مقابسات

من سارويان إلى كاتب ناشئ

اعتبر أنك الكاتب الوحيد في العالم

هذه رسالة خاصة كتبها الكاتب العالمي وليام سارويان إلى كاتبٍ شاب كان يبعث إليه بإنتاجه غير المنشور.. والرسالة خبرة مركزة كان فيها سارويان صريحًا قاسيًا مخلصًا.. وأعتقد أنَّ في الرسالة كثيرًا مما يفيد الكتَّاب الشُّبان وربما بعض الشيوخ أيضًا..

أشكرك الشكر الجزيل على إرسالك «النَّهار والليل» التي استمتعت بقراءتها. إنها أحسن ما قرأتُ لك من قصص، بل من أحسن ما قرأتُ من قصص.. وأعتقد أنك ستمارس الكتابة من الآن فصاعدًا.. أقصد الكتابة الحقيقية.

ثمَّة أمور أنت في حاجة إلى معرفتها عن النثر، صوت الكلمات وأثرها، استعمال الترديد، وما إلى ذلك، وسأحاول شرح قصدي في هذه الرِّسالة.

لقد أبحتُ لنفسي أن أدخل بعض التَّصحيح على مسوَّدتك، فقد أحسست أنك ستفهمُ بسهولةٍ كيف يتحسن نثرك بدراسة هذا التَّصحيح. إنَّ حسنة النَّثر الأولى أن يكون واضحًا وسلسًا. ينبغي أن يفهم القارئ قصدك بالتحديد مهما كان قصدك معقدًا، فإن كنتَ لا تعرفُ بالضبط ماذا تعني (وكثيرًا ما يحسُّ الكاتب بإحساس قوي ومع ذلك يجد صعوبة في التعبير عن هذا الاحساس بوضوح)، وفي هذه الحالة عليك أن تقول للقارئ إنك لا تعرف بالتَّحديد معنى ما تريد قوله. وإلا فعليك ألا تعبر عما لا يمكن التَّعبير منه بنثرٍ سهل. ولكن ليس معنى هذا أن تظل تردد في قصتك أنك لا تعرف بالضَّبط ما تعنيه. بل عليك في مثل تلك الحالة أن توحي بذلك، والايحاء لا يأتي بصورة مباشرة، بل بشكل ضمني.

على أي حال، قلما يوجد شعور أو فكرة تبلغ من التَّعقيد والغموض حدًّا يجعلها تستعصي على التعبير الواضح، وطريقة توضيح شعور معقد هي التعرض له بتؤدة.. وتناوله بسهولة، وأن تسخو عليه بكل ما يحتاجه من ألفاظ. أترك جانبًا كل الكلمات التي لا تعبر عن معناه. أتركها لأنها إن لم تكن معبرة عما تعنيه، فهي غير موفقة، وإذا خلت منها القصة أصبحت أشد تأثيرًا.

أريد أن أخبرك بقليلٍ من المسائل، حتى تستطيع أن تمضي قدمًا في عملك، أن تكتب كل ما ينبغي لك أن تكتب، بالثقة التي ينبغي للكاتب أن يمتلكها لكي يكتب.

انسَ أنك كاتب لم ينشر له انتاجه بعد، اعتبر أنك الكاتب الوحيد في العالم. هذه المسألة في غاية الأهمية. ليس ذلك غرورًا ولا ذاتية. إنها ببساطة وجهة نظر ضرورية للكاتب الجاد. ينبغي أن تؤمن بأنك وحدك من بين كل كتَّاب العالم الذي تكتب قصة الأحياء. احرص على أن تنعم بهدوء داخلي. احرص على أن تتأمل كل الأحياء، شرها وخيرها بعينٍ صافية، احرص على أن تكون جزءًا من العالم، بقلب نقي، واحرص على أن تكون مرِحًا وأن تكون كريمًا..

واعلم أنَّ في قلب المأساة.. ثمة دائما الملهاة، وفي قلب كل ما هو شر، هناك دائمًا خير كثير. فاحرص على أن تربط في عملك بين الطرفين، احرص أن تبتسم.

وسأحاول أن أحدثك عن القصَّة وعن النَّثر عامة. تذكر كل هذه الأمور التي أقولها إنها غاية في الأهمية.

أولًا: الوضوح.. ثمَّ السلاسة، اترك نثرك ينساب بلا عناء؛ سهلًا، واترك الكلمات تمضي إلى حيث موضعها بشكل طبيعي، واقرأ مادتك بصوتك عالٍ بينما أنت تكتب وسوف تستطيع أن تدرك متى تكون الجملة أو الفقرة نشازًا. إنني واثقٌ أنك تعني شيئًا باستعمالك اللغة، شيئًا لا أعنيه أنا بها، ولا أي كاتبٍ آخر.

أريدك أن تكتب بأسلوب لم يكتبه غيرك في العالم. الكاتب الحقيقي يقدر على ذلك..

إنَّ بين جنبيك لغةً جديدةً قد لا تكون تبلورت بعد، ولكنها ستنضج إذا بدأت البداية الصحيحة فإن لم تبدأها لن تقدر على الكتابة أبدًا.

ولكي تكتب ما لم يكتبه غيرك عليك أن تذهب إلى العالم نفسه.. إلى الحياة ذاتها.. إلى حواس الجسم الحي. وأن تترجم بأسلوبك الخاص ما تراه هناك وما تسمعه وما تشمه وما تتذوقه وما تلمسه وما تتصوره وما تحلم به.. ترجم الشيء، أو الفعل، أو الفكرة، أو الحالة بلغتك الخاصة. تذكر هذا.

أريدك أن تبدأ البداية الموفقة؛ لأنك إن بدأتها فلن تستطيع قوة أن توقفك، وليس عليك بعد ذلك إلا أن تعيش.

اعتمد على نفسك وثق بما تصنعه وما تنوي أن تصنعه، يستحيل أن ينتابك الشعور بأنك مدينٌ لأحد ثم تكون كاتبًا عظيمًا. عليك أن تكون كريمًا لا نحو شخصٍ بعينه، ولكن للفكرة.. للفكرة المجردة.

أريدك أن تكتب بأسلوب لم يكتبه غيرك في العالم. الكاتب الحقيقي يقدر على ذلك.

عليك أن تكون وحيدًا، تستطيع أن تمضي بين الآخرين وأن تحادثهم وتضاحكهم. ولكن كن وحيدًا، حتى وأنت بين الآخرين، عليك أن تظل وحيدًا. وأن تكون مرهف الملاحظة أكثر من الآخرين، وأن تكون أقواهم، إنها الطريقة الوحيدة لكي تكتب شيئًا عظيمًا.

وبعد أن تقرأ هذه الرسالة، انهض وتثاءب واخرج في نزهة. قل لنفسك: ليذهب إلى الجحيم، ليذهب الجميع إلى الجحيم. عندئذ فقط ستكون قادرًا على أن تبدأ.

اعلم أنه ليس مفيدًا أن يتلقى الإنسان كلمات التشجيع، إنها معركة، إن كتابة قصة أشبه ما تكون بهزيمة عدوٍ. وهذه الرسالة مسهبة لأنني قد لا أكتب إليك غيرها إلا بعد زمنٍ طويل. أعتقد أن هذا كل ما أعرفه تقريبًا ولا أستطيع أن أقرر ما إذا كنت ستمضي في الكتابة أم لا.. ولكنه لو منعك أو أوشك أن يمنعك شيء في العالم، حرب، أو مجاعة، أو وباء، أو جوع شخصي.. فلا تكتب ولا تحاول الكتابة، انسَ الكتابة، كن موظفًا شريفًا واذهب إلى دور السينما، احلم، استيقظ ونم مثل أي شخص آخر. لأنه إذا وجد ما يمكنه أن يمنعك عن الكتابة فأنت لست كاتبًا. وسوف تردى في جحيم دوامة حتى تفيق.. تمنياتٍ طيبةً وحظًا سعيدًا.

• بتصرف من كتاب لعبة الأدب، تحرير: فتحي خليل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى