يقول الدكتور خالد الرُّوَيْهب في محاضرة له عن “تطوّر المنطق العربي” إنّ الأصولية الإسلامية كانت معادية للتراث المدرسي التقليدي، ويضعها جنبا إلى جنب مع التيارات المتأثّرة بالغرب كالوضعية والليبرالية والماركسية والاشتراكية والقومية، ويطرح لذلك نموذجًا سيد قطب إلى جانب أبي الأعلى المودودي. وقد ذكر كلامًا قريبًا في كتابه “تطوّر المنطق العربي: 1200-1800م” حيث قال: “وعارضتْ طبقاتٌ جديدة تعلّمتْ في المؤسسات التعليمية الحديثة سلطةَ العلماء المتعلّمين في المدارس التراثية انطلاقًا من أيديولوجيّات غربية مختلفة (الوضعية والليبرالية والماركسية والاشتراكية والقومية) أو من أصولية مخالفة للتراث المدرسي (أبو الأعلى المودودي وسيد قطب)”(1) .
وهذا الكلام يُظهر سيد قطب وكأنّه متأثّر بالمناهج الغربية الحديثة في موقفه من التراث (فهو من الطبقات الجديدة التي “تعلّمتْ في المؤسسات التعليمية الحديثة”!)، بل يوضع في سلّة واحدة مع اتجاهات فكرية غربية تتعارض مع الدين، علمًا أنّ هناك فرقًا هائلا بين موقفه من “بعض” مناهج التراث، وبين موقف هؤلاء الحداثيين من مجمل التراث الإسلامي.
والواقع أنّ هذا التوجّه يشيع لدى بعض الأكاديميين المنخرطين ضمن ما أسمّيه “الاستشراق الجديد”، الذي يلبس ثوب الردّ على الاستشراق القديم والانتصار للتراث الإسلامي المتأخر ورفع وصمة “الانحطاط” عنه، بينما هو في الواقع يُرسّخ مغالطات جديدة أكثر خطورة من الاستشراق القديم، تحدّثتُ عنها بإسهاب في دراسة بعنوان “الاستشراق الجديد ومعاييره التالفة: تطوّر المنطق العربي لخالد الرويهب نموذجًا”.
نَبذُه الفلسفةَ وعلمَ الكلام
إنّ التهمة الموجّهة إلى سيد قطب هي في الحقيقة تهمة معلّبة مختزلة، لا تقلّ اختزالا عن التيّار الاستشراقي القديم الذي غضّ من قيمة كثيرٍ من العلوم الإسلامية والآداب العربية المتأخّرة دون تمحيص، فسيّد قطب والتيّار الذي يسمّيه هؤلاء “الأصولية” متابعةً للأكاديميا الغربية (وهي ترجمة قبيحة لكلمة Fundamentalism) لم يكن يذمّ التراث عن آخره ولا معاديًا له، بل كان ضمن تيّار تجديديّ نقديّ كأيّ تيّار نقدي تجديديّ يحاول استلهام التراث لتصحيح مسار الفكر الإسلامي.
كان سيّد قطب يرى (تحديدا في كتابيه “خصائص التصور الإسلامي” و”مقومات التصور الإسلامي”) أننا نحتاج إلى تجنُّب التراث الفلسفي والكلامي في فهم حقائق العقيدة الإسلامية، باعتباره تراثا دخيلا يحمل بداخله شوائب فكرية ونزعات مناقضة لطبيعة العقيدة الإسلامية والفطرة البشرية، وأننا نمتلك في الكتاب والسنّة ما يُغنينا في بناء تصوّرنا العقائدي المتكامل الناصع القويّ.
وهذه النزعة في نقد علم الكلام والفلسفة سنجدها منذ زمن قديم عند ابن قتيبة (276 هـ) والخطّابي (388 هـ) وابن تيمية (728 هـ) وابن رجب الحنبلي (795 هـ) والسيوطي (911 هـ) وغيرهم من كبار أئمّة الإسلام الذين تركوا لنا “تراثًا” له مكانة بارزة ضمن ذلك “التراث” الذي يُتّهم سيّد قطب بمعاداته!
ولم يتوقف هذا التيّار عن الظهور في كل عصر، وجوهر طرحه أنّ أفضل ممثّل لحقائق الدين هو الأجيال الأولى (“السلف” عند المتقدّمين و”الجيل القرآني الفريد” عند سيد قطب)، فلم تكن مشكلة سيد قطب مع التراث التقليدي، بل كانت مع نوعية معيّنة من التراث انتشرتْ عند المتأخّرين وكبّلتْ انطلاقة العقل المسلم وأبعدتْه عن فهم حقائق الدين كما تبدو في الكتاب والسنّة وآثار القرون الأولى المفضّلة.
ولننظر إلى ما قاله سيد قطب في هذا الباب، قال رحمه الله في كتاب “خصائص التصور الإسلامي” بعد أن تحدّث عن الجفوة الأصيلة بين منهج الفلسفة ومعها مباحث علم الكلام وبين منهج العقيدة، وعن تخليط هذه المحاولات وتعقيدها وجفافها وغربتها عن الإسلام وطبيعته وحقيقته ومنهجه وأسلوبه:
“وأنا أعلم أنّ هذا الكلام سيُقابل بالدهشة – على الأقل! – سواء من كثير من المشتغلين عندنا بما يسمّى “الفلسفة الإسلامية” أو من المشتغلين بالمباحث الفلسفية بصفة عامة.. ولكني أقرره، وأنا على يقين جازم بأنّ “التصور الإسلامي” لن يخلص من التشويه والانحراف والمسخ، إلا حين نلقي عنه جملةً بكل ما أُطلق عليه اسم “الفلسفة الإسلامية”، وبكل مباحث “علم الكلام”، وبكل ما ثار من الجدل بين الفرق الإسلامية المختلفة في شتى العصور أيضًا! ثم نعود إلى القرآن الكريم، نستمد منه مباشرة “مقومات التصور الإسلامي”، مع بيان “خصائصه” التي تفرّده من بين سائر التصورات”(2) .
هذا هو كلام سيد قطب، وأكثر ما يغيظ هؤلاء فيه رفضه لعلم الكلام؛ لأنّ دراسة العقيدة من خلال علم الكلام صارت هي الممارسة الشائعة في المؤسسات الشرعية التقليدية في العالم الإسلامي، وهو ما يسمّونه “التراث المدرَسي” (ومصطلح “المدرَسي” هو أيضًا تأثّر باصطلاح Scholasticism الذي يعبّر عن سياق أوروبي، ويترجمونه أحيانا بكلمة “الإسكولائي”!)، ومجرّد شيوع هذه الممارسة يجعل مُعارضها عندهم معاديًا للتقليد التراثي، وكأنّه يجب على المسلم متابعة كل ما آلَ إليه أمرُ العلوم الشرعية في العالم الإسلامي في العصور المتأخرة. أي بكلمات أخرى: كأنّ هذه العلوم هي “تطوّر” طبيعي للتعليم الديني، وأنّ هذا التطوّر محمود دومًا، وكلّ من يعارضه أو يعارض أشياء منه يوصم بمعاداة التراث ويُنسب إلى التأثّر بالحداثة!
ولكنّ كلام سيد قطب في طبيعته لا يختلف كثيرا عن كلام رافضي الفلسفة والكلام من أئمة الإسلام الكبار في العصور المتقدّمة، أي قبل أن تَخرج أوروبا من ظلماتها وتنتج لنا حداثَتَها. ومن ذلك قول الإمام أبي سليمان الخطّابي (319-388 هـ) رحمه الله في رسالته “الغنية عن الكلام وأهله“، والتي يعبّر عنوانها عن فكرة طرح علم الكلام والاستغناء عنه بالكتاب والسنّة:
“واعلم – أدام الله توفيقك – أنّ الأئمّة الماضين والسلف المتقدّمين لم يتركوا هذا النمط من الكلام وهذا النوع من النظر عجزًا عنه ولا انقطاعًا دونه، وقد كانوا ذوي عقولٍ وافرة وأفهامٍ ثاقبة، وقد كان وقع في زمانهم هذه الشُّبه والآراء وهذه النِّحَل والأهواء، وإنّما تركوا هذه الطريقة وأضربوا عنها لما تحقّقوا من فتنتِها، وحَذِروه من سوء مَغَبَّتِها، وقد كانوا على بيّنة من أمرهم، وعلى بصيرةٍ من دينهم لِما هداهم الله له من توفيقه، وشرح به صدورهم من نور معرفته، ورأوا أنّ فيما عندهم من عِلم الكتاب وحِكمته، وتوقيف السنّة وبيانها، غناءً ومندوحةً عمّا سواهما، وأنّ الحجّة قد وقعتْ بهما، والعِلّةَ أُزيحتْ بمكانِهما”(3) .
وستجد مثل هذا الكلام الذي يرى في الكتاب والسنّة وطريق السّلف الغنية عن الفلسفة وعلم الكلام كثيرا جدا في كلام المتقدّمين، فعن نوح الجامع أنّه قال: “قلتُ لأبي حنيفة: ما تقول فيما أحدث النّاس من الكلام في الأعراض والأجسام؟ فقال: مقالات الفلاسفة، عليك بالأثر وطريقة السَّلَف، وإيّاك وكلّ محدَثة فإنّها بدعة”(4) . وقد صنّف بعض العلماء كتبًا في الباب، فهذا أبو عبد الرحمن السُّلَمي (ت 412 هـ) يكتب كتابا في الردّ على أهل الكلام، ويصلنا ما انتخبه الإمام أبو الفضل المقرئ (ت 454 هـ) منه بعنوان “أحاديث في ذمّ الكلام وأهله”. وقد توسّع الإمام أبو إسماعيل الهروي (ت 481 هـ) في الباب في كتابه المهم “ذمّ الكلام وأهله”، ونجد الإمام جلال الدين السيوطي (ت 911 هـ) يصنّف كتابًا جمع فيه مقالات السلف والأئمّة في هذا الباب بعنوان “صون المنطق والكلام عن فنّ المنطق والكلام”. ومَن يُطالع هذه الكتب وأمثالها سيواجه نصوصًا غزيرة جدّا لعشرات الأئمّة الكبار الذين سيُتَّهَم من يقول مقالتهم اليومَ بأنّه معادٍ للتراث، وربّما سيقال إنّه متأثّر بالحداثة!
سيّد قطب التراثيّ
لقد كان سيد قطب في الواقع “تراثيّا” في طرحه أكثر من أولئك “التراثيين”؛ لأنّه إنما تابعَ تراث المتقدّمين من الأئمة الكبار كمالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وغيرهم، ممّن اعتمدوا في بيان حقائق الدين على الكتاب والسنّة والعربية، من غير التأثّر بالفلسفات الأجنبية المجافية لطبيعة الخطاب القرآني والنبوي، بينما نجد أولئك “التراثيين” يُهملون إلى حدّ بعيد تراثَ المتقدّمين ويقدّمون عليه تراثَ المتأخرين المعجون بالفلسفة والمنطق!
فإذا كان أولئك “التراثيّون” المتأخّرون يُهملون من شأن العمل في علومهم، فيخوضون في ما لا يبنى عليه عمل، مخالفين في ذلك تراثًا هائلًا من السنن والآثار وكلام الأئمة الكبار، فقد كان سيّد قطب متابعًا لأولئك الكبار، بل منتبهًا لإشكالية “المعرفة الباردة” على حدّ تعبيره فيقول:
“على أنّنا نحبّ أن ننبّه هنا إلى حقيقة أساسية كبيرة.. إنّنا لا نبغي بالتماس حقائق التصوّر الإسلامي مجرّد المعرفة الثقافية. لا نبغي إنشاء فصل في المكتبة الإسلامية، يضاف إلى ما عُرف من قبل باسم “الفلسفة الإسلامية”. كلا! إنّنا لا نهدف إلى مجرّد “المعرفة” الباردة، التي تتعامل مع الأذهان، وتُحسب في رصيد “الثقافة”! إنّ هذا الهدف في اعتبارنا لا يستحقّ عناء الجهد فيه! إنّه هدف تافه رخيص! إنّما نحن نبتغي “الحركة” من وراء “المعرفة”. نبتغي أن تستحيل هذه المعرفة قوّة دافعة، لتحقيق مدلولها في عالم الواقع. نبتغي استجاشة ضمير “الإنسان” لتحقيق غاية وجوده الإنساني، كما يرسمها هذا التصوّر الربّاني. نبتغي أن ترجع البشرية إلى ربّها، وإلى منهجه الذي أراده لها، وإلى الحياة الكريمة الرفيعة التي تتّفق مع الكرامة التي كتبها الله للإنسان، والتي تحقّقت في فترة من فترات التاريخ، على ضوء هذا التصوّر، عندما استحال واقعًا في الأرض، يتمثّل في أمّة، تقود البشرية إلى الخير والصلاح والنماء”(5) .
وسنجد لسيد قطب نصوصًا أخرى تقرّر أهمية ارتباط العلم بالعمل وذمّ المعرفة الباردة، وهنا علينا أن نتساءل: هل كان سيد في هذا الكلام هو الأقرب إلى التراث الأصيل لأئمة الإسلام عبر القرون، أم الذين فُتنوا بالمقولة الفلسفية التي مفادها أنّ الحقّ يُعرف “لذاته”، فخاضوا في علوم لا يُبنى عليها عمل؟ (6)
وتأمّل هذه النصوص الثلاثة، وانظر كيف وافق سيد قطب في روح كلامه ومعناه كلامَ الأئمّة الكبار:
– روي عن الإمام مالك بن أنس رحمه الله (93-179 هـ) أنّه قال: “الكلام في الدين أكرهه، وكان أهلُ بلدنا يكرهونه وينهون عنه، نحو الكلام في رأي جَهْم والقدَر وكلّ ما أشبه ذلك، ولا أُحبُّ الكلام إلّا فيما تحته عمل، فأمّا الكلام في الدين وفي الله عزّ وجلّ فالسكوت أَحبُّ إليّ؛ لأنّي رأيت أهل بلدنا ينهون عن الكلام في الدين إلّا ما تحته عمل”.
– ويقول الإمام أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله (ت 790 هـ) في كتاب “الموافقات”: “كلّ مسألة لا ينبني عليها عمل؛ فالخوض فيها خوضٌ فيما لم يَدُلَّ على استحسانه دليلٌ شرعي، وأعني بالعمل عملَ القلب وعملَ الجوارح من حيث هو مطلوبٌ شرعًا. والدليل على ذلك استقراء الشريعة؛ فإنّا رأينا الشارع يُعرض عمّا لا يفيد عملًا مكلَّفًا به؛ ففي القرآن الكريم: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (البقرة: 189). فوقعَ الجوابُ بما يتعلّق به العمل؛ إعراضًا عمّا قصده السائل من السؤال عن الهلال: لِمَ يبدو في أول الشهر رقيقًا كالخيط، ثم يمتلئ حتّى يصير بدرًا، ثم يعود إلى حالته الأولى؟” (7).
– ويقول الأستاذ سيّد قطب رحمه الله: “إنّ المعرفة للمعرفة ليست منهجا إسلاميا.. في الإسلام المعرفة للحركة. والعلم للعمل. والعقيدة للحياة. واليوم لا قيمة للمعرفة التي لا تتحوّل – لتوّها – إلى حركة. لا قيمة للدراسات الإسلامية في شتى مناهجها وشتّى معاهدها.. لا قيمة لاكتظاظ رفوف المكتبات بالكتب الدينية، ولا باكتظاظ الأدمغة بمضمونات هذه الكتب.. إنّ هذا ليس هو الإسلام. وليس هو العلم الديني! العلم الديني شيء يُزاوَل في الحياة، ويُطبَّق في المجتمع، ويعيش في الواقع، ويتمثّل في نظام.. والإسلام هو سيادة هذا النظام.. وليس للإسلام من صور أخرى يعرفها الإسلام ويرضاها الله” (8).
فهل يضير سيّدًا رحمه الله شيئًا إذا وافق هذين الإمامين الكبيرين، ووافقَ معهما حشودًا من الأئمة الأعلام عبر القرون، ثم خالف الذين تأثّروا بالفلسفة الفارابية والسينويّة؟
قال القاضي عمر بن سهلان الساوي (توفي نحو 540 هـ): “سعادة الإنسان من حيث هو إنسان عاقل في أن يعلَم الخير والحقّ. أمّا الحقّ فلذاته، وأمّا الخير فللعمل به”(9) ؟! وقد تكرّرت هذه العبارة بألفاظ متقاربة عند بعض متأخّري المتكلّمين المسلمين، ونسبَ ظهير الدين البيهقي (ت 565 هـ) في “تتمّة صوان الحكمة” إلى الفيلسوف أبي عبد الله الناتلي أنّه قال: “الحقُّ يُطلب لذاته، والخير يُطلب لأجل العمل به”(10) . وهي فكرة نجد أصولها عند الفيلسوف اليوناني أرسطو الذي يرى أنّ فعل التفكير أو النشاط العقلي “لا غرض له إلا هو ذاته”، كما في “الأخلاق النيقوماخية”(11) وبأنّ “غاية المعرفة النظرية الحقّ، وغاية المعرفة العملية الفعل” كما في “ما وراء الطبيعة”(12) .
ولا أحسب عاقلًا يرمي سيّد قطب بنبذ التراث لأنّه نبذ تراث المتأخّرين المعجون بالمنطق الأرسطي والفلسفة الإغريقية وعلم الكلام المتأثّر بهما بشدّة، فالقيمة الكبرى لتراثنا هي ما تأسّس على علوم الكتاب والسنّة والعربية، فإذا وافقه الإنسان فلا ضير أن يخالف – بل أن ينقد – ما خالفه من تراث!
قال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الألْبَابِ} (الزُّمَر: 17-18).
وكان من دعاء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: “اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بكَ مِن عِلْمٍ لا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لا يَخْشَعُ” (صحيح مسلم).
ورُويَ عن ابن مسعود رضي الله عنه أنّه قال: “مَا مِنْ حرفٍ أو آيةٍ إِلا وَقَدْ عَمِلَ بِهَا قومٌ، أَوْ لَهَا قومٌ سيَعْمَلُونَ بِهَا”(13).
ورُويَ عن أيّوب السختياني (66-131 هـ) أنّه قال: “قال لي أبو قلابة: يا أيّوب! إذا أحدثَ الله لك عِلْمًا فأحدِثْ له عبادةً، ولا يكنْ همُّكَ أن تُحدِّثَ به”(14).
ورُوي عن سفيان الثوري (97-161 هـ) أنّه قال: “العلمُ يهتفُ بالعمل فإنْ أجابه وإلّا ارتحل”(15).
فهذا هو تراثنا، وعلى مثله تأسّست عقول أئمّتنا وقلوبهم.
نقدُه التفاسير
أمّا في باب التفسير، فسنجد سيد قطب يشكو في كتابه “التصوير الفنّي في القرآن“، والذي كان مدخلًا لاهتمامه بالتفسير، من كتب التفسير القديمة التي أبعدته عن جمال القرآن. مما يشي بأنّه يعادي كتب التفسير التراثية. ولكنْ هل هذه هي الحقيقة؟ فلنستمع إلى ما يقوله:
“ودخلتُ المعاهد العلمية، فقرأت تفسير القرآن في كتب التفسير، وسمعت تفسيره من الأساتذة. ولكنني لم أجد فيما أقرأ أو أسمع ذلك القرآن اللذيذ الجميل الذي كنت أجده في الطفولة والصبا. وا أسفاه! لقد طُمست كل معالم الجمال فيه، وخلا من اللذّة والتشويق. ترى هما قرآنان؟ قرآن الطفولة العذب الميسّر المشوّق، وقرآن الشباب العسر المعقّد الممزّق؟ أم إنّها جناية الطريقة المتّبعة في التفسير؟”(16) .
فهذا النقد ليس لعموم التفسير، بل للتفسير “الذرّي” للقرآن، أي الذي يقرأه بشكل مفرّق، وهو النمط الذي كان شائعًا في دراسات التفسير، ولهذا كان أبرز شيء في مشروع سيد قطب التفسيري لاحقا، “في ظلال القرآن”، هو التركيز على الوحدة الموضوعية للسورة وارتباط الآيات بعضها ببعض مع التركيز على رسالة القرآن وما يرجوه في الفرد والجماعة، واستفاد مع ذلك من التفاسير التراثية ونقل عنها كما يعلم مَن قرأ في “الظلال”.
وقد شكا قبله بعض أئمة التراث من هذه النزعة الذرّية المنتشرة في التفاسير، منهم أبو الفتح الشِّهْرِسْتاني (ت 548 هـ) في تفسيره “مفاتيح الأسرار ومصابيح الأنوار” الذي قال فيه: “إنّ المفسّرين تكلّموا في معاني الكلمات والأسامي لغةً وروايةً، ولم يتكلّموا في أسرارها نظمًا وترتيبًا” (17).
ومنهم الفخر الرازي (توفي نحو 606 هـ) الذي قال في أواخر تفسير سورة البقرة من تفسيره “مفاتيح الغيب“: “ومَن تأمَّل في لطائف نَظْم هذه السورة وفي بدائع ترتيبها عَلِمَ أنّ القرآن كما أنّه معجِزٌ بحسب فصاحة ألفاظه وشرف معانيه، فهو أيضا معجزٌ بحسب ترتيبه ونَظْم آياته، ولعلّ الذين قالوا: إنّه معجز بحسب أسلوبه أرادوا ذلك، إلّا أنّي رأيتُ جمهور المفسّرين مُعْرضين عن هذه اللطائف غير منتبهين لهذه الأمور”(18) .
فهذه مجرّد نماذج للنقد الحادّ الذي يستهدف توجّهًا في التراث ويأتي بجانبٍ تجديدي لتقويمه، فالعلماء الذين نقدوا التفسير الذرّي لم يرفضوا التراث بل استفادوا منه، والعلماء الذين رفضوا الفلسفة والمنطق وعلم الكلام لم يرفضوا التراث، ولكنّهم رفضوا أنماط تفكير وجدوها دخيلةً ومتعارضةً مع حقائق الدين، وكذلك كان سيد قطب على إثرهم رافضًا بسليقته الأدبية العربية هذه التوجّهات في دراسة العقيدة الإسلامية، وقدّم في المقابل نموذجًا يُعيد فيه إحياء تراث المتقدّمين في كيفية النظر والاستدلال على معرفة الله (الاعتماد على المحسوسات ونماذجها الكثيفة في الكون والحياة والإنسان)، وفي بيان الأدلة العقلية في القرآن، وفي الاستناد إلى الكتاب والسنّة وما يوحيانه من حقائق ومعانٍ، وفي سهولة العبارة وسلاستها ومخاطبتها للذهن والقلب في آن.
ومن طريف ما وقعتُ عليه من موافقات سيّد قطب لأئمّة التراث نصٌّ حول أحد شروط فهم القرآن، وافق فيه الإمامَ أبا الحسن الحرّالي المراكشي رحمه الله (ت 638 هـ) في المعنى وفي بعض ألفاظه، قال الحرّالي:
“وقومٌ منعهم من فهمه سابق آراء عقلية انتحلوها، ومذاهب أحكامية عقلية تمذهبوا بها، فإذا سمعوه تأوّلوه لما عندهم، فيحاولون أن يتبعهم القرآنُ، لا أن يكونوا هم يتبعونه، وإنّما يفهمه من تفرّغ من كل ما سواه. يحمل هذا العلم من كلّ خَلَف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين. فإنّ للقرآن عُلُوًّا من الخطاب يعلو على قوانين العلوم عُلُوَّ كلام الله على كلام خَلْقه”(19).
أمّا سيد قطب فيقول في المعنى نفسه:
“ومنهجنا في استلهام القرآن الكريم، ألا نواجهه بمقرّرات سابقة إطلاقا. لا مقرّرات عقلية ولا مقرّرات شعورية – من رواسب الثقافات التي لم نستقها من القرآن ذاته – نحاكم إليها نصوصه، أو نستلهم معاني هذه النصوص وفق تلك المقرّرات السابقة.
لقد جاء النصّ القرآني – ابتداءً – لينشئ المقرّرات الصحيحة التي يريد الله أن تقوم عليها تصورات البشر، وأن تقوم عليها حياتهم. وأقلّ ما يستحقّه هذا التفضيل من العليّ الكبير، وهذه الرعاية من الله ذي الجلال – وهو الغنيّ عن العالمين – أن يتلقّوها وقد فرّغوا لها قلوبهم وعقولهم من كلّ غبشٍ دخيل، ليقوم تصوُّرهم الجديد نظيفًا من كلّ رواسب الجاهليات – قديمها وحديثها على السواء – مستمدّا من تعليم الله وحده، لا من ظنون البشر التي لا تغني من الحقّ شيئا!”(20) .
❃❃❃
وأخيرًا أقول: إنّ تهمة معاداة التراث في حقّ سيد قطب هي تهمة متهافتة، والأصوب أن يقال إنّ سيد قطب كان معاديًا للّوثات الفكرية والمنهجية التي دخلت على تراثنا الإسلامي المبني على الكتاب والسنّة والعربية، وكان في ذلك متابعًا لتراثٍ ضخم لأئمة الدين والعربية منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم وصولا إلى الأئمة الكبار كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم.
وقد استمرّ هذا التيّار الذي رفض لوثات علوم الأوائل من اليونان وغيرهم ودمجها في التعليم الشرعيّ إلى قرون بعد ذلك، وظلّ يخفت ويقوى أحيانا، إلى أن صار الغالب على الدَّرس التقليدي في العهدين المملوكي والعثماني هو استدخال الفلسفة والمنطق وعلم الكلام في مختلف العلوم الإسلامية والعربية، ومَن يوجّه النقد إلى هذا المآل ويعمل على التصحيح واستئناف البناء القديم بأساليب مختلفة لا يوصم بمعاداة التراث، ولا يوضَع جنبًا إلى جنب مع الوضعيّين والليبراليين والماركسيين والاشتراكيين والقوميين، فهذه زلّة تدلّ على اختزال وقولبة وانعدام للإنصاف العلمي، ويحتاج صاحبُها إلى مراجعة أعمق لمنطلقات المعاصرين الذين انتقدوا جوانب من تراث المتأخّرين لا كلّ التراث.
الهوامش:
- خالد الرويهب، تطوّر المنطق العربي: 1200-1800 (بيروت: مركز نهوض للدراسات والبحوث، 2022)، 365.
- انظر النصّ كاملًا في: سيد قطب، خصائص التصور الإسلامي (القاهرة: دار الشروق، 1992)، 11-12.
- أبو سليمان الخطّابي، الغنية عن الكلام وأهله، د.ت (القاهرة: دار المنهاج، 2004)، 8-9.
- أبو الفضل المقرئ، أحاديث في ذمّ الكلام وأهله: انتخبها الإمام أبو الفضل المقرئ من ردّ أبي عبد الرحمن السُّلمي على أهل الكلام، تحقيق: ناصر بن عبد الرحمن الجديع (الرياض: دار أطلس، 1417-1996)، 86.
- قطب، خصائص التصور الإسلامي، 9-10.
- ابن عبد البرّ يوسف بن عبد الله النمري، جامع بيان العلم وفضله، تحقيق: أبو الأشبال الزهيري (الدمام: دار ابن الجوزي، 1414 هـ – 1994 م)، 2: 938.
- أبو إسحاق الشاطبي، كتاب الموافقات، تحقيق: الحسين أيْتْ سعيد (فاس: منشورات البشير بنعطية، 1438-2017)، 2: 69-70.
- سيد قطب، مقومات التصوّر الإسلامي (القاهرة: دار الشروق، 1997)، 25.
- عمر بن سهلان الساوي، البصائر النصيرية في علم المنطق، تحقيق: رفيق العجم (بيروت: دار الفكر اللبناني، 1993)، 26.
- ظهير الدين البيهقي، تاريخ حكماء الإسلام (دمشق: المجمع العلمي العربي، 1365هـ – 1946م)، 37.
- انظر: أرسطوطاليس، علم الأخلاق إلى نيقوماخوس، نقله إلى العربية: أحمد لطفي السيد (طهران: انتشارات آفتاب، 1343هـ – 1924م)، 2: 356. أو في النسخة الإنجليزية: Aristotle, Nicomachean Ethics, Edited by: Roger Crisp (Cambridge: Cambridge University Press, 2004), 195-196.
- انظر: أرسطوطاليس، ما بعد الطبيعة (دمشق: دار الينابيع، 2008)، 6. وهي طبعة تجارية. وانظر في النسخة الإنجليزية: Aristotle, The Metaphysics, Edited by: Huge Tredennick (London: William Heinemann, 1933), 87.
- أبو عبيد القاسم بن سلام، فضائل القرآن، تحقيق: مروان العطية وآخران (دمشق: دار ابن كثير، د.ت)، 99.
- سعيد بن منصور الخُراساني، سنن سعيد بن منصور، تحقيق: سعد بن عبد الله آل حُمَيِّد (الرياض: دار الصميعي، 1414-1993)، 1: 708.
- ابن عبد البرّ يوسف بن عبد الله النمري، جامع بيان العلم وفضله، تحقيق: أبو الأشبال الزهيري (الدمام: دار ابن الجوزي، 1414 هـ – 1994 م)، 1: 707.
- سيد قطب، التصوير الفنّي في القرآن (القاهرة: دار الشروق، 2004)، 8.
- أبو الفتح الشَّهْرستاني، مفاتيح الأسرار ومصابيح الأبرار، تحقيق: محمد علي آذرشب (طهران: مركز البحوث والدراسات للتراث المخطوط، 2008)، 85.
- فخر الدين الرازي، تفسير الفخر الرازي المشتهر بالتفسير الكبير ومفاتيح الغيب، د.ت (بيروت: دار الفكر، 1981)، 7: 139.
- أبو الحسن الحرّالي المراكشي، تراث أبي الحسن الحرالي المراكشي في التفسير، تحقيق: محمادي بن عبد السلام الخياطي (الدار البيضاء: مطابع النجاح الجديدة، 1997)، 28.
- قطب، خصائص التصور الإسلامي، 15.