آثار

التاريخ الإسلامي كما رآه جنود نابليون

هل قرأتَ يومًا كتابًا من كُتب التُّراث العربي ثم وجدتَ نفسك متعجبًا مما يقوله الكاتب أو مما لم يقله؟ كأن تقرأ عن زواج الرَّسول صلى الله عليه وسلم من ابنة التاسعة، ثمَّ تتساءل في نفسك، كيف يمكن أن يتماشى هذا الزَّواج من طفلةٍ، مع أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أُرسِلَ رحمة للعالمين؟ أو أن تقرأ عن مِحنة خلق القرآن ثُم تتساءل في نفسك عن سبب اختلاف النَّاس في حقيقة كون القرآن مخلوقًا أو كلام الله؟ وما الفائدة من هذا الجدال أصلًا؟ هل كان النَّاس بكل هذا الترف والغباء ليتصارعوا على مسألةٍ كهذه؟ وهل كان الخليفة المأمون بهذا الاستبداد الدِّيني ليُلقي بالإمام أحمد بن حنبل في السِّجن لمجرد رفضه فكرة خلقَ القرآن؟ أن تقرأ عن ليلةِ السَّقيفة، وترى الصَّحابة يُقدمون حجج النَّسب والقرابة من رسول الله إلى جانب حجج الأسبقية في الدِّين كطريقة لإثبات شرعية خليفة رسول الله! أو أن تقرأ لابن المقفع وهو يحاول تأصيل فكرة السُّلطة المطلقة للحاكم – بعد سلطة الله ورسوله – وتتساءل في نفسك أما كان هذا الرجل حكيمًا بما فيه الكفاية ليلاحظ فكرة الاستبداد ويتعامل معها في نظريته السِّياسيَّة؟!

عندما تقرأ التَّاريخ الإسلامي إمَّا أن تخرجَ بإجاباتٍ تجعلكَ تخجل من تاريخكَ وتتمنى لو أنكَ لم تقرأه، وإما أن تتجنب الإجابات فتخرج بعلاماتِ استفهام أكثر من التي دخلتَ بها تلك المغامرة.

دراسة التَّاريخ عمل شاق، وشاقٌّ للغاية، فالتَّاريخ على أهميته عِلمٌ مرنٌ وسائل، يتأثر بعدة عوامل تحدد طبيعة السَّرد وقيمته، فالمؤرخ يضع تحيزاته الضِّمنية وغير الضمنية في كتابته للتَّاريخ، فيختار بعناية شديدة ما يورد وما يترك من سيرة موضوعٍ ما، فإن أردت أن تكتب تاريخ والدك، فلن تجد مهربًا من تجنُّبِ سماته السَّيئة والتركيز على سماته الحسنة، بشكل مقصود أو غير مقصود.  ثُم بعد أن اختار المؤرخ ما يورده من سيرة ذلكَ الموضوع، إذا هو يعطي تلك الحقائق والحوادث التي اختار سردها معاني تتناسب مع تصورات ومعتقدات ورؤى هذا المؤرخ، فصراعٌ بين مجموعتينِ من البشر سينظر إليه أي كاتبٍ شيوعي (ماركسي) على أنه صراع طبقات، وسيقرؤهُ الكاتب الفرداني (الليبرالي) على أنه صراع بين زعيميْن مؤثرين، وقد يقرؤه المتديِّن على أنه صراعٌ بين الحقِّ والباطل، ويقرؤه الملحد التَّطوري على أنه صراعٌ حيواني على الموارد من أجلِ البقاء، وهكذا فكل كاتب للتَّاريخ يقرأ الحدث التَّاريخي بعدسةِ معتقداته. وهذا لا يعني أنه من المستحيل إيجاد تاريخ مُنصِف، إلا أنَّ درجات الإنصاف تتفاوت، ودرجات الحقيقة تختلف، ومعيار الصوابية في التَّاريخ هو الإنصاف ذاته، فحينما نجد مؤرخًا قد جابه الإنصاف في سرده لتاريخ ما إما بأسطرة الموضوع التاريخي وإخراجه من نطاق البشرية أو بنقده الشَّديد لدرجة التشويه المتعمد فهنا يكون الكاتب قد خرجَ عن الإنصاف، وضعفت أهمية المادة التاريخية التي يقدمها، فالتزام الإنصاف هو التَّحدي الذي يواجهه أي دارس أو كاتب للتَّاريخ سواءً كان ذلك التاريخ تاريخًا إسلاميًّا أو غير إسلامي، فردي أو جماعي.

الإسلامي كما رآه جنود نابليون التاريخ الإسلامي كما رآه جنود نابليون

إلا أنَّ دارس التَّاريخ الإسلامي على وجه الخصوص سيعاني من مشكلةٍ أكثر تعقيدًا بكثير من مشكلة الإنصاف، وهي مُتلازمة جنود نابليون. حينما نزل جنود نابليون في ميناء الإسكندرية لأول مرة رأوا فيها أناسًا لم يروا مثلهم من قبل ولم يسمعوا عنهم إلا من قصص التُّجار والرحالة الأوربيين، ومن خطاب قائدهم نابليون حين كان يحذرهم “ستجدون هنا عادات مختلفة عن تلك الموجودة في أوروبا… الناس الذين نحن على وشك الاختلاط بينهم يختلفون عنا في معاملةِ النِّساء”، لم تكن تلك الكلمات سوى البداية لتاريخ طويل من هيمنة الأوروبي الغربي على المسلم العربي والتي من خلالها  دمَّر أو شوَّه الأوروبي الكثير من المؤسسات السياسية والاجتماعية الإسلامية فقلَّصَ دور عُلماء الأمَّة من مُشرعين قانونيين إلى مراجع يعود لها العامَّة للسؤال عن السواك والحيض والنِّفاس، وحول دور الشريعة من المركز العصبي الرئيسي (المُخ)  للمجتمع الإسلامي إلى كُتب وأحكام كُتبت في عصور قديمة تبدو بعيدة كل البعد عن الواقع الجديد، واستبدل كل ذلك بما يحتاجه لإبقاء هيمنته، مجموعة عسكرية لقمع التمردات ستستمر بأداء نفس الدور حتى بعد منحها اسمًا جديدًا “جيش وطني” بعد رحيل الأوروبي، وطبقة وسيطة من أهل البلاد تُساعده على إدارة شؤونها واستخراج مواردها ستصبح لاحقًا هي الطبقة الحاكمة التي ستتوزع بين مؤسسات نسخ هياكلها المستعمر من بلده كالبرلمان والرئاسة لتضفي طابعًا شرعيًّا لحكم ذلك الكيان الجديد الذي أُطلِقَ عليه “دولة حديثة”.

أحدثت الدولة الحديثة فاصلًا في تاريخ الأمَّة الإسلامية فصلها عن امتدادها التَّاريخي الطويل وتسبب بقطيعة حادة بين حاضرنا وماضينا، بين “حديثنا” وتراثنا، بين كينونتنا الأصيلة وبين ما فرضه علينا الأوروبي من مؤسسات سياسية واقتصادية واجتماعية، حيث لا يعاني قارئ التَّاريخ فقط من اختلاف السِّياق الزمني بين واقعه وبين الحقبة التي يقرؤها كما هو الحال في قراءة التاريخ بشكل عام، بل يعاني أيضًا من تناشز السِّياق المكاني بين واقعه وبين تاريخ تلك الحقبة، إذ إنَّ واقعه اليوم أصبح واقعًا أوروبيًّا مُشوهًا وتاريخه تاريخُ الجزيرة العربيَّة وشمال أفريقيا.

الإسلامي كما رآه جنود نابليون 3 التاريخ الإسلامي كما رآه جنود نابليون

عندما تقرأ التَّاريخ الأوروبي، لا تظهر لديك علامات استفهام كثيرة، فنحن نعيش في واقع ما هو إلا امتداد لذلك التاريخ الذي حدث في الجغرافية الأوروبية، ومن ثَّم تبدو الأمور واضحة وسهلة الفهم، فالحاضر هو امتداد للماضي بكل ما يحمله من مفاهيم وتعقيدات، فمفهوم حرية التَّعبير -على سبيل المثال- الذي يتحدث عنه السياسيِّ في أوروبا أو أمريكا – ويردده النَّاشط أو المثقف العربي- هو امتداد لما كتبه “جون ستيوارت ميل” في القرن التَّاسع عشر، وما كتبه ميل كان امتدادًا لما قاله “روسو” وما قاله روسو كان امتدادًا لما قاله “أرسطو” أو “سقراط”، إذن، حينما تقرأ لأرسطو أو لميل أو لروسو أو في التَّاريخ الإغريقي أو الروماني، يبدو كل ما يُقال ويُقرأ منطقيًّا، فأنت تعيش في واقع أنتجته أفكار هؤلاء وتاريخ اِمتدَّ من تلك الأحداث. بالمقابل حينما تقرأ لابن العربي أو ابن المقفع أو تقرأ عن حادثة خلق القرآن فعقلك غير قادر على فهم تفاصيل محورية لا تبدو منطقية من داخل واقعك الغربي الذي صنعته الدولة الأوروبية الحديثة، أنتَ في الحقيقة تقرأ التَّاريخ بعيون جنود نابليون، وتفكر من داخل إطارهم الفكري والتَّاريخي.

على سبيل المثال، عندما تقرأ في محنة خلق القرآن، فأنتَ تحتاج لاستدعاء التركيبة السياسية كاملة لذلك الزمن – التي لم تعد تشبه تركيبتنا السياسية ألبته – من نظام حكم ووضع سياسي وصراع مذهبي ومكانة المذهب في السياسة ومكانة الدين من السياسة، ومكانة الحاكم في الشريعة، ومكانة الشريعة في الحكم، ومكان القرآن في الشريعة وماهية الشريعة أصلًا، تحتاج كل ذلك لتعرف في نهاية المطاف أنَّ ذلك الجدال لم يكن جدلًا غيبيًّا (ثيولوجيا) بمعزل عن واقعهم، بل كان جدلًا يُعنى بمكانةِ الحاكم وسعة سلطته.

ولهذا فإنَّ دارسة الكثير من الأحداث والشَّخصيات والمفاهيم التَّاريخية الإسلامية تصبح عملية شاقة للغاية، فيقف قارئ المادة التاريخية أمام طريقين لا ثالثَ لهما واختيار إحدى هذيْنِ الطُّرق يعتمد على نوعية القارئ نفسه، أما الزَّائر السَّريع الذي جاء ليأخذ من التاريخ ما يؤيد به مواقفه السياسية والفكرية، فلا مانع لديه من القراءة بعيون جنود نابليون، بل قد لا يكون لديه مانع من أن يكون أحد جنود نابليون المتأخرين، فيقوم بإسقاط سياق اليوم الأوروبي “الحداثي” على ما يقرؤه، فيصل لنتائج تظهر تلك الحقبة وشخصياتها كما رآها الكثير من المستشرقين، فيصبح الرسول – صلى الله عليه وسلم – زعيمٌ قوميٌّ عسكري، وعلي بن أبي طالب قائدٌ أنانيٌّ وسياسي فاشل، وعمرو بن هشام (أبي جهل) زعيمٌ مناضلٌ وطني.

وأمَّا الباحث المُجِدّ الرَّاغب في الحقيقة، فهو يعرفُ جيدًا أنه يقرأ تاريخ أمَّة يقف كبار المؤرخين حائرين من سرعة انتشارها، وعظمة نورها، ورسوخ مبادئها وعالمية أخلاقها، فيدرك حقيقة اختلاف السياق التاريخي، وهذا ما يدفعه في رحلة طويلة وشاقة في كتب التراث في محاولة تفكيكه للسياق الحاضر واستجلاب السياق التاريخي المطلوب لاستنباط القراءة الصحيحة للتاريخ. والقراءة الصحيحة للتاريخ ليست ترفًا علميًّا، بل هي ضرورة من ضرورات نهضة الأمم، فتحسين الحاضر المُتعثر لا يمكن تحقيقه إلا بالفهم الصحيح للماضي.

المراجع:

  1. Napoleon’s Addresses: Selections from the Proclamations, Speeches and Correspondence of Napoleon Bonaparte. Edited by Ida M. Tarbell. (Boston: Joseph Knight, 1896.)

ضياء خالد

باحث في السياسات الدولية جامعة أوتاوا _كندا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى