فكر

قراءة نقدية في بعض أصول العقيدة في مذهبي المعتزلة والهادوية (ج4)

الأصل الثالث: الوعيد أو الشفاعة وخروج الموحدين من النار

ومبدأ الوعد والوعيد أي خلود العصاة من المؤمنين ممن مات ولم يتب من معصية ارتكاب الكبائر، وعدم انتفاعهم بالشفاعة أو مغفرة الله تعالى لهم، وعدم خروجهم من النار ودخولهم الجنة.. هذا المبدأ ما يزال البعض في هادوية اليمن يصر عليه أنه هو الحق المبين وغيره الضلال المبين، وأن القول بخروج الموحدين من النار دعوة للإباحية وإغراء بارتكاب المعاصي، وينتقصون من عقيدة أهل السنة إخوانهم في الوطن قدحا وإهانة رغم ثبوته في مسند زيد بن علي كما أوردناه في مقالات سابقة!

وما يزال هؤلاء يحاججون في المسألة على الطريقة القديمة المعهودة في سجالات علم الكلام، ويستخدمون آيات نزلت في المشركين من الكفار وأهل الكتاب المخلدين في النار في حق المؤمنين العصاة على طريقة القدماء من المعتزلة تحت لافتة أنها عقيدة آل البيت! وحتى وصل الأمر والعناد بأحدهم أن يقول في حوار صحفي وهو يستهجن القول بخروج المؤمنين من النار ودخولهم الجنة ما معناه: (يعني معاوية عيدخل الجنة؟)! وهذا مثال على تسييس بل فرض الأغراض السياسية حتى على الله نفسه عز وجل وتعالى عن ذلك! وكأن الأمر عند القوم فقط هو ألا يدخل معاوية بن أبي سفيان الجنة ولو اضطروا لتحريف الدين كله من أجل ذلك!

ورغم أن الآية القرآنية واضحة (وردت مرتين بالصيغة نفسها وفي سورة واحدة): (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء..) النساء 48 و116، في أن المغفرة (ممتنعة) على من أشرك به، و(جائزة) لما هو دون الشرك من المعاصي التي يرتكبها العصاة من المؤمنين ويموتون بلا توبة منها إن شاء الله ذلك بالمغفرة أو الشفاعة المأذون بها؛ إلا أن تعسف تفسير آية:( بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) البقرة 81 أفرغ الآية الأولى من عموميتها، وجعل الآية الواضحة المحكمة محكومة بخصوصية الآية الثانية!

وأين هو تحكيم العقل في هذا الأمر؛ إذ كيف يكون مصير المؤمن العاصي مساويا لمصير الكفار والمشركين دون قيمة لإيمان المؤمن العاصي وأفعال الخير التي عملها؟ وقد ثبت أن مرتكبي الكبائر دون استحلال لها مسلمون تجري عليهم – مثلا- كل أحكام الإسلام على قاتلي النفس الحرام مثل إمكانية العفو عنهم بل استحبابه، وإقامة صلاة الجنازة عليهم بعد إقامة حد القتل عليهم، وتوارثهم!

وأين هو النظر العقلاني الذي يتجاهل أن لفظة (السيئة) و(السوء) تشمل في الأصل كل عمل سيء من الصغائر والكبائر على حد سواء، ولها معان متعددة تفهم حسب السياق القرآني، وعلى سبيل المثال فقد تعني (النقم) كما جاء في قوله تعالى في آية 168 في سورة الأعراف:(.. وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون)! وقد تعني الصغائر كما في قوله تعالى: ( إن تجتنبوا كبائر ما تهنون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما) النساء31

ومثل ذلك تنزيلهم للآية الكريمة في حق الكفار والمشركين على المؤمنين، وهي قوله تعالى:[… ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا] الجن 23، ومساواة معصية الشرك والكفر بالكبائر؟

وفي الخلاصة فإن السياق وسبب النزول هو الذي يحدد معنى الكلمة من معانيها المتعددة، وبالتالي فإن لفظة (سيئة) في الآية المذكورة لا يمكن أن يكون المقصود بها أي سيئة وإلا اندرج ضمن ذلك صغائر الذنوب لو مات المؤمن ولم يتب منها.. والمعنى والسياق فضلا عن العقل يفرض فهم معنى (السيئة) في ضوء الآيات السابقة عليها التي تتحدث عن اليهود وممارساتهم الكفرية مثل تحريف الكتاب، وعبادة العجل: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا، فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون* وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة، قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله وعده أم تقولون على الله ما لا تعلمون* بلى من كسب خطيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) البقرة 79-80  فالكلام هنا عن اليهود الذين نفوا أن تكون السيئة التي ارتكبوها بتحريف التوراة، وبعبادة العجل سببا لخلودهم في النار، وقالوا إن عقوبتهم ستكون بقدر زمن عبادتهم للعجل! فمعنى (السيئة) هنا يقصد به الشرك بالله وعبادتهم العجل!

وقد قرأت لفتة جميلة في آية (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) في تفنيد قول من تأولها لتوافق عقيدته في خلود المؤمنين من أصحاب الكبائر في النار بأن المقصود بالمغفرة في الآية حصريا: من تاب عن المعاصي أو الكبائر وليس من مات دون توبة.. فعلى ذلك فلو كانت المغفرة في الآية مرتبطة بشرط التوبة فلا معنى للمقابلة في الآية بين عدم المغفرة لمن مات على الشرك وبين المغفرة لما هو أدنى من ذلك بشرط التوبة قبل الموت كما يقول المتأولون لها.. فحتى الشرك بالله – فضلا عن ارتكاب الكبائر- مغفور لصاحبه لو تاب عنه قبل الموت..  فأين إذن هو الفارق في الحالتين؟ وما فائدة إيراد الآية إن كان الأمر مشروطا فيه التوبة؟

وهناك آيات قرآنية تحدثت عن خلود مرتكبي الكبائر مثل المرابين، وقاتل النفس المحرمة، والفارين من الزحف.. فهؤلاء قصد بهم المستحلون للربا ممن يقولون إن البيع مثل الربا، أما الآية الخاصة بنهي المؤمنين عن الربا فلم يذكر فيها الخلود في النار بل الإيذان بالحرب من الله ورسوله. وآيات تخليد قاتلي النفس الحرام، والفارين من الزحف وقت القتال يمكن فهمها أولا في إطار أنها مناسبات مخصوصة مقارنة بعموم آية (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)، وثانيا فهناك فهم خاص لكل منها يزيل تعارضها الظاهري مع الآية ومع الأحاديث الكثيرة الثابتة في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث إن هذه الآيات تحدد العقوبة عن هذه الكبائر في الآخرة لكن ذلك لا يمنع من العفو ابتداء بشفاعة مثلا فضلا عن العفو بعد قضاء حين من الزمن في النار ثم الخروج منها.. والأمر يمكن فهمه كمثل العقوبات التي تصدرها الدول في جرائم معينة لكن لا يعني ذلك أن القضاء يحكم بها دائما دون مراعاة ظروف معينة بالنسبة للمتهم مما يؤدي إلى تخفيف العقوبة وأحيانا إلى عدم تطبيقها نهائيا.

وفي كل الاحوال فالأحاديث ( التي أوردناها في مقالات اتفاق عقيدة آل البيت مع عقيدة أهل السنة ) التي يؤمن بصحتها الهادوية والتي تقرر خروج الموحدين تنقض كلام الهادوية إلا أن يعترفوا أنهم معتزلة ولا علاقة لهم بفقه وعقيدة آل البيت!

وأما القول إن هذه الآيات (عن خروج الموحدين من النار) أنها تشجع الناس على الفساد فمردود عليها أن البشارات لا تقتضي الوقوع في الفساد والكبائر (كما يقال)، فهؤلاء العشرة المبشرون بالجنة، وأمهات المؤمنين وغيرهم ممن بشرهم النبي بالجنة، (بل ومثلهم المعصومون من الأئمة لدى الشيعة).. فلم يكن ذلك مشجعا لهم على الفسق والمعاصي! ومثلهم ملايين في كل زمان ومكان لم يدفعهم إيمانهم بخروج الموحدين من النار من أن يتجنبوا الكبائر!

وهل ينكر أصحاب هذا القول أن هناك عصاة بلا عدد محدود – في المجتمعات التي تسود فيها مذاهب الشيعة أو الباطنية أو الخوارج- لم يعصمهم من المعصية إيمانهم بقول مذاهبهم بخلود مرتبكي المعاصي في النار؟ وهل كان المعتزلة ومن وافقهم في زمنهم أطهارا من الكبائر حصريا، ولم يقترفوها بسبب عقيدتهم الاعتزالية؟ (1)

9- للأسف الشديد لم أجد مصدر كلام الشيخ أبي علي الجبائي هذا مسجلا بجانب العبارة المكتوبة في أوراقي ولعلي سهوت لحظتها لكن وجود نص الكلام يؤكد أن هناك مصدرا للكلام أسأل الله أن يوفقني للعثور عليه. كما أن الكلام مجرد تفسير لظهور التشبيه وليس فيه ما يشين الجبائي.

الهوامش:

  1. لمزيد من الفهم انظر: ابن الوزير في الجزء الثالث من العواصم ص 453.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى