ظلَّ عصر النهضة العربي مجالًا خصبًا للكتابات التَّاريخية، والدراسات الفكرية، التي سعت إلى تأريخ أفكار هذا العصر، ودراسة التفاعلات الفكرية والحركية وربطها بعصرنا الحاضر. لذا سأقوم بعمل مقارنات ومقاربات بين ثلاثة كتب مهمَّة تناولت فكر النهضة العربي عبر سلسلة من المقالات، بحيث أبتدئ بكتاب ألبرت حوراني الذي يعتبر باكورة الكتب التي أرخت لعصر النهضة العربي، وأنتهي بكتاب زكي ميلاد وهي بحسب تعاقبها الزَّمني على النَّحو الآتي:
1. الفكر العربي في عصر النهضة لألبرت حوراني الصادر عام 1962م.
2. الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة لعلي المحافظة الصادر عام 1975م.
3. عصر النهضة.. كيف انبثق ولماذا أخفق؟ لزكي ميلاد الصَّادر عام 2016م.
وتمتاز هذه الكتب بالتباعد الزَّمني واختلاف الطَّرح وبينها كتاب حديث الإصدار، كما نجد أنَّ هناك تباعد زمني بسيط بين الدراسة الأولى والثانية وتباعد ما يقارب ثلث قرن ما بين الدراسة الثانية والثالثة، وهو ما دعانا إلى عمل مراجعة ومقاربة بين هذه الأطروحات، حيث سيكون المقال الأول تقديم عرض لكتاب ألبرت حوراني والمقال الثاني تقديم كتاب علي المحافظة ثمَّ المقال الثالث مناقشة كتاب زكي ميلاد وعرض المقارنات والملاحظات بين الكتب الثلاثة.
كتاب ألبرت حوراني الفكر العربي في عصر النهضة 1797-1939م
ولد المؤرخ ألبرت حوراني في مدينة مانشستر عام 1915م، وهو من أصول لبنانية، تخرَّجَ من جامعة اكسفورد عام 1936م حيث درس فيها التاريخ والفلسفة والاقتصاد والسياسة، عمل أستاذًا جامعيًا في الجامعة الأمريكية في بيروت ما بين أعوام (1937-1939م) [1] وأيضًا في جامعة أكسفورد حتى تقاعده عام 1979م كما عمل أستاذًا زائرًا في عدة جامعات، وقد توفي عام 1993م، من أهم كتب ألبرت حوراني “تاريخ الشعوب العربية” الصادر عام 1991م، والكتاب الذي نحن بصدد عرضه “الفكر العربي في عصر النهضة”، لا يفضل ألبرت حوراني أن يتم وصفه بمستشرق وإنما يصف نفسه بإنجليزي المولد والنشأة والكتابة[2] ، فهو مؤرخٌ استخدم المنهج الغربي في التَّأريخ العربي[3] .
يُعتبر كتاب الفكر العربي في عصر النهضة 1797-1939م من الكتبِ المبكرة التي عُنيت بدراسة وتأريخ الأفكار النهضوية للعرب من نهاية القرن الثامن العشر إلى منتصف القرن العشرين، صدر الكتاب أول مرة عام 1962م في بريطانيا، وتمَّ نقله إلى اللغة العربية عبر المترجم كريم عزقول فصدر عام 1968م في دار النهار ببيروت، ويأتي الكتاب في (472) صفحة من القطع المتوسط.
قدَّمَ ألبرت حوراني اعتراضه على ترجمة عنوان الكتاب في مقابلته مع مجلة المجلة، فقد اُستخدم لفظ نهضة بدلًا عن ليبرالي، المرادف لنفس الكلمة في عنوان الكتاب باللغة الإنجليزية (Arabic Thought in the Liberal Age 1798 -1939) حيث يقول حوراني بأنَّ كلمة نهضة تأخذ انطباعًا مختلفًا عن كلمة ليبرالي[4] ويوضح بأنَّ الليبرالية هو المناخ الذي سادَ في أوروبا في تلكَ المرحلة.
توزع الكتاب على ثلاثة عشر فصلًا، جعل ألبرت حوراني الفصول الثلاث الأولى مدخل تاريخي لموضوع الكتاب الرئيسي، ثمَّ بدأ بالتأريخ انطباع الجيل الأول وما تلاه، مستخدمًا نصوص وكتب الرواد مستشهدًا بها ومحللًا لها في الوقتِ ذاته، ثمَّ تعرَّضَ حوراني للأفكار العلمانية والقومية المصرية والعربية التي ظهرت في تلكَ المرحلة، وفي الفصل الأخير قدَّمَ قراءة استشرافية للفكرِ العربي.
تحقيب الفكر العربي:
يقول ألبرت حوراني في مطلعِ كتابه: “العرب أشد شعوب الأرض إحساسًا بلغتهم”[5] ، وهي فرضية سلّم بها ولم يعطِ لها استدلالًا، حاول حوراني تبيان تطور الفكر العربي الذي ولد بولادة النَّبي محمَّد صلى الله عليه وسلم، والذي شهد تحولًا في حياة العرب وظهور دولة الخلافة الراشدة وما أعقبها من دول، ثمَّ ينتقل إلى الجانب الفكري بشقيه الشَّرعي والسياسي، فيوضح مراحل جمع القرآن، ثمَّ يعرج إلى مسألة نظام الحكم في الإسلام وغياب النص الصريح له، ويتناول علم الجرح والتعديل الذي ساعد في تنقية السُّنَّة النَّبوية ويرى حوراني أنَّ القرآن الكريم والسنة النبوية شكلتا النِّظام المثالي عند المسلمين، ثمَّ يبين تأثير هذا النظام على الجانب الاجتماعي وكيف أنَّ الممارسات التعبدية وحَّدت الفكر الجمعي للمسلمين، وأن كل عبادة لها تأثيرها الخاص في المجتمع الإسلامي، كما وضح بأن دعوة الرسول عالمية وليست خاصة، وأشار بأنَّ الشريعة الإسلامية أصبحت نظام حياة لدى العرب ويذهب بأنها الروح المحركة للدولة الإسلامية، وأنَّ الدول الإسلامية المتعاقبة انتهاءً بالدولة العثمانية كانت الشريعة الإسلامية المحرك الأساسي لها، ولم يقدم تحقيبًا للفكر من بداية ولادة الدولة الإسلامية وصولاً إلى الدولة العثمانية وإنما وضَّحَ جذور الفكر العربي وتطوره عبر التَّاريخ.
كما حاول تحقيب الفكر العربي النهضوي من حملة نابليون بونابرت على مصر عام 1798م – وهي الفترة المعنية بها الدراسة- حيث يعتبر حوراني بأنَّ الحملة الفرنسية على مصر أيقظت الفكر العربي من سباته الطويل وبعثته للنهوض، ومن هذه الفرضية انطلقَ حوراني في تحقيبِ الفكر العربي بطريقةٍ غير مباشرة وهي على النَّحو الآتي:
الحقبة الأولى (1798-1870م):
يرى حوراني بأنَّ الحملة الفرنسية هي اللحظة التي انبثقَ منها فكر النهضة، وأبرز رواد هذه الحقبة الذي تناولهم حوراني هما: رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي.
الحقبة الثانية (1870-1900م):
وهي الفترة التي ظهر بها جمال الدِّين الأفغاني وتلميذه محمد عبْده، وقد رأى هذا الجيل ألا تناقض بين المدنية الغربية والإسلام.
الحقبة الثالثة (1900-1939م):
وهي فترة ظهور بارز لفكر القومية العربية والوطنية كما تخللها بروز فكر العلمانية.
الحقبة الرابعة (1939-1962م):
وهو الجيل الذي عاصره ألبرت حوراني الذي يرى بأنَّ هذا الجيل استطاع الموافقة بين الحداثة والتراث إلى حدٍّ بعيد.
الفكر العربي عبر رواده:
1. الجيل الأول (جيل الصدمة):
لم يؤرخ حوراني الفكر العربي عبر المدارس أو الاتجاهات كما فعل الدكتور محافظة، وإنما استخدم نصوص الرواد لمعرفة الفكر وتأريخه، وبدأ برفاعة رافع الطهطاوي (1801-1873م) الذي ذهبَ إلى فرنسا في أولِ بعثة مصرية وقضى في باريس خمس سنوات أثَّرت في أفكاره، وألف كتاب “تخليص الإبريز في تلخيص باريز” وهو ما قال عنه الدكتور محمَّد عمارة “أول نافذة أطلَّ منها العقل العربي على الحضارة الأوروبية الحديثة”[6]، وطرح رفاعة سؤال كيف بإمكان العالم الإسلامي أن يدخل في عصر الحداثة دون أن يتخلى عن الإسلام؟ و قدَّم أطروحة نلخصها كما قدَّمها حوراني كالآتي: يجب على الشَّريعة أن تتلاءم مع واقع اليوم، التربية الصحيحة تقود إلى شعب مؤهل يستطيع أن يشترك في الحكم دون الولوج إلى أحقية الحاكم، ويعود تقدم الدول وسقوطها كما يرى طهطاوي إلى روح الأمة، والوطنية. ويشير حوراني بأنَّ فكرة القومية المصرية بدت واضحة في فكر الطهطاوي.
ثم يتناول حوراني رائد بارز وهو خير الدين التونسي (1810-1899م)، الذي تدرج في مناصب الدولة العثمانية وقد زار فرنسا وتأثر بالحداثة الأوروبية ووضع مفهوم التنظيمات الدنيوية، التي على العالم الإسلامي أن يتملّكها وإلا غرق بالتخلف والاستعمار من قبل أوروبا، ويذكر حوراني بأنَّ خير الدين التونسي ركز على دور الدولة في المجتمع ولا يمكن نجاحها إلا باقتباس الحداثة الغربية، ويوضح حوراني بأنَّ طهطاوي وخير الدين اتفقا على أن لا تقدم إلا بالحداثةِ الغربية، ولكنهما اختلفا في فكرة القومية فقد انطلقَ طهطاوي من القومية المصرية بينما خير الدين التونسي من الأمةِ الإسلامية.
ويتناول حوراني أيضًا بطرس البستاني (1819-1883م) المسيحي، الذي روج لفكرة بأن الشرق الأدنى لا ينهض إلا عبر علوم أوروبا الحديثة، فوضع سؤال ماذا يجب على الشَّرق الأدنى أن يستعين به من الغرب لكي ينهض؟ وحاول الإجابة عليه عبر اهتمامه بترجمةِ العلوم التجريبية الغربية إلى اللغة العربية، وحاول استصلاح اللغة العربية لتكون صالحة للعلوم الدنيوية، كما إنه دعا إلى قومية عربية إقليمية.
2. الجيل الثاني (لا تعارض بين الدين والمدنية):
ويتناول حوراني أبرز رائد من روَّاد النهضة وأكثرهم جدلاً، جمال الدّين الأفغاني (1839-1897م) حيث يعتبره مالك بن نبي وعبد الرَّحمن الرافعي وحسن حنفي، باعث النهضة وموقظ الأمة[7] ، يرجح حوراني بأنَّ الأفغاني ينتمي إلى الطائفة الشيعية ويستدل باستشهاد الأفغاني بفلسفة ابن سيناء في خطبه في زمن لم تكن تدرس فلسفة ابن سيناء إلا في المدارس الشيعية[8] ، لكن الأفغاني اصطدم ببوارج الاستعمار؛ لذلك حاول الإجابة عن سؤال كيف باستطاعة العالم الإسلامي مواجهة الاستعمار الأوربي؟ ودعا الأفغاني إلى مراجعة للدين الإسلامي والعودة إلى الإسلام الحقيقي، كما أن الأفغاني وضع فكرة الجامعة الإسلامية، التي تبناها السُّلطان عبدالحميد الثاني (1848-1918م) محاولاً الحفاظ على الدولة العثمانية، واستطاع الأفغاني نشر أفكاره عبر مجلة (العروة الوثقى) التي أسسها في باريس، كما أن جولاته في حواضر وعواصم العالم الإسلامي كان له الدور البارز في تحريك الفكر العربي في هذه المدن، ويرى حوراني بأن السنوات التي قضاها الأفغاني في مصر كانت خصبة بالأفكار النهضوية، كما يرى المؤلف بأنَّ فكر جمال الدين الأفغاني لم يكن دينيًا بل حوى فكرة المدنية التي كانت من بذور الفكر الأوربي في القرن التاسع عشر ويدل على ذلك مناظرته مع المؤرخ الفرنسي رينان (1823-1892م).
وتبرز نقاط قوة الأفغاني بأنه شخصية مؤثرة لمن حوله، حيث إن محمد عبْده (1849-1905م) تأثَّرَ به، حيث زعم بأنَّ الإسلام الحقيقي لا يتعارض مع المدنية الحديثة، كما وضع فكرة المستبِد العادل، ويقول حوراني أنَّ محمد عبده بنى جدارًا أمام العلمانية فكان جسرًا لها، وهو ما تبين فيما بعد عبر تلاميذ محمد عبده، الذين انقسموا إلى تيارات فكرية متضادة.
3. الجيل الثالث (المدنية الحديثة):
يتحدث حوراني بأنَّ فكر محمد عبْده أفرزَ اتجاهين، الاتجاه الأول طبقة مثقفة من تلاميذه وأصبحت نخبوية تمثلت في مؤسسات الدولة وتطور الاتجاه نحو العلمانية والتي ولد من رحِمها فكرة القومية المصرية، كما برز قاسم أمين (1865-1908م) وهو أحد تلاميذ محمد عبده وصاحب كتاب (تحرير المرأة) الذي وضع فيه تناقض غير مباشر عن تلاقي الدين والحداثة، لكن في كتابه الآخر (المرأة الجديدة) وضح ماهية المرجعيات التي ارتكز عليها وهي قواعد المدنية الحديثة والعلم التجريبي، أما لطفي السَّيد (1872-1963م) وهو أقل نزعة من قاسم أمين، صاحب فكرة الأمة المصرية وأن المجتمع غير الإسلامي أفضل من الإسلامي؛ لكنه لم يصرح بعدم تلاقي المدنية مع الإسلام، ثمَّ يتطرق حوراني إلى علي عبد الرازق (1888-1966م) صاحب كتاب (الإسلام وأصول الحكم) الذي أشار فيه إلى أنَّ الخلافة ليست من أصول الدين، والإسلام لم يُقِم دولة، ونرى بأنَّ علي عبد الرازق جاء في زمن سقوط الخلافة العثمانية، وهو ما جعله أمام خيارين إمَّا أن يدافع عن الخلافة أو ينكرها، وقد اختار نكرانها.
4. الجيل الرابع (السلفية الإصلاحية الإسلامية):
أحدثت أطروحات الأفغاني ومحمَّد عبْده هزات فكرية في العالم الإسلامي، فبرزت حركة إصلاحية تحمل هذه الأفكار، وتناول حوراني أحدهم وهو رشيد رضا (1865-1935م) الذي التقى بمحمد عبده ثمَّ أصبح تلميذه، ففكره لا يختلف عن معلمه، حيث حاول إعادة إنتاج فكر محمد عبده مرتكزًا على أسس السَّلف والدفاع عن الإسلام، ونشر هذه الأفكار عبر مجلته المنار والعديد من المؤلفات، التي اعتبرها حوراني من المصادر المهمة لتاريخ الفكر العربي.
ويلخص حوراني أفكار رشيد رضا، بالتالي: أنَّ على الإسلام تحدي العالم الجديد، وأن يستفيد من المدنية الحديثة في أوروبا لكي يستطيع النهوض، كما كان يدعوا إلى تعديل المذاهب ووضع شريعة تستند إلى القرآن والسُّنة وتنسجم مع العصر الحديث.
5. التيار العلماني:
وكما ذكر حوراني بأنَّ محمَّد عبْده كان جسرًا للعلمانية، فإن أطروحات الإسلاميين كان لها تأثير في النخب، فظهر تيار علماني، ركز حوراني على أبرز رواده وهو شبلي الشميل (1850-1917م) الذي رأى بأنَّ العلم هو الدين الجديد والحاجز الذي سيوقف الديانات القديمة، وأن العلم سيحرر الإنسان، كما أنه يعتقد بأن العلم الحل الأمثل للغز الكون.
ثم يذكر حوراني فرح أنطون (1874-1922) الذي طرح فكرة فصل الدين عن الدولة وتحديد أطر العلم والدين وتشبيهما بالعقل والقلب، حيث إن العقل وظيفته الملاحظة والاستنتاج والقلب وظيفته الإيمان بما وجد.
ثم يعرج الكاتب إلى تأريخ نشوء فكرة القومية العربية التي يرجعها إلى عوامل التتريك التي حدثت في القرن التاسع عشر، ونرى بأن حوراني قد حجّم أسباب النشوء، حيث إن هناك عوامل عديدة دفعت بفكرة القومية العربية إلى الولادة من أهمها تلبية متطلبات الشعب العربي في العصر الحديث.
6. الجيل المعاصر:
وفي آخر فصلين يركز حوراني على فكر طه حسين (1889-1973م) ويعتبر بأنَّ كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) به مجمل فكر طه حسين، حيث ادّعى بأنَّ مصر جزء من أوروبا، وأنَّ غاية الحياة صنع الحضارة التي يكون بها توازن ما بين العقل والدين وهو سبب تفوق أوروبا، حيث إنَّ العقل يحكم المجتمع والدين يملئ القلوب.
وسوف نتناول أطروحة علي محافظة في المقال القادم والذي حاول التأريخ لعصر النهضة العربية بطريقة مغايرة لألبرت حوراني.
الهوامش:
- محرر الموقع. الموسوعة العربية. 3 10, 2020. {http://arab-ency.com.sy/overview/3875} (تاريخ الوصول 3 10, 2020).
- مصفطفى زين ، ” أنا إنكليزي المولد والنشأة ، ” المجلة ، ع 64، 1981 ، ص65.
- المرجع نفسه، ص66.
- المرجع نفسه، ص66.
- ألبرت حوراني ، الفكر العربي في عصر النهضة (بيروت : دار النهار، ط 1، 1968)، ص.11.
- ينظر: زكي ميلاد: لكي لا يخسر العالم العربي عصر الإصلاح، مركز الاشعاع الإسلامي للدراسات والبحوث الإسلامية، شوهد في بتاريخ 01/11/2022م في: (https://cutt.us/CpLy7 ).
- زكي ميلاد،مرجع سابق، ص. 38.
- حوراني ، مرجع سابق ص.11.