لرمضان أشواق وأشجان وتباشير وصور وذكريات تتسابقُ مع بعضها، ما إن جاءَ رمضان حتى صعدتُ إلى السَّطحِ ليلًا لأهرب من ضجيجِ المدينة الذي يحجبُ الكثير من الأشياء الجميلة ويغلقُ نوافذ التَّأمل؛ لأجد الليل ساكنًا وله عَرْفُ رمضان، وريحة أمي، ومهابة أبي، وأطياف الطفولة السَّعيدة التي ما زالت في داخلي طفلًا يرفض أن يكبر أو يشيخ ليحافظ على توازني ويحمي فرح الحياة من التَّلاشي ولعبي الجميلة من الانقراض،
ليل تزدحمُ سماؤه بالنُّجوم ويموجُ بمشاعر متداخلة مع قدوم النَّسيم يهبُّ باردًا عذبًا جميلًا منعشًا، وهل هناك أعذب من نسيم تعز؟ إنَّه قادم من الجنَّة، وله مع آدم وحواء أماسي جميلة، يحمل بين نسماته أنفاس من رحلوا وأشواقهم وأفراحهم وحنينهم.
النسيم مثالًا للوفاء واحتضان الأشجان البعيدة القادمة مع الريح وهذا الأخير يمثل خزانة أسرار لا تنتهي فيه نحيب الأيام وحنين النَّاس على فراق أفئدتهم وفيه بكاء المكان وشهقة الزَّمان وصمت القبور وفرح الولادة.
مع قدوم رمضان تستيقظ المشاعر من تراب الذِّكريات وركام الأيام وهبوب الريح بترانيم الماضي وأغاني المساء وتواشيح رمضان زماااان ليأتي سؤال يزاحمُ الذَّاكرة:
ما الذي تبقى مني، منَّا اللحظة؟ وهل لتلك اللحظة الشاردة علاقة بهذه اللحظة (الآن) الأكثر غربة وشرودًا من تلك فلا الآن الآن.. وما هو آت فات ؟؟؟!!!
وهل رمضان الذي أتى الليلة قادمًا من الفردوس، هو نفسه رمضان زمان، حيثُ الطفل ينتظره على عتبة الدَّار ليخرج مع أصحابه للفرح والقفز في (أزقة) المدينة أو (مخالف) القرية؟
حيث صوت طبل القرية الذي يضرب مؤذنًا بوقت السحور وصوت غالب سيف:
(سحور سحور والديك طار من المنارة للجدار)، ليعود إلى ذاكرة المدينة حيث مدفع علي حمود يدفع من دار النَّصر بجبل صبر عند الإفطار فيصافح الأطفال في الشوارع بأصواتهم المشبعة بالفرحة ليرددوا أغنية (دفع دفع يا علي حمود مراتك جائع قاهي شتموت) ومع بساطة الجملة فقد كانت معبرة عن جيل كامل وأجيال بعضهم ما زال يحنُّ لها اليوم لتكون أغنية الإفطار معلنة عن فرح ليلة جديدة ولعب جديد وعبادة قائمة على أسوار المظفر ومسجد الأصنج والقرشي وبقية مساجد المدينة وأصوات الباعة والمتجمعين بعد التراويح على شاهي بن عقلان والشعبي و(طرنبة) الأبي وتبختر بنات المدينة بحشمة جميلة مسرعات لغاياتهن الرمضانية كاتزان نيسان وريح الشمال.
كل ما يقوله رمضان والطفولة ودوران الزمان: إننا لا نعبث نعم لا نعبث، بل هي العودة إلى بيتنا الأولى بيت الخلود ولها أبواب ونوافذ من أقربها وأوسعها باب رمضان بطقوسه وروحه ولحظاته المكثفة ففيها ليلة خيرٌ من ألف شهر وكل أيَّام وليالي رمضان فيها روح وبركة وفرص للبذل والعطاء تحتاج من يغتنمها ويغوص في بحارها المليئة بالروح والإلهام والأسرار لمن أراد والذي تدور بمجملها حول الروح وبالروح، وما الإنسان سوى روح يا صاحبي:
(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا).