فكر

نُقلةُ الأسفار بين مصاح البطولـة وأوصاب الفردانيـة

ديباجــة الخِطاب:

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمدالله مُصرّف الأمور كيف يشاء بقُدرته، مثبّت قلوب عبادهِ عند النوازل، وصلوات الله على سيّدنا محمدٍ رسول الله، أبرّ الخلق وأوفاهم ذمةً، أرحمهم بأهليه وأُمّته، أشجعهم إذا احمرَّتِ الحدق، من بلّغنا دين الله والتسليم والمُضي على اللَّقمِ والصبر على مضض الوصب والجِدّ في جهاد العدو.

أمَّا بعد، فبين[البــطل] في العصر القديم و[الفــرد] في العصر الحديث، ملامحٌ عن القيمة الاجتماعية النبيلة في سياق[الإجبـــار] ودولته، وانعدامها في سياق [الاختيـــار] وصولته. والمجتمع البطولي سواءً وُجدَ على مستوى المُبالغة في الأشكال البطولية، أو على مستوى النِّظام التقليدي المُؤسَّس على الدلالات البطولية، يُعد من السُّبل الواردة لفهم الذاتية الاجتماعية، واستيعاب مُجتمعاتنا الحديثة ومُراجعة قِيمنا وما انتظمَت عليه من دِسار، وليس في عرضه إشارة إلى تبنّيه قياسًا، بل نحسبه على سبيل اللغة التقييميّة.

ولك فيما سأعرض متحًا من ثلاثة كتب وعلى جهة المُقارنة، إيجازًا وتصرُّفًا، أن تُعاينَ نظام البطولة وعلاقته بالرفعة الاجتماعية وقِيمها، مقارنةً بمجتمع الحداثة التقدّمي وما يتقاطع مع قِيمه من النُظم السياسية والفِكرية والسياقات الدِّينية. وبين كل عرضٍ وآخر، أُسرجُ لك بما يتّفقُ والمقام كلامًا أدْخَلُ في القيمة والبطولة والحداثة، وهو على تباعد أطرافه ينتهي إلى إسنادٍ مُتّصل، ومتنٍ مُتمّ.

في دراسته «المحركات الاجتماعية والثقافية» يذكرُ عالم الاجتماع ”بتريم سوروكين“ قوة الأدب التصويري، ومنه أن أهل اليونان ما قرأوا الإلياذة والأوديسة لهوميــروس كقصصٍ يُرام بها السلوى والمُؤانسة، أو من جهة مُطالعة قطعة فنية خالصة، بل شرعوا في تلاوتها كنصوصٍ دينية وأخلاقيــة وتربوية؛ إذ عرضَت لهم أنَّها «تُعلّم القيم السامية». وهناك في أثينا القرن السادس تأسّست التلاوة الرسمية لقصائد هوميــروس حتى صارَت طقسًا شعبيًا مُقدَّرًا. ومن جِهة كانت المُجتمعات اللاحقة مُدركةً أنَّ العالم البطولي الذي مثّلهُ هوميروس في قصائده قد يكون احتمالاً واردًا في الخيال، لكنَّها فضّلت اعتبار وجوده، واعتبرَت نفسها صادرةً من نزاعات ذاك المُجتمع البطولي، فاتَّخذته مثالاً يُحتذى، وخلقَت من الأدب البطولي مدادًا للمزايا الأخلاقية التي اعتمدتها [1].

هذا المخزونُ القصصي الأدبي كان وسيلة رئيسة للتربية البطوليــة، ضمنَ ذاكرةٍ تاريخية لنظامٍ أخلاقي للمجتمعات البطولية، بينما صارَ يُمثّل لعصور الحداثة خلفية قلقة لجدلٍ أخلاقـي في حدِّ ذاته؛ فتلك الخصائص البطوليـة ما كانت لتكون إلا داخل إطار بُنية اجتماعيـة خاصَّة، ومن هنا، بين التوق لتلك الخصائص ونبذ البُنية الاجتماعية المادية الحديثــة لا تثريب ولا لائمة على الإنسان المُعاصر، اليائس من عالمهِ الجديد، أن يُحاكِم ويُخاصِم القِيم الفردانيـــة المُتْعيِّة التي اتَّخذتْ بيننا مألفًا وخارطة للهوان الحضاري.

نُقلةُ الأسفار بين مصاح البطولـة وأوصاب الفردانيـة

١/ من البطلِ إلى الفرد:

«يقع أحيانًا خلط بين مفهوم [البطولة] القديم ومفهوم [الفردية] الحديث. وهكذا تتحدث النُظم الأيديولوجية عن أفرادها التاريخيين بوصفهم أبطالاً أسطوريين، أو يجري قلب هذه الموضوعة، فيُنظَر إلى البطولة القديمة بوصفها مظهرًا من مظاهر الفردية الحديثة. ولكن يجب أن نضع في اعتبارنا أنّ مفهوم [الفردية] مفهومٌ حديث، لا يكادُ تاريخه يعود إلى أبعدَ من القرن السابع عشر، وانتعشَ بظهور علم الاجتماع الحديث، مع دوركهايم بالتحديد في مطلع القرن العشرين، حين صارَ يُنظَرُ إلى الوقائع الاجتماعية باعتبارها الوقائع التي تمارسُ القسرَ على وعي الأفراد. وحصل هذا التمييز بين الفرد والمجتمع على كامل مشروعيته القانونية مع إطلاق قانون حقوق الإنسان في منتصف القرن العشرين. وهكذا فإن مفهوم [الفرد] أو [الفردية] هو مفهومٌ ينتمي إلى عصر التفكير النقدي والعلمي الحديث. وهو مفهومٌ وصفيٌ تمامًا، لا يطالب فيه الفرد بأكثر من حقوقه الفردية المشروعة. فالفردُ إنسانٌ طبيعي من حقّه أن يمارسَ حقوقه الإنسانية البسيطة في الحياة والحرية والفكر، بمعزل عن لونه وجنسه ولغته ودينه، على السواء مع الآخرين. وهذا المفهوم يختلف اختلافًا كليًا عن مفهوم [البطـــل].

ينتمي [البطل] إلى الفكر الأسطوري منذ أقدم عصوره. وهو لا يقعُ في مقابلةٍ مع المجتمع ككيانٍ كُلي على الإطلاق، بل يمثّل البطل على العكس من ذلك عصارةَ المجتمع الذي يعيش فيه. ولكونهِ رمزًا لكليةِ الجسد الاجتماعي، فهو يحظى بامتيازٍ لا مَثيلَ له. بينما في المجتمع الحديث، يتمثّل نقيض الفرد في المجتمع، أمّا البطل في المجتمع الأسطوري فليس بنقيضٍ للمجتمع على الإطلاق، بل إن هذا المجتمع لا يعبأ بتمييزنا الحديث بين الفرد والمجتمع، لأن البطل عنده هو رمزُ لحمة المجتمع.

البطــلُ هو الخُلاصة الروحية التمثيلية لمجتمعه، وهو لا يصل إلى هذه المرتبة الكبرى إلا إذا أفلحَ في اجتياز سلسلة من الاختبارات التي يُعرّضه المجتمع لها.» [فاعلية الخيال الأدبي، سعيد الغانمي– بتصرُّف].

ولمَّا بدا أن مُصطلحيْ [فرد] و[شخص] على ترادُفٍ يقبل استعمال أحدهما عن الآخر، إلا أنهما ينقلان جوانب مُتباينة:

أمَّا الشخص فهو كائنٌ بشريٌّ مخلوق له روح، قادر على التفكير بنفسه، في حين يُنظَر إلى الفرد في العالم الحديث على أنه موجودٌ فقط كجزءٍ من المؤسسة، جُذمَت العُرى بينه وبين الروح.

والشخصية لها امتدادٌ تاريخي؛ تُشرعن أخلاقيًا نمطًا من الوجود الاجتماعي [2]، وهي أقرب تصنيفًا لخصائص البطل. أمَّا الفرد فقد صُنِّف في العصر الحديث على أنه فردٌ يجب إشباع رغباته الذاتيَّة، كيفَما اتَّفق، وبأي ثمن، بغض النظر عمّا إذا كانت مبادئ الأولويّة الطبيعية للأشياء قد تمّ مُراعاتها أم لا. الشخصُ له صياغة أخلاقية تحتمل ثِقل الماضي، تُراعي النُّظم الأخلاقية والتزاماتها، مصيرها هو مصير المُجتمع، وواجباتها مُقدمة على حقوقها، أمَّا الفرد فعلى خلافه، مُنتمٍ إلى ذاته، غير عابئ بالمُجتمع، لا يهتم بأكثر من حقوقه.

وعلى دلالة الشخص وخصائص البطولة، نذكرُ استنجاد أوديب بنبوءة العراف [في مسرحية أوديب لسوفوكليس] من باب التمثيل؛ إذ نرى أنه يُنبِّه على سمة مهمة من سمات [المجتمعات البطولية القديمة] وهي أن المصير «حقيقة اجتماعية واكتشافه دور اجتماعي مهم»، لذا ترى أنَّ ازدهار نبوءة العراف في زمن هوميروس والملاحم البطولية الآيسلندية وأيرلندا الوثنية… له ارتباطه الوثيق بالنظام الاجتماعي، لا المصلحة الفردية.

فإذا قارنته بالفرد في العصر الحديث، ألفيتَ [آلان] في فيلم «(The fire within (1963» لـ[لويس مال] المُستند إلى رواية «Will O’ the Wisp-1931» لـ بيير لاروشيل، مثالاً أبلجًا على ما تقدّم من خصائص الفرد التي لخَّصها سعيد الغانمي بـ «نقيض المجتمع»؛ يقول [آلان] أنه عاجزٌ حتى عن الحاجة، ومن سيرته، يبدو أن الإنسان في العصر الحديث يتعسّر عليه التغلّب على نفسه؛ وهو هنا مثالُ [فاوست] لا يمكن لشيء أن يعتقه من حدوده، ومثل فاوست: لا يمكن له إلا أن يخفق.[3]

نُقلةُ الأسفار بين مصاح البطولـة وأوصاب الفردانيـة

2/ البطل اليوم:

«عند النظر من زاويةٍ معاصرة يبدو كل هذا بعيدًا تمامًا عمّا نحن عليه، فبعد وصول النموذج الديمقراطي للفرد الذي يملك حق تقرير مصيره واختراع الماكينات التي تعمل بالطاقة بالإضافة إلى تطور النهج العلمي في البحث، تحوّلت البشرية عن النظام الرمزي الكوني العتيق الموروث وانهار الماضي تمامًا، حتى أعلنَ نيتشه على لسان زرادشته بكلماتٍ مفتتحة لعصر جديد: ’ماتت كل الآلهة‘. نعرف الحكاية العجيبة، حيث انهار سحر الماضي والارتباط بتقاليده بضربةٍ ساحقة انبثق فيها الإنسان المعاصر من شرنقته. ليس الأمر فقط أن الآلهة لم يعد لها مكان لتختبئ فيه من بحث التيليسكوب والميكروسكوب الحثيث عنها، وإنما أيضًا لم يعد هناك مجتمع يعتمد عليها في الدعم والحماية، ولم يعد المحتوى الديني هو ما يشغل الوحدة المجتمعية وإنما المؤسسة الاقتصادية السياسية. لم يعد أهل الكهنوت، ممثلي السماء على الأرض وإنما الدولة المدنية المنخرطة في منافسة لا تنقطع على السيادة المادية على الموارد، فالمجتمعات المنعزلة في إطار من الحلم والمحتمية في أفقٍ من الأسطورة لم يعد لها وجود إلا في أماكن لَم تُستغل بعد، أما داخل المجتمعات التقدمية نفسها فكل ما بقي من إرثِ الأخلاق والفن والطقوس البشري العتيق في طريقهِ الآن إلى التحلُّل التام.

إذن، مشكلة الإنسانيــة اليوم هي العكس تمامًا من مشكلتها في الحقب السابقة المستقرة نسبيًا، حقب الأساطير العظيمة المتكاملة، تلك التي تُعد الآن أكاذيب. وقتها كانت المعاني كلها تكمن في الجماعة أو في الأشكال العظمى عديمة الهوية، ولا يوجد منها ما يسكن الفرد المُعبر عن ذاته. الآن، لا شيء يكمن في الجماعة أو في العالم؛ إذ صار كل شيء يكمن في الفرد، والمعنى خرج من الوعي إلى اللاوعي؛ لم يعد الفرد يعرف إلى أين يتحرك أو ما الذي يحرّكه، فقد قُطعت خطوات الإتصال بين نطاقات الوعي واللاوعي في النفس البشرية وانقسمَ الواحد إلى اثنين. مأثرة البطل المنتظرة اليوم لم تعد تلك التي احتاجها العالم أيام غاليليو حيث كان هناك ظلامٌ حل محله النور اليوم، لكن أيضًا حيث كان يومها نورًا صار اليوم مظلمًا. مأثرة البطل المنتظر اليوم هي إعادة أطلانطس الروح المتكاملة المفقودة إلى النور، وغير ممكن استعادة هذا النور بالعودة إلى الوراء أو بهجر ما أنجزته الثورة المعاصرة، فالمشكلة الحقيقية تكمُن في إيجاد دلالة روحية للعالم المعاصر.» [البطل بألف وجه، جوزِف كامبل– بتصرُّف].

قرّر موتُ الإله موتَ الإنسان، وقرّرت الفردانية موت الجماعة، تلكُم قصة الحضارة الحديثة. أمَا وقد وفَّرَتِ الحداثة اختيار القيم، ومنحَت الفرد حُرية وحقّ التأكيد على نفسه فوق التقاليد والعادات والدِّين والقِيم والسُلطة والمُجتمع، وساهمَت المبادئ الديمقراطية في الإجهاز على المبادئ الهرمية، وإجهاض الروح، وإشاعة العربدات السلوكيَّة، مُتسرِّبةً بذلك حتى إلى القِيم الجمالية في الفنون فنقضَت معاييرها وشاهَت عليها بأباطيل النسبية والألغاز التجريدية العدميــة، أمَا وقد تقرّر هذا: خالفَ الفرعُ أصله، وصارَت الكرْمة حسنة الورقة والثمرة إلى سَمُـــرةٍ أصالتُها شوكها، وما الإنسان هنا إلَّا غريمُ سوء، أجيرُ عَدم.

ذاك من أصل النظر إلى بيان الأمر: بينما حرية الاختيار والنسبيات والفرديات لم تكن في المجتمعات البطوليــة إلا دلالة على الاقتراب من نقطة التلاشي وتهاوي الرابطة الاجتماعية الواحدة. حملَ العالم القديم تباشير البناء، وحمل العالم الحديث نُذر السقوط، أو هواجسه. وحيث نحن حُطِمَ المعنى عندما رُفِعت الفردانية لمصافِ القُدْس دون كل القِيم، ومن في معناها من آفاتٍ ومساغب وفاقاتٍ روحية.

بونٌ بين هوية المُجتمع البطــولي والمجتمع الحداثي التقدُّمي، بين خصوصياته ومسؤولياته، فاتّسعت الفروق بين الإنسان القديم الذي قدّسَ قواعد مجتمعه المحددة والإنسان الحديث الذي بالغ في إدراكه العقلي، ولك بيان أيسر التباينات أنْ تنظر إلى ما يُميّز الإنسان الحديث عن الإنسانِ القديم، في أنَّه طقسٌ لنشاطٍ اقتصادي، شكلٌ هندسي للتِّيه، يهيمُ في وجهِ الدُنيا كظاهرةٍ مُنعزلة، تُترجم ملامحه المشهدَ الأخير للسقوط.

ما من وجودٍ لمُجتمع قامَ على أفرادٍ يتمتّعون بالفردانية الانعزالية؛ إذ أنَّ الجماعـــةَ، وهي صورة من صور المجتمعات البطولية، خطٌ زمني مُستمر طويل المدى، مُؤسِّس ومُؤسَّس، بينما الفردية أفقٌ زمني لحظي. والجماعةُ تقوم على مبدأ التعاون والتبادل، أي [الإنتاج]، بينما الفردية تقوم على المستقبل الشخصي الذي لا شيء قبله ولا اعتبار لما بعده، ولا وجود فيها لمبدأ التعاون والتبادل. لكنَّا اليوم نشهدُ تحلّل الجماعة تحت الخطاب المُعاصر للفردانية.

عصرُ ما بعد الحداثة مَلآنٌ بضروبِ التفاؤل الساذج الذي يتجاوز أعتق البديهيات التي لا دسار لمجتمعٍ بشري إلّا بانتظامه فيها. ومن هذه النمطيات التفاؤلية الساذجة: الفردانية، أو حلم الفردية، وليست هي الفردانية المُستهنضة لهمّة الشباب الطموح لتحسين ذواتهم، بل الفردانية التي جاشَت بها الذاتيّة، وغدت أداة سيـــاسية تعمل على تشظّي المجتمع.

e1683130157588 نُقلةُ الأسفار بين مصاح البطولـة وأوصاب الفردانيـة

داهمَتِ الخطابَ العصري نبرةُ الفردانية التي سعــتْ لتحرّر الفرد من أواصره مع الهوية الوطنية والاجتماعية والتقاليد التي سيّجتْ أمّته، وحتى القيم الاجتماعية، في سبيل تحقيق حلم الحرية الذي لا يقل إيفاءً بمعنى الأبلسة؛ والحريةُ في تعريف العالم الحديث ليست نوعية، بل كمية، ليست واقعية، بل غارقة في المثالية وهي في نظر ڤرتيغوف شووان سُرعان ما تتحوّل إلى «الحُرية في الشر، ومن ثم الحُرية في إلغاء كل حُرية». الانعتاق من الأدوار، التحرّر من الكوابح الاجتماعية والقيم الجماعية، الانغماس أكثر في غلالة النَّفسنة وتحرير المزاج الشخصي بكل ألوانه، كل هذه مثالب القيم الفردانية التي توقعنا في الفراغ وتتسقّط لأنفسنا فنون العدم، على خلاف القيم الجماعية والتي تتراءى لوهلاتٍ رتابتها وضجرها، إلا أنها جوازٌ لمنحنا الطُمأنينة وشريف المعاني.

تأويلُ قصّةِ حياتنا يستند على التدبُّر الأخلاقي أكثر مما هو مُمارسة مُتعسِّفة لإرادتنا. هو كذلك، يَلزمنا الاختيار في حيواتنا، ولكن الاختيار النَّاتج عن التأويلِ الآنف ذكره، وليس اختيار عن مُطلق الإرادة؛ يقولُ ماكنتاير _مؤلّف بعد الفضيلة:

«لستُ أستطيع أن أسعى إلى الخير، أو أنْ أقوم بالفضائلِ، بصفتي فردًا وحسب». ما نُلاحظه أنّ الفردانية تخضعُ لمنطقِ الشخصنة والنَّرجسة والنَّفسنة والرغبات المُتبدّلة وفقًا لخطرات المزاج، ومن جبلّتها أغراضٌ مُتعيِّة منصورة بالخطاب الإغرائي الذي يضربُ بمنطق الأخلاق المسؤولة الخلّاقة عرض التجاهل والاِزدراء، ويقتضي التنحِّي عن الهويّات والارتباطات الجماعية المُثرية. وهنا نستذكرُ ما جيء في «إغواء الغرب لـ أندريه مالرو» في رسالةٍ مُضمّنة من السيد لينغ _الشرق آسوي _ إلى صديقه الأوروبي عن خصلةٍ يتمتّع بها المجتمع الشرقي ونبذهم للفردانية لإدراكهم لَوثانها على المجتمع:

«نحنُ لا نريد إدراك حياتنا إلّا في مجموعها. ليس لأننا قادرون على معرفة هذا المجموع. لكن لأننا نعرف أنه يتخطى كل فعل من أفعالنا الشخصية البحتة، وبالضرورة يتجاوزه.» وفي رسالةٍ أخرى يُعرِّف الفردانية بالزينة المشؤومة، ومنه يقول «ما نريده نحن هو ألّا نحصل على الوعي بأنفسنا بوصفنا أفرادًا».[4]

نظنُّ أنّا اليوم قد تجاوزنا الخطاب الأيديولوجي وصولاً للتطلّع الجماهيري المشحون بالرغبات النَّفسية التي صيّرته إلى مُعبِّرٍ نافث يجري في وجوهٍ كثيرة من تصويره لذاته؛ لذا انتقلنا من حظوة الإصغاء، إلى التحدّث عن وكل شيء، هنا يلاحظ [جيل ليبوفتسكي] في كتابه «عصر الفراغ» أنَّ:

«العصر ما بعد الحداثي مسكونًا بالإعلام والتعبير». ما طبيعة التعبير في عصرنا؟ الأنا، لا شيء أكثر من الأنا، وهذا خطابٌ معاصر للأخلاق شجّعته الهيمنة السياسية لليسار.

الفردية هي ما يدينه التأريخ، وهي الحربُ على السمو الجماعي، وهي التوقُ لانتصار الهيدونية على النُظم الحضارية، الحاجةُ الشخصية على المصلحة الجمعية. الفردانيةُ هي الشكل الهندسي الحديث لسلالة الإغراء التي تبلورتْ في القرن الثامن عشر. وهي انحطاط مرتبة الإنسان إلى شيء، هذا الإنسان الذي أرادَ أن يبلغ مصاف الآلهة فوقعَ بعيدًا عنها قريبًا من البهيمة. هنا، تضيعُ منّا أكثر الأمور جوهريةً ووضوحًا بذريعة الفردانية التي قعَّدتها أزمنة الحداثة وما بعدها، هنا ندخل في إفلاسٍ نظامي وأخلاقي صريح، وقد تنبّه لهذا كريتسوفر لاش في كتابه [ثقافة النرجسية]، ولنا من الشكل المُعاصر للغرب أنْ نجسّ ما قد يستغمضُ من دلالات التشويه وطمس المعنى في المجتمعات اللحظية الفردانية.

وما من محيص إلى هوادي الكلام في بيان أنَّ الانحلال يبدأ في المجتمعات الجماهيرية الحديثة متعددة الثقافات عندما يخلو المجتمع من أي معنى داخليٍّ واضح. يتم طمس المعنى بإخضاع كل القيم لهيمنة الفردانية، هاتِه الفردانية المتفشية تعزز استشراء الفوضوية الأنانية على حساب القيم التي كانت ذات يوم جزءًا من التراث الوطني، وهي القيم التي تعطي شكلاً لمفهوم الأمة والدولة القومية لدولةٍ هي أكثر من مجرد كيانٍ سياسي، والتي تتوافق مع شعب معين مدرك لأهمية المشاركة في تُراث مشترك من أجل بقائه على أهبة الاستعداد لتقديم تضحياتٍ شخصية. تطورَ الإنسان في مجموعات متعاونة توحدها روابط ثقافية وجينية مشتركة، وفي مثل هذه البيئة فقط يمكن للفرد أن يشعر بالحرية والحماية بشكلٍ واقعي. ما من إنسان يعيش بسعادة بمفرده بدون قيم أو أي إحساس بالهوية: وفي وضعٍ كهذا يقود إلى العدمية وتعاطي المخدرات والإجرام وما هو أنكى من ذلك.

مع انتشار الأهداف الأنانية البحتة على حساب قيمة الإيثار لأجل لأسرة والأُمة، يبدأ الفرد في الحديث عن حقوقه بدلاً من واجباته، إذ لم يعد يشعر بأي إحساسٍ بالمصير، فيغدو فاقدًا للشعور بالانتماء ويتغافل عن كونه جزءًا من كيان أكبر وأكثر ديمومة. لم يعد الفرد يبتهج بالاعتقاد الراسخ بأنه يشارك في تراث يجب عليه حمـايته؛ لم يعد يشعر أن لديه أي شيء مشترك مع من حوله. بوجيز العبارة، بات الفرد يشعر أنه مضطّهد ووحيد. بما أن جميع القيم أصبحت شخصية، فإن الأمر سيان.[5]

والإشارةُ هنا إلى برومثيوس وسيزيف وفاوســت، أحرى باِعتبارهم شخصياتٍ أسطورية لكنها سبيلاً للتعرّف على هوية أزمنتنا الحديثة التي نُقاسيها اليوم؛ ولا مندوحة من النظرِ إلى أنّ المجتمعات الفردانية لطالما حملت بذور فنائها في قلبها، لكنه فناءٌ مضَّاء إلى غاياتٍ تُبدد الحضارة بددًا إن مضَت السياسة على شكلها بحمولتها الأخلاقية وخطابها.

dw.header.collection.bfts .dsm 5.1800x900 2000x e1683130213145 نُقلةُ الأسفار بين مصاح البطولـة وأوصاب الفردانيـة

مُنذ أنْ شكّلَ الماركيز دو ساد الخطوة الأولى والواسعة للعصورِ الرومانسية القادمة، ومن خلال كتابه المُعنوَن بغريب المغزى: [أيها الفرنسي عليك بمجهودٍ آخر إن أردتَ أن تكون جمهوريًا]، دعا الشعب إلى أنّ القيمة الجمهورية تُحتّم عليهم إعدام اللـــه كما أعدموا المَـــلِك[6]، هنا على خطِّ تاريخنا تجلّى إيذانٌ بفجرٍ شاحبٍ مريض احتفلَ به الإنسان التنويري منتصرًا لنفسه، لقِيمه الفردية، لحُرياته المُبــــهمة، حيث لا إله ولا سيّد ولا عبد، فكان هذا المشروع هو لُب مسعاه وطَماح مَناله، ومن هناك تجلّى لنا الإعلان الصريح بنهاية العصور البطولية، واِبتداء العصور التقدُّمية حاملةً معها بياناتها الاجتماعية وأكوادها الأخلاقية الجديدة. ومن هناك بدأت تُذاع الفكرة القائلة بأنّ «القِيــم نسبيــة»، أي الفوضى، ثمّ تبنّى الفرد التقدُّمي الحداثي شِعاره الأثير: «افعلْ ما يحلو لك» في تجاهلٍ مُجحف وتام للمُجتمع وما يتطلّبه من التزام الفرد نحوه، من هناك انتهى جواب الإنسان عن المعنى والشرف والالتزام والولاء والتسليم والقيمة الجماعية، وخرجَ لنا السؤال الشبحي من قُفطان التنوير، سؤالٌ شبحي لا يعدله إلّا مشهد إلقاء الحَبالى أولادَها من شدّة وقعه على النفس:

«لماذا لا يشعر الإنسان بأنه إله؟» وقد يقول قائلٌ: البطل في المجتمعات البطولية كان إلهًا أو يكاد، صحيح، لكنّ المساعي والمسالك والأدوات والأهداف والقيمة المعنوية من تعقيداتها وإرثها تتباين أشدّ ما يكون مع سؤال ومطامح الإنسان المعاصر. ولعل الشاهد الأدبي هنا ما جسّده الشاعر [اللورد بايرون] في شخصية [مانفرِد] إذ لاذَ بقمة الجبل صارخًا هازًا قبضته في وجه السماء احتجاجًا على الله [7]، بل لعل ذاك الاحتجاج على الإخفاق ما هو إلا نتيجة لمُطالبات أخرى جرَت على لسان شخصية [غرتشن]: «لماذا لم أكن إلهًا؟»[8]، لكنَّ غرتشن، هذا الذي وزَّعَ نفسه في نفوس أناسيّ العصر الحديث، سُرعان ما تناسى مطلبه أمام مُتعته في جسد فتاةٍ ريفيِّــة.

تتخلَّى الحضارة عن دورها ما انحلّ مضمونها الأخلاقي، ولا محيص من أن تمرّ كل حضارة بفترةِ انحطاط روما. إلّا أنه يتجلى لنا اليوم البون المهيب بين انحطاط روما الأخلاقي وانحطاطنا، لأنه وبالرُغمِ من انحطاط روما استعصموا ببسالتهم وشهامتهم البطولية وذاك في لحظاتٍ حُصّ فيها جناحها، ولعلّ تلك الخصال القِتالية كانت الصرح الأقوى أمام انحطاطهم فسطعَ عنها إطالة عُمر إمبراطوريتهم.

وقد كان من معلوم تاريخ البشر ألّا يتبع الإنسان، على الدوام وفي كل عصر، الوصايا الإلهية، إلَّا أنّ اليوم يشذّ عمّا سبقه من سطور الدهر ونوائب السقوط الأخلاقي، فاليوم بدأتْ تسَّاقط الأشياء الطبيعية للمُجتمع وغدت موضعًا للمطاعن، وتلك البديهيات التي كنّا نحملها معنا لتحملنا إلى ما يُمكننا بلوغه من مستويات الحضارة الإنسانية صارَتْ موضعًا مُحمَّلاً بالريبةِ والتساؤل، فيُناصبها العداء ويوغلُ في مُحاكمتها ويتنكّر لها كل ذي عقلٍ سقيم. وأضرّ من كل ما تعرفه عن مظاهر انحلالنا الأخلاقي، أنَّا صرنا نشهد مُضاعفات نزيف الثقافة الغربية على واقعنا العربي، ويبدو أنَّا عمَّا قريب سنخوض حربًا لإعادة تلك البديهيات لنردّ إلينا ما تغرَّب في انحناءات الفناء، وننعش من الروح ما خَفَت.

أبذَلُ وأجود الأنظمة الأخلاقية هي ما تأصّلت عن دينٍ إلهيٍّ مُنزّل، لكنَّا اليوم نشهدُ استخفافًا بهذا المرجع من جهة، ومن جهةٍ أُخرى احتجاجًا عليه مِن قِبَل مَن يلعبون دور برومثيوس (حَملةُ شُعلة التنوير)؛ فالتخويفُ من العقاب ومُراعاة عين الله الناظرةُ إلينا في السَّكناتِ والحَركاتِ ما عادَ يُراعى بيننا بقدر ما كان، حتى كثيرًا من محامد الحياء صارَت سِمات ضعفٍ فتنازل عنها الجيل؛ إذ ما كان وَطَاء صارَ بَذاء في ظلّ تهميش السُلطة الإلهية. لولا أنَّ العقيدة الدينية تحرس الأخلاق في كل عرصةٍ وعصر، ولا يمكن إنكارها حتى بالنسبةِ للمُلحد الطبيعي المُتعقل، فمُفرادتها بيّنة في الحزم على المزالق ومَعارض الخطلات، وفي التاريخ نجد أن مُلحدي فرنسا في القرن الثامن عشر بعد شيوع الانفلات الأخلاقي في فرنسا بعد هزيمة ١٨٧٠، أرسلوا أبنائهم إلى الكنائس ليكرّسوا فيهم الانضباط الذاتي الذي تورثه العقيدة الدينية، وهنا مُناشدة سطّرها التاريخ، كانت لأحد اللأدريين آنذاك:

«[…] دعونا نأخذ حذرنا خشية أن نصبح شركاء في نقص الفضيلة التي ستهدد المجتمع إذا ضعفَت المسيحية. ماذا عسانا نفعل بدونها؟ إن رغبَتِ العقلانية أن تحكم العالم دون النظر إلى الاحتياجات الدينية للروح، فتجربة الثورة الفرنسية موجودة لتعلِّمنا تبعات خطأ فادح مثل هذا».[9]

الفرنسية نُقلةُ الأسفار بين مصاح البطولـة وأوصاب الفردانيـة

ولك في مُفردة التخويف من عذاب الآخرة أقرب الأمثلة وأجلّها لِما لها من قُدرةٍ على تطويع سلوكيات المُجتمع وأنسنتنها، وفيها حِكمة بليغة وكما يستلخصُ [عبد الله العروي] بعد تأمّلاته في كتاب تأمّلاتِ [مونتسكيو] في أسباب نهوض الروم وانحطاطهم: لا عُذر لمَن ينتقد هذه العقيدة كما يفعل الكثيرون اليوم.[10]

وخُلاصة هذا الحال ورُؤيا المآل لخّصها قُسطنطين جيورجيو في روايته [الساعة الخامسة والعشرون]:

«إننا نُجابه خيرنا الشخصي بكل قوانا وضد الرب على الأخصّ. وبذلك يكون المجتمع البشري قد بلغَ قاع الهاوية. وفي يومٍ من الأيام سوف يُباد هذا المجتمع كما أُبيدَت مجتمعات كثيرة خلال حقبات التاريخ، وقبل أن يبدأ التاريخ. فالبشرُ يحاولون إنقاذ هذا المجتمع بنظامٍ منطقي في حين أنّ ذلك النظام بالذات هو الذي يقضي عليه.»

وهذا تمامًا ما يفضي إلى استعصامنا بالدِّين، وخلاف ما صاح به مبتهجًا أحد شُعراء القرن الصناعي في أوروبا:

«عندما يكتشف رجال العلم شيئًا أكثر سنكون أسعد مما كان»، فعقيدة العلم والتقدم لا يُمكنها أن تهبَ لنا المعنى والأخلاق والضوابط التي قدّمتها الأديان للمُجتمعات الأُوْل، ولا يمكن للفلسفة أن تُقدّم لنا منظومة أخلاقية يعبّ منها المجتمع إفادةً وتماسكًا، بل قد رجّحَ مونتسكيو أنّ فساد الرومان بدأ مع انتشار فلسفة أبيقور أواخر العهد الجمهوري[11]، ولا عجب حين أوضحَ ديورانت أيضًا بأنّ كل أمةٍ تولدُ دينية وتموت أبيقورية، فآخيل هو البداية وأبيقور هو السقوط.

هنا أيضًا يتجلى بُعد النظر في فصاحة الفكرة التي نطقها بودلير في أشعاره «شُعلات نارية»:

«يظلّ الدِّين مُقدسًا وإلهيًا، ولو كان الله غير موجود».

ومثله يقول سارتر: «حاول هيغل استبدال الإله بنظامٍ فاندحر النظام، واستبدله كانت بدين الإنسانية فتقهقرت إيجابيته… الإله مات، ولكن الإنسان لم يمت، ولهذا أصبحَ ملحدًا… إن صمتَ التفوق العقلي والحاجة الشديدة لخلق دينٍ للإنسان الحديث لا يزالان الأمر الأهم».[12]

لا تنشأ المُثل العُليا إلا من الدِّين والفروسية، كانت هذه رؤية شبنغلر للتاريخ القادر على إحداث التأثير المحمود في الحياة الإنسانية، ومعه يتّفق برديائيف:

«هناك سببٌ وجيه للاعتقاد أن قوى الإنسان المبدعة لن تتجدد، أو تتعيّن هويته من جديد، إلا بالدِّين. هذا النداء لأُسسنا الروحية قد يركّز قُدراتنا ويحفظ هويتنا من الضياع… ومن غير المناسب أن نتوقَ إلى نوعٍ جديد من عصر النهضة بعد هذه النهاية والخراب الروحي، وبعد هذا الهذيان في بيداء الحياة، وبعد البتر العميق للهوية الإنسانية. لا يمكننا القول أنَّا نقترب من عصر نهضة، بل من بدايات مُظلمة».[13]

لكن، بما أن السُلطة الدينية الإلهية اليوم عند الكثير من الشباب صارَت كرملٍ نَشأةَ الرِّيح، حلّت علينا ثقافةُ المشهد والاستهلاك[14]، ثقافةٌ تحلّ وتربط، بل كما يُعبّر بتريم سوروكين: «أصبحتْ تُستخدم كمعيارٍ للحُكم على القِيم الأخرى، وبينها القِيم الأخلاقية والدينية»، فما زادت إلا أن تؤكد لنا موضة ”القِيم نسبية“ ومنها إلى: التبشير بالفوضى الأخلاقية الذي يُباركها منهجُ فحص كل شيءٍ بالعلم، حتى الأخلاق! نحنُ في عصرٍ بالغ الإنسان فيه بإرادته وإمكانياته، فتصوّر له من مبلغه في الغرور بذاته أنه قد استغنى عن الله، وهو بهذا قد أعجلَ العدمَ إليه مع أوزارٍ كثيرة؛ عالمٌ جديد شُجاع جسّده ألدوس هكسلي على لسان مصطفى موند:

«إنك تستطيع الاستغناء عن الرب فقط في حال شبابك وثرائك، لكن هذا الاستغناء وتلك الاستقلالية لم تكن لتحملك آمنًا حتى توصلك إلى نهاية رحلتك. أمّا الآن؛ فنحن ننال الشباب والرفاهية حتى النهاية، فما الذي يتبع ذلك؟ الذي يتبع ذلك هو أنه يصبح جليًّا أننا نستطيع الاستغناء عن الرب».[15]

وقد عبّر أبو حيان التوحيدي عن هذه القضية؛ أنَّ الله سبحانه وتعالى قد جعل أمور الخلق تتوسط الإصابة والخطأ، السلامة والعطب، فليس لهم معرفة تامة، ولا جهلاً مطلقًا، بل توسط ليكون التدبير الإلهي والأمر الربوبي نافذين في هذه الخلائق، فلا يستغني الإنسان عن الله وحاجته إليه، وهذه سياسة دار الفناء[16]. أمَّا الإنسان المعاصر، وفي وسط انشغالاته الدنيوية التي تكاثرَت عليه، وانفساح غاياته العلمية واتّساع مذاهب طموحاته، لم يعد يصلّي طلبًا للآخرة، بل يصبو لتحويل دار الفناء إلى دار قرارٍ وبقاء.

وجدَ كولن ويلسون أن عظيم نكسات هذا العصر هي نتيجة اللامعنى، وهذا مألوفُ ما أدّى إلى تدهور مركز البطل في أدب القرن العشرين وقد حللهُ ويلسون في كتابه [عصر التخاذل]، وإذا كانت القرون الأولى في تاريخ الإنسان تشهد على معرفة ما يبتغيه المرء من حياته، فمنذ القرن التاسع عشر أصبح الإنسان يعرفُ ما لا يريد أكثر من معرفته لما يريده، وعوضًا من المنظومة الدينية التي كانت تحدد هدفه وغاية وجوده، فقد جاء العلم ولقيَ الإنسانُ ذاته أنه مجرد حدثٍ اعتباطي في هذه الدُّنا، فلا غاية له ولا رجاء، بل [بشرٌ جوف] كما عبّر ت.س. إليوت.

كانَ عدم الإيمان بالله وإجلال دينه مسلكًا لانتهاك منظومة القِيم في قرية أوكلييفو في إحدى روايات تشيخوف القصيرة، وإذا قارنَّا هذا بقدر الرومان، باعتبارهم مجتمعًا بطوليًا، ألفينا أنَّ العقيدة الدينية تحمي الأخلاق في كل الأوضاع، وكانت هذه حصنًا آخرًا احتمى بها الرومان[17]. والإنسان المُعاصر يُعاني من انعدام المعنى، سيّما على مستوى الآجل البعيد، ومثل شخصيات [بيكيت] لا يهتم إلا بالذاتية ولا وجود عنده لغايةٍ سامية، وأمَّا الحقيقة الخارجية فليس له فيها لا إسراجٌ ولا إلجام، ومن ثَم كان لهذا انعكاسه على المنظومة الأخلاقية طُرًّا وتجريدها من البُعد المُقدس والديني الدنيوي الأخروي.

في وقتٍ كنودٍ كهذا، يبدأ المرء بوَعبِ استنتاج هيدغر:

«وحدهُ الله يمكنه إنقاذنا»، إذ تُشير دلالة عبارته إلى معضلةٍ رئيسية تواجه عالم ما بعد الحداثة. وهي معضلةٌ ميتافيزيقية ومعنوية بامتياز، تلحُّ في طرح سُؤالاتٍ مُمضة لحضارةٍ تُكابد سكرات موتها الروحي وعناصر أُسسها. أيمكن للفلسفة، أو لمساعٍ بشرية وعلمية بحتة أن تنقذنا اليوم؟ في العصر الحديث كان لهيدغر أن يتنبّه لهذا ويستدعي إضاءةً ضد احتضار النور: [وحده الله مُخلّصنا].

متدين نُقلةُ الأسفار بين مصاح البطولـة وأوصاب الفردانيـة

ويتّفق هذا فيما ذهب إليه باسكال من تشخيص أزمةٍ نلمسها في عصرنا، يبصمها الفراغ والمحاولات العبثية لملء كل شيءٍ من حولنا بأشياءٍ من العالم المادي، يقول: «هذه الهاوية اللانهائية لا يمكن ملؤها إلا بشيءٍ لا متناهٍ وثابت؛ بعبارةٍ أخرى: من قِبل الله نفسه»، ومن هنا كان لبطل باربوس اللامُسمى، أن يعلن أخيرًا:

«لا أستطيع أن أكون على الأرض إلا مؤمنًا».[18]

3/ فضائل المجتمعات البطوليــة:

«هناك أقوى أشكال التضاد بين الذات العاطفية الخاصة بالحداثة، والذات في العصر البطولي. فذَات العصر البطولي تفتقرُ إلى ما يُعتبر الآن [الخاصية الجوهرية للذات الإنسانية]، أي القدرة على فصل الإنسان نفسه عن أي نظرة أو وجهة نظر معينة، وأن يقفَ وينظر إلى تلك النظرة أو وجهة النظر ويحكم عليها من الخارج. إنما في المجتمع البطولي فلا وجود لخارج، باستثناء الخارج الغريب. من يحاول أن ينسحب من وضعه المحدد في المجتمع البطولي يكون منخرطًا في مشروع محاولة القضاء على نفسه.

فالهويةُ في المجتمع البطولي تشتمل على الخصوصية والحساب، أي المسؤولية. فأنا مسؤول عمّا أقوم به أو أُخفق في عمله مما يخص أي إنسان يشغل دوري ويكون مدينًا به للآخرين، وهذا الحساب لا ينتهي إلا بالموت. كان علي وإلى يوم رُفاتي أن أفعل مايجب علي أن أفعل. فلهؤلاء الأفراد ومن أجلهم ومعهم يجب علي أن أفعل ما هو واجبي، وأنا مسؤول أمام هؤلاء الأفراد أنفسهم وأفراد الآخرين، والأعضاء في المجتمع المحلي ذاته. وهكذا نرى أن ممارسة الفضائل البطولية تتطلب نوعًا معينًا من البشر ونوعًا خاصًا من البُنية الاجتماعية. ولأن الأمر كذلك، فإن البحث في الفضائل البطولية قد يبدو للوهلةِ الأولى عديم الصلة بأي بحث عام في النظرية والممارسة الأخلاقيتين. وإذا كانت الفضائل البطولية تتطلب لممارستها وجود نوع من البيئة الاجتماعية مفقود، الآن علينا أن نسأل، ما هي علاقتها بالنسبة لرأينا؟ فلا أحد الآن يمكنه أن يكون هِكتور أو جيزلي، والجواب هو أن ما يجب علينا تعلُّمه من المجتمعات البطولية أمران: الأمر الأول هو أن الأخلاق دائمًا وبدرجة من الدرجات، مرتبطة بما هو محلي وخاص اجتماعيًا، وأن مطامح أخلاق الحداثة للشمولية المتحررة من الخصوصية ليست إلا وهــمًا. والأمر الثاني، هو أنه لا يوجد سبيل للحيازة على الفضائل إلا بوصفها جزءًا من تقليدٍ فيه نرثها، ونحصل على فهمٍ لها من سلسلةٍ من الأسلاف، شغلت المجتمعات البطولية فيها الموقع الأول. فإذا كان الأمر كذلك، فإن التضاد بين حرية اختيار القيم التي تتباهى بها الحداثة، وغياب مثل هذا الاختيار في الثقافات البطولية، سيبدو مختلفًا جدًا. وذلك لأن حرية اختيار القيم التي ستبدو من وجهة نظر تقليد متجذّر في المجتمعات البطولية مثل حرية الأشباح، لا حرية البشر.

هذا اليقين الذي يوفّره غياب الاختيــار هو الذي يجعل مهمة مفسّر الإلياذة سهلة نسبيًا. فما هو فضيلة وما ليس بفضيلة صار يمكن تحديدها بسهولة، فلا وجود لخلاف في داخل الإلياذة حول هذه الأمور.

كتبَ م. إ. فِنلي واصفًا المجتمع الهومري، فقال: كانت القيم الأساسية للمجتمع موجودة، وسبق تحديدها، وكذلك كان موقع الإنسان في المجتمع والامتيازات والواجبات التي تنشأ وتتبع مرتبته الاجتماعية. وما ذكره فِنلي عن المجتمع الهومري يصدق على أشكال أخرى من المجتمع البطولي في آيسلاند أو في أيرلندا. فكل فرد له دور محدد ومنزلة في نظامٍ من الأدوار والمراتب جيد التعريف ومحدد تحديدًا عاليًا. والبُنيتان الأساسيتان هما القرابة والأسرة. والإنسان، في مثل هذا المجتمع يعرف ما يكون عبر معرفة دوره في تلكما البُنيتين، وبهذه المعرفة يعرف أيضًا ما هو مُدينٌ له وما يعود إليه عبر إشغاله كل دورٍ آخر ومرتبة أخرى.

الإنسانُ في المجتمع البطولي هو فعله. وقد كتب هيرمان فرانكل واصفًا الإنسان الهومري بالقول إنه إنسان هو وأفعاله مُتطابقان، وهو يجعل نفسه مفهومًا بشكلٍ كامل وكفَ فيها فليس له أغوار خفية بخلاف الفرد المعاصر. وفي الملاحم يُعبّر عن الأخبار الواقعية عمّا فعل البشر وما قالوا، وعن كل شيء عمّا يكونون، وذلك لأنهم ليسوا أكثر مما يفعلون ويقولون ويعانون. فالحكم على الإنسان حكمٌ على أفعاله. وبقيام الإنسان بأعمال من نوع معين، في وضع معين، يجيز الحكم على فضائله ورذائله، لأن الفضائل ليست إلا تلك الصفات التي تُبقي الإنسان الحُر في دوره، والتي تتكشف في الأفعال التي يتطلبها دوره. وما قاله فرانكل وذَكره عن الإنسان الهوميري ينطبق على الإنسان في أوصاف بطولية أخرى.

كلمة [Aretê] التي صارت تُترجم لاحقًا بكلمة فضيلة، كانت تُستعمل في القصائد الهومرية للتعبير عن الامتياز، من أي نوع.

هذا المفهوم للفضيلة أو الامتياز هو غريب عنّا أكثر من أن نكون ميّالين لمعرفته في البداية. ما هو غريب ومُخالف في مفهومنا للفضيلة هو الرابطة الحميمة في المجتمع البطولي بين مفهوم الشجاعة والفضائل المتصلة به من جهة، ومفاهيم الصداقة والمصير والموت من جهة أخرى.

فالشجاعة مهمة، ليس لأنها صفة الأفراد فحسب، وإنما لكونها الصفة الضرورية لبقاء الأسرة والمجتمع، المجد يخص الفرد الذي يتفوق في معركة أو في عراك كعلامة تقدير من أسرته ومجتمعه. وهناك صفات أخرى ترتبط بالشجاعة وتستحق أيضًا التقدير العام للدور الذي تلعبه في الحفاظ على النظام العام. فأن تكون شجاعًا معناه أن تكون إنسانًا يمكن الركون إليه، ومن دون هذا الشرف وما يتضمنه، لا قيمة للإنسان، والحياة في المجتمعات البطولية هي معيار القيمة.

إذن، الأخلاق والبُنية الاجتماعية هما في الواقع شيء واحد والشيء ذاته في المجتمع البطولي. فليس يوجد سوى مجموعة واحدة من الروابط الاجتماعية. فالأخـــلاق كشيءٍ متميز منفصل لَم يكن قد وُجدَ بعد. والمسائل التقييمية هي مسائل الواقع الاجتماعي. ولهذا السبب تكلم هوميروس عن معرفة ما العمل وكيفية الحكم عليه. كذلك أقول، ليست تلك الأسئلة من النوع الذي يصعب الإجابة عليها، إلا في حالات استثنائية. وذلك لأن القواعــد المُحـــددة التي تُعيّن للناس موقعهم في النظام الاجتماعي، ومعه هوياتهم، تَصفُ أيضًا ما هم مُدينون به وما لهم وكيف يجب مُعاملتهم واعتبارهم إن أخفقوا، وكيف عليهم أن يعاملوا ويعتبروا الآخرين إذا أخفقوا، فمَن دون مثل ذلك الموقع في النظام الاجتماعي، لن يكون الإنسان فقط عاجزًا عن تلقّي الاعتراف من الآخرين والاستجابة له، ولن يكون الآخرون لا يعرفون فقط، لكنه هو نفسه لن يعرف مَن يكون.

أملي أن يكون هذا الشرح قد أوضح أن أي وصفٍ كاف للفضائل في المجتمع البطولي مستحيل إذا كان منفكًا عن بيئةِ بُنيته الاجتماعية، تمامًا مثلما لا يكون وصفًا كافيًا للبُنية الاجتماعية للمجتمع البطولي ممكنًا إن لم يشتمل على وصفٍ للفضائل البطولية.» [بعد الفضيلة، ألسدير ماكنتاير– بتصرُّف].

كيف نُبرّر وجودنا ونحيا رُغم ما يتهدّدنا من فناء؟ لهذا السؤال مركزيته عند الإنسان، وعلى أنَّ الدِّين أخلصَ الجواب كاملاً بما لا يفضي إلى حيرة وجودية، كانت على الجانب الآخر مساعٍ متفرّقة تحاول الإجابة: الفلسفة منذ التقليد اليوناني [تناغم الكوسموس] مرورًا بالمبدأ الإنساني الفلسفي في عصر النهضة وتحوّلات القيمة ومباحث المعنى التي طرقتها الثورة الصناعية بعلمنة المُجتمعات الحديثة، وحتى فلسفات العالم الرقمي والاستهلاكي.

ولكن كان لجواب المُجتمعات البطولية لُمعةً إبداعية تجسّدت في: خلود الذِّكـر؛ أن نقبضَ على الأبدية ببقائنا قطعة من التاريخ المُردّد على الشفاه أو المنحوت على رُخامٍ قبلةً للزائرين. وهذا [السعي البطولـي] كان دومًا مسعى الكِبار ونَهبًا لمطامح الفُرسان والأبطال والمُصلحين مُنذ بدء ملحمتنا البشرية. ونحنُ نلمحه في نصوصٍ أوّلية لآدابنا مما يُضفي على هذا النزوع لـ[خلود الذِّكر] ساحرية مُضاعفة ومسائل مُتأججة بإثراء المباحث في معنى الوجود والقيمة بالنسبة للكائن الإنساني المُعقّد، ونذكرُ من هذه النصوص ما وردَ في ملحمتيْ گلگامـش والإليـاذة:

جلجلمش نُقلةُ الأسفار بين مصاح البطولـة وأوصاب الفردانيـة

١. كَلكَامش:

«يا صديقي، من الذي يستطيع أنْ يرقى أسباب السماء؟

والآلهة وحدهم هم الذين يعيشون إلى الأبدِ مع شمش

أمّا أبناء البشر فأيامهم معدودات

وكل ما عملوا هواء عَبث

لقد صرتَ تخشى الموت ونحنُ ما زلنا هنا

فماذا دهى شجاعتك وبطولتك؟

دعني إذن أتقدّم قبلك، ولينادني صوتك:

’تقدّم ولا تخف!‘

وإذا ما هلكتُ فسأُخلّد لي اسمًا، وسيقولون عني فيما بعد:

لقد هلكَ گلگامش في النِّزال مع خمبّابا المارد.»

في هذهِ القطعة (وقد تكرّر فحواها في أكثر من مكانٍ في الملحمة برغبة گلگامش العنيفة لتخليد ذِكره) نرى گلگامش يعي الشرط الإنساني ويدركه، أي قصر حياة الإنسان وحتمية موته، لذا تراه يحثُ خلّه وصديقه أنكيدو للخوض معه في مُغامرةٍ لقتل [خمبابا المارد] الذي كان شرًا مستطيرًا في الأرض؛ فهذه المغامرة تمنحه الجدوى وتُمكّنه من استخلاص مضمون وجوده ومعناه في عملٍ جليل يُخلّد اسمه.

نُقلةُ الأسفار بين مصاح البطولـة وأوصاب الفردانيـة

٢. هكتور في الإلياذة قُبيل مبارزته لأياس:

«اسمعوا يا أبناء طروادة، ويا رجال الإغريق، إن العهد بيننا قد نُقض الآن، لأن زَفس أراد نقضه، وهو يهيئ الشر لكلينا، فإما أن تستولوا على مدينتنا العالية الأسوار، وإما أن نتغلّب عليكم عند سُفنكم، فدعوا واحدًا من بينكم ممّن يدعون بأبطال الإغريق يتقدّم وينازلني رجُلاً لرجُل على أن يجردني من سلاحي، ويعطي قومي جُثتي يحرقونها بالنيران إذا انتصرَ علي، أمَّا إذا انتصرتُ عليه، فلي أن أسلبه سلاحه، ولكنني أسلّم جثّته إلى الإغريق يوارونها ويقيمون فوقها رابية عظيمة قرب نهر هِلاسبون المالح العريض، لكي يراه رجال الأيام الآتية، وهم يمخرون قربه فيقولون هذا ضريحُ أشجع الإغريق، وقد صرعه هكتور، وهكذا يعيشُ اسمي إلى الأبد.» [هوميروس، الإلياذة. ت: عنبرة الخالدي].

نرى ذات النزوع لتخليد الذِّكر عند هكتور. وهذا النزوع المهياب بالتحدّي لنيل الخلود من خلال الفِعال المجيدة وجلائل الأمور التي ينوي إتيانها كل من گلگامش وهكتور تنطوي على التزامٍ أخــلاقي داخل إطار الصراع مع قِوى الشرّ والسعي لتحقيق الخير بمُباركةٍ إلهية وامتنانٍ إنساني. وهذا إدراك إنساني مُبكر لا يفتأ أن يعيدَ الدَّرس المونِق: لا شيء يمنح الخلود كما إرث الماضي والأطلال؛ إذ نحن كما يرى نيكولاي برديائيف، في رسالته المُعنونة بـ «في النزعة المحافظة»، نتحسّسُ الشعور بالأبدية على نحوٍ جلل حين نولي أبصارنا ونتوجّه بها إلى الماضي، وهذا عينه مكمنُ سر جاذبيتنا للأطلال والأعمال البطولية، وعينه في شخصيات العظام من أنبياء وأبطالٍ وحُكّام وأدباء وغيرهم في سعيهم المُتّقد والمُبدع لانتصارهم على الزَّمن والفناء من خلال تخليد ذِكرهم في رسالة أو فِعالٍ عبقرية شخصية كموقفٍ أو عمارة رائقة أو عمل فنّي متألق، وهو من ناحية أخرى جذور إيمانياتٍ راسخة تنضحُ بمعاني الأزل والعُمق الذي لا يبور، ومن نظرةٍ أخرى: هذا ما يعنيه تمجيدنا للماضي، إخلاصنا للأسلاف وذكرهم.

في عالمٍ مُعاصر يستفزُّ شرف القضايا ويطمسُ الملمح البطولي ويقدحُ في صلةِ الماضي بالمُستقبل ويتنكّر لعُمق ماضي الأجداد، نشهد أنَّ صوت التحدِّي لنيل الخلود قد خبا، والقضايا السامية حُوّرت فما عادت تجاوز إطار اللحظة العابرة إلا ما صَدفَ عن نُدرةٍ؛ فمُحق المعنى وبذّتهُ العدمية والعبثية مَنازلاً عند الإنسان المعاصر، وقد التفتَ إلى هذه القضية الساموراي الأديب [يوكيو ميشيما] في إحدى مقابلاته المُتلفزة، فعرّج على ذكر طمس العالم الحديث لمعنى ”المـوت البطولـي“ من أجل قضية سامية، ويرى أنه في عالمٍ ديمقراطي واستهلاكي لا وجود لقضية نبيلة، بل ما عُدنا بحاجةٍ لقضايا نبيلة اليوم. وما قالَ إلا صدقًا مشهودًا؛ فمطمح إنسان اليوم في غالبه، داخل خصائص بُنية المجتمع الحديث، أن ينالَ شهرةً لحظية ولو من خلال فاسق الأعمال وأفسدها، وموتات الناس اليوم، كالحيوانات لا كالرجال، على حد تعبير همنغواي. وها نحنُ نوردُ لك ما جرى على لسان ميشيما في تلك المُقابلة، كما يقتضيه التقريب والإبانة من الزيادة في المتن؛ حيث يمكنك في تضاعيف إشارته وعبارته التماس خصائص العالم الحديث والقيم الفردية، ومنه أن يُلمِعَ في ذهنك سياق البطولة والقيم الجماعيــة، يقول:

«في العصر الحديث يخلو الموت _سواء بسبب المرض أو الحوادث_ من العامل الدراميتيكي. نحن نعيش في عصرٍ ليس فيه موت بطولي. بهذه الطريقة تبدو الحياة البشرية غامضة؛ الكائنات البشرية ليست قوية بما يكفي لتعيش وتموت فقط لنفسها، ذلك أن لدينا مُثل عُليا. لا يمكننا التصرّف أو العمل إلا من أجل شيءٍ ما. سرعان ما سنتعب من العيش لأنفسنا وفقط لأنفسنا، وهذا بالضرورة يترتب عليه أنّا بحاجةٍ للموت من أجل شيءٍ ما، وذلك الشيء ذاته هو ما كان يُطلق عليه قديمًا [قضية سامية]؛ كان يُعتقد أن الموت من أجل قضية سامية، هو أكثر الطرق شهرة وبطولية وشرفًا للموت.

لكن ما مِن قضية نبيلة اليوم؛ من الجلي أنّ الحكومات الديمقراطية ليست بحاجة لقضايا نبيلة. وبالرغم من ذلك، إذا لم يقدر المرء أن يجد قيمةً تتجاوز نفسه، فإن الحياة ذاتها بالمعنى الروحي، تغدو بلا معنى.»

نلتمسُ في حديثه إحالات نبيهة إلى الديمقراطية والقيمة العدمية فيها إذ هي النفي المُتطرّف للتقاليد والقِيم الأخلاقية النبيلة، ورقع المجيد بالرّث. وقد نبّه نيتشه إلى أنّ مبادئ المساواة الديمقراطية كفرَت بالأخلاق البطوليــة وتخلّت عن القيمةِ والمعنى، فحلّ المكر محلّ القوة، والغدر محلّ الثأر، والشفقة محلّ العنف والعزيمة، والابتذال محلّ الشرف والكبرياء[19]، ومثلهما يتمّم فرانسس باركر يوكي عُصارة السياق:

«إن الليبراليةَ/الديمقراطية، وبكلمةٍ واحدة، هي الخوار والهوان. تريد الليبرالية أن يكون كل يوم عيد ميلاد، وأن تغدو الحياة حفلة مديدة. فحتمية الزمان، المصير، التاريخ، وحشية الإنجاز، الصرامة، البسالة والبطولة، الفِداء، الأفكار المتفوقة– تكون هي العدو. الليبرالية هي الفِرار مِن الصلابة إلى الرخاوة، مِن الرجولة إلى الأنوثة، مِن التاريخ إلى رعي القطعان، مِن الواقع إلى الأحلام الوردية، مِن المصير إلى السعادة.»

لم تعد القيم الهوميرية، البطولية والدِّينية، تُحدد الأفق الأخلاقي في المجتمعات الغربية المُجتهدة للتأثير في بقية المجتمعات، كما صارَت الدولة والاتجاهات السياسية والقيمة الاقتصادية هي التي تُحدد أفق الفرد وتصيغ قِيمه اليوم، الفرد الحُر الانعزالي، وكان للديمقراطية دورها في معرض البلاء المُتقدم؛ إذ الديمقراطية، كفكرة، هي تأليه للإنسان وإنكار للمصدر الإلهي للسُلطة.[20]

إشكاليةُ الإنسان الحديث أنه لَم يعد راضيًا على الالتزامِ الأخلاقي، والالتزام الوثيق بالرَّابطة الأُسرية التي أسَّسها؛ المزيدُ من تمجيدِ التحرّر الجنسي والعاطفي، المزيدُ من تحجيم قيمة المسؤولية. هو إنسانُ اللحظة، الأداتي المُنفصل عن جوهره، يغيبُ الإخلاص عن مركز شخصيته فيغدو الانفلات فضيلـة لحظته. المزيد من المُطالبات، المزيد من الاستحقاقات والمزيد من التذمُّر إزاء القيام بالواجبات؛ ‏هذا عصرُ الضحايا، عصر «أنا ضحيّة، اعطني اعطني المزيد» ؛ أنتَ اليوم في عالمٍ يُكافئ الناس «بحسب معاناتهم التاريخية وفشلهم، لا بحسب إنجازاتهم وكفاحهم وبطولتهم» حيث يمتدّ حائط المبكى إلى الجميع تحت شعاراتِ الإنسانيّة والحقوق، هذا عصرٌ لَم يعد فيه الجوهر يسبق الوجود، بل الظلم يسبقُ الوجود، عصرٌ انعدمَ فيه المعنى وحلّت مكانه [اللاشيئية] التي أعلنت تُهمة اللامعنـى على وجودنا، وقد جسّدتها ثلاثُ شكاوٍ في العصر الحديث: شكوى ماركس: «كل شيء في سلاسل»، وشكوى بيكيت: «الحياة عبثية، وهذا العالم خبيـث»، وشكوى كامو: «العالم خصمٌ شرير».

وهذا العالم الحديـث الذي بات يوفّر اختيار القيــم للفرد، بخلاف المُجتمعات البطولية، الفرد الهادرُ لروح الجماعة وشريف القيم وينابيع المعنى، قد حطّم الإنسان الحديث في غالبه من حيث أراد رفعه، وجعله مُتلبّسًا أحطّ معاني التذمّر، بل أطبق عليه صبغة العبثية وجعله ناطقًا بروح الاستسلام التي دبّت في روح ”ستراود“ بطل مسرحية ”الحياة السرية“ لهارلي غرانفيل باركر:

«رحمتك يا إلهي، يا من تخلق المخلوقات لتقاسي دون أن تفهم لماذا».

لن نغبق يومًا من كأس الرِّفعة والمعنى بإنشاد بيت المعري في البطولــة:

«يُقبِّل الرُّمحَ حُبًا للطعان بهِ كأنما هو مجموعٌ من اللعسِ»، إلا بانبعاث القِيم، والأبعاد الروحية في قضايا الإنسان، وما دون ذاك فلن نكون إلَّا في قتام العَشْوة، وأمام شخصية «البطل اللامجدي» الذي يتنافى كُليًا مع مفهوم «الأمل» ويتجاوب بإرادةٍ مسعورة مُعذَّبة مع ابتكار السعادة، على غرار سيزيف كما يقول ألبير كامو: علينا أن نتصوّره سعيدًا.

الهوامش:

  1. راجع: فضائل أثينا، بحث في النظرية الأخلاقية– ألسدير ماكنتاير.
  2. راجع: بعد الفضيلة– ألسدير ماكنتاير.
  3. راجع: مسرحية فاوست– غوته.
  4. راجع كذلك: ص٨٨ وص٩٦ إغواء الغرب– أندريه مالرو.
  5. Gemeinschaft and Gesellschaft A Scociological view of the Decay of Modern Society ~ Alain de Benoist and Tomislav Sunić
  6. راجع: ما بعد اللامنتمي– كولن ويلسون.
  7. راجع: القصيدة الدرامية مانفرد– اللورد بايرون.
  8. راجع: مسرحية ڤاوست– غوته.
  9. نقلاً عن وِل ديورانت: دروس التاريخ.
  10. انظر: هامش ٢ من الفصل العاشر. تأملات في تاريخ الرومان– مونتسكيو.
  11. راجع: تأملات في تاريخ الرومان– مونتسكيو.
  12. نقلاً عن كولن ويلسون: بعد اللامنتمي.
  13. نهاية عصرنا– نيقولاي برديائيف.
  14. ثقافةُ المشهد: مُعالجة بسيطة لمفهوم مجتمع المشهد الذي كان عملاً رئيسيًا للفيلسوف جاي ديبورد (١٩٣١-٩٤)، من حيث أنه وسيلة وأداة سلطة للمؤسسة الرأسمالية على المجتمع. فثقافةُ المشهد هي تجربة الفرد للواقع كما هدفَت له المؤسسة الرأسمالية في اختزال التجربة الإنسانية إلى تجربة استهلاكية تمثيلية في وسائل الصور.
  15. عالم جديد شجاع–ألدوس هكسلي.
  16. راجع: الليلة الثانية من الإمتاع والمؤانسة.
  17. تأملات في تاريخ الرومان– مونتسكيو.
  18. رواية الجحيم– هنري باربوس.
  19. راجع: ما وراء الخير والشر– نيتشه.
  20. راجع: فلسفة اللامساواة– نيقولاي برديائيف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى