أدب

قراءة في رواية “فيرونيكا تقرر أن تموت”

أحب المدرسة منذ صباه، ولأنه أراد الالتحاق بها قبل بلوغه السن القانونيّة؛ عمد والده إلى تغيير مولده في السجلات الرسمية، وكان لا يروقه المُكث في البيت يوم الجمعة، ولفرط ولعه بالقراءة ساوره الأرق ولم يتجاوز بعد 14 من عمره، دخل إثر ذلك مصحة ابن رشد النفسية حتى كانت اللحظة التي قلبت حياته رأسها على عقب.

اعتُقل عام 1985 لمحاولته الهرب إلى إيران.. نعم (الهرب وإيران)، تهمتان ليس في القانون العراقي حينها إلا الإعدام لمن ثبت عليه الحكمُ فيهما.. فما العمل؟ ادعى الجنون.. ولسنوات عديدة وتحت أعين الأمن العراقي، قبل أن ينقل بفضل ذبابة كما يقول في كتابه “أيام الجنون والعسل” إلى مستشفى الشماعية في بغداد، والذي هرب منهُ في فوضى عام 1991.. ليس هذا الرجل إلا الناقد العراقي خضيّر ميري الذي خدع عتاة المخابرات العراقية بلا عقل!

في صفحاتها الأولى.. أدركتُ وأنا أقرأ رواية “فيرونيكا تقرر أن تموت” للكاتب البرازيلي باولو كويلو؛ أنني أمام نص سرديّ تناغمت فيه مقادير الدهاء الدرامي وعمق التجربة الإنسانية والثقافة الموسوعية، فبعد مطالعتي لرائعته “الخيميائي” قبل سنوات خلت؛ تأتي هذه لتدعم حظوظ الكاتب البرازيلي عندي ليكون من الراسخين في فنِّ الرواية.

تدور القصة حول الفتاة تدعى فيرونيكا 24 عامًا، والتي تقيم في لوبلانا بسلوفينيا، تقرر الفتاة التي لا ينقصها شيء من مباهج الحياة أن تضع حدًّا لهذا الفراغ الداخلي الذي يجتاحها، فبعد تنظيف غرفتها المستأجرة في أحد الأديرة وإطفاء التدفئة؛ تقرر الانتحار بتناول كمية كبيرة من الأقراص المنومة، ولتزجية الوقت لحين وقوع أجلها؛ تلقّفت مجلة كانت على مقربة من سريرها، فوجدت فيها مقالة بعنوان أين تقع سلوفينيا؟

تقرر الفتاة كتابة رسالة إلى المجلة، مدعية فيها أن انتحارها سببه أنَّ الناس لا يعرفون أين تقع سلوفينيا، ولكن خطتها قد باءت بالفشل، لتستيقظ في مستشفى فيليت للأمراض العقلية، حينها أُبلغت بأنَّ لديها أسبوعًا واحدًا لتعيشه، فقد تعرَّضَ قلبها لكمية كبيرة من السموم إثر محاولتها الانتحار، لتبدأ من هنا اكتشاف عالم جديد وشخوص متنوعة الأمزجة والتَّجرِبة من نزلاء المستشفى.

كان حضورها في فيليت؛ هالة أثرت في كل النزلاء، ولا سيما زيدكا المكتئبة والحكيمة، وماري “المحامية اللامعة” التي تعاني من الخوف المرضي، وإدوارد ابن العائلة المرموقة، والذي كان والده سفيرًا في الولايات المتحدة، والذي كان أخشى ما يخشاه تسرب الخبر بأنَّ ابنه ملتاث عقليًّا. فهو كما يقول: “إنَّ الدبلوماسية هي أن تظهر دائما بصورة مناسبة أمام الآخرين”.

أحب إدوارد فيرونيكا وأحبته؛ وتناثرت في أروقة المستشفى أخبار العاشقين الشابين، وحين يُسرّ إدوارد _ الذي عُرف بصمته الدَّائم _ إلى أحد الموظفين قائلًا: “أريد مغادرة فيليت.. علي الاهتمام ببعض الأمور”.. تعلن حالة من الطوارئ بين الحراس، ليجر الشاب إلى جلسة للصعق الكهربائي، والتي غايتها التأثير في الذاكرة القريبة لعل الشاب يذهل عن نيّته التي أفصح عنها.

في ذلك يقول خضيّر ميري في أيام الجنون والعسل الذي أودع فيه يومياته في مستشفى ابن رشد والذي تعرض فيه لجلسات مطولة من الصعق بالكهرباء: “اكتشاف الكهرباء هو أكبر درس في التنوير في تاريخ البشرية، ولم يخطر ببال مخترعها أنها ستكون أسوء الطرق في إصلاح العقل والعبث بخلاياه”.

وحول مفهوم الغربة والنفي اللذين رافقاه سنين بقائه في المشفى يقول ميري: “عليك أن تبني نفسك من جديد، محرومًا من مصادر العيش، لا تملك العلاقات التي تساعدك في تأسيس ذاتك.. النفي هو الإبعاد إلى اللامكان، وهو يعادل السِّجن في مكانٍ محدَّد، السجن أكبر دكتاتوريّة ليس فقط عرفها الإنسان.. بل ساهم في صناعتها، ولقد وجدت شيئًا ثمينًا في المستشفى؛ إنها المكان الذي أقول فيه ما أشاء وقتما أشاء دون أن أخشى اتهامي بالجنون!”.

في سياق غير بعيد كان ميشيل فوكو هو الآخر مشغولا بهذه القضية، فالسجنُ عنده هو التجلي الناصع لمفهوم مؤسسة السلطة، ومن أراد الوقوف على حقيقتها ما عليه إلا أن يمعن النظر في مؤسساتها العقابية.

يعرف فوكو الثقافة بأنها مجموعة من القيم المترابطة تتسم بدرجة معينة من التعميم ، وتظهر في ممارسات فردية وجماعية معينة، وهي الأولية التي تنهل منها السلطة ممارساتها.. وفي ملمح شديد الدقة يقول: “مؤسسات الدولة أُنشئت لتنتج وتصدر عددًا من القرارات، وأعتقد بأنَّ ممارسة السلطة السياسية تتم كذلك عبر عدد آخر من المؤسسات التي تتظاهر بأنها لا تملك مشتركا مع السلطة، مؤكدة استقلاليتها عنها، مثل التي تبدو وكأنها تنشر المعرفة فقط، وفي حقيقتها أنها قد صنعت للمحافظة على طبقة اجتماعية معينة في موقع القوة، وكذلك مؤسسات المعرفة والرعاية كالطب والمتعلقة كذلك بالطب النفسي، والمهمة الحقيقية هي نقدها ونزع النقاب عن العنف التي تتضمنه، ومن غير ذلك فإننا نغامر بأن نرى سلطة هذه الطبقة تعيد إنتاج نفسها”.

تعود إلى فيرونيكا جذوة الحياة بعد إدراكها في خريف عمرها، أن في الحياة “أشخاصا وتجارب وأشياء تستحق أن يمر بها الإنسان، على سذاجتها وبساطتها”، وتحررت داخل جدران المستشفى من خطاب نفسي هيمن على فهمها وشكل نظرتها للكون، وتمثّلت مساعدتها لأدوارد، جرعة أمل انتشلتها من قاع الإحباط، وهو الشعور الذي يلاحظ القارئ أنه المحرك الرئيس لأحداث الرواية.. ولكن هل يسعفها الوقت؟

_ كم تبقى لي من الوقت؟

– 24 ساعة، أو ربما أقل.

– أود أن تسديني خدمتين، الأولى أن تعطيني دواء أو حقنة أو أي شيء آخر كي أظل مستيقظة لأستمتع بكل لحظة متبقية في من الحياة، مع أنني مرهقة جدًّا. لكنني لا أريد أن أنام. لدي الكثير لأفعله، أمور لطالما أرجأتها إلى أجلٍ لاحق عندما كنتُ أعتقد أنَّ الحياة باهتة، وفقدتُ اهتمامي بها عندما ظننتُ أنها غير جديرة بأن تُعاش.

– ما الخدمة الثانية؟

– أريد أن أغادر المستشفى كي أموت في الخارج. أريد زيارة قصر ليجو بليجانا. لكم مضى من الزمن عليه، لكنني لم أمتلك الفضول لمشاهدته، أريد التحدث إلى المرأة التي تبيع الكستناء شتاءً، والأزهار في الربيع. غالبًا ما جمعتني الدرب بها ولم أسألها يومًا عن حالها. وأريد أن أخرج من دون سترة، كي أجرب الشعور بالبرد القارس. أنا التي كانت على الدوام، تتدثر بالملابس، خشية الإصابة بالرشح.. باختصار يا دكتور إيغور؛ أريد أن أُحسّ بالمطر يلسع وجهي”.

ستعيش فيرونيكا لتدرك أنها ماتت ليس بعلة في القلب كما أخبرها الطبيب، ستدرك ذلك بعد أن تجاوزت الأسوار التي حالت بينها وبين ما في الحياة من أشياء ومواقف وأشخاص جديرة بأن تسجل في الذَّاكرة، وسيكون كل يوم معجزة حقيقية تكسر توقعها اليومي باقتراب النهاية.

نهاية حكيمة لترميم ما تشظى من روح مفرغة من كل شيء، دون أن أتجاوز الاستدعاء التلقائي لفصل من حياة الناقد العراقي خضيّر ميري الذي لاحت لي مخائله وأنا أقرأ هذه الرواية، والذي دُهش _ عقب خروجه للحياة _ من إهمال وتنكّر أبداهما الوسط الثقافي في بلده العراق فيمّم القاهرة التي فتحت له ذراعيها ترحيبًا ورعاية.

من الدروس المستفادة الذي تقدمها هذه السيرة الثنائية؛ هو أننا نقرأ ونسمع عن أناس رمتهم الحياة بأقسى صروفها، ولكن أن نتتبّع يومياتهم ونشهد كيف لم يتوقفوا ولم يفقدوا إيمانهم، وكيف جمعوا عدّتهم في معاركهم هذه.. فذلك شيء مختلف تمامًا.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى