بين الرواية والدراما:
يحدثُ أن تتمنىٰ في لحظةِ شعور مزدحمٍ بالانفعالات، مشاركة الكاتبِ في ترتيبِ النِّهاية التي توشكُ أن تصلَ إليها, وترجوها للأبطال الذين اعتنيتَ بهم في مخيلتك. لطالما غضبنا من الرِّوائي الذي خَالفَ توقعاتنا، أو بعبارة أخرى: خالفَ رغباتنا في النِّهاية التي نتمناها لمن يمثلنا في بطنِ الرِّواية!
وحده الكاتب، يخلقُ الأبطالَ والمكانَ والزَّمان، ويختار النِّهاية التي تروقُ له، بحسب الحالة الشعورية المسيطرة عليه أو فلسفته الخاصة ونحو ذلك، بإمكانه اختصار المسافات، وتحدي المستحيل، والجمع بينَ المتناقضات، لا لومَ عليه؛ لأنه يحتمي بحصنِ الإبداع، بإمكانه أن يعيدَ الغائبَ المنتظَر، وينهي فجيعة الموت، وألم الفراق، كما أنه يستطيعُ أن يتركَ الأبواب مواربة للتكهناتِ والتخيلات، ورسم الختام الذي يروي ظمأ فضولنا!
النِّهاية النموذجية النَّمطية تضفي على القارئ سطوة الانتصار المعهود في الذِّهن، عودة الحق، عودة البطل، انتصار الحب، انتهاء الظلم، زوال الظلام… لكن ثمة من يصدِمُكَ بعنف، بنهاياتٍ غير متوقعة، مقلقة، لا تلتفتُ إلى إحساسِ المتلقي وتمنياته، تهدفُ إلى إخراجكَ من دائرةِ النهايات الشَّاعرية التي يصعبُ تكررها في كلِّ حدث، وإن اجترَّها الكاتبُ اجترارًا مراعاةً لنفسيةِ وشعور القارئ, ويختلف وقعها بين الرواية المكتوبة, والفيلم المجسِّد لها, بحسب طبيعة المتلقي, وقدرته على التَّفاعل بين النَّص أو الصورة.
كنتُ أرى قبلَ مدةٍ طويلة أنَّ تحويلَ العملِ الروائي إلى (عملٍ درامي) يُميتُه ويستَّل روحه, ثمَّ وقفتُ على عملٍ روائي حُوِّلَ إلى دراما بطريقةٍ مدهشة.. لقدَ استنطقَ الرواية، وجعلَ الحضور الأدبي ظاهرًا، استطاعَ المخرج أن يجعلَ المُشاهِد يقرأُ رواية بديعة من خلالِ الصورة!
حتى الرَّمزية التي تجدها في الرِّواية، كانت حاضرة، وكذا بلاغة الحوار، وطريقة الإلقاء، جميعها تُبَشِّر بتواؤم مذهل بين العمل الروائي السردي المتكئ على القصِّ بالدرجةِ الأولى، والعمل الروائي الدرامي، الذي خرج من بوتقةِ النَّص, ليثير انفعالات المتلقي!
عدتُ إلى الروايةِ فوجدتُ أبوابًا كاملةً جُسِّدَتْ، كانَ وقْعُ الدراما في هذا العمل أقوى من المسْطُور في بَطنِ المكتوب، وهذا تطورٌ لافت – على الأقل بالنسبة لي- في تجاوز الرؤية للرِّوايةِ، لأنها ليست مجرَّد مَشَاهِد متحرِّكة فحسب، وإنما روحُ الكاتب تحلقُ معكَ، وأنتَ تشاهدُ جمعًا مذهلًا بينَ ثنائيةِ القراءةِ والمشاهدة في لحظة إدهاشٍ واحدة!
وبمقارنة خاطفة بين الرواية باعتبارها عملًا فنيًا إبداعيًا تجلى في قالبِ اللغة, والفيلم باعتباره عملًا فنيًّا يجمعُ بين الصَّوت والصورة، نكتشف طبيعة تفاعل المتلقي مع كلا النَّموذجين، لا سيما عند التركيز على إحدى الجزئيات، وهي ما يتعلق بتصور المتلقي لشخصية (البطل) في كلٍّ من الرِّواية والفيلم، إذ نجد أنَّ قارئ الرواية قد لا يكون لديه تصور واضح لحقيقةِ البطل أثناء القراءة، أو يأخذ في ذهنه تصورات متعددة, واسعة, لكنه عند مشاهدة الفيلم الذي يجسِّدها، كثيرًا ما يتفاجأ بـ”أنَّ البطل يبدو على غير ما تخيله”.
والملحظ الدقيق في هذه الرؤية المغايرة, أنَّ قارئ الرواية قادر على تصور البطل بالقياسِ إلى نفسه، وبذلك يشتمل خياله على عدد كبير من الإمكانات والرؤى، وفي اللحظة التي يتم فيها تضييق الإمكانات إلى صورة واحدة كاملة وثابتة، فإنَّ الخيال يضيق, ونشعر بأننا كنَّا مخدوعين, لقد سقطَ البطل الذي رسمناه في لحظةِ خيال, وجاء الفيلم ليضعه أمامك بصورةٍ قد تكون أكثر خفوتًا من تصوراتك التي استقيتها من تلقيكَ للبطلِ قارئًا. وهنا يكمن الفرق بينهما. كما يوحي أنَّ الفيلم قد يصل به الأمر إلى تجاوز خيال المتلقي من خلالِ طبيعة إظهار البطل بصورةٍ تتجاوز المخيال القرائي, بسببِ التفاوت بين أساس التَّخيل لصورة البطل بين قارئٍ وآخر.
اشتهاء النهايات:
في روايةِ “كفَّارة” لـ “إيان ماك إيوان” التي حُوِّلت إلى فيلم (Atonement)، كان كاتب الرِّواية سببًا حقيقيًا في مأساةِ رجلٍ وفتاة، كان سببًا في البكاء، والألم، وليالي الشِّتاءِ الباهتة، وقسوة الحرب المخيفة، كان سببًا في التفريقِ بين روحين، بدواعي الحسد، والجشع الإنساني، والرغبة في الانتقام، والانتصار للنَّفس، ولو كانَ انتصارًا وهميًّا، سرعان ما أفضى إلى عذابٍ داخليٍّ لم يتوقفُ جرَّاءَ وطأةِ الضمير!
لهذه الأسباب، لم يرد الكاتب أن يصدِمَ القارئ بنهايةٍ مظلمة، محرقة، فرمى بالحقيقة والواقع، وقدَّم نهايةً شاعرية عطفًا ومراعاةً للقارئ الذي أنهكته الأحداث منذ بدايتها، وتكفيرًا عن الأحداثِ التي كان سببًا فيها.
“يروقني أن أتخيلَ بأنني عندما أدع عاشقينِ على قيدِ الحياة، وأجمع بينهما في نهايةِ المطاف، فإنَّ ذلكَ لا يتأتى عن ضعفٍ أو مراوغة، بل إنما هو عملٌ خير من أعمالِ الإحسان، وهو موقف ضد النِّسيان واليأس”.
بهذه الخاتمة وهبَ الكاتب الحياةَ لهما، لينتهي بهما المطاف إلى السعادة، يقفانِ جنبًا إلى جنب فوق رصيف عتيق، جنوبي لندن، يتذكرانِ لحظة الخلود الأولى التي التقيا فيها.
لكنَّ الحقيقة أنَّ القدر أبى أن يجمع بين “روبي وسيسيليا” منذ افترقا في ساعةٍ متأخرة من الليل؛ بسبب وشايةٍ كاذبة، ليقضي “روبي” أربع سنوات من عمره في السجن، ثم ينتقل إلى القتال في جبهات الحروبِ القائمة عوضًا من البقاءِ خلف القضبان!
وأما “سيسيليا” فظلت تنتظره سنوات طويلة تعدُّها عدًّا، وتمني نفسها اللقاء به، وتعيش من خلال كلماته التي تصل إليها بين حينٍ وآخر، تحملها رسالة، وفي الوقتِ الذي كانَ من المفترض أن يلتقيا فيه مجددًا بعد كلِّ هاتيك السِّنين، وانتهاء الحرب، يموت “روبي” جراء تقيحات أصيبَ بها، وهو في انتظار سفينةٍ تقله إلى “البيت الخشبي” حيث تسكن “سيسيليا”، التي تموتُ وهي في ترقبٍ وانتظار، إثرَ انفجار قنبلة في محطة قطار القادمين من الحرب.
وعوضًا من هذا الختام الذي يُدمي القلب، نزَعت الرواية إلى نهايةٍ رومانسية لذيذة؛ كهبةٍ أو عطاء مستحَق لأبطالِ الرواية، وللقارئ المتوجِّس من قلقِ النهايات!
يقول كاتب الرواية في لحظة الانكشاف: “لقد منحتهما السَّعادة، لكن هذا لا يفي بالغرض كي أجعلهما يغفرانِ لي”.
مراعاة أفق انتظار القارئ وتخييبه:
الترقب ذاته يتجلى في مسلسل(Squid Game)، إذ يصيبكَ إرباكٌ داخلي، ولهاث متسارع في طرحِ الأسئلة وأنتَ تنتقل معهم من لعبةٍ لأخرى.. ثمة استقرار يصيبكَ عندما تشعر أنَّ الإطار الكلي للفكرة يسير وفق تخيلكَ للأمر..! تمضي معهم وأنتَ تدرك تمامًا أنَّ الفريق الذي يمثلُ “نقطةَ الضوء” في المسلسل، في كل مرة يكون على حافةِ الانهيار، قبيل النهاية، يجد حيلةً وينجو من الموتِ المنتَظَر، فتأنس!
وهذا هو ما يمكن أن نطلق عليه؛ مراعاة أفق انتظار القارئ أو المتلقي.. لكنَّ الذي يحدثُ أحيانًا هو خرق هذا التَّصور، من خلال سحق توقعات المتلقي وتخييبه، ومعالجته الدَّاخلية للنَّص الذي بين يديه، وإرباكه عبر توسله لوقوع الأفق الذي ينتظره من وراءِ هذا الحدث!
في لعبةٍ من ألعاب الموت التي قدَّمها المسلسل، يجعل كل فريق مكون من شخصين، هنا، يظهر “أفق التوقع” لديك أنَّ الفريق الذي تميل إليه، وعليه تدور الأحداث، سيظل متماسكًا ليتمكن جميعهم من النجاة في اللحظات الأخيرة كما هي العادة، بعد خوضهم مغامرة ساذجة تحبسُ الأنفاس، ضدَّ الآخرين الذين لا يعني لك بقاؤهم أي شيء!
لكنَّ الذي يحدثُ خلاف ذلك.. تخيب أفق انتظار المتلقي، ويشعر بحدوث خرقٍ جمالي، ونفسي، عندما تسير الأحداث عكس توقعاته أو ما يشتهيه..! حدث ذلك حين قسم اللاعبون إلى فرق مؤلفة من لاعبَيْنِ، ثم أُعلِنَ أنَّ المنافسة ستكون بين لاعبي كل فريقٍ، بحيث ينجو أحدهما ويموتُ الآخر!
تحدثُ لديك فوضىٰ من التقلباتِ غير مفهومة والتساؤلات، لأنكَ توقن أنَّ نصفَ الفريق الذي ظننتَ أنه سينجو حتىٰ النهاية.. حتمًا سيموت بعد دقائق، ثم تضع نفسك في مكانهم، وتحاول أن تتقمص الشعور العنيف الذي يعتريك في لحظةٍ كهذه, فينهار توقعك، ويجعلكَ النَّص بعد هذه الالتفافة القاسية تتوقعُ كل شيء.. بعد الخيبة التي تلقيتها.
هذا بالضبط ما يحدث لنا حين نصابُ ببعضِ الشرور، والابتلاءات، فتخيبُ لدينا التوقعات التي كانت ضمن مقاربة ذهنية نركنُ إليها، كأنَّ الكون يسير وَفْقَ توقعاتنا.. أو أنَّ هذه الدار ينبغي أن تكون دار استجابة دائمة، ومكافأة مستمرة، ولهذا، تجد بعضهم يذهل ويصيح لماذا أنا من دونِ العالمين؟! أينَ الله من كلِّ ما يحدث؟! يقول ذلك لانكسار أفق التوقع لديه، وخروج النَّص عن الفكرة التي يراها للحياة..!
ومثل ذلك يحدثُ في علاقاتنا المتعددة، نوسعُ من دائرة ما نتمناه وفقَ تصوراتنا، وننتظر في كل مرة أن يسير الأمر كنمطٍ ثابتٍ لا يتغير.. فإذا ما أصابتنا الخيبة بفعل توقعاتنا التي لم تتحقق، عوضًا من التأقلم مع الانتقال الذي حدث في بنية العلاقة، وتطوراتها، ثمَّ البناء وفق المتاح، نسمحُ لأنفسنا بالبكاء طويلًا على الأفق المنصرم الذي لم يكتمل كما رسمناه في لحظةٍ حالمة! وهذا المعنى إحدى تجليات التفاعل مع النص المفضي لبناءِ المعنى, وثمرة من ثمارِ التَّلقي!
العبقرية بين النَّص والصورة:
تمكَّن الأديب البارع وليد سيف من كتابةِ الحياة والتَّاريخ بعبقريةٍ فذَّة, التقت مع أفقِ المخرج حاتم علي, ليتشكَّل على أيديهما نموذجٌ فريد تجلى في بطنِ الكتاب, والصورة المجسِّدة لدهشةِ المسطور, وعندما رحلَ أحد طرفي الإبداع, حاتم علي, داهمني إحساسٌ جارف أنَّ رحيله مثَّل غرقًا لسفينةِ الفنّ العبقري.. وانتهتْ أحلامنا الكبيرة.. وذبلت المرايا، “فصولنا الأربعة” باتت خريفًا.. وتغريبتنا الفلسطينية أصبحت تغريبةً روحية.. كُسِر قلم الحمرة، احترقَ الغفران، وسطا الشِّتاء على “ربيع قرطبة، وعاد “ملوك الطوائف، واختفى عدْل عمر.. ومات الزِّير سالم”.
كنا ننتظرُ الجزء الأخير من رباعيةِ الأندلس، رباعية ترومُ التَّمام, سقوط غرناطة، أو الأيام الأخيرة لـ غرناطة، لكنَّ الموت لم يترك له فرصة الإتمام.. لقد ذهبَ حاتم دون أن يضعنا في صورةِ السقوط المدوِّي لإحدى حواضر العالم، كأنَّ قلبه لم يحتمل أن يجسِّد السُّقوط الكبير، لم يتمكَّن أن يضعنا في تغريبة أخرى بعد أن أمضَّتْه التغريبة الأولى، هل كان يعلمُ أننا اليوم نبكي سقوط غرناطة، ورحيل حاتم، حاتم “صلاح الدين”، حاتم الفلسطيني، حاتم الألق الموشَّح برداءٍ أندلسي، وحاتم الجَمال، المتشبِع بفخامةِ الفصحىٰ على لسانٍ مغربيٍّ عابر في رياضِ قرطبة، وحاتم التَّاريخ، والقِيم، والإنسان، والذِّكرى!
هذا التأثير الذي تحدثه الرِّواية, والدراما في نفسِ المتلقي, يتجلَّى في قدرةِ التَّناول من قِبَل القارئ, وتفاعله مع المقروء أو الصورة المشاهَدَة, وخلق قراءةٍ موازية, من صلبها, يتمكَّن القارئ من خلالها من بناءِ المعنى, وتوسيع فضاء الخيال, واستنطاق المسكوت عنه؛ ليتحقَّق نموذج التَّفاعل بين المتلقي والنَّص.
مقال ممتع ورائع