العلامة المحقق الأستاذ نالينو C.A. Nallino الإيطالي في الطبقة الأولى من علماء المشرقيات لهذا المعهد. تولى تدريس العربية في كلية بالرمة، ثم في جامعة رومة، وهو صاحب محاضرات (تاريخ علم الفلك عند العرب في القرون الوسطى) في الجامعة المصرية القديمة، وناشر (زيج البتاني) سنة 1903. وقد بدأ في هذا الشهر بإلقاء محاضرات في الجامعة المصرية عن تاريخ اليمن القديم، وقدَّم بين يدي البحث خلاصة في أسماء الأوروبيين الذين ارتادوا تلك الديار باحثين عن ماضيها وحاضرها، ونحنُ ننشر ذلك ملخصًا مما كتبه صديقنا السَّيد محمود شاكر الذي أخذ على نفسه كتابة هذه المحاضرات سماعًا من الأستاذ نالينو (الزهراء)[1].
بلاد اليمن وحضرموت واقعتان على سواحلِ البحر الأحمر وخليج عدن، فهما – بهذا الموقع – نالتا الحظ الأوفر من الأهمية من حيث التجارة، وكثيرًا ما كانت السُّفن التجارية تمر باليمن رائحةً أو غادية بين الهندِ والبلاد الأخرى، وكانت تمرُّ بها السُّفن الأوروبية كثيرًا في القرن السَّادس عشر.
• لود فيكودي فارتيما Ludovieo di vartema
أول من دخلَ بلاد اليمن من الفرنجةِ السري الإيطالي (لود فيكودي فارتيما), فلما نزلَ بعدن سجنه أحد أمرائها مدة ثمانية أشهر، ثم خلى سبيله فسافر إلى صنعاء، وعاد منها إلى الجنوب، فزار (ظفار) و(تعز)، ثم أخذ طريقه إلى (زبيد)، فالبحر الأحمر قافلًا إلى إيطاليا، وفيها كتَبَ كتابًا جليلًا وصفَ فيه ما زاره من بلاد الشَّرق، وخصَّ اليمن بجزءٍ صغيرٍ منه.
• دي لاغريلوديير De la Grelaudiere
هو السَّائح الثَّاني الذي دخل بلاد اليمن سنة 1712، لكنَّه زار بقعة صغيرة منها، فقد كان قادمًا من الهند على سفينةٍ فرنسية رسَت في مرفأ المخا[2]، فاتصل خبرها بإمامِ اليمن، وكان مريضًا، فأرسل يطلبُ منها طبيبًا، فانتهز السَّائح هذه الفرصة وصحِبَ طبيب السَّفينة إلى مدينة (المواهب)[3] حيث كان الإمام، ثم وضع لوصف رحلته كتابًا صغيرًا.
• بعثة ميخائيليس Michaelis
ميخائليس عالمٌ ألماني، كان جادًا في البحثِ عن آثار العبرانيين، وعن نسخ التوراة وأصولها وشروحها، ثمَّ بدا له أن يرحلَ إلى الشَّرق، ويدرس عاداته وتاريخه وأحواله الجغرافية ونباتاته وحيواناته، ووجد أنَّ في التوراة شيئًا غير قليل عن اليمن وملوكها وحضارتها، ففكَّر في تأليف بعثة إلى اليمن. ولما عرض فكرته على فريدريك الخامس ملك الدانيمرك سنة 1756 وافق ذلك هوى من الملك، فعهد إليه بتأليف البعثة، فاختار خمسة من علماء ألمانيا والسويد والدانيمرك، منهم: (كارستن نيبهر Carsten Niebuhr) الضابط في الجيش الدانيمركي، و(فورسكل Forskal) السويدي الشَّجَّار[4].
في سنة 1761 خرجت البعثة قاصدة القسطنطينية، ومنها إلى القاهرة حيث أقامت مدة ألف فيها الشجار السويدي كتابًا في (نباتات مصر).
وفي سنة 1763 ذهبوا إلى (اللُّحيَّة)، وتوغلوا في داخلِ اليمن إلى صنعاء، وجاءوا منها إلى المخا بعد أن مات اثنانِ منهم، ثمَّ مات اثنان آخران في سفرهم إلى الهند، ولم يبق غير نيبُهْر، فلما رجعَ إلى بلاده ألَّف كتابيْن مهمين، أحدهما في وصف جزيرة العرب كلها اعتمادًا على الأخبار التي جمعها وهو في سواحل البلاد، والثاني في وصف بلاد اليمن. ولم يعثر في رحلته على كتابات حِمْيرية، وإنما أخبروه بأنَّ مثل ذلك يوجد في خرائب (ظفار) على بعد ميلين من (يريم).
• سِيتزِن Seetzen
إنَّ كتاب نيبُهر حمل العالم سِيتزِن الألماني – الذي قضى زمنًا في خدمة قيصر روسيا – على البحث عن آثار اليمن والشَّرق، فسافر إلى الشَّام وفلسطين، وألف كتابًا عن رحلته هذه.
ثم أمَّ اليمن، فنزل (الحديدة) سنة 1810، واعتنق الإسلام، وسار إلى صنعاء، ثمَّ تحوَّل إلى الجنوب، فسلك الطريق الذي وصفه نيبُهر حتى صار قريبًا من (ذمار)، فسأل عن قرية (حدافة)، فلم يعرفها أحد من أهل تلك الجهة، لأنَّ اسمها الصحيح (ضاف)، ثم أخذ ينحدر إلى الجنوب حتى بلغ (ظفار)، وفيها وجد ثلاث كتابات اشترى إحداها، وكانت الثانية في بيت عالٍ فلم يصل إليها، ولم يتمكن من نسخ الثالثة؛ لأنه سافر مسرعًا. ثم وجد خمس كتابات في مسجد قرية تبعد ساعة عن ظفار، ثلاث منها كانت عالية لم يصل إليها، ونسخ الاثنتين[5] وأرسلهما إلى أوروبا، فكانت أول الكتابات الحميرية التي دخلت ديار الغرب. وسافر سِيتزِن بعد ذلك إلى جهات أخرى فانقطع خبره ولم يُعْلَم أين مات.
• سفينة حكومة بومباي
انقضت 25 سنة بعد سِيتزِن لم يكتشف فيها أحد كتابات أخرى في اليمن، فلما كانت سنة 1830 ندبت حكومة بومباي (الهند) سفينة إنكليزية لارتياد سواحل اليمن ورسم خرائط لها، فرسَت السَّفينة سنة 1834 تجاه (حصن الغراب) من سِيف حضرموت، وقد لمح ضباطها – ومنهم الضابط ولستد Wellsted – في جبل حصن الغراب خرائب حركت في نفوسهم الرغبة في صعوده، فلما وصلوا إلى قنَّته وجدوا آثارًا كثيرة منها برجان عظيمان كانا – في الغالب – مدخل هذا الحصن المنيع القائم في رأس الجبل، ووجدوا كتابتين لاحظوا أنَّ حروفهما تشبه الحبشية وظنوهما بالحِمْيرية فنسخوهما، وعند عودتهم إلى أوروبا أخذوا في نشرهما.
وفي السَّنة التالية ارتادت هذه السفينة سواحل اليمن مرة أخرى، فلما نزل ضبَّاطها إلى الساحل ذهبوا إلى (بالحاف)؛ حيث قيل لهم: إنَّ في الداخل خرائب ذات كتابات كثيرة، فقصدوا إليها حتى بلغوا خرائب (نقب الهجر)[6] على تلٍ مشرف على (وادي ميفعة).
ومن عجيب أمر هذا الجبل أنه عند ارتفاع الثلث الأسفل منه يحيط به سورٌ ذو بروج عظيمة تدلُّ على أنَّ سفحه كان عامرًا بمدينة عظيمة على هيئة قلعة لها مدخل من الجنوب وآخر من الشمال، ولم يتمكن ولِّسْتِد من دخوله، لكنه نقل بعض الكتابات، وعاد بها إلى أوروبا، فلم يستفد العلماء منها شيئًا؛ لأنَّ النسخ كان مشوَّهًا.
ومما اكتشفه ولِّسْتِد في (حصن الغراب) خطوط غير منقوشة، بل مرسومة على الحجر باللون الأحمر، وعثر على مساند أخرى فتحت باب علم سر الخط الحِمْيري، واجتهد في درسها العلَّامتان ويلهلهم جسينوسWhilhelm Gesenius وإميل رودجر Emil Rodiger ril Rodigر ر على مساند أخرى فتحت باب علم سر الخط الحميري، واجتهد في درسها العلامتان ويلهلهم جسينوس ، فنشر كل منهما في سنة 1841 رسالة في فَسْر هذه الخطوط، وفهما ألفاظًا قليلة جدًا منها، وعاد رودجر في السَّنة التالية إلى البحث فتمكَّن من فَسْر نصف تلك الكتابات.
• السِّر كروتندن
وفي شهري يوليو وأغسطس من سنة 1836 سافر الضابط الإنكليزي السِّر كروتندن من المخا إلى صنعاء قاعدة اليمن، فعثر في طرق المدينة ومنازلها على خمس كتابات من المرمر الأبيض مجلوبة من مأرب[7]، اثنتان منها كاد لا يكون فيهما شيء من التلف أو النقص، وقد نسخها كلها، وأرسلها إلى أوروبا فاستفاد من الكاملتين منها العلامة رودجر، ولم يتمكن كروتندن من نسخ الكتابات الأخرى؛ لأنه كان شبه أسير في قصر الإمام، لكن هذا الأسر أفاده من جهة أخرى؛ إذ عثر في حديقة قصر الإمام في صنعاء على رأس تمثال من المرمر جيء به من بلاد مأرب، فحصل عليه الضَّابط وأرسله إلى إنكلترا، وهذا الرَّأس موجود الآن في المتحف البريطاني بلندن.
وعلم (كروتندن) وهو في قصر الإمام أنَّ أعراب مأرب يأتون بقطع ذهبية مربعة الشكل فيبيعونها في صنعاء، وأنَّ بعض الجهات إذا اشتد فيها هطول المطر تجرف المياه معها بعض اللآلئ والجواهر فيأخذها البدو، فكان ذلك مما دل (كروتندن) على أنَّ اليمن كانت فيها حضارة عظيمة تلوح لنا بهذه الآثار كالبرق في الليلِ الدَّامس.
• توماس يوسف أرنود Thomas Joseph Arvaud
وفولجاس فْرِنِلْ Fuglence Frensel
كان كلُّ ما عُثِر عليه حتى سنة 1843 من الكتابات الحميرية نحو خمس عشرة كتابة، وهي على قلتها كانت فيها نسخٌ سقيمة قليلة الفائدة وبعضها ناقص.
وفي سنة 1843 اكتشفت كتابات وآثار يمانية كثيرة ترقت بها معارفنا عن ذلك الشَّطر من التاريخ بفضل رجل اسمه توماس يوسف أرنود الذي كان صيدليًا في الجيش المصري، فانتقل سنة 1840 إلى صنعاء، فكان صيدليًا لإمام اليمن، وكان في خلال ذلك يسمع الأخبار الكثيرة عن آثار مأرب وكتاباتها.
فلما ترك خدمة الإمام توجَّه إلى (جدة)، فلقي فيها المستشرق الفرنسوي (فولجانس فْرِنِلْ) الذي كان أقام بمصر مدة طويلة اهتمَّ فيها بالعرب ولغتهم وشؤونهم وتاريخهم وكتبهم التي جمع منها نفاس كالأغاني والعقد الفريد، فكان هذا المستشرق يهتمُّ وهو في جدة بالتقاط الأخبار عن حضرموت واليمن من أهلها القادمين إلى الحجاز، وجمع ما حصل عليه من هذه الأخبار في رسالةٍ جميلة.
فلما وصل الصيدلي أرنود إلى جدة وقابل فْرِنِلْ قصَّ عليه ما رآه وسمعه عن اليمن وخرائبها، فحثه على العودة إلى تلك الديار والتنقيب على الآثار الحِمْيرية بين خرائبها.
واتفق يومئذ أنَّ عثمان باشا والي الحجاز عقد النية على إرسال وفد إلى اليمن لتهنئة إمام اليمن الجديد بولايته، فسافر أرنود مع هذا الوفد، فلما وصل إلى صنعاء كان نفور اليمانيين من الترك قد زاد عن ذي قبل، فرأى أن مصلحته تقضي عليه بمفارقة الوفد، فانفصل عنهم ونزل في خان هناك، ثم اتفق مع أحد معارفه في صنعاء على أن يسافر به إلى مأرب.
وبالفعل سافرا في شهر يوليو سنة 1843 متزوديْن بزاد يكفيهما 15 يومًا، وتزيَّا أرنود بزيِّ اليمانيين، وبعد ست مراحل وصلا إلى مأرب فأقاما فيها ثلاثة أيام زارا خلالها بعض الخرائب القديمة، نسخ أرنود بعض الكتابات، وقفل راجعًا، فمرَّ في طريقة بقرية سماها (الخربة)، غير أنَّ اسمها الحقيقي (صِرْواح) [8]، وكان هذا الخطأ سبباً لخطأ آخر سنذكره بعد.
وفي صِرْواح وجد كتابات كثيرة سبئية وغيرها، فكان جملة ما نسخه أرنود 56 كتابة منها 3 في صنعاء، و8 في المكان الذي سمَّاه الخربة، و46 بمأرب.
وكان الذي يمر بهم في طريقه يرتابون بلون بشرته، فيسميه بعضهم جاسوسًا وبعضهم ساحرًا، ولولا أنَّ أمير مأرب شمله بحمايته لانتهت به هذه الشكوك إلى فقد حياته، وأصيب في هذه الرحلة برمد حرمه من استعمال عينيه مدة عشرة أشهر، فأرسل إلى صاحبه فْرِنِلْ وأملى عليه أخبار رحلته، ووصف له البقاع، فرسم فْرِنِلْ خرائطها وطبع الكتابات الأثرية بأمر الحكومة الفرنسوية.
واجتهد فْرِنِلْ في مقارنة أحرف هذه الكتابات بأخواتها في الخطِّ الحبشي، وألحق بالكتاب المذكور ملحقًا بنتيجة أبحاثه في هذه الحروف ومقارنتها بالحبشية، ولم يقتصر فْرِنِلْ في ذلك الكتاب على إثبات معنى الحروف، بل اجتهد أيضًا في فهم شيء من لغة تلك الكتابات. وكان فْرِنِلْ اطلع على ما كتبه جسنيوس ولم يعرف ما كتبه رودجر، ولو عرفه لأعانه على فهم كثير مما فاته فهمه.
• كتابات عمران
وبعد هذا اشترى ضابطٌ إنكليزي 42 كتابة يمانية على البرنز من عدن، وأرسلها إلى المتحف البريطاني، وأكثرها من بلدة (عمران) بين (اللُّحَيَّة) و(مأرب) وهي كتابات مهمة واضحة منقوشٌ عليها صور وتهاويل دلت على تقدم اليمانيين القدماء في الفنون الجميلة.
واعلم أنَّ هذه الكتابات صارت بعد أساسًا لبحث جديد حرره الأستاذ أرنست أوزياندر Ernest Osiander، وألف فيه ثلاث مقالات سنة 1864هـ
• كتابات المسيو شارل لنورمان Charies Lenormant المزيفة
وفي سنة 1867 نشر الأثري الفرنسي شارل لنورمان سبع كتابات قال: إنها وجدت في أبين، وأنَّ طبيبًا فرنسيًا نسخها سنة 1847، وأنَّ النسخ سلمت إلى لنورمان سنة 1867، وبعد نشرها ضاعت أصولها في فتنة باريس سنة 1870.
ذلك ما زعمه المسيو لنورمان، ولكن هذه الكتابات ظهر فيما بعد أنها مزورة كما أثبت ذلك المستشرق داود هانريخ مولر David Heinrich Muller سنة 1882، ولا ندري ما هو غرض المزيف من هذا العمل الذي ينافي الأمانة العلمية؟!
كتابات أخرى مزيفة
وفي سنة 1870 جُلِبَ من عدن إلى أوروبا كتابات يمانية منقوشة على البرنز، ثمَّ اتضح أنها هي أيضاً مزوَّرة، وأن نحاسًا من صنعاء لما سمع باهتمام المستشرقين بهذه الكتابات القديمة جعل ينقل من بعض الأحجار الأثرية كلمات ويقيس عليها، وينقش تلك الحروف على البرنز؛ ليبيعها في أوروبا بثمنٍ عال يكون له منه مورد رزق متسع، ولكن هذه الكتابات المزيفة أفادت بعض الفائدة لأنَّ فيها فِقَرًا منقولة نقلًا صحيحًا.
وكان في صنعاء رجلٌ آخر ينحتُ الأحجار، فصنع ما صنعه زميله النَّحاس، واتصلت بوالي اليمن التركي الأحجار التي نحتها، فأرسلها إلى متحف القسطنطينية.
هوامش:
- مجلة الزهراء, شعبان 1345, المجلد3, الجزء 8 . استقينا هذه المادة من كتاب “رسيس الهوى” الذي جمع بقية تراث شيخ العربية محمود شاكر, للدكتور/ عبد الرحمن قائد, ط1,آفاق المعرفة للنشر والتوزيع, الرياض, ص211.
- هكذا ضبط في معجم البلدان بالحركة لا بالنَّص، والمشهور على ألسنة اليمانيين الآن بضم الميم. (الزهراء)
- بلدة قريبة من ذمار، وصاحب المواهب هو الإمام المهدي محمد بن أحمد بن الحسن مولده سنة 1047هـ (1637م) ووفاته في رمضان سنة 1130هـ (1718م)، وقبره بحصن المواهب حول مدينة ذمار، أخبرنا بذلك الأستاذ الفاضل الشيخ عبدالواسع الواسعي اليماني. (الزهراء)
- أي العالم النباتي، أنظر : الزهراء 2:197 (الزهراء).
- وقع نيبهر في نسخ الكتابات الحميرية في خطأ غريب، فإن بعضها كان محفوراً والآخر بارزاً، فظن أن البارز من الكتابات المحفورة هو الكتابة، وأن المحفور في الكتابة البارزة هو الكتابة أيضاً، فنشأ عن ذلك تشويش. (شاكر)
- نبه الأستاذ نالينو على أنَّ الهجر بالهاء لا بالحاء (شاكر)
- يقول الأستاذ نالينو: إنَّ مأرب غير مهموزة بلغة حمير (شاكر).
- خرائب أثرية واقعة بالقرب من بلاد حاشد وأرحب, على ما أحبرنا به الشيخ عبد الواسع. (الزهراء)