كانت المرحلة الأولى من احتلال فلسطين تتمثّل بالاحتلال البريطاني عام 1917، حينها سقطت فلسطين – للمرة الأولى منذ أن حرّرها المماليك من الصليبيين – بيدٍ غير مسلمة، ثم جاءت المحطة التالية الصادمة عام النكبة 1948، ولم تكن تلك المرحلة هي ذروة الاحتلال فقد بقيت القدس والضفة وقطاع غزة بيد المسلمين (بصرف النظر عن الحكومات القائمة)، ثم جاءت النكسة عام 1967 فسقطت القدس والضفة وقطاع غزة والجولان وسيناء، لتؤكّد أننا لم نستيقظ بعد.
هل انتهى الأمر هنا وبدأت العجلة تدور لصالح المسلمين؟
كلّا.. فما يحدث الآن بعد مضيّ ربع قرن من القرن الواحد والعشرين هو مرحلة رابعة شديدة على أهل فلسطين والمسلمين جميعًا، وهي مرحلة يتبلور فيها مفهوم “التهجير الطوعي” الذي مفاده قتل منافذ الحياة الكريمة فيها، وتمزيق أوصال الضفة مع الاستيطان فيها بكثافة وكذلك تمزيق أوصال القطاع، فضلًا عن توسيع الجولان، وهي المرحلة التي تُفقأ فيها الآن فقاعة “الدولة” أو “السلطة” الفلسطينية المستقلّة.
لماذا أقول ذلك؟
لأنّ هناك خطابًا شاع منذ سنوات وازداد في الآونة الأخيرة مفاده أننا نتقدّم إلى النصر، وأنّ ما يحدث في فلسطين من أبرز علاماته وإرهاصاته. وأعلم مسبقًا بماذا سيردّ من لا يعجبه هذا الكلام، وسيحدّثني عمّا استنبطه بعض العلماء والمفكّرين من القرآن والسنّة من “السنن”، ولكنّه ينسى أنّ هناك سننًا أخرى آكد وأجدر بالنظر، وهي مقومات النصر؛ فنحن ما زلنا على ما نحن عليه من ابتعاد عن مقومات النصر: ما زلنا مفرَّقين تتنازعنا ولاءات جاهلية حديثة، معطّلين لشرائع الكتاب والسنّة، يحكمنا الأراذل الموالون للغرب إلّا من رحم ربّك، فهل مثل هذه الأمة تستحقّ النصر؟
تمسّك قومٌ في جبال خراسان البعيدة بالشريعة كمنطلق أساسي لحياتهم ونضالهم، ففازوا وانتصروا، وقدّموا للأمة نموذجًا يفتّح الأذهان على ما فيه من نقص وقصور. لكنّا سخِرنا منهم، ووصل بنا الحال أن يُسخّر بعض “الدعاة” و”المفكّرين” قلمه ولسانه لنقدهم والاعتراض عليهم ووصفهم بالتعصّب والانغلاق (ولا شك أنّ فيهم ما يُختلف حوله) في ظلّ عصر لا يكاد المسلمون يتمكّنون من إقامة معالم دينهم في الحياة العامة، وتهيمن عليهم في مهد الإسلام – في الجزيرة والشام والعراق ومصر – المنظوماتُ العلمانية المعادية للدين، والقواعد العسكرية الغربية، ويحمل رسالة تلك المنظومات العلمانية ويحامي عنها أشخاص يتحدّثون بألسنتنا وينتسبون إلى ديننا! فتأمّل حال من هو غارق في هذا المستنقع الآسن، يرى بقعة يابسة جافّة نظيفة مضيئة، مع بعض الوحل فيها، فيصرخ من أعماق مستنقعه الآسن مستنكرًا وجود ذلك الوحل بشدّة!
نصر بلا مقوّمات والاستشهاد القاصر بالسيرة النبوية
مشكلة الذين يتحدّثون عن نصرٍ بغير مقوّماته، وأولها الانطلاق من التوحيد والولاء لله ولرسوله وللمؤمنين واتّباع الشريعة في كل فعل، دون خلطِها بالأيديولوجيات الجاهلية والدوافع الدنيوية كما سيأتي، إلى جانب المقومات المادية الضرورية التي تتّخذها الدول وتسدّ بها اختلال التوازن الضخم في القوى وتتمكن من رفع رأسها وقول كلمتها وفرض إرادتها.. مشكلتهم أنّهم يمتهنون مفهوم النصر، فيتحدّثون عنه ليل نهار وكأنه وشيك قريب، يضخّون ذلك في قلوب الشباب ويرسمون لهم أحلامًا، ويمارس بعضهم دور الكاهن المتنبّئ فيحدّثنا عن سنوات بعينها سيحدث فيها النصر والتمكين بحسابات ينسبها – تخرُّصًا – إلى القرآن، ويستعير مفاهيم شرعية ليُسقطها على حالة موبوءة بالمفاهيم الوطنية والعلمانية المعاصرة، ويجعل من تلك الحالة الوطنية الصغيرة (وأعني فلسطين) منطلقًا للنصر باستجلاب بعض الروايات من السيرة وإعادة تأويل بعض الآيات، ليُنشئ هو وأمثاله حالة من الوهم اللذيذ الذي يُسلّي المكتئبين المفجوعين مما يحصل في ديار الإسلام في القرنين الأخيرين!
ستُحدّثني عن معركة الأحزاب وعن الحصار والخندق والمعوَل و“أُعطيتُ مفاتحَ الشام” وما إلى ذلك من روايات صحيحة تتترّس بها.. ولكنْ يا صديقي هذا نبيٌّ يوحى إليه، وقد أعذر هو وأصحابه إلى ربّهم فاتّخذوا من الوسائل والأسباب ما استحقّوا به النصر. وما دمتَ قد لجأتَ إلى هذه الروايات و”استأنستَ” بها لتفرض تصوّرك الوهمي الفُقاعي للنصر الذي يحدث “الآن”، فأكمل معروفك واسترشِد بتلك الخطى النبوية المباركة في طريقها إلى النصر؛ فما أفهمه أنّ من يلجأ إلى السيرة النبوية ليخاطبني بمرويّاتها فهو يؤمن بأصل الاقتداء بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم في عمله من أجل التمكين، أليس كذلك؟ فهل كان النبيّ صلّى الله عليه وصحبه – حاشاهم – أسرى أيديولوجيات وطنية عصبية؟(1)
حين عاد بعض الأوس والخزرج إلى الاجتماع على عصبيّاتهم القبلية للحظات بعد تحريش بعض الكتابيّين بينهم أنزل الله تعالى قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} (آل عمران: 100). فكيف بنا ونحن اليوم لا نكتفي بالتعصّب لقبائلنا، بل اخترع لنا الأعداء قبائل وهمية اسمها “الأقطار” الوطنية، فتعصّبنا لها وفخرنا بها وتقوقعنا عليها، وجعلها بعضنا من مقتضيات الإسلام مرسّخًا خطابًا بدعيّا الإسلامُ منه بريء. فكيف نستحقّ النصر وقد غرقنا في هذا الذي كان منذرًا للصحابة بالخسران كما يكمل السياق بعد آيات قليلة: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (آل عمران: 103).
إذا أردتَ استلهام السيرة فخُذها كاملة، وإذا كان سيّد قطب قد قال قولته الشهيرة في أحد أنبل مقالاته “خذوا الإسلام جملةً أو دَعُوه”، فإنني أقول لهؤلاء: خذوا السيرة جملةً أو دعوها.. لا تأخذوا أحداثًا وموافقات لفظية لتُخدّروا القلوب! لا تَبْتُروا وتجتزئوا من السيرة ما تهوى أنفسكم ثم تتركوا زبدتها وخميرتها ومعادلتها الأهم المتمثّلة بالمفاهيم التوحيدية التي قام عليها التمكين النبوي، ومركزية الأخذ بسنن الواقع، واقتناص الفرص المتاحة، وتوصيف الواقع كما هو، والتعامل معه بناءً على معطياته، وبذل غاية الوسع في استعمال ممكناته والبحث عن البدائل فيه، والاعتراف بالفشل وتعلّم دروسه، وغير ذلك مما شُحن به الكتاب والسنّة.
إنّ خطاب التوحيد مرتكَزٌ أساسي في التمكين، ولكنّه قد يتحوّل إلى مادة تخديرية حين يُسقَط بشكل عبثي على الواقع، وحين يؤخذ جانبه الغيبي فحسب والتبشير به بغير مقتضياته الواقعية المادية، حينئذٍ ينشأ خطابٌ مُشوَّه، يبدو جميلًا من الخارج بما يُحدّث به عن الصبر والدعاء والجنّة والشهادة وغيرها من المفاهيم.. ولكنّه يغفل أنّ من التوحيد اجتماع الأمة وعدم تفرّقها على انتماءات وطنية مبتدَعة، وأنّ من التوحيد اتخاذ الشريعة مرجعيّة عليا ونبذ المرجعيات الجاهلية، وأنّ من التوحيد إعداد العدّة والأخذ بالأسباب، وأنّ من التوحيد حفظ نفوس الموحّدين، وغيرها من مقتضيات التوحيد المغفول عنها في واقعنا المعاصر.
لستُ مع بثّ اليأس والإحباط في نفوس الشباب، ولكنّي ضدّ حُقن النصر الوهمي الخالي من المقومات التي يحقنها كثير من الدعاة والمفكّرون في عقول الشباب وقلوبهم، فأثرُ هذه الحُقن سيّء جدّا على المدى القريب والبعيد، وهو يدفع آلافًا من هؤلاء الشباب كل عام إلى الإحباط من المشروع الإسلامي وعدم الثقة بالخطاب الديني المشيخي الذي يجدونه تعبويّا خطابيّا لا يتّخذ من الدين والواقع مرتكزات حقيقية جادّة في الحكم على الأوضاع الراهنة.
ولعلّ أشهر الاستشهادات بالسيرة النبوية مما تتداوله ألسنُ الدعاة اليوم حديث خبّاب بن الأَرَتّ رضي الله عنه أنّه قال: “شَكَوْنا إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له في ظِلِّ الكَعْبَةِ فَقُلْنا: ألا تَسْتَنْصِرُ لنا؟ ألا تَدْعُو لَنا؟ فقالَ: قدْ كانَ مَن قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فيُحْفَرُ له في الأرْضِ فيُجْعَلُ فيها، فيُجاءُ بالمِنْشارِ فيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، ويُمْشَطُ بأَمْشاطِ الحَدِيدِ ما دُونَ لَحْمِهِ وعَظْمِهِ، فَما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، واللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هذا الأمْرُ، حتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ، لا يَخافُ إلَّا اللَّهَ والذِّئْبَ علَى غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ” (صحيح البخاري).
يُتّخذ الحديث دليلًا على أنّه مهما حدث للأمة فيجب أن تصبر، أي لعدم الالتفات إلى الضحايا والعذابات!
والمشكلة ليست في الاستشهاد بهذا الحديث المهمّ، الذي يحمل وصايا الصبر والثقة بوعد الله وعدم استعجال الثمرة، ولكنّ المشكلة هي عزله عن سياقه وشروطه الموضوعية، وإلقاؤه في واقع مختلف بغير معالجة ولا انتباه للفروق. فقد جاء هذا الحديث في سياق انغلاق وشدّة أصابت المسلمين، ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلّم يوفّر جهدًا في البحث عن بدائل والخروج من هذه الحالة العصيبة سواء عبر الدخول في جوار بعض الكرماء من العرب، أو بهجرة بعض الصحابة إلى اليمن، أو بطلب النصرة أو غير ذلك من الوسائل المتاحة.
فقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلّم يأخذ بالأسباب الواقعية للخروج من هذه الحالة، وكان في الواقع “يستنصر” للأمة بطريقة ما، ولكنّه لمس شيئا في نفس خبّاب السائلة فأراد أن يداويه ومَن كان في حاله بخطاب ملائم لتلك اللحظة، وهو خطاب النبيّ صلى الله عليه وسلّم الذي يوحى إليه، ونحن لسنا أنبياء ولا يوحى إلينا حتى نقفز بهذا الحديث الذي قيل في حالة لها شروطها ونبيّها الكريم ونُسقطه على حالتنا، فنتحدّث للناس بثقة لا أساس لها عن إتمام هذا الأمر وتَحقُّق النصر والتمكين قريبًا بالطريقة التي كان يبشّر بها الرسول صلى الله عليه وسلّم!
وأنا أعلم أنّ هذا الخطاب قد يبدو غريبًا على الشباب الذي اعتاد أن يستمع من المنابر في خطب الجمعة وغيرها خطابًا آخر يبثّ النصر في خضمّ أزمات الأمة وكوارثها، فهذا الخطاب – في كثير من الأحيان – هو “المهرب” المريح من الواقع الضاغط المتأزّم!
ولقد أتمّ الله وعد نبيّه صلى الله عليه وسلّم في سنوات قلائل، وحقّق موعوده للمؤمنين بالنصر والاستخلاف والتمكين والتأمين؛ ذلك بما حقّقوا من إيمان وتوحيد وإسلام وبما أخذوا من أسباب الواقع التي فصّلتها السيرة أحسن تفصيل وسنذكر شيئًا منها بعد قليل. أمّا نحن، فما بالنا نأخذ هذه المرويّات ونبني عليها ثقة غير مفهومة بأنّ النصر قادم وقريب؟ فالوعد بالنصر والتمكين لم يكن لنا في لحظتنا التاريخية هذه وشروطنا هذه! وهل أوحى الله لنا بذلك كما أوحى لنبيّه؟ وهل حقّقنا شروط هذا النصر من توحيد وإسلام ومن أسباب الواقع المادي؟
بل المفارقة أنّ زبدة الحديث هي قوله صلّى الله عليه وسلّم: “ولكنّكم تستعجلون”، ونقيض الاستعجال التروّي والبناء على أسس متينة، والمطّلع على السيرة النبوية بمختلف محطّاتها سيجدها تتميّز في هذا الباب، فالفكرة ليست في نصر غيبي وُعد به المسلمون فيسارعون إلى قطفه في أقرب فرصة، أو يدفعهم اليقين بهذا الوعد بالنصر إلى الوقوع في مواجهات غير متكافئة بفجوة ضخمة لتحصيله، مثل أن يُقاتلوا قريشًا وهم فئة قليلة مستضعفة في مكّة، ولهذا نجد الحديث ينسجم مع قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (النساء: 77)، فكأنّ الذي قال “ألا تستنصرُ لنا؟ ألا تدعو لنا؟” في الحديث يشبه الذي قال “كنّا في عِزّ ونحن مشركون، فلمّا آمنا صرنا أذِلّة!”، أو الذي قال “ذَرْنا نتَّخذ مَعَاول فنُقاتل بها المشركين بمكة” كما جاء في أخبار الآية (انظر تفسير الطبري)، كلاهما استعجل النصر قبل الأخذ بأسبابه.
وخلاصة الدرس النبوي: الوعد الإلهي بالنصر هو لزرع الثقة والصبر في القلوب، كي تعمل بلا قلق ولا اضطراب وتثبت على دين الله وشريعته، وليس لدفع المسلمين إلى تجاهل السنن المادية الواقعية، ولا للاستخفاف بقيمة الضحايا والعذابات ومعاناة المسلمين فيستشهد بعضهم بالحديث اليوم ليقول: إنّ التضحيات والخسائر في الأرواح غير منظور إليها حتى لو نُشّرنا بالمناشير ومُشّطنا بأمشاط الحديد! فلأيّ شيء إذن قال لهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم كفّوا أيديكم؟! ولأيّ شيء أرسل بعضهم إلى الحبشة؟!
المشكلة أنّ هؤلاء لا يفرّقون بين حالات لا مخرج منها بأيديهم، وليس أمامهم سوى الصبر على دينهم مع العمل على إيجاد بدائل للخروج من المعاناة والاستضعاف، وبين حالات يمكن فيها تجنّب الخسائر الكبيرة والتضحيات عبر تجنّب الإقدام على مواجهات خاسرة بوضوح شديد وبفارق قوة ضخم جدّا بحسابات الواقع وتشكّل خطرًا على المسلمين، فيأتون بالحديث على حالات من هذا النوع الثاني.
بكلمات أخرى: الرسول صلى الله عليه وسلّم قال لهم ذلك حين جاءهم التعذيب والتنكيل دون أن يكون لهم خيار آخر، فمهما فعلوا كانت قريش ستعذّبهم، ليصبّرهم ويثبّتهم، ولم يقل لهم: لا تهتمّوا بالعذابات والتضحيات الناتجة عمّا سنفعله من مواجهة خاسرة لقريش بالمعاول! فالمهم هو الشهادة، أمّا سلامتكم وحياتكم فغير مهمّة! لم يقل الرسول صلّى الله عليه وسلّم حاشاه ذلك، بل ذكر لهم عذابات الأوّلين التي فرضتْ عليهم مهما فعلوا ليُصبّرهم وليُحذّرهم من الاستعجال في قطف الثمرة، وفي سياق آخر من المرحلة نفسِها – كما في آية سورة النساء أعلاه – حذّرهم من المواجهة المتعجّلة مع قريش، مع أنّ الحقّ معهم وهم إنّما يدافعون عن أنفسهم.
ومن هنا ندرك الأزمة القائمة في عبارات مثل “المطلوب سلامة المنهج لا منهج السلامة”، لأنّ المسلم قادر على الجمع بين الأمرين؛ بين سلامة المنهج الشرعي وعدم تحريفه من أجل الدنيا واتّباع ما أنزل الله وهَدي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وبين الحرص على أرواح المسلمين وسلامتهم وحقوقهم وكرامتهم قدر الإمكان. صحيحٌ أنّ بعض المواجهات – كما في الحروب لدى كل أمة – ستضع احتمالات سقوط الضحايا والخسائر المادّية والمعنوية، فهو أمر لا مفرّ منه أحيانًا، ولكنّ الإسلام حثّ على بلوغ الدعوة وتمكين الدين بدون سفك الدماء من الطرفين قدر الإمكان، مما يؤكّد أنّه يضع في حسبانه سلامة الأرواح البشرية، فإذا كان يقدّم الدعوة ثم الجزية قبل القتال في العلاقة مع الأمم الأخرى، لأنّه إنما يسعى إلى هداية الناس لا قتلهم حتى لو كانوا كفّارًا، فكيف والحديث عن أرواح موحّدة مهتدية؟ لا يمكن أن يكون الخطاب غير الآبه بسقوط الضحايا من المسلمين خطابًا إسلاميّا، بل هو مخالف في مسلكه هذا لهَدي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الذي حرص على سلامة أمّته بقدر ما يستطيع كما سنزيده وضوحًا في آخر هذا المقال.
والعجيب أنّ هؤلاء الذين كانوا متحمّسين لقتال المشركين في مكّة، في مخالفة صارخة للسنن الواقعية وفي ظلّ اختلال هائل للقوة بين قريش والمسلمين (وهو أضخم بكثير جدًّا من الفارق الذين كان في بدر وأُحد والأحزاب)؛ هم أنفسهم الذين نزل فيهم في تمام الآية: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} (النساء: 77). أي حين تمكّن المسلمون في المدينة، وصارت لهم نصرة وقوة قادرة على مواجهة قريش، وحين باتت المواجهة ممكنة بناء على السنن الواقعية والتقديرات العسكرية رغم تفوّق قريش عدديّا؛ تلكّأ هؤلاء ولم يُقبلوا على الأمر بالقتال كما كان يُفترض بهم!
ولعلّ أبرز دروس السيرة النبوية المغفول عنها أنّها – بخلاف السير الأسطورية التي نجدها في أديان أخرى – مشحونة بالسياقات الواقعية المادية. إنّها ليست سيرة نصر ربّاني غيبي مُعجز، تَخسف فيه الملائكة قريشًا أو تعصف الريح بأعداء الدين فتفنيهم عن بكرة أبيهم، ولكنّ هذا المدد الإلهي الممثّل بالملائكة (كما حدث في بدر) والعواصف (كما حدث في الأحزاب) وغيرها من الأمور الغيبية التي جاء ذكرها في الكتاب والسنّة قد جاء على أرضية صلبة من التمسّك بالشريعة والأخذ بالأسباب والسنن الواقعية. وهو قابل للتحقّق لنا في كل عصر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7)، ولكنْ حين ننصر الله بالعمل بشريعته، وبالأخذ بسُنن الواقع التي أَمرنا أن نأخذ بها في كتابه، وعلّمنا من خلال سيرة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم كيف يكون الأخذ بها بأعلى تجلّياته!
هل يرتبط النصر برجوعنا إلى الله؟
كثيرا ما يربط الدعاة النصرَ والتمكين بصحّة دين الناس ورجوعهم إلى الله، وكثيرا ما يفهم بعض الناس هذا الأمر بشكل خاطئ، بمن فيهم أولئك الدعاة، فيظنّون الالتزام الفردي بالدين وامتلاء المساجد سيكون له دور “غيبي” في النصر والتمكين. وهذا صحيح إلى حدّ كبير فالأمر بيد الله عزّ وجلّ، لكنْ هناك جانب مهم جدّا مغفول عنه في خطاب التمكين المتعلّق بعودة الناس إلى الدين، والغفلة عن هذا الجانب هي التي تدفع بعض الناس إلى الاعتراض على ربط النصر والتمكين بمدى الالتزام الديني، إذ يجدون الناس يلتزمون بالدين ويملؤون المساجد ويظلّون مع ذلك مستضعفين مهزومين!
والواقع أنّ من الآثار الأساسية لالتزام الدين في الدنيا فتح البركات من السماء والأرض كما أخبرنا الله في كتابه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ} (الأعراف: 96)، وإنّما يظهر الفساد بما كسبت أيدي الناس: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الروم: 41). فالدين يُرشد إلى الخير والصلاح والنماء وينهى عن الفساد والخراب من خلال قيمه وتوجيهاته وأحكامه التشريعية الواضحة. ونحن نرى بأمّ أعيننا كيف يؤدّي ترك أحكام الدين وقيمه في العالم الغربي إلى فساد الحياة الإنسانية سواء بشيوع الأخلاق الفاسدة المفسدة لاستمرار هذه الحياة، أو عبر تدمير مقومات الحياة الطبيعية والموائل النباتية والحيوانية الناتج عن جشع الإنسان وقيمه الرأسمالية الاستهلاكية المغايرة للرؤية الدينية.
هذه سنّة عامة تنطبق على البشر جميعًا، وقد ذكرتُها لتقريب معنى: كيف يكون التزام الدين مؤثّرا في العوامل الدنيوية المادية، فالارتباط مباشر وواضح. ومن الأمثلة البسيطة: ضربُ قيم الحضارة الغربية لمؤسسة الزواج المستقرّ التي شرعها الدين وشرعنةُ الشذوذ، وهو ما يؤدّي إلى ضعف المجتمعات الغربية وتراجعها على المستوى العُمري والعددي، ومن ثم على المستويات الاجتماعية والاقتصادية، وهي عوامل قوة مادية واضحة.
لكن إذا جئنا إلى الأمة المسلمة سنجد سننًا أخرى مرتبطة بمقومات إيمانية وتشريعية متى فرّطت الأمّة فيها أدّى ذلك إلى تخلّفها ووقوعها في قبضة الأعداء، أو إلى فشل سياساتها وتأزُّم المشاكل في مجتمعاتها، وسأذكر مثالا واحدًا، وهو مدى التزام هذه الأمة بالولاء الإيماني، أي بتولّي المؤمنين والعمل بمقتضيات هذا الولاء من النصرة، والحذر من الوقوع فيما ينقضه كما حذّرَنا الله مرارًا في كتابه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} (النساء: 144).
ماذا حدث حين تخلّفنا عن هذا الأصل الإيماني الراسخ؟
ضاعت الأندلس مع ملوك الطوائف الذين ظاهروا المشركين على المسلمين، وأدّت الثورة العربية الكبرى إلى احتلال العالم العربي وتمزيقه حين تولّى قادتُها الإنجليزَ على العثمانيين المسلمين، وأصبح الخليج مهيمَنًا عليه أمريكيًّا حين دخلت دول الخليج طوعًا في ولاية الأمريكيين وقبلت بوجود القواعد العسكرية الأمريكية في بلادها وباجتياح بلد مسلم وتدمير قدراته وتمزيق مجتمعه برعاية أمريكية. وقُل الأمر نفسه عن السودان ومصر وغيرها من بلدان المسلمين، التي مثّل تولّي أعداء الأمّة فيها من طرف القيادات المؤثّرة في الأمر السياسي أحدَ أكبر عوامل فشل هذه الأمة في الخروج من نفقها المظلم. فالذي يقول لك إنّ السبب هو بُعدنا عن التزام الدين محقّ كلّيًا لكنْ ربّما لم يفهم الصورة كاملة. والذي يقول: كلّا، بل السبب سياسي وهو تبعيّتنا للغرب؛ محقّ جزئيًّا، وتغيب عنه الصورة المتكاملة للدين ومقتضيات مفهوم الولاء الذي هو أحد أركان التوحيد في كتاب الله.
ومن آفاق مفهوم الولاء أيضًا والآثار الكارثية الناتجة عن التخلّف عنه أنّ هذه الأمة حين تقوقعت على ولاءات وطنية مخترعة باتت حركات النهوض فيها محصورة في أقطارها الصغيرة، غير قادرة على مدّ أيدي التعاون والتعاضد مع سائر المسلمين. فحصرت بعض الحركات نفسها وأهدافها في قُطرها الصغير ذي الآفاق المحدودة شبه المستحيلة للتغيير ضمن مقدّرات هذا القُطر، ونأتْ بنفسها عن التعاون مع إخوانها من المسلمين في سائر الأقطار، مما أدّى إلى فشل ذريع متكرّر ناتج عن تضييق أفق الأمة وحصره بالأمة الوطنية، مع وجود قيم فاسدة تجعل التعاضد مع المسلمين من أقطار أخرى مندرجًا تحت مفهوم علماني قذر مفاده ذمّ “التدخّل في شؤون شعوب أخرى”. فتبنّي هذا المفهوم المناقض لمفهوم الولاء الإسلامي هو أحد أسباب الفشل المادي، والرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يتقوقع على “تحرير مكّة” بل وجد آفاقًا للعمل في المدينة، وهي بلد آخر، رغم وجود فئات كبيرة فيها ترفض وجوده وتكفر بدينه، ولاحقًا أصبح صحابته المكيّون القرشيّون هم القيادة السياسية المركزية في هذه المدينة الواقعة شمال مكة والتي ترجع أصول أهلها الأنصار إلى اليمن جنوب مكة!
حدث كل ذلك الأثر “المادي” السلبي الكبير في واقعنا الراهن بسبب التخلّف عن مقتضيات أحد أركان التوحيد، وهو الولاء، فكيف إذا أردنا إحصاء ما تخلّفنا عنه من الدين؟ وخصوصا في باب الشريعة: مثل الالتزام بأحكام الأموال في الإسلام، ومثل إقامة الحدود ومن ضمنها القصاص العادل الذي يكفل استقرار مجتمعات ما بعد الثورات تحديدًا، ومثل النظر في مآلات الأفعال كما هو راسخ في السيرة النبوية، وغيرها من القيم والأحكام الشرعية والهدايات النبوية التي تنير لنا طريقنا في الدنيا، فينشأ عن التزامها آثار “مادية” نلمسها بأيدينا، ممّا يجعلنا نفهم آفاقًا أخرى لمقولة ارتباط الالتزام الديني بالنصر والتمكين، فالدين لم يأتِ ليخالف السنن الواقعية في الحياة أو يتخلّف عنها وينحصر في أثر غيبي فحسب، لأنّ الذي خَلق هذه السنن هو الذي أنزل هذا الدين، بل جاء لضبط التعامل معها ومنع الفساد الناشئ عن تدبير الحياة بغير هداية الوحي.
ضرورة التوازن بين الإيمان بالغيب والأخذ بالأسباب الواقعية
التوازن من المفاهيم المهمة الغائرة في صلب الإسلام، وكثير من مشاكلنا المعاصرة راجع إلى اختلال هذا التوازن.
وفي سياق الحديث عن مفاهيم النصر والتمكين، ستجد من يركّز على الجانب الغيبي فيها ويقلل من أهمية الجانب المادي كما نوّهنا سابقًا، مع أنّ الناظر في حال الأمة سيجد أنّ العاطفة غالبة عليها، ومنطق النبوءات والنصر الموعود، والفئة القليلة التي حتمًا ستنتصر على الفئة الكبيرة مهما تضخّمت قوتها، وإسقاط أحداث السيرة – مع اختلاف ظروفها وملابساتها – على الأحداث المعاصرة بطريقة سطحية وكأنها نزلت فيها.. هذا المنطق الغيبي القاصر هو الشائع في الأمة (القصور منسوب لطريقة التناول وليس للإيمان بالغيب)، فهو أقرب “للغيبوبة” من “الغيب” كما قدّمه الإسلام.
وإذا كان هذا المنطق “الغيبوبي” هو الشائع، فهو يستدعي من الدعاة توعية الأمة حول أهمية التفكير الواقعي، كما قالت عائشة رضي الله عنها واصفة عمر رضي الله عنه: “ومَن رأى عمرَ بن الخطاب عرفَ أنه خُلق غناءً للإسلام، كان والله أحوذيّا، نسيج وحده، قد أعدّ للأمور أقرانها” (مصنّف ابن أبي شيبة)، أي أعدّ لكلّ موقفٍ أو حدثٍ ما يُناسبه من تصرّفات وسياسات.
وقبل ذلك من يُطالع السيرة النبوية يجد كمّا هائلًا من الحسابات المادية السياسية الواقعية في خطّ سير النبيّ صلّى الله عليه وسلّم نحو التمكين كما تقدّم، إلى جانب التوكّل والعوامل الغيبية، وذلك ليعلّمنا أهمية الأخذ بالسنن الواقعية والاستفادة من ظروف كل عصر وتسخير ممكناته والبحث عن البدائل وغير ذلك من السياسات الواقعية. والغالب على الأمة ودعاتها ومفكّريها اليوم – مع الأسف – التقصير الشديد في هذا الباب، مما يستدعي التركيز عليه إلى جانب التركيز على الجانب الغيبي.
كذلك الأمر عند الحديث عن الصمود والتضحية، يتحدّث كثير من الدعاة عن إلغاء الحسابات الدنيوية بشكل شبه تام، وأنّ الخسائر المادية من أرواح ودمار ليست مأخوذة في الحسبان في الصراع مع الباطل، مع أنّ هذه الجوانب – كما نرى في السيرة – مأخوذة في الحسبان بوضوح شديد.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (الفتح: 25)، يقول ابن جُزيّ في تفسيرها: “الآية تعليل لصرف الله المؤمنين عن استئصال أهل مكة بالقتل، وذلك أنه كان بمكة رجال مؤمنون ونساء مؤمنات يخفون إيمانهم، فلو سلّط الله المسلمين على أهل مكة، لقتلوا أولئك المؤمنين وهم لا يعرفونهم، ولكنْ كفَّهم رحمة للمؤمنين الذين كانوا بين أظهرهم”. فهذا حسابٌ لقيمة الأرواح المؤمنة ورحمة بها رغم قلّة أعدادهم ورغم الفرصة السانحة لإحراز النصر على قريش!
كذلك الأمر في إرساله صلّى الله عليه وسلّم لمجموعات من المؤمنين إلى الحبشة لينجوا من الجَور والعذاب والمعاناة في مكّة، جاء في “سيرة ابن هشام”: “قال ابن إسحاق: فلمّا رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية بمكانه من الله ومن عمّه أبي طالب، وأنه لا يَقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإنّ بها ملكًا لا يُظلم عنده أَحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجًا مما أنتم فيه. فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أرض الحبشة، مخافة الفتنة، وفرارًا إلى الله بدينهم”.
فقد اتّخذ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هنا سياسةً تهدف إلى حماية الناس من البطش والفتنة، والأمثلة من السيرة كثيرة. فالتركيز على إلغاء الحسابات الدنيوية وإغفال هذا الجانب الحيوي المهم فيه إخلال بتوازن الإسلام.
والأخطر أنّ أحد أهم أسباب صمود أي شعب أو أمة هو توفّر مقومات الصمود الدنيوية، فالناس لا يحيون على الخطاب الديني وحده، بل يحيون على الماء والطعام والأمن أيضًا، واستمرارُ الفتنة والتضحية لفترات طويلة وذهابُ الأمن وكثرةُ القتل والدمار هو أنسب جوّ لقتل الصمود والتمسّك بالدعوة في أنفس الناس. ولذلك على صاحب الدعوة أن يسعى قدر الإمكان إلى توفير البدائل التي تحفظ حدًّا أدنى من المعيشة الكريمة لاستمرار المشروع كما فعل نبيّنا صلوات الله وسلامه عليه، وألّا يُعرّض الناس إلى الفتنة المتواصلة بغير البحث عن فرص التفريج والتخفيف عنهم، فضلًا عن إدخالهم في فتن جديدة كان بإمكانه تجنّب إدخالهم فيها من خلال النظر في الواقع والمآلات كما فعل نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم.
ونماذج مثل أهل الأخدود الذين أُبيدوا تمامًا بعد إلقائهم في أخدود النار محلٌّ للتعزية بعد وقوع الحوادث المؤسفة في مسيرة الدعوة، فمصير المؤمن الذي مات صابرًا على دينه هو الجنّة بإذن الله(2)، ولكنّها ليست مثالًا يحتذى ويُستهدف عند الحديث عن “النصر”، فمخاطبة الناس بها وهم أحياء يُرزقون نوع من الإخلال العجيب بالتوازن الذي قرّره الدين(1).
أزمة عدم الاعتراف بالهزيمة
كما أنّ مثل هذا الخطاب القاصر يعاني من أزمة عدم الاعتراف بالهزيمة. فهو قادر على استخلاص “النصر” من كل حالة مهما كانت النتائج، حتى لو كانت هزيمة ساحقة تخلّلتها خسائر ضخمة جدًّا في الأرواح والأرض والممتلكات والعتاد.
وصحيح أنّ الأصل بالمسلم الثبات القلبي وألّا تدخل الهزيمة النفسية إلى قلبه، فسيظلّ معتزًّا باهتدائه لدين الحقّ ويكتسب علوّه على خصومه جميعًا من هذا الاهتداء للإسلام والإيمان بالله عزّ وجلّ وأنبيائه عليهم السلام والرضا بقضائه وقدره، كما قال تعالى عقب معركة أحد التي مُني المسلمون فيها بهزيمة مادّية ناتجة عن تقصيرهم في اتّباع أمر الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (آل عمران: 139). هذا صحيح، ولكنّه لا يعني عدم الاعتراف بالهزيمة الواقعية على الصعيد المادي، والتي معاييرها مرتبطة بأمور مادية كالخسائر البشرية وخسارة الأرض والممتلكات وغير ذلك من معايير اتفقت الأمم عليها. فلا يمكن أن تكون قد خسرتَ الأرض وآلاف الشهداء ولم تحقق شيئا من أهدافك في المعركة ثم تقول إنّك انتصرتَ لأنّ غيرك على الأقل لم يُفنِك تمامًا!
وقد قال تعالى في السورة نفسِها: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (آل عمران: 152). فقد كانت الغلبة في بداية نهار أُحُدٍ للمسلمين، حتى نزل الرماة من الجبل واختلطوا بعسكر المسلمين طلبًا للغنيمة وداهمتْهم خيلُ المشركين، فاستشهد خَلق كثير من المسلمين وتحيّزوا إلى الجبل. فوعدُ الله بالنصر كان متحقّقًا حتى عصى بعض الجيش الأمر. وصحيح أنّ عمر بن الخطّاب قال كما رويَ عنه: “قتلانا في الجنّة وقتلاكم في النّار”، وقال “الله مولانا ولا مولى لكم”، لكنّ ذلك يعكس عزّة المؤمن وعدم اهتزاز عقيدته، ولا يعكس تحقّق النصر الذي أراده المسلمون في المعركة، فإنّما أرادوا أن يستمر وعد الله لهم في قوله {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ}، ولكنّهم فشلوا، والفشل في العربية يحمل معاني الجبن والضعف والتراخي، وهو وصف سلبيّ جاء على إثر إخلال في شروط النصر المادّية، وهو مرتبط بشروطه القلبية النفسية؛ لأنّ الدافع لهذا الإخلال كان نفسيًّا داخليّا، وهو “إرادة الدنيا” كما نصّت الآية: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ}، فقد أراد بعضهم الفوزَ بالغنائم وعدم التأخّر عن ذلك. وفي هذا درس للمسلمين على مرّ العصور: حين تختلط الغايات الدنيوية بالغايات الأخروية في حروبهم ومعاركهم مع أعدائهم؛ فستكون هذه الغايات الدنيوية عاملًا من عوامل الخيبة وتأخُّر النصر.
وقد قال الله عزّ وجلّ في معركة بدرٍ التي انتصر فيها المسلمون خلاف ذلك تمامًا، قال سبحانه: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (الأنفال: 43). فالذي حصل في أُحد خلاف الذي حصل في بدرٍ، وهو الفشلُ والتنازعُ في الأمر ومعصيةُ أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم وإرادةُ بعض الجيش للدنيا، فهذه أسبابُ الهزيمة العسكرية التي مُني بها المسلمون في أُحُدٍ ومظاهرُها، ولئنْ كان اللهُ تعالى قد رحم المسلمين من الإفناء والمقتلة العظيمة (استشهد نحو عُشر الجيش) فإنّ هذا لا يجعلها انتصارًا، ومعرفتهم بأنّهم هُزموا وفشلوا فيها مهمّة جدًّا، ودروس سورة آل عمران تؤكّد ذلك.
إنّ حالة عدم الاعتراف بالهزيمة والتأكيد على النصر الدائم مهما حدث من تراجع وخسائر وانتكاسات هي في الواقع حالة ضارّة غير سويّة؛ فأنت حين لا تعترف بالهزيمة لن تتعلّم من أخطائك، وستتعامل مع نفسك كأنّك مركبٌ سائرٌ بهدى الوحي، لا يضلّ ولا يشقى، أو كأنّك معصوم من الله ولن يخذلك الله كما لو كنتَ نبيًّا مبعوثًا برسالة! ودرسُ أُحد يقول لنا: إنّ الهزيمة المادية تحصل مع خير الأنبياء وخير القرون، وتنزل الآياتُ القرآنية لتُعلّم المسلمين دروس فشلهم وانهزامهم، فكيف بنا نحن ولا نبيّ بيننا ولسنا بخير القرون ومع ذلك نُصرّ على نصرنا الدائم، ولا نتنازل فنعترف بهزائمنا وتقصيرنا المادي والشرعي واختلاط أهدافنا الدنيوية بالأخروية!
الهوامش:
- لتوضيح الأثر الكارثي لهذه الأيديولوجيات راجع مقالي “لماذا يجب أن نتخلّى عن هويّاتنا الوطنية؟”.
- انظر فصل “الخير والشر” من كتابي “الذرة التائهة”، فقد تناولت دروس سورة البروج في هذا السياق.
- للمزيد من التفصيل راجع فصل “هل نحن مكلّفون بالنتائج؟” من كتابي “الخطاب المريض: جراحة استئصالية لأفكار سرطانية” (2015).
السلام عليكم أ. شريف، أقرأ معظم مقالاتك وأتفق معك فالكثير، لكنني أراك تحمل تلك النظره النقديه لكل شئ، وهذا لا بأس به طبعاً، أنا مجرد قارئ، ويعجبني الكتابات المنبثقة من تفكير مختلف عما نراه يومياً ونسمعه، لكن سؤالي هو ما الحل برأيك، أعني هل يمكنك توجيه الناس بكتابة حل عملي على هيئة نقاط واحد إثنان ثلاثه، لأنك كما تعلم الناس في حيره وتيه، غير أن الكثيرين لا يحبون القراءة المطوله، إن كان المفكرين والدعاه هكذا كما وصفتهم وأنا أراهم هكذا أيضاً، وأريدهم أن ينظروا للواقع وأن يحاولوا إيجاد حلول عمليه واقعيه أرضيه لما نحن فيه كمسلمين، لكنهم يظلوا في ذاك البرج البعيد، متمسكين بتلك الكلمات الجميلة عن الصبر ويؤكدون في كل مره أننا لا نملك سوى القليل لنقدمه، فهل كان عمر بن الخطاب أو خالد بن الوليد رضي الله عنهم ليكتفوا بالخطب ولا يفعلوا شيئاً، هل نحن عاجزين حقاً، وسؤالي لك هل تعترف بفشلنا لأن هذا ما رأيته في حديثك، هل هناك مخرج واقعي من رأيك؟ وما هو؟