مقابسات

قراءة في أيَّام الشوكاني (ج1)

لستُ أدري لماذا تذكرت وأنا أقرأ كتاب (أدب الطلب) للإمام الشَّوكاني كتابًا آخر قرأته منذ ربع قرن وأعدت قراءته منذ عشرة أعوام وأتمنى أن أعيد قراءته الآن وكل آن، وهو كتاب «الأيام» تلك الرائعة الأدبيَّة الفنية التي تعتبر أعظم وأشهر ما كتبه الدكتور طه حسين وما تركه لنا من تراثه الأدبي الواسع ورسم فيه بالقلم لوحات عن سيرة حياته الأولى منذ ابتدأت علاقته مع فقيه القرية إلى أن قرعت أقدامه مدرجات السوربون في باريس .

الفرق بين الكتابين- كما بدا لي- ليس كبيرًا كلاهما يتحدثان – في شبه مذكرات- عن سنوات طلب العلم وما يمر به الطالب الذكي في أحداث وقضايا، وما يرافق أيامه من فرح واكتئاب ومن هموم وأشجان، ومن صداقات وعداوات، وحسد وإعجاب، وإن كان الشوكاني قد رواها للاعتبار والإفادة، وجاءت كنصائح لطالب العلم لكي يتجاوز بها الواقع بتناقضاته الرهيبة. بينما رواها طه حسين لإمتاع القارئ وتعريفه بطريقة غير مباشرة بملامح الواقع الحزين والمؤلم الذي استطاع أن يتجاوزه ويتخطى عوائقه ومنحدراته.

أما الفرق بين الكتابين فيقترب من قرن ونصف القرن فقد ألَّفَ الشوكاني كتابه «أدب الطلب» في بداية القرن الثالث عشر الهجري- كما يشير إلى ذلك محقِّق الكتاب- بينما ألَّفَ الدكتور طه حسين كتابه «الأيام» في بداية النصف الثاني للقرن الرابع عشر الهجري كما هو معروف، وليست هذه وحدها خطوط اللقاء والاختلاف بين الكتابين، فهناك خطوط أخرى للقاء والاختلاف بين هذين الكتابين ولعل أهم خطوط اللقاء أنَّ الإمام الشوكاني عندما ألَّفَ كتابه قد كان يعاني من وطأة التعصب والتقليد، ويتعذب من حقد الخاصة وجمل العامة، وكان طه حسين عندما ألف كتابه طريدًا من الجامعةِ المصرية يعاني من حقد المتعصبين ومن الثورة التي أشعلها هؤلاء في نفس رجل الشَّارع المصري، بل والعربي. 

وكان كل من الإمام والعميد ضحية انعدام الحرية الفكرية الأول في مجال الحياة الدينية والآخر في مجال الحياة الأدبية. 

أما عن مواضع الاختلاف فإنَّ الشوكاني الذي عاش جزءًا من القرن التاسع عشر لم يكن قد عرف قليلًا أو كثيرًا عن التيارات الفكرية والمذاهب الفلسفية التي كانت رائجة يومئذ في أوروبا، والتي أتيح للمثقفين خارج اليمن الإلمام بها منذ أواخر القرن التاسع عشر وفي بداية هذا القرن. ومن هؤلاء المثقفين طه حسين الذي أتاحت له الجامعة المصرية ومن بعدها الدراسة في فرنسا الاطلاع على مختلف هذه التيارات والوقوف على آثارها السياسية والاجتماعية فاتسعت آفاقه الفكرية والأدبية وحاول القيام بثورة في الأدب العربي الحديث كما حاول الشوكاني من قبله القيام بثورة دينية أو تشريعية وكانت النتيجة أن قوبلت المحاولتان بالمقاومة العنيفة والهجوم الحاد ورغمًا استطاع الشوكاني كما استطاع طه حسين أن يصمدا في وجه التعسف العام وأن يثبتا في وجه الأعاصير المتلاحقة وبذلك أصبح الأول وزيرًا للإمام المنصور وأصبح الآخر وزيرًا للمعارف في ذلك فقد عن في مصر.[

وفي كتاب الأيام يظهر جليًّا عناد طه حسين وإصراره على مواقفه مهما كانت النتائج المترتبة على ذلك العناد والإصرار كما تظهر بجلاء ووضوح في كتاب «أدب الطلب» شخصية الشوكاني الحازمة. وإرادته الحديدية التي لا تتزعزع ولا تميل مع الهوى أو تقبل المهادنة أو أنصاف الحلول، وهذا جانب من نصيحة الشوكاني إلى طالب العلم الذي يتوجه إليه بكتابه وذلك: «أن يكون صلب الجنان ولا يهوله وما يهوله بعض الناس فإنه بهذا يرفع من شأن الحق ويكبت أعداءه.»

وقد أجمع مؤرخو الإمام محمد بن علي الشوكاني- الذي ولد عام 1173 هجرية- ومنهم بعض خصومه على جلال قدره وتعدد مواهبه ، وعلى أنه علم من أعلام النهضة والتصحيح الواعي لمفهوم الإسلام بعد أن كادت تعبث به أيدي المتعصبين والغلاة من المتمذهبين. وقد رأى فيه المعاصرون وفي مقدمتهم الدكتور أحمد أمين الذي يرى في كتابه «زعماء الإصلاح» أن عالمنا الكبير أحد قادة الإصلاح الفكري وواحد من المصلحين الذين حملوا نظرة متجددة إلى الفكر الإسلامي وآمنوا بحرية الرأي وساعدوا على الانطلاق من أسر التقاليد.

وكتاب  «أدب الطلب» موضوع الحديث والذي يعالج فيه الشوكاني أدواء عصره التي ما زالت- للأسف- أدواء عصرنا ـ صادر عن تجارب شخصية و نضال فكري مرير، وهو لذلك من أهم كتب هذا الإمام إن لم يكن أهمها، وترجع أهمية هذا الكتاب إلى أنه صورة للظروف التي عاشها الشوكاني في عصر الأحقاد والخصومات الدينية والدنيوية، ومن خلال هذا الكتاب يبرز الشوكاني مفكرًا إسلاميًّا مناضلًا ضد التعصب والنزعات المذهبية التي فرقت المسلمين وأنهكت العقيدة الإسلامية، وإن كان في بعض الصفحات قد وقع فيما نهى عنه- كما سنرى ذلك خلال هذه القراءة السريعة.

في أيَّام الشوكاني 1 قراءة في أيَّام الشوكاني (ج1)

والكتاب باختصار رغم الهفوات الصغيرة التي كنت أتمنى لو خلى منها يقدم إلينا الشوكاني خلال المواقف التالية:

أولًا: موقف المجتهد الخارج على التقليد والمحارب بكل شجاعة للاتباع الأعمى وعبادة الموتى. 

ثانيًا: موقف المفكر المؤمن بالتطور في إطار المضامين الصحيحة للإسلام. 

ثالثًا: موقف المقاوم العنيف والعنيد للتضليل المتلبس ثياب الدين، والمقاوم للدعاوى والتلبسات الناتجة عن التقليد والتعصب الأعمى. 

رابعًا: موقف المناضل الحريص على إيجاد القدوة الحسنة في مجال الحكم، والتجرد عن النزوات الشخصية والنفعية. 

خامسًا: موقف الباحث المتشدد في رسم المنهج العلمي في تناول الأحاديث وأصول التشريع مع الإحاطة العلمية بالأسانيد والمصطلحات اللغوية والدينية كالإجماع والقياس، والجرح والتعديل، والنسخ والتخصيص والتقييد… الخ. 

سادسًا: موقف القادر على اجتثاث البدع الملصقة بالإسلام زورًا وبهتانا كالتشيع للمذاهب والأشخاص وتكفير المسلمين، وإيغار صدور العامة على كل مستنير فكريًا يقصد الإطاحة به والقضاء على سمعته مما يقضي على روح النبوغ ويحد من كل نشاط فكري أو علمي.

 ولم يخرج الشوكاني صاحب كل هذه المواقف من الفراغ فقد سبقه إلى تجسيد مثل تلك المواقف عدد من قادة الفكر. وقد وجد هذا الرعيل عنتًا كبيرًا، وعانى من المتعصبين ودعاة التمسك الجامد بالمذهبية ألوانًا من القهر والاضطهاد، ومن أبرز مفكري هذا الرعيل: محمد بن ابراهيم الوزير، الحسين بن أحمد الجلال، صالح بن مهدي المقبلي، محمد بن إسماعيل الأمير، فقد كان هؤلاء الأربعة العمالقة طليعة المصلحين السابقين الى إعادة صياغة الفكر الإسلامي وكونوا بأفكارهم وبمواقفهم مدرسة أو مدارس تتخطى مستوى عصر كل منهم، وقد تحدث الشوكاني في كتابه هذا بحزنٍ مرير عن متاعبهم وما أصابهم من جور وما لحق بهم قهر ونقر: (وَانْظُر فِي أهل قطرنا فَإِنَّهُ لَا يخفى عَلَيْك حَالهم إِن كنت مِمَّن لَهُ اطلَاع عَليّ أَخْبَار النَّاس وَبحث عَن أَحْوَالهم كالسيد الإِمَام مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الْوَزير فَإِنَّهُ قَامَ دَاعيا إِلَى الدَّلِيل فِي دِيَارنَا هَذِه فِي وَقت غربَة وزمان ميل من النَّاس إِلَى التَّقْلِيد وإعراض عَن الْعَمَل بالبرهان فناله من أهل عصره من المحن مَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ مصنفاته حَتَّى ترسل عَلَيْهِ من ترسل من مشايخه برسالة حاصلها الْإِنْكَار عَلَيْهِ لما هُوَ فِيهِ من الْعَمَل بِالدَّلِيلِ وَطرح التَّقْلِيد وَقَامَ عَلَيْهِ كثير من النَّاس وثلبوه بالنظم والنثر ولم يضيره ذلك شيئًا بل نشر الله من علومه وأظهر من معارفه ما طار كل مطار. ثمَّ جَاءَ بعده مَعَ طول فصل وَبعد عهد السَّيِّد الْعَلامَة الْحسن بن أَحْمد الْجلَال والعلامة صَالح بن مهْدي المقبلي فنالا من المحن والعداوة من أهل عصرهما مما حمل الأول على استقراره في هجرة (الجراف) منعزلًا عن الناس وحمل الثاني على الارتحال إلى الحرم الشريف والاستقرار فيه حتى توفاه الله فيه ومع هذا فنشر الله من علومهما وأظهر مؤلفاتهما ما لم يكن لأحد من أهل عصرهما ما حمل الأول على استقراره في هجرة كان العصر الذي قبل عصرنا هذا السيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير وله في القيام بحجة الله والارشاد إليها وتنفير الناس عن العمل بالرأي وترغيبهم إلى علم الرواية ما هو مشهور معروف، فعاداه أهل عصره وسعوا به إلى الملوك ولم يتركوا في السعي عليه بما يضيره جهدًا وطالت بينه وبينهم المصاولة والمقاولة ولم يظفروا منه بطائل ولا نقصوه من جاه ولا مال ، ورفعه الله عليهم وجعل كلمته العليا ونشر له من المصنفات المطولة والمختصرة ما هو معلوم عند أهل هذه الديار ولم ينتشر لمعاصريه المؤذين له المبالغين في ضرره بحث من المباحث العلمية فضلًا عن رسالة، فضلًا عن مؤلَّف بسيط فهذه عادة الله في عباده فاعلمها وتيقنها. (ص ٢٧ -أدب الطلب).

من خلال الوصف الأليم لواقع الوضع الذي عاش في ظله المفكرون الأربعة، وما عاناه كل واحد فيهم من أشكال الاضطهاد نستطيع إدراك مدى الإعجاب المحفور في صدور التلميذ المصمم على السير في نفس الطريق مهما كانت العواقب، فالحياة والأفكار لا تنتصر بالجبناء ولا تقوم إلا على جسور من التعب وجبال من التضحيات!

في أيَّام الشوكاني 7 قراءة في أيَّام الشوكاني (ج1)

وبما أن الشوكاني قد اختار طريق هؤلاء العمالقة فقد كان عليه أن يوطن نفسه على أن يناله ما نالهم من الأذى، وأن يستعد للمصير المماثل لمصيرهم فعصره لم يكن ليختلف كثيرًا عن عصرهم، والتعصب الذي وقف في وجه هؤلاء لا بد أن يقف في وجهه أيضًا، وقد كان ما توقعه وما أعد له نفسه، فقد تكالبت عليه جموع المتعصبين ومجامع الجامدين وبدأت تسلقه بألسنة حداد، وتنشر على طريقه ألوانًا من العداوة والشناعة والحسد والبغضاء على حد تعبيره – وكان كلما ارتفع نجمه في سماء المعرفة ارتفعت همومه وتصاعدت موجات الكيد والانتقام: « وكان مع ذلك ترد إلي أبحاث من جماعة من أهل العلم الساكنين بصنعاء وغيرهم من أهل البلاد البعيدة والمدائن النائية فأحرر الجوابات عليهم في رسائل مستقلة ويرغب تلامذتي لتحصيل ذلك وتنتشر في الناس فإذا وقف عليه المتعصبون ورأوه يخالف ما يعتقدون استشاطوا غضبًا وعرضوا ذلك على من يرجون منه الموافقة والمساعدة فمن ثالب بلسانه و معترض بقلمه، وأنا مصمم على ما أنا فيه لا أنثني عنه ولا أميل عن الطريقة التي أنا فيها وكثيرا ما يرفعون ذلك إلى من لا علم عنده من رؤساء الدولة الذين لهم في الناس شهرة وصولة، فكان في كل حين يبلغني من ذلك العجب ويناصحني من يظهر لي المودة ومن لا تخفى عليه حقيقة ما أقوله وحقيقته اعترافهم بأن ما أسلكه هو مع ما أخذه الله على الذين حملوا الحجة لكنهم يتعلمون بأن الواجب يسقط بدون ذلك ويذكرون أحوال أهل الزمان وما هم عليه وما يخشونه من العواقب فلا أرفع لذلك رأسا ولا أعول عليه، وكنت أتصور في نفسي أن هؤلاء الذين يتعصبون علي ويشغلون أنفسهم بذكري والحط علي هم أحد رجلين إما جاهل لا يدري أنه جاهل ولا يهتدي بالهداية ولا يعرف الصواب وهذ لا يعبأ الله به أو رجل متميز له خط من علم، وحصة من فهم لكنه قد أعمى بصيرته الحسد وذهب بإنصافه حب الجاه وهذا لا ينجح فيه الدواء ولا تنفع عنده المحاسنة ولا يؤثر فيه شيء ، فما زلت على ذلك وأنا أجد المنفعة فيما يصنعونه أكثر من المضرة والمصلحة العائدة على ما أنا فيه بما هم فيه أكثر من المفسدة ) ص 29.

ولم تتوقف أساليب الإيذاء عند هذا الحد الذي حدثنا عنه الشوكاني في هذه العبارات الشاكية.

ولم يقتصر الإيذاء على الجانب النَّفسي والمعنوي من تشويه لما يقوم به من أعمال وما يصدره من فتاوى متحررة من عقال التقليد، ومن آراء لا عهد للجامدين بمثلها، بل تعدى الأمر إلى محاولة ضربه أو القضاء عليه ليرتاح أعداء التفكير من هذا الذي يحاول ولا يهدأ أن يحرك السكون ويشيع الحيوية في النصوص المنحطة.

وقد تكالبت قوى الشر من حوله وتضافر أصحاب المصالح من سياسيين ورجال دين مزيفين وأحاطوا بالمفكر الشاب من كل جانب، وهكذا فقد اشتد به البلاء وتفاقمت المحنة، ولو لم يكن قد وطن نفسه على احتمال كل أنواع الأذى والصبر حتى التضحية بالنفس لما تحمل عبث الجامدين وسخطهم وإشاعاتهم التي كانت تمسه في أعز ما يمتلك وهي عقيدته.

ولقد أصبح بين العامة كافرًا وملحدًا وزنديقًا وخارجًا عن الإسلام ومعاديًا للإمام علي كرم الله وجهه وتابعًا لمعاوية إلى آخر هذه التهم التي تزعزع وتزلزل أقوى الرجال وأصلب القلوب لكنه مع ذلك لم يتردد ولم يتراجع ولم يحدث نفسه يومًا في أن يغير من أقواله استرضاء أو مسايرة أو تبعية كما فعل ويفعل الكثيرون.

إن الحرص على رفع راية الاجتهاد عاليًا والإصلاح هدفه وغايته حتى لا يضر الجمود السائد بتعاليم الاسلام السمحة المتطورة الصالحة لكل زمان ومكان، وحتى لا ينال الدين الاسلامي من الانحراف ويصيبه من التقوقع ما أصاب المسيحية على أيدي الرهبان والقساوسة والكنيسة في القرون الوسطى، وقد أمده إيمانه هذا بشجاعة هائلة ودفعهُ إلى الاستمرار في المقاومة وعدم الرضوخ للمتعصبين والمتمذهبين مهما كانت قوتهم ومهما كان تسلطهم. وبذلك الموقف العظيم تحدى الشوكاني أمراض عصره وتشوهات معاصريه وضرب المثل الرائع في القدرة على التحدي والصمود والتضحية: وأثبت أن العلماء الحقيقيين قادرون على احتمال أشد وأعنف صنوف الاضطهاد في سبيل ترسيخ ما يؤمنون به وما يعتقدونه صوابًا وحقًا وإن أعظم العبادات كلمة حق عند سلطان جائر وأي سلطان أجور من التعصب والقضاء على حرية الفكر وامتهان كرامة الانسان والعقل؟!

في أيَّام الشوكاني 2 قراءة في أيَّام الشوكاني (ج1)

خلال الصفحات التالية المقتطفة ومن مذكرات هذا المفكر الإسلامي الجليل تتبين أبعاد المحنة التي تعرض لها ونوعًا من أساليب البطش والتنكيل اللذين صبر عليهما، وكأنه بذلك الصبر وبذلك الاحتمال إنما كان يرسم للأجيال من بعده طريقًا للإيمان الشجاع بالحق والاستهانة بما يناله الداعي في سبيل دعوته من معارضة وعدوان ويذكرنا هذا الموقف نفسه بموقف الرعيل السابق من الذي تحدث الشوكاني عن محنتهم والذين آثروا النفي والغربة والفقر والعذاب على مسايرة العامة والقبول بإغلاق باب الاجتهاد والتراجع ولو عن جزء قليل من أفكارهم المعلنة.

وإذا كان العمالقة الأربعة لأسباب ترجع إلى شراسة البيئة وسيادة الجمود قد آثروا الانسحاب من الحياة العامة كل بطريقته الخاصة فإن الشوكاني قد ثبت في الميدان ولم يحبذ الانسحاب، وتمكن بصموده الرائع وبشخصيته القوية من سد الطريق في وجه أعدائه، كما استطاع أن يستميل جانبًا كبيرًا من الجمهور الذي حدثنا عنه بأنه كان أداة جاهلة في يد الوصوليين المنتفعين وأبواق التعصب، وبذلك وحده نجا الشوكاني من مصير سابقيه، وفتح الله عليه أبواب الغلبة والانتصار، كما فتح له وبه أبواب الاجتهاد، وإن جاء ذلك متأخرًا وبعد محن هائلة ومؤامرات تشير إلى بعضها هذه الصفحات المنقولة من كتابه: «ولقد اشتد بلاهم و تفاقمت محنتهم في بعض الوقعات فقاموا قومة شيطانية، وصالوا صولة جاهلية وذلك أنه ورد إلي سؤال في شأن ما يقع من كثير من المقصرين من الذم لجماعة من الصحابة صانهم الله وغضب على من ينتهك أعراضهم المصونة، فأجبت برسالة ذكرت فيها ما كان عليه أئمة الزيدية من أهل البيت وغيرهم ونقلت إجماعهم من طرق وذكر كلمات قالها جماعة من أكابر الأئمة وظننت أن نقل إجماع أهل العلم يرفع عنهم الحماية ويردهم عن طرق الغواية فقاموا بأجمعهم وحرروا جوابات زيادة على عشرين رسالة مشتملة على الشتم والمعارضة بما لا ينفق إلا على بهيمة، واشتغلوا بتحرير ذلك وأشاعوه بين العامة ولم يجدوا عند الخاصة إلا الموافقة تقية لشرهم وفرارًا من معرتهم، وزاد الشر وتفاقم حتى أبلغوا ذلك إلى القضية عليه جماعة ممن يتصل به فمنهم من يشير عليه بحبسي ومنهم من ينتصح له بإخراجي من موطني وهو ساكت لا يلتفت إلى شيء من ذلك وقاية من الله وحماية لأهل العلم ومدافعة على القائمين بالحجة في عباده، و لم تكن لي آنذاك مداخلة لأحد من أرباب الدولة ولا اتصال، واشتد لهج الناس بهذه القضية وجعلوها حديثهم في مجامعهم ، وكان من بيني وبينهم مودة يشيرون علي بالفرار أو الاستتار وأجمع رأيهم على أني إذا لم أساعدهم على أحد الأمرين فلا أعود إلى مجالس التدريس التي كنت أدرس بها في جامع صنعاء فنظرت ما عند تلامذتي فوجدت أنفسهم قوية ورغبتهم في التدريس شديدة إلا القليل منهم فقد كادوا يستترون من الخوف ويفرون من الفزع فلم أجد لي رخصة البعد عن مجالس التدريس وعدت، وكان أول درس عاودته عند وصولي إلى الجامع في أصول الفقه بين العشاءين فانقلب من بالجامع وتركوا ما هم فيه من الدرس والتدريس ووقفوا ينظرون إلي معجبين من الإقدام على ذلك لما قد تقدر عندهم عظم الأمر وكثرة التهويل والوعيد والترهيب حتى ظنوا أنه لا يمكن البقاء في صنعاء فضلًا عن المعاودة للتدريس ثم وصل وأنا في ذلك الحال الدرس جماعة لم تجر لهم عادة بالوصول إلى الجامع وهم متلفعون بنيابهم لا يعرفون، وكانوا ينظرون إلي ويقفون قليلًا ثم يذهبون ويأتي آخرون حتى لم يبق شك مع أحد أنها لم تحصل منهم فتنة في الحال وقعت مع خروجي من الجامع فخرجت من الجامع واقفون على مواضع من طريقي ، فما سمعت من أحدهم كلمة فضلًا عن غير ذلك وعاودت الدروس كلها وتكاثر الطلبة المتميزون زيادة على ما كانوا عليه في كل فن وقد كانوا ظنوا أنه لا يستطيع أحد أن يقف بين يدي مخافة على أنفسهم من الدولة والعامة، فكان الأمر على خلاف ما ظنه، وكنت أتعجب من ذلك وأقول في نفسي هذا من صنع الله الحسن ولطفه الخفي لأن من كان الحامل له على ما وقع الحسد والمنافسة لم ينجح كيده بل كان الأمر على خلاف ما يريد.

في أيَّام الشوكاني 4 قراءة في أيَّام الشوكاني (ج1)

ومن عجيب ما أشرحه لك أنه كان في درس بالجامع بعد صلاة العشاء الآخرة في صحيح البخاري يحضره من أهل العلم الذين مقصدهم الرواية وإثبات السماع جماعة، يحضره من عامة الناس جمع جم لقصد الاستفادة بالحضور.

فسمع ذلك وزير رافضي من وزراء الدولة وكانت له صولة وقبول كلمة بحيث لا يخالفه أحد وله تعلق بأمر الأجناد فحمله ذلك على أن استدعى رجلًا من المساعدين له في مذهبه فنصب له كرسيًّا في مسجد من مساجد صنعاء ثم كان يسرج له الشمع الكثير في ذلك المسجد حتى يصير عجبا من العجب فتسامع به الناس وقصدوا إليه من كل جانب لقصد الفرجة والنظر الى ما لا عهد به، والرجل الذي على الكرسي يملي عليهم في كل وقت ما يتضمن الثلب لجماعة من الصحاب صانهم الله، ثم لم يكتف ذلك الوزير بذلك حتى أغرى جماعة من الأجناد من العبيد وغيرهم بالوصول إلي لقصد الفتنة فجاءوا وصلاة العشاء الأخيرة قائمة ودخلوا الجامع علي قال لي جماعة من معارفي أنه يحسن ترك الإملاء تلك الليلة في البخاري فلم تطب نفسي بذلك واستعنت بالله وتوكلت عليه وقعدت في المكان المعتاد وقد حضر بعض التلاميذ وبعضهم لم يحضر تلك الليلة لما شاهدوا وصول تلك الأجناد، ولما عقدت الدرس وأخذت في الإملاء، رأيت أولئك يدورون حول الحلقة من جانب إلى جانب ويقعقعون بالسلاح ويضربون سلاح بعضهم في بعض، ثم ذهبوا ولم يقع شيء بمعونة الله وفضله ووقايته» ص 30.

ذلك جانبٌ صغير مما اشتملت عليه أيام الشوكاني من إرهاب ومطاردة، وما أكثر أساليب القهر التي تعرض لها ليترك مهمة التوجيه والتعليم لم يتردد عن المهمة التي رآها حقًّا وعدلًا وواجبًا، واستطاع من خلال هذه المواقف أن يعيد تشكيل الفكر العربي الإسلامي في عصره ، وأصبح علمًا من أعلام التجديد والاجتهاد في تاريخنا الوسيط.

واستطاع كذلك أن يحمي اليمن من التمزق المذهبي وأن يجعل الطريق إلى المنابع الأصيلة في العقيدة سهلًا وممهدا أمام الأجيال التي جاءت من بعده ليس في اليمن وحدها فحسب، بل وفي مختلف الأقطار العربية على نحو ما سوف نرى في القسم الثاني.

*المقال من مجلة الإكليل، العدد الثاني،  1/ أكتوبر/ 1980م.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. يا عزيزي وإن كان الشوكاني والصنعاني والجلال وغيرهم قد اعتدلوا وابتعدوا عن التعصب إلا أنهم لم يتخلصوا من الفكر السلالي بشكل كامل ومعلوم أن الفكر السلالي هو الداء العضال لليمن واقرأ موقفهم من الوصية لعلي والوقيعة في بعض الصحابة وتبجيل أئمة الضلالة علماء الهادوية والجلال له كلام طويل في تسويغ نكاح المتعة فلا تبالغ في المدح ويكفي القول أنهم شيعة زيود معتدلون ، أما مدح عميد الكلية طه حسين الذي شكك في عروبة اليمن فهذا من العجب العجاب فهو أجنبي عن العربية والعروبة عابد للغرب فلماذا المدح ؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى