مقابسات

تأملات في المسألة العنصرية

رغم أنَّ وسائل الإعلام الرسمية منذ قيام الثورة وحتى هذه اللحظة تهاجم الإمامة والنِّظام الإمامي إلا أنها لم تقابل بذلك القدر العنيف من رد الفعل الذي قوبلت به (الصحوة) وكتابها عند تعرضهم لنفس الموضوع… ويبدو – والله أعلم- أنَّ السبب في ذلك هو أن مايأتي من قبل السلطة يكون غير مقبول في الغالب بسبب المفاسد التي تعاني منها في كل المجالات… بل إن مفاسد هذه السلطة تتحول إلى وسيلة لتحسين وجه النظام الإمامي المباد ، وهو المطب الذي وقع فيه – للأسف الشديد- واحد من كبار كتابنا ورموزنا الثقافية مع صحيفة (الثوري) في عدد الخميس 17 سبتمبر الماضي… فإذا كان هذا حال واحد من كبار المثقفين فكيف بمن هم دونه ؟!

وبالمقابل نجد رد الفعل العنيف الذي قوبلت به (الصحوة) بالذات وكتَّابها عند تعرضهم للنظام الإمامي الملكي وفكره المتخلف والتي وصلت إلى حالة من الهستيريا عبرت عنها خطب ومـقـالات وكـتـابـات ومـؤلـفـات، فاتهـمنـا صـراحـة بالعنصرية والمذهبية والطائفية، وبقدر ما إنها تهم مضحكة فإنها تدل على حالة فقدان الأعصاب التي وصل إليها رواد الانبعاث الملكي الجديد!

تصـوروا… أصبحنا ونحن ندعو إلى المساواة ونبذ فكرة وجود سادة وغير سادة… أصبحنا عنصريين!

تصــوروا… أصبحنا ونحن ندعو الى التحرر من أسار الجمود والتعصب المذهبي وندعو إلى التجديد في أفهامنا… أصبحنا وهابيين ومذهبيين رغم أنَّ الوهابية تمثل حالة من حالات الجمود العقلي والفقهي فكيف يستقيم هذا الاتهام؟!

تصـوروا… أصبحنا ونحن ندعو لتكريس الوحدة الوطنيـة وتجاوز الطائفيـة السياسية… أصبحنا نحن الطائفيين!

ورغـم إدراكنا أن هذه الاتهامات أصبحت محل سخرية من كل من أتيحت له فرصة الاطلاع على ماكتب من قبلنا . كتاب الصحوة والإصلاح وغيرهما – وماكتب من قبل دعاة الإمامة في مختلف الصحف.

رغم كل ذلك إلا أنني أجدها فرصة مناسبة لتأكيد وترسيخ خطنا ونهجنا في هذا الموضوع في هذه الذكرى الغالية… الذكرى الثلاثين لثورة سبتمبر العظيمة.

منهج إسلامي!

فنحن منذ كتبنا في هذا الموضوع اتخذنا منهجًا واضحًا منبثقًا عن منهج الإسلام وقيمه، وأخلاقياته، ولأننا التزمنا بهذا المنهج فلم نجد من دعاة الإمامة سوى السباب والمشاتمة ولم نجد منهم أي حوار موضوعي بل وجدنا هذيانًا وهستيريا ومحاولة لتجريح أشخـاصنا، ولازالت كتاباتنا وكـتـابـاتهـم مـوجـودة لمن أحب أن يراجعها لأن المتفرج لبيب كما يقال.

وأبرز ملامح المنهج الذي التزمنا به في كتاباتنا يمكن أن نوجزها فيما يلي:

1. التعامل مع التـاريخ باعتباره ملكًا للأمة كلها وليس ملكًا لطائفة أو فرد، وذلك لأخذ العبرة منه، وهذا هو منهج القرآن الكريم، فكما أنه لا يمكن اعتبار توجيه النقد للدولة الأموية أنه تعريض بكل من أصله أموي، وكما لا يمكن اعتبار توجيه النقد للدولة العثمانية أنه تعريض بكل ما له أصل تركي، فكذلك لا ينبغي اعتبار أنَّ توجيه النقد لنظام الإمامة الممتد لأكثر من ألف عام أنه تعريض بكل من أصله هادوي أو حتى حسني لأن تاريخ اليمن ملك لليمنيين كلهم بمختلف أصولهم وأعراقهم ومذاهبهم!

2. إننا في تناولنا النقدي لنظام الإمامة ركزنا على فكر هذا النظام وانعكاساته العقائدية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، ولم نتناول هذا النظام من جانب عرقي سلالي، أو فقهي فروعي بل تناولناه من الجانب الذي يصادم أصولًا ومقاصد ومبادئ عامة جاء بها الدين كالحرية والمساواة والشورى وغير ذلك!

3. إننا في تناولنا النقدي للأشخاص لم نتعرض إلا لفكرهم وآرائهم ومواقفهم العامة المتعلقة بالجماهير ولم نتعرض لأشخاصهم وخصوصياتهم، وعلى سبيل المثال عندما تناول أكثر مقال لأكثـر مـن كـاتب من كـتـاب (الصحوة) قصيدة الإمام/ عبدالله بن حمزة فإن النقد توجه إلى ما تحمله هذه القصيدة من فكر عنصري استكباري وليس إلى شخص قائلها!

وفي هذا الصدد أعترف أنني أقف مذهولًا أمام أولئك الذين تقـوم قيامتهم عند نقد النظام الإمامي وفكره وممارسته وآراء رموزه – وهو مجرد نقد – بينما نجدهم يمارسون عملية سب الصحابة رضوان الله عليهم والتشكيك فيهم ليل نهار دون أن تهتز لهم شعرة بل يعتبرون ذلك السب لصحابة رسول الله قربانًا يتقربون به إلى الله!

تأملات في المسألة العنصرية

شواهد حية!

تلك أبرز ملامح المنهج الذي التزمنا به في كتاباتنا عن الفكر الإمامي، ولذلك تنوع كتَّاب (الصحوة) في هذا المجال فكانوا مختلف الأعراق والأصول وهو أمر تعتز به (الصحوة) وتعتز به الحركة الإسلامية اليمنية -ممثلة بالتجمع اليمني للإصلاح-وأذكر في هذا الصدد أمرًا طريفًا فعندما كتبنا في ذكرى الثورة العام الماضي – بدءًا من العـدد 281 العدد 284، عن الفكر الإمامي كنا أربعة هم الأخ رئيس التحرير والأستاذ الفاضل/ علي الواسعي والأخ/حارث الشوكاني وأنا، فإذا بنا نفاجأ بحملة دعائية من قبل دعاة الفكر الإمامي بأنَّ هذه حملة عنصرية ضد الهاشميين وذلك في محاولة لإجهاض التأثير الواسع المدى لتلك المقالات وتشويه صـورتها، فإذا بهم يصابوا بصدمة كبرى عندما ساهم الأخوان: محمَّد عبدالله زيارة وحمود هاشم الذارحي في الكتابة ضد الفكر الإمامي المتعصب بدءًا من العدد 285، ومايليه، وكذلك كتابة الأخ الأستاذ / زيد الشامي في مجلة (النور) نبهت الذين استكبروا وسقطوا من حيث لم يشعروا في وحل العنصرية والطائفية!

وللتذكير بمصداقية منهجنا وحرصنا على الانضباط به أذكر بنموذجين مما كُتِب خلال العامين الماضيين؛ ففي عدد (الصحوة) رقم 237 بتاريخ 1990.10.11م قلت مايلي:

“إنني فوجئتُ بأن هناك من يتألم من مسألة توجيه النقد لفترة الحكم الإمامي؛ بل ويعتبرها أنها موجهة له مباشرة ولفئة معينة من أبناء شعبنا، وحقيقة فهذا آخر ماكنت أتوقعه، وأنا أعلم أنَّ معظم الذين تألموا تأثروا بأطروحات مغرضة ومريضة من قبل ثلة حاقدة ربطت نفسها وذاتها بنظام متخلف حتى تستمر في السيطرة على هذا الشعب واستعباده وتعذيبه، ولذلك فلن أوجه حديثي لهذه القلة التي لم توقظ ضميرها ثمانية وعشرون عامًا من الحياة في ظل الثورة التي عم خيرها على جميع أبناء الشعب بالمقارنة بما كان عليه الحال في ظل النظام المباد وبرغم كل الأخطاء والتجاوزات التي حدثت بعد الثورة المباركة؛

لكن ليسمح لي أولئك الذين وقعوا تحت تأثير تلك القلة أن أقول لهم وبكل وضوح أنني أتحدى أن يجد أحد في ماكتبت أو في ما نشر في (الصحوة) من مقالات أخرى نغمة عنصرية أو طائفية أو حتى مذهبية، إلا إذا كان كشف مساوئ النظام الإمامي هو إثارة لنعيرة عنصرية أو مذهبية فإنه سيكون العجب العجاب فعلًا، وسيكون على كل من ثار أن يتوب، وعلى كل من تكلم أن يصمت، وعلى كل من كتب أن يستغفر الله ويكسر قلمه، وسيكون على كل من رفض التفرقة الطبقية ورفض احتكار السلطة والعلم ورفض الظلم والطغيان وثار على كل ذلك أن يتحدث اليوم أنه ارتكب خطأ كبيرًا وأن ظلم الإمام كان رحمة، واحتكاره للسلطة كـان عدلًا، واحتكاره للعلم كان حكمة، وأن تلك التفرقة الطبقية كانت تكريمًا للإنسان ولحريته وكرامته”!

وهي نفس المعاني التي أكدها أخي الأستاذ محمد عبدالله زیاره في مقاله القيم أين الملكيون من منهج الإمام/ علي – كرم الله وجهه!؟ ، المنشور في (الصحوة عدد رقم 285، بتاريخ 1991.10.17م) عندما قال: ولنكن صرحاء؛ لماذا يتـصـور البعض اليـوم ـ عن حسن نية ـ أن نقد نظام الأئمة نقد لهم، وأن نقد الفكر الملكي نقد لهم؟ هل تناسوا القاعدة الربانية والأصـل القرآني ولا تزر وازرة وزر أخرى)!

هل يجوز أن نحمل الشعب الألماني اليوم وزر جرائم (هتلر). وأن تحمل الشعب الروسي وزر جرائم (ستالين)، وأن نحمل الشعب الإيطالي وزر جرائم (موسوليني) ؟ إنه كما لايجوز أن نحمل هذه الشعوب وزر جرائم هؤلاء فلا يجوز أن يتحمل اليوم أحد وزر مـا اقترفه أئمة الجور والظلم بحق شعبنا من استبداد وظلم وتجهيل وفقر وغيره، إلا من يصر على السير على نهجهم وينادي بعودتهم.

أما تأكيدنا المستمر على أن الملكية التي نقصدها هي فكرة وليست عرقاً أو سلالة فحدث ولا حرج، فمنذ مقالي المنشور في العـدد 281، من الصحوة بعنوان: (هؤلاء هم الملكيـون الإماميون بتـاريـخ 1991.09.19م إلى مقال الأخ حارث الشوكاني والملكية فكرة وليست عرقًا أو سلالة، المنشور في العدد 326 ، من الصحوة بتـاريخ 1992.08.02م مرورًا بمقالات متعددة في أكثر من صحيفة ولأكثر من كاتب!

002 01 تأملات في المسألة العنصرية

بين الدين والطين!

من خلال ماسبق أردت أن يكون مدخلًا لبعض التأملات في المسألة العنصرية لنرى مدى بشاعتها وأنها إذا بدأت في مستوى معين فإنها لاتقف عنده بل إنها تتواصل حتى تضيق دائرتها أكثر وأكثر، بل وتصبح مقياسًا ومعيارًا لكثير من الأمور!

وإن مايجعلني أقف مع هذا الموضوع الخطير هو ضرورة كشف حقيقة حملة الفكر الإمامي وأنهم هم العنصريون وليس من ينتقد فكرهم المريض ويدعو إلى المساواة؛ لأن هؤلاء المرضى كادوا أن ينجحوا في حملتهم الدعائية التي يبثونها سواء عبر الصحف (تقدمية كانت أو ملكية) أو عبر المنابر أو المقايل أو المنتديات وغيرها بأن كل من ينتقد فكر الإمامة فهو عنصري، يذكروننا في هذا الأمر بحملة الإرهاب الفكري الذي قادته المنظمات الصهيونية في الغرب ضد كل من يناهضها أو يقف ضدها تحت شعار (معاداة السامية).

فالعنصرية التي دخلت حياتنا الإسلامية إنما جاءت ضمن منظومة فكرية منحرفة ومتكاملة في رؤيتها العقائدية والسياسية والاجتماعية بغرض هدم الإسلام من داخله، ولو تتبعنا المسألة العنصرية باعتبارها حالة مرضية، لوجدنا أنها تولد وتنتج عنصريات متوالية تتحول كلها بفعل التخطيط اليهودي والمجوسي الماكر إلى دين، فلم يعد الانتماء إلى الدين والتمسك بقيمه هو الذي يعطي الإنسان مكانته لدى العنصريين بل أصبح الانتماء الأسري هو الذي يعطي هذه المكانة أيا كانت سلوكيات الفرد أو أخلاقه وتدينه.ش

ومن خلال فهمنا المعايير التكريم والتفضيل التي جاء بها الإسلام فإننا ندرك أن معايير التفضيل العرقي والسلالي إنما هي معايير جاهلية جاء الإسلام ليلغيها ويضع النسب في مكانته التي أرادها الله سبحانه وتعالى حيث هو وسيلة للتعارف لا أقل ولا أكثر  دون أن يقدح في المرء أن يكون من عائلة (فلان) أو أسرة (علان)، فالمرء بدينه وخلقه وعمله، ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم: (من أبطأ به عمله فلم يسرع به نسبه)، ألم يقل: (يا فاطمة اعملي لنفسك فإني لا أغني عنك من الله شيئًا) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

وقد جعل الله رابطة العقيدة لتكون أساسًا للولاء والبراء بين المؤمنين {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} فكانت أصرة الدين هي أساس العلاقة بين المسلمين بدلًا عن أسرة الطين التي تولد النزعات العرقية والسلالية، فالله تعالى يقول: (إنما المؤمنون إخوة)، ويقول: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجـه أمهاتهم)، فطالما أن جميع المؤمنين إخوة وزوجات النبي أمهاتهم فإن النبي صلى الله عليه وسلم هو أبو المؤمنين جميعًا. وفي ظل مثل هذه القيم الإيمانية تذوب النزعات العنصرية التي تولد الأمراض في جسم الأمة فتنهكه.

ويظل حال أفراد أسرة النبي صلى الله عليه وسلم وفق هذه القيم كسائر البشر، فهم خلقوا من طين ولم يخلقوا من نور، وهم محاسبون بأعمالهم فمن صلح فإنما لنفسه ومن أساء فعليها فهم لا يمتازون على بقية البشر بأي ميزة، وإلا لاختل ميزان العدل الإلهي تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.

ألا يحق لنا أن نتساءل لماذا اختار الله سبحانه وتعالى أبا لهب – وهو عم الرسول – من بين صناديد الكفر في مكة لينزل فيه سورة تدينه إلى يوم القيامة، أليس ذلك من أجل أن يعلم الله البشرية خلال الكتاب الذي جعله دستورًا لها على مر الأزمان بأن هذا الدين جاء لينسف كل قيم الجاهلية ويؤسس بدلًا عنها قيمًا جديدة ترتكز على العقيدة أولًا وأخيرًا ثم تضع بقية الأواصر الأرضية في حجمها الطبيعي!

ضيق الدوائر العنصرية!

ولو تأملنا في مسألة التمييز السلالي والعرقي التي يريد بعض الطامحين والمتهورين ترسيخها باسم الدين لوجدنا أنها لا تؤدي إلا إلى الفرقة والنزاع لأن هذه النتيجة سنة ربانية تتحقق عندما تخرج الأشياء عن طبيعتها وفطرتها.

وتعالوا لنتأمل في بعض مشاهد هذا التمييز لنرى النتيجة الجاهلية التي يصل إليها، والتي استطاعت الأيادي الحاقدة على الإسلام أن تحبكها بدءا من عبدالله بن سبأ وانتهاء بالحركات الباطنية والمشبوهة التي تعمدت أن تجعل من هذه العنصرية جزءا من الدين فوضعت لها الأحاديث المتصادمة مع مقاصد الإسلام ومبادئه في القرون المتقدمة.

فقد بدأت عملية التمييز العرقي بادعاء تفضيل (بني هاشم) على كل من سواهم فكل من هو هاشمي فهو أفضل من سائر البشر.

ثم ضاقت الدائرة قليلًا، فتم حصر الأفضلية في جزء من سلالة أبي طالب بادعاء أنهم الذين حرمت عليهم الزكاة وهم علي وجعفر والعباس وعقيل وسلالاتهم فخرج بذلك بقية “بني هاشم”.

ثم ضاقت الدائرة أكثر؛ فتم تضييق مساحة الأفضلية لتضم الإمام علي كرم الله وجهه وأبناءه وهم براء من ذلك – رضي الله عنهم جميعًا – ثم ضاقت الدائرة أكثر وأكثر، فتم إخراج كل أبناء الإمام علي كرم الله وجهـه عدا الحسن والحسين رضي الله عنهما وتم حصر حق الحكم فيهما وفي سلالتهما.

ثم ازدادت الدائرة ضيقًا، فنجد أن الإثنا عشرية حصروا حق الحكم من بعد الإمام علي والحسن والحسين في تسعة من أبناء وأحفاد الحسين رضي الله عنه.

وفي اليمن في ظل النظام الإمامي حصر الإمامة (عمليًا)، في أبناء وأحفاد الحسن رضي الله عنه بدءا من الإمام الهادي رحمه الله ومن بعده حتى قيام الثورة.

ثم ازدادت الدائرة ضيقًا أكثر وأكثر على صعيدين:

الأول: لم يتول الإمامة في اليمن أحد من سلالة الحسين رضي الله عنه لأنهم كانوا في الأغلب متبعين لمذهب الإمام الشافعي، وبالتالي فهم لا يؤمنون بالمنظومة الفكرية للنظام الإمامي التي تبدأ بحصر حق الحكم في البطنين مرورًا بالتشكيك في الصحابة والسنة الصحيحة وانتهاء بتكفير كل من هو خارج عنهم، فكان الأئمة في أفضل أحوالهم يحولون الأرض الشافعية إلى خراجية إن لم يتم تحويل أرض اليمن كلها إلى خراجية.

وقد شهد على ذلك المجدد المجتهد محمد بن إسماعيل الأمير الذي تطهرت نفسيته وعقليته من رجس العنصرية وفكر الإمامة فقال في أبيات له من قصيدته الشهيرة (سماعًا عباد الله):

خراجية صيرتم الأرض كلها 

وضمنتم العمال شر المعاشر

لذاك الرعايا في البلاد تفرقت 

وفارقت الأوطان خوف العساكر

وقد رضيت بالعشر من مالها

 لها وتسعة أعشار تصير لعاشر

وعلى الصعيد الثاني بلغت الدائرة العنصرية أشد مراحلها ضيقًا عندما كانت الأسرة الحاكمة تناصب بقية الأسر الهاشمية الحسنية العداء وتضيق عليها أشد التضييق باعتبارها منافسة لها على السلطة؛ ولذلك كان الهاشميون من أكثر الناس معاناة في ظل النظام الإمامي.. حتى جاءت الثورة السبتمبرية المباركة لتشكل إنقاذًا لهذا الشعب بكل فئاته العدنانية والقحطانية من الانقراض!

005 01 تأملات في المسألة العنصرية

صورتان متقابلتان!

تلك هي الصـورة البشعة للعنصرية، وقد رأينا كيف بدأت متسعة وضاقت تدريجيًا حتى لم تعد تسع لأكثر من أسرة واحدة، وهي نتيجة طبيعية لاستخدام تلك المعايير الجاهلية. ولأن الداء جاهلي فإن محاولات معالجته في الإطار العنصري نفسه تتم بأساليب جاهلية مما يعمق الداء ولا ينهيه، بينما عندما تتم المعالجة في الإطار الإسلامي الصحيح تستقيم الأمور وتصح.

و كنموذجين متقابلين على الأسلوبين نعرض لما يأتي:

ففي كتاب (ثورة 48 الميلاد والمسيرة والمؤثرات) الذي أصدره مركز الدراسات والبحوث اليمني طبعة 1982م جاء في ص 469 ضمن رسالة بعث بها أحد أبطال ثورة 48 هو الشهيد عبدالله بن علي الوزير الذي توفي بالهند شريدًا غريبًا بعد فشل الثورة إذ بعث برسالة إلى الشيخ عبدالله الحكيمي يحكي فيها همومه فقال فيها:

(وقد كانت تربيتي في حجر عمي إلى أن بلغت الثامنة وكنت تقريبًا وأنا في سن السادسة أعتقد أن عمي هو والدي الحقيقي ولأن والدي كان دائما غائبًا، فما كان يأتي إلا نادرًا يمكث يومًا أو يومين فقط كنت ألازم عمي ملازمة الظل وكنت دائمًا أسمعه يحدث أصدقاءه: أنا نصحت أخي كثيرًا أنه لا خير في الانضمام  إلى الإمام يحيى، لأن هذه العائلة مشهورة بالطباع الساقطة ونفوسهم مجبولة على الحقد والحسد ولا يحبون أي خير ولا يرون إلا مصلحة أنفسهم ومشهورون بالبخل الشديد الذي يضرب به المثل، والآن هذا الإمام قام بعد أبيه يغرر على الناس بمقاتلة الأتراك الفساق البغاة. كما يقول ـ وما مراده إلا الملك وجمع الأموال وسيؤزر الناس الحصير. وأصلهم غير صحيح فقد أنكرهم أئمة وعائلة آل شرف الدين بأن نسبهم مدسوس إلى البيت الهاشمي وأن أصل جدهم القاسم جاء إلى اليمن من الهند عن طريق إيران والعراق وكان في بادئ أمره يسكن الكهوف ويدعي الزهد والتشيع بحب الإمام علي رضي الله عنه، وقد أثبتوا على ذلك براهين واضحة ولكن خلافتهم خرجت منهم وتلاها غيرهم فسكتوا عن ذلك، هذا ماكنت أسمعه دائما من حديث عمي…).

ويهمني في هذه الفقرة ماورد فيها عن إنكار عائلة شرف الدين لأصل الإمام القاسم وكأنهم بهذا الإنكار لأصله يبرزون ما ارتكبه وارتكبه أبناءه من بعده من مظالم، وهذا النوع من المعالجة والتبرير منطلقه عنصري بلا شك لأن هؤلاء جميعا أقاموا كياناتهم على أساس أنسابهم وليس على أساس التزامهم بمنهج الإسلام في الحكم، فلا ينقص من قدر القاسم أو غيره – إن كان عادلا تقيًا- أن يكون هنديًا أو أعجميًا أو عربيًا أو غير ذلك، ولا يزيد من قدره إن كان ظالما فاجرًا أن يكون من أصل علوي.

ومقابل هذا الأنموذج الجاهلي العنصري نجد المنطلق الإسلامي متمثلًا في العلامة المجدد محمد بن إسماعيل الأمير رضي الله عنه مقابل الإمام عبدالله بن حمزة، ففي حين يقول عبدالله بن حمزة:

يا قوم ليس الدر قدرًا كالبعر

 ولا النضار الأبرزى كالحجر

كلا ولا الجوهر مثل المدر

 فحاذروا في قولكم مس سقر

نجد ابن الأمير يقول:

ولاتحسبن أني أرى لي مزية 

على الناس فيها رفعة وثناء

فما أنا إلا تبنه حل لبنة

 وبحر ظلام ليس فيه ضياء

ولأن ابن الأمير بهذا القدر من الصفاء والنقاء فقد كان الإمام المنصور محمد بن يحيى جد الإمام أحمد يردد دائمًا في مجالسه: (محمد بن اسماعيل الأمير ليس منا أهل البيت) ص17 کتاب (ابن الأمير وعصره).

تنبيه وتحذير !

إنني بهذا العرض إنما أقصد أن أكشف للقارئ مساوئ العنصرية ومهاويها الكريهة التي لا مفر من الوقوع فيها، وما يمكن قوله في هذا الصدد كثير وكثير، والشواهد المعاصرة عليه متوفرة وهي دفعتني للحديث عن هذا الموضوع.

فلا تستغربوا أن تجدوا أستاذًا جامعيًا يقول بالحرف الواحد في مقالة له نشرت العام الماضي “والآن لنتساءل لماذا هذا العداء لمن يطلقون عليـهم (الملكيين والإمـامـين)”؟

لماذا كراهية مشاركتهم في الشؤون العامة؟ لماذا لايقبل لهم رأي؟ ولماذا محاولة تحييدهم عمدًا؟ لعل السبب عقدة القصور في الكفاءة ولعل السبب في ذلك هو اجترار المقولة التاريخية “إن قريشًا كرهت أن تجمع لكم النبوة والخلافة” وإذا كان السبب هو هذا الأخير فتلك قريش فما بال هؤلاء؟”.. تصوروا هذا منطق أستاذ جامعي في أواخر القرن العشرين، تأملوا في كلامه، أي شعور هائل بالتميز العرقي والسلالي يحمله بين أضلعه نفثه في بضعة سطور، كيف يمكن لمثل هذا أن يرضى يومًا ما عن نظام لا يجعله على رأسه؟!

وأكتفي بهذا الأنموذج رغم وجود نماذج كثيرة لادعاء التميز العنصري بين يدي، بعضها من أناس يقولون أنهم علماء!

وأعود فأؤكد أن العنصرية نتاج لفكر مريض وأن الوقوع فيها ليس قدرًا مقدورًا على أحد سواء كان عدنانيًا أم قحطانيًا، عربيًا أم أعجميًا، وقد عرضت في هذا المقال لنماذج عدنانية معاصرة وسابقة تجاوزت هذا الفكر المريض وارتبطت بالإسلام الصحيح منهجاً وسلوكًا.

في حين نجد من يسقطون في شراك هذا الفكر من غير العدنانيين (كابن حريوة) الذي بدأ كتابه (الغطمطم) المخصص للرد على (السيل الجرار) للشوكاني بدأه بتوجيه السب واللعن للصحابة الكرام، وأمثاله موجودون بين ظهرانينا اليوم!

وإنني بهذا العرض الصريح أنبه الكثير من أبناء شعبنا سواء كانوا عدنانيين أو قحطانبين من الوقوع في مصائد تلك القلة الطامحة للعودة بالبلاد الى حكم الإمامة (ولو بشكل جمهوري)، وهي قلة معروفة بارتباطاتها السياسية المشبوهة داخليًا وخارجياً هدفها تكتيل الإخوة العدنانيين بالدرجة الأولى وغيرهم بالدرجة الثانية على أسس عنصرية ومذهبية لخدمة أهدافها وطموحاتها المشبوهة التي يزداد وضوحها يومًا بعد يوم أكثر فأكثر.. دون أن تدرك أنها تجر نفسها ومن استطاعت خداعهم إلى التهلكة لأن خاتمة الدعوات والحركات العنصرية عادة ماتكون خاتمة مؤسفة!!

ولاينبغي أن يدور بأذهاننا أن نبذنا للعنصرية والعرقية يعني أن ننفي أصولنا ونتنكر لأعراقنا؛ لا، إنما فقط يجب أن نضعها في موضعها المحدد وهو التعارف فقط، أما أن يقول فلان أنا سيد وأنت لا فهذا هو المرفوض، وهنا يجب أن ندرك الفرق فليس العنصري هو الذي يرفض وجود قيمة جاهلية هي (التسيد) على الآخرين، بل العنصري هو الذي يدعي (التسيد) على الآخرين سواء باسم العدنانية أو القحطانية أو غيرهما!

ولذلك فقد ضحكت كثيرًا عندما قال لي زميل – هو عضو في حزب الحق – انني عنصري، فحاججته بما كتبت من مقالات أولًا حتى سكت، ثم قلت له كيف أكون عنصريًا ولي عم أخ لأبي من والدته من بيت شـرف الدين وأولاد خالتي هاشميين تربطني بهم علاقة الأخ بأخيه بل وقد نشأت في حارة تحيط أسر هاشمية كريمة ببيتنا من كل اتجاه لا أترك لهم سـوى الذكرى الطيبة والمحبة العميقة لأننا لم نجد منهم ولم يجدوا منا إلا المعاملة الحسنة والجوار الطيب وتربطني بهم حتى اللحظة صداقات تحمل من المودة والاحترام قدراً عظيما لا أستطيع وصفه!

004 01 تأملات في المسألة العنصرية

نحو الوحدة!

وبعد، فليس هناك صراحة أكثر من هذا القدر، وأنا بذلك أحمل كل من يقرأ هذا الحجة البالغة، لم أقصد من كتابته إلا تبرئة الذمة برغم وضوح كل الكتابات السابقة وبراءتها من العصبية والعنصرية، ولذلك فأنا أعتبر مقالي هذا دعوة مفتوحة للانضمام إلى ركب الوحدة الوطنية القائمة على منهج يوحد ولا يفرق.. منهج يتطهر من كل المخلفات البغيضة التي تركتها لنا عهود الاستبداد منذ مئات السنين.

منهج يطير بنا إلى عهد رسول الله وخلفائه الأربعة الكرام عليهم جميعًا سلام الله ننهل منه ونقتدي به ونسلك خطاه على طريقه منهج يبرؤنا من أدواء العنصرية وعجز المذهبية وانحطاط الطائفية ويجمعنا إخوة في الله على درب الحق والخير والرشاد لعلنا بذلك نكون سببًا في إعادة الحياة لهذه الأمة الراكدة فيبعث الله فيها الروح من جديد.

وليسمح لي القراء الكرام أن أختم هذا المقال بأبيات من رائعة الأستاذ الزبيري رحمه الله (خطبة الموت) :

النص 2

نحن شعب من النبي مبادينا

 ومن حمير دمانا الزكية

ملء أعراقنا إباء و مجد 

وطموح إلى العلى وحمية

أرضنا تلعن الطغاة الألى

 سادوا علينا بالفرقة المذهبية

أرضنا حميرية العرق ليست 

أرض زيدية ولا شافعية

وبنو هاشم عروق كريمات

 لنا من جذورنا اليعربية

إنهم إخوة لنا غير أسياد 

علينا في عنصر أو مزية

أرضنا أرضهم تقاسمنا نحن

 وإياهم العلى بالسوية

والمزايا في الشعب للبعض دون

 البعض سم الإخوة القومية

وعدو الجميع من يحكم الشعب 

باسم القداسة العائلية

برئت منه هاشم وأقشعرت 

في خلاياه النطفة العربية

نحن أدنى لله من كل جبار 

وأولى بالشرعة النبوية

نحن شعب مشيئة الله أن تفرض

 منا على الطغاة المشية

لا سيوف تذلنا ، لا سجون

 تصنع الرق في دمانا الأبية

هذا المقال نشر في الذكرى الثلاثين لسقوط الإمامة، جريدة الصحوة، 24 سبتمبر 1992م العدد 331.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى