المختلفة محاولاً التأريخ لكل اتجاه في عصر النهضة، أما زكي ميلاد وهو صاحب الإصدار المتأخر فقد تناول الدراسات التي نقبت في حقل عصر النهضة عبر مواضيع محدده محاولاً عمل مقاربات ومقارنات لمواضيع تناولها الدارسون لعصر النهضة، وقد استعرضنا الثلاث الدراسات موضحين معالمها وأبرز أفكارها، كما طرحنا ملاحظاتنا عليها، ونستخلص من ذلك التالي:
1. دراسة تأريخ الفكر يحتاج إلى الشمولية والدقة في تناول النصوص مع الحرص على جمع أكبر قدر من كتابات تلك المرحلة خصوصاً إذا كانت منطقة الدراسة متباعدة جغرافياً.
2. الاستعانة بدراسات فكرية متخصصة برواد النهضة أو المجددين، لكي لا الفهم الخاطئ للكتابات المدروسة لتلك المرحلة.
3. العناية بالتحولات الفكرية لشخصيات الدراسة، مع معرفة أسباب التحول وماهيتها، مع مقارنة للشخصية في مرحلة الشباب ومرحلة الكهولة لمعرفة إن كان هناك تحولات فكرية واضحة.
4. تحتاج دراسة الفكر التاريخي إلى معرفة عابرة للتخصص في مجالات الفقه واللغة العربية والعقيدة والاجتماع، كذلك الاطلاع الواسع على كتابات أجنبية عاصرت مرحلة الدراسة المعنية.
5. مازالت هناك مواضيع عديدة في عصر النهضة العربية تحتاج إلى التنقيب والدراسة واهتمام الباحثين بها.
الهوامش:
- موقع زكي ميلاد، http://www.almilad.org/page/sira.php تاريخ الاطلاع (25-11-2020م).
- المصدر نفسه.
- ميلاد، مرجع سابق، ص10