فكر

“الإلحاد في مواجهة نفسه” .. رصاصة الرحمة في صدر الإلحاد

تصطخب الساحة الفكرية العربية الآن بخضمٍّ من الأفكار والرؤى والتنظيرات؛ التي تُعرض بحُرية تلقائية، دون أية مراقبة، في قنوات عديدة؛ أهمها: الفضاء الإلكتروني، ومواقع التواصل الاجتماعي، جوارَ الأشكال الاعتيادية مثل الكُتُب والمقالات، والإعلام المرئي. هذه الحرية المطلقة التي تسمح لكُلِّ أحد بثَّ ما يريد بين الناس، خلقت أنماطًا من “فوضى الفكر” في المجتمع العربي، وأتاحت حالة من السِّجاليَّة والجدليَّة على نطاق الرأي العام في موضوعات؛ كان طرحها مقصورًا على النُّخب العربية في الكتب والمدونات والمجلات المتخصصة.

غالب هذه الأفكار والتنظيرات -على صعيد الفكر-؛ صراعات مُعلَّبة مستوردة من الخارج -خاصةً الغربي منه-، تُبذر في الأرضية العربية؛ لتصير بمرور السنوات هذه البذور أشجارًا تكبر شيئًا فشيئًا، لتملأ الأُفق. وقد امتازت هذه الجدالات بالكثير من التساهُل في رؤية الموضوعات، والتعميم في النتائج، وقصور الفهم لأصل المقولات المطروحة. هذه وغيرها نتائج طبيعية لطرح مثل هذه الموضوعات في بيئة مفتوحة -أيْ على الجمهور العام-، مع عدم تبيُّن معانيها، وفي سياقات تمتاز بالانحياز والاستقطاب الشديدين.

ومن هذا المنطلق، أكرر قولي من أن الفلسفة الإسلامية هي زعيمة هذا العصر؛ فإنه عصر صراعات مع لُجج الأفكار والمذاهب. وآن للفلسفة الإسلامية أن تقوم بدورها، وأن ينبري لهذا الدور مَن يملك أهلية حقيقية له. ومن هذا المنطلق أيضًا، تأتي أهمية الطروحِ الجادةِ التي تعي معنى الفكر، ومبادئ وأصول الخوض فيه، وذاتِ العلم والدراية بما تتناوله من مقولات. وعليه، جاء هذا المقال ليبحث إحدى أحدث التجارب الفكرية في السجال الفكري العربي؛ وهو كتاب ” الإلحاد في مواجهة نفسه”، للباحث د/ سامي عامري.

امتاز هذا الكتاب بعدد من المميزات التي تجعله جديرًا بالدرس والفحص، لعلَّ أولها هي اختياره لأحد أكبر الموضوعات الفكرية، التي يصنفها المسلمون -والمؤمنون بإله جميعًا- خطرًا أعظم؛ وهي الإلحاد، خاصةً الموجة الإلحادية الجديدة، التي تُسمَّى “الإلحاد الجديد”. وفي هذا المقال، المقسَّم إلى قسمين؛ سأركز في قسمه الأول على فحص تجربة المؤلف بعُمق، والكشف عن منهجه، وعن قيمة التجربة في الحجاج العربي المعاصر. ثم أعرض مناقشًا بعض ملامح المشكلة الإلحادية على هامش موضوع الكتاب. وفي القسم الآخر سأعرض الكتاب عرضًا مفصلًا، جامعًا كل أفكاره في أخصر حيز ممكن. وقد اهتممت بهذا الفعل الشمولي -رغم الجهد الجهيد فيه- خدمةً لهذه التجربة الجادة في الفكر العربي الإسلامي المعاصر، وكي أتيح للقارئ إمكانية رؤية القسم التنظيري الأول -وهو ثلثا المقال-، في حيزه التطبيقي في الكتاب.

وإني -إذ أقدم هذه التجربة العلمية الفكرية للجمهور العربي- يضيرني أن أكون أول من كتب عن الكتاب، رغم مرور عامين على صدوره. فليس حوله أية مقالات علمية، أوعامة، أو صحفية. ولم أجد إلا خمسة من المقاطع المصورة (على موقع يوتيوب)، التي تحاول أن تتعاطى مع الكتاب بشكل ابتدائي. وهنا، أحث بقية أهل العلم والفكر على تناول هذه التجربة، وعلى تناول غيرها من التجارب الفكرية الحديثة؛ وأحث الجمهور على الاهتمام بما يكتب من كُتُب ومقالات، ونقل النقاش عنه إلى حيوز مجتمعهم؛ فإن أصحاب هذه التجارب الكتابية (الكتب والمقالات) لا يكتبونها ليزينوا بها الأدراج أو مكتبات الأفراد الذين اقتنوها، ويكون مقابلها صمت القبور؛ بل ليُحدثوا بها حراكًا في الحياة الثقافية والعامة، وليطرحوها للنقاش العميق في أوسع نطاق.

· ما هو كتاب "الإلحاد في مواجهة نفسه"؟

العنوان الكامل للكتاب “الإلحاد في مواجهة نفسه؛ حقيقة الإلحاد على ألسنة فلاسفته ورموزه”. صدر الكتاب عن “مركز رواسخ” بالكويت، عام 2021م. وصدرت طبعته الثالثة (التي اعتمدت عليها في هذا المقال) في العام نفسه. ويتناول الكتاب موضوع الإلحاد الجديد بالنقد. ويقع في 163 صفحة، وقدر المتن المعلوماتي منه (أيْ دون المراجع وأوراق البيانات للناشر) 140 صفحة. مُوزعة على فصل ابتدائي، ثم ستة محاور نقاشية، ثم خاتمة. والكتاب ينتمي إلى جنس المعارك الفكرية، في موضوع جدل الإيمان والإلحاد.

والمؤلف هو الباحث د/ سامي عامري، تونسي الجنسية، باحث في مقارنة الأديان. وله الكثير من الكُتُب في حقل تخصصه، وفي المُشكلات الفلسفية المشتبكة مع الإسلام. مثل “العالمانية طاعون العصر”، “الوجود التاريخي للأنبياء”، “النسوية الإسلامية بين الانسلاخ والتلفيق”، “فمَن خلق الله؟”، “مشكلة الشر ووجود الله”، “براهين وجود الله”. وهو واحد من أنشط الفاعلين في المجال الفكري الإسلامي في السنوات الأخيرة.

· الغلاف البديع للكتاب

“العين تشتري قبل اليد” هذه المقولة من أصدق المقولات في عالم التسويق. ومن هذا المعنى، تأتي أهمية جاذبية غلاف أي كتاب. وغلاف كتابنا بديع حقًّا، ومُعبِّر صادق عن العنوان وعن فحوى الكتاب. فهذه الفضاءات الملوَّنة بالأزرق التي تشبه السديم غير المتناهي، بهذا التصور للكون الفسيح الذي نغرق فيه -نحن الكائنات الضعيفة التي لا قيمة لها أمامه-؛ تعبر عن مقولات في الأُفُق الإلحادي المعاصر. وحرف A باللغة الإنجليزية الذي يتمركز دائرةً، يعبِّر عن كلمة الإلحاد بالإنجليزية (Atheism)، وصبغها باللون الأحمر دلالةً على الحظر والمنع والخطر. وفوقها العنوان باللون الأبيض -غالبًا لعنصر المفارقة والمباينة الذي يوضح العنوان من لونَيْ الغلاف تحته-، وطباعة الكتابة على الغلاف بالخط البارز. كما أن الغلاف طبقته الخارجية ملمسها قُماشيّ (شمواه)، وليست كالأغلفة الكرتونية الاعتيادية.

كل هذه العناصر جاءت من فنان حقيقيّ، عرف موضوع الكتاب، ثم استوعبه، ثم مزج عناصر تصميمه. ولا أعرف اسمه لأن دار النشر حجبته عنا، وهو غمط للحق الأدبيّ لهذا الفنان، مع أنه مُشارك في الكتاب، بل أول المُشاركين فيه. وأرجو أن تعيد الدار النظر، وتكتب اسمه تحت اسم المؤلف في صفحة البيانات. قد يبدو الموضوع هامشيًّا، لكنه ليس كذلك، وقد أردت أن أحفظ حق الفنان في عمله، وأشيد به.

في مواجهة نفسه .. رصاصة الرحمة في صدر الإلحاد "الإلحاد في مواجهة نفسه" .. رصاصة الرحمة في صدر الإلحاد

· كتاب الإلحاد والحجاج العربي الحاليّ

إشارةً إلى المقدمة، دخلتْ الكثير من المذاهب الفلسفية وتعضيداتها العلمية الساحة الفكرية العربيَّة؛ خالقةً حالة من “فوضى المَقولات” التي تخلخل المُكوِّن العربي الإسلامي المسيطر على الفكر العربي. هذه الحال من فوضى المقولات تغزو كل المستويات؛ لأنها تُقدَّم في قنوات اتصال مفتوحة، وتُعرض بشكل شعبيّ؛ لا فلسفي أو علمي جاد. ومثل هذه الحال أرض خصبة لإحداث تغيُّرات جذرية في المكوِّن العربي الفكري الرئيس؛ خاصةً على صعيد الأجيال الناشئة والشابة، التي هي أشدّ حركيَّةً ونزوعًا نحو المعرفة والتكوين، وقيم التجديد والثورية.

لهذا، تعظُمُ قيمة الأطروحات التي تُفكِّك هذه المقولات الوافدة، وتفندها، وتعمل على تحديد موقف منها في ضوء معطيات الفكر العربي الإسلامي الأساسية. لكنْ، تقابلنا بعض العقبات؛ أهمُّها القصور في تلك الأطروحات، الذي ينبع عن قلة فهم المقولات الوافدة، أو نقص الخبرة بالمجال الفكري والفلسفي وطبيعة التعامل فيه ومعه، أو العجز عن مجابهة المقولات، واللجوء إلى ضجيج وصراخ حاد بلا بينة من جانب، أو إظهار ضحالة فكرية وعلمية أقرب إلى حد الفقر المدقع من جانب آخر.

وفي هذا الإطار، نجد أطروحة كتاب “الإلحاد في مواجهة نفسه” تمتاز بميزات، تجعلها إضافةً لحالة الحجاج العربي؛ فهي من مُتخصص في الفكر والفلسفة (علم مقارنة الأديان أحد أفراد ترسانة العلوم والمعارف التي تسمى بالفلسفة الإسلامية، وتدخل تحت الأقسام المماثلة في محلات البحث الغربي)، وهي تعتمد على استقراء الحالة الإلحادية -محل البحث- في مظانها وبيئتها الطبيعية الغربية، وبلُغاتها الأصيلة لا نُسخها المُترجمة، وتقف على مناهج وأساليب الحجاج بدرجاتها، مُنوعةً إيَّاها في مناقشة الظاهرة الإلحادية (للمنهج كلام مفصل قادم). وتمتاز بالاحترافية الفكرية، ومُخاطبة كافة الملحدين المتحدثين بالعربية، أو المؤمنين المُستشرفين للقضية الإلحادية. وهي ليست طرحًا تأسيسيًّا ابتدائيًّا (أيْ تكلف بتعريف الأشياء من البدء لمَن لا يعرف شيئًا عن محل النقاش)، بل هي طرح خائض في النقاش مُتعدٍّ إجرائية التأسيس، مشتبك مع محل النقاش بالمباشرة.

تقوم الأطروحة كلها -فصلها التقديمي ومحاورها الستة- على تحقيق وإثبات منطقية قضية “الإلحاد فرض مستحيل التحقق”؛ أيْ إلحاق حُكم الاستحالة العقلي بمقولة الإلحاد الإجمالية. وهي ليست في هذا سابقة أو جديدة؛ فهناك الكثير من الكتب والمقالات تمحورت حول هذا الفرض؛ كما أن محاور التحقيق فيها التي بحثتها الأطروحة في محاولة الوصول إلى يقينية الفرض المقدَّم “استحالة الإلحاد”، وهي محاور (الإنسان، العقل، حرية الإرادة، المعنى، الأخلاق، الجمال)؛ كلها محاور موجودة سابقًا مبحوثة في النقاش العربي والعالمي، بل هي المحاور الأساس في النقاش الفلسفي الجاد مع الإلحاد. وهنا نطرح سؤالًا عن ما هو الجديد في الأطروحة إذا كان الفرض ومحاور النقاش موجودين سابقًا؟ .. الجواب أن الأسبقية في الطرح لا تعني الشيء الكثير في النقاش الفلسفي أو العلمي؛ وبالقطع، كل الموضوعات الفلسفية تُحُدِّث فيها من قبل، فهل كان كلام اللاحقين المتحدثين -مثلًا- عن قضية الحرية الجبر به نقص لسبقه من غيرهم؟ لا قطعًا.

المُعوَّل عليه في الحيوز الفلسفية والعلمية هو قوة الطرح الرئيس، وصحة النسق الداخلي، واستقامة التراتبية وصولًا للهدف من الطرح. هذا هو محكّ النظر إلى أيَّة أطروحة، وهذا ما جعل التنظير الفلسفي والعلمي يثمن جهودًا ثواني (أيْ ليست أول جهد في طرح أية قضية) على الجهد الأول السابق زمنًا. وفضلًا عمَّا سقته أعلاه من مميزات للأطروحة -وما سأكمله طوال المقال-؛ فيبدو من الهام إدراج أنها تابعت أحدث صيحات الإلحاد، وغالب المنقول فيها عن أناس يعيشون بيننا الآن، أو ماتوا منذ سنين قليلة. وهذا يُطوِّر النظر الحجاجي العربي؛ الذي ما زال يعاني من قضية تحديث الترجمات للطروح الجديدة في العالم أجمع -رغم أنه لا يكترث إلا بالعالم الغربي وثقافته فقط-.

ومنظور الحجاج وأُفُقه في الأطروحة فلسفي؛ رغم أن النقاش في المحاور الستة التي حددتها الأطروحة لمناقشة الظاهرة الإلحادية نابع من نظرية التطور الدارويني، مبدوءٌ كلُّ محور منها بهذه النظرية والمقولة النهائية لروادها في المحور المحدد. وما هذا الأُفُق الحجاجي ردٌّ بفلسفة على علم، بل رد بفلسفة على فلسفة؛ فليست المقولات التي نتجت عن نظرية التطور -أو أضيفت لها- علمية، بل هي مقولات وتنظيرات فلسفية، مفارقة لمبدأ العلمية موضوعًا ومنهجًا. فأنْ أقول إن الطائر س يشبه الطائر ص شيء، وأن أستنتج من هذا نتيجة عملاقة؛ كأنْ تصدُرَ الأحياء صدورًا واحدًا، غير مقصود وغير هادف شيء آخر تمامًا لا يقرب للأول. لهذا كان الأُفُق والمنظور الفلسفي الذي اتخذ في الأطروحة هو الصحيح في هذا الحيز، مع الانتقال من المبدأ العلمي إلى المبدأ الفلسفي.

والبائن من الكتاب أن المؤلف أراد أصالةً نقد الموجة الإلحادية الجديدة أو الإلحاد العلميّ التطوُّريّ؛ فغالب الأطروحة -المحاور الستة- منصب عليها، ومُؤسَّس على مقولاتها، ومُناقش لأعلامها (كما سيرد في القسم الآخر). لكنه أراد الإحاطة بالفكرة الإلحادية قديمها وجديدها باستخدام منطق الإلزام، وبالتأكيد على أن مُحصّلة المقدمات -بغض النظر عن اختلافها- مُفضٍّ إلى الطبيعة المادية للإنسان والكون، وانحصار التصور الأكمل للحياة فيها. ولم يظهر نقاش موسَّع للإلحاد في مبدئه الأوَّل إلا في الفصل الأول، ولم يظهر نفر من أعلام الإلحاد الفلسفي القديم الذين يعرفهم العالم العربي والعالم أجمع، والذين يذهب إليهم الذهن إنْ ذكرنا كلمة إلحاد؛ إلا في الجزء الأخير من محور “نهاية معنى وغيبة غاية”، تحت عنوان “من معنى الحياة إلى معنى في الحياة”.

وكذا فالطرح كله مُناقش للمذهب الإلحادي الغربي، وكامل المنقول عنهم غربيون (أوربيون أو من أمريكا الشمالية). وهذا الاختيار والتحييز لمناط النقاش لا يُخرج التجربة عن حيز الحجاج العربي؛ بل هو في صلبها. فغالب المذاهب الإلحادية منقول إلينا، وكذا النظريات العلمية التي شكَّلت عمادها منقولة إلينا، وغالب الأعلام المُؤثرين -كريتشارد دوكنز، وسام هاريس، و…- يتجاوز تأثيرهم بالمباشرة أو بغير المُباشرة إلى عالمنا العربي، ويؤثر في حالة الحجاج فيه، بل كان عاملًا فاعلًا بحقٍّ في السنوات الفائتة حتى اللحظة.

ومن هذا النهج في التجربة الحجاجية لكتاب الإلحاد؛ نؤكد على صفة التلاقح الثقافي فيها، حيث ما ينتهجه المؤلف هو محاكاة للأطاريح التي ينقضها، وجميعها أطاريح غربية، تحمل جينات الفكر والعلم الغربيين. وتجربة كتاب الإلحاد تحاكي وتتلاقى -بل تتناصّ في سمات- مع ما تنقضه؛ ولعلَّ هذه المحاكاة من سمات الفكر العربي الحديث بقانون التأثير والتأثر الطبعيّ عند البشر -خاصةً بين مُصدِّر الخطاب ومُستقبله-. لكن ما في هذه التجربة -ومثيلاتها[1]- هو الوقوف عند حد نظريتها الإسلامية والالتزام بها؛ لا الانسياح والتماهي كما في الخطاب العربي العام الموسوم بالانصياع لمُؤثِّره الغربيّ.

وفي هذا السياق، أثمِّن جهود الفئة الثقافية التي ينتمي إليها المؤلف؛ هؤلاء الذين يمتلكون عددًا من اللغات الأجنبية -وهي ميزة إضافية ليست لازمة للمثقف، لكنها تعطيه المزايا العديدة-، وبعضهم يعيش في الغرب نفسه. لكنهم يتفردون عن أبناء الوطن العربي المتميزين بمثل هذه المؤهِّلات؛ أنهم مخلصون للتكوين العربي الإسلامي. وهذه الفئة الثقافية مفيدة أشد الفائدة في الحراك الفكري العربي القائم؛ حيث من جهة يمتلكون مُكونًا حركيًّا يسمح لهم أن يكونوا عناصر التلاقي -وواقع عليهم التأثير بالفعل- بين الثقافتين، ومن أخرى يمتلكون تلك البنية الصلبة التي تربطهم ربطًا بالمُكوِّن الرئيس للثقافة العربية. وأدعو أن تستمر جهودهم الترجمية والبحثية في قادم السنوات؛ مواجهةً النقل العبثي الفوضوي للحضارة الغربية إلينا[2].

ظلَّ عماد الحجاج في الأطروحة كاملةً أقوال فلاسفة الإلحاد ورموزه. ومن هذا نجد ميلها للإلحاد النُّخَبيّ، وتجاهلها المستوى الشعبي (الذي يفضل المؤلف والبعض تسميته بالشعبويّ) من الإلحاد. وسبب ذلك في الظاهر؛ أنه مستوى غير منضبط المقولات، وغير مؤسس الرؤية، لحدٍ لا نستطيع إدخاله في حيز النقاش الجاد في الأدبيات الفكرية والفلسفية. ومن جانب آخر يأتي الاعتماد على أقوال الإلحاد النخبيّ نقطة قوة في حجاج الكتاب؛ فالنقاش مع نقاط التأسيس المبنية وفق أنساق، والمظنون فيها اكتساب التأهيل الكافي لتصدير الخطاب، والتي تمثل مرجعًا لكافة فئات الإلحاد الأدنى -معرفيًّا-، والأنشط على الأرض؛ أقول النقاش مع حائزي هذه الصفات هو المطلوب في تفكيك المذاهب، وهو المُعوَّل عليه. فالتجربة لا ترفض بعض سلوكيات المُلحدين، بل ترفض الإلحاد نفسه مبدأً وتنقضه مقولاتٍ. وهنا نصل إلى أشد خصائص الكتاب الحجاجيَّة، التي سأطرحها للوسط العلمي والفكري.

في مواجهة نفسه .. رصاصة الرحمة في صدر الإلحاد6 1 "الإلحاد في مواجهة نفسه" .. رصاصة الرحمة في صدر الإلحاد

· أطروحة الضد

أطروحة الضد[3] -والتي أرى أن الكتاب هنا ينتمي لها- هي مصطلح أعبر به عن نمط من الكتابات الفكرية والعلمية. وأعرِّفه بأنه “كل أطروحة علمية أو فكرية تناولت موضوعًا (قضية، شخصية، كتابًا، علمًا، مذهبًا، دينًا) تهدف من التناول نقضَه وهدمَه، كُليًّا أو جزئيًّا، عمادًا أساسًا لها”. وأقسمها قسمين:

أطروحة الضد الكُليَّة:

وهي الطرح الذي يضاد الموضوع المُناقَش كله، أو على الأقل المقولات الرئيسة المُكوِّنة عمادَه الأساس، والتي من دونها ينهدم الموضوع.

أطروحة الضد الجُزئيَّة:

وهي الطرح الذي يضاد الموضوع المُناقَش جزئيًّا، أو في بعض رؤاه الأصلية وحسب، ولا يضاد بقية بنائه الأساس.

إن أطروحة الضد تمتاز بالانحياز الابتدائيّ، فهي لا تدَّعي أو تنطلق من الموضوعية أو الحياد -بغض النظر عن تفسير هذين المفهومين-؛ بل تمثل موقفًا يريد النيل من موقف، لا يسعى للحوار معه، أو إقامة علائق؛ بل هدمه. فتكون الصلة الوحيدة بين الموقفين أو الطرحين علائقية الهدم؛ علائقية تُتخَذ وسيلة لتمرير مُمارستها الحجاجية -بمختلف درجاتها وأنواعها-، لا لأي شيء آخر. وتمتاز أطروحة الضد الكلية بحالة تحفُّز واستنفار كاملين تُجاه الطرح الآخر الذي تضاده. وهي من أعلى درجات المعارك الفكرية والأدبيَّة، وتمثل رؤية شديدة الإخلاص لموقفها، مما يثري المعارك الفكرية والمناخ الثقافي والفكري العام.

وهي في كتاب “الإلحاد في مواجهة نفسه” تبرز بكامل صفاتها. فالأطروحة تتبنى موقفًا؛ هو الموقف الإيماني الإسلامي، تصدر عنه وتبني رؤاها على أساسه، وتحاجج الآخر قصد الوصول إليه. والأطروحة تضاد موقفًا آخر؛ هو الإلحاد، تضادًا تامًّا وكاملًا، قصد هدمه هدمًا لا بقاء فيه لحجر. ويتوفر في الأطروحة عنصرا التحفُّز والاستنفار؛ حيث لم تُعنَ الأطروحة بإبداء أي تبرير لفلسفة الإلحاد وجودًا أو تطوُّرًا، أو توضيح كيف ولماذا وصلنا إلى هذه المقولات، أو لهذا الإنكار للخالقيَّة، كذا لم تُعنَ بتسبيب سلوك هؤلاء الملحدين أو إبداء أي ظهير فكري أو عاطفي تجاه ما يفعلون.

لا أورد هذا على سبيل الاستهجان، أو أقصد أن ما سلكته الأطروحة يمثل عيبًا فيها؛ بل هو محض تكييف وتصنيف على المبدأ الذي أتيتُ به هنا، والذي أطلقتُ عليه “أطروحة الضد الكُلية”. وللكاتب الحرية في أن يبدي تبريرًا لما ينقد أو لا يورد؛ ولا أقصد أن إيراد التبرير والتسبيب يُحسِّن من الإلحاد، بل هو من كمال إفهام القارئ موضوع النقاش بفهم ما أوصل المُلحد إلى هذه المقولات، أو ما هي الأُسس التي بدأ منها (لهذه الدوافع جزء من النقاش قادم). لكنَّ كتاب الإلحاد بدأ من لحظة النهاية والقطف، واتخذ من المقولات النهائية لفلاسفة الإلحاد والعلماء الداعين له مبدأ للتفكيك، ولم يُعطِ القارئ قدرًا من التفسير لمسالك نشوء هذه المقولات. فالأطروحة -كما أسلفت- ليست تأسيسية، بل مُباشِرة لمحل النقاش النهائي.

وللعلم، فالمؤلف قد أصدر أكثر من كتاب، ممكن إدخالها جميعًا تحت تصنيف “أطروحة الضد”. منها: “العالمانية طاعون العصر”، “النسوية الإسلامية بين الانسلاخ والتلفيق”، “العلموية، الأدلجة الإلحادية للعلم في الميزان”. هذه الأطروحات أطروحات ضد كلية، تنطبق عليها الصفات التي وصفت بها المصطلح. وبالعموم، فأطروحات الضد -خاصة الكلية- لها إسهام في إثراء النقاش برؤيتها الأصولية، خاصةً إذا جاءت من أهل الفكر الحقيقيين ، لا من أناس لا يدركون معاني الأشياء الابتدائية.

في مواجهة نفسه .. رصاصة الرحمة في صدر الإلحاد4 "الإلحاد في مواجهة نفسه" .. رصاصة الرحمة في صدر الإلحاد

طبيعة المذاهب الإلحادية اليوم (ملحوظة قبل تبيين المنهج)

لا شك أن علاقة وثيقة تربط الموضوع بالمنهج، من جهات عدَّة، أهمها جهة الهدف المراد من أية تجربة. وموضوع الإلحاد ذو طبيعة فكرية متشعبة ومتنوعة جدًّا؛ من حيث أسباب الإلحاد، ومن حيث تحديد كُنهه وماهيته عند معتقديه، ومن حيث الوقوف على مقولاته ونسقه الفلسفي المُركِّب لكل مذهب.

ويصعب الأمر متى أدخلنا إلى أُفُق النقاش الموجة الإلحادية الجديدة -التي اهتمَّت بها الأطروحة وأولتها عنايتها-؛ فهي تتسلح بقشرة علمية لبث مقولات فلسفية صرفة. ولننظر مثلًا إحدى جُمل “ريتشارد دوكنز” -وهو زعيم هذا الاتجاه- في كتابه الكبير “أعظم استعراض فوق الأرض” يقول: “اللاجدوى؟ أي سخف هذا! .. هذا سخف بشري عاطفي. الانتخاب الطبيعي “كله” بلا جدوى”[4]. ويقول ناقلًا عن “داروين” نفسه؛ فقد كتب الأخيرُ لصاحبه يقول: “يا له من كتاب يمكن لتابع الشيطان أن يكتبه؛ عمَّا تصنعه الطبيعة من أعمال فيها خرق وتبديد، وتخبُّط مُنحطٌّ، وقسوة بشعة”[5]. هذان الاقتباسان يدلان على إقحام ضخم، وخلط لا حد له بين ما هو علمي، وما هي فلسفي أو عقدي.

كما أن أصحاب هذا الاتجاه الأخير لا يملكون من المنطق شيئًا، يقيسون قياسات بالغة الفساد، ويعممون نتائج بأقصى صور التعسُّف، ويملكون ثقة لا حد لها فيما يقولون. مثلًا نجد “دوكنز” يروي نقاشًا بين سيدة من الجمهور و”جون هالدين” (أحد أكبر علماء الداروينية الجديدة). تعترض عليه بعدم اقتناعها أن الزمن المقدر عندهم ببلايين السنين قادر وحده على الانطلاق من خلية وحيدة إلى الإنسان بكل تعقيده الكائن الهائل. والسيدة تقصد تطور كل أشكال الحياة على الأرض، بمئات الألوف من صنوف الكائنات الحية، من خلية واحدة، بما يشمل الإنسان بتكوينه الهائل. فرد عليها هالدين قائلًا: لِمَ لا، لقد فعلتِها بنفسِكِ في تسعة أشهر (يقصد مدة حمل السيدة بإنسان). وقد يعجب القارئ أن “دوكنز” أورد هذه القصة على سبيل براعة زميله في “إفحام” المخالفين![6]

ثم يعود “دوكنز” للتعليق على القصة بعد شرح طويل، قائلًا: “السيدة التي حاورتْ هالدين تجد أن من غير المعقول أن يكون الانتخاب الطبيعي قادرًا على أن ينظِّم، خلال بليون سنة مثلًا، وصفة جِينيَّة لبناء هذه السيدة. وأنا أجد أن هذا معقول، وإنْ كان لا يمكن لي بالطبع -أنا أو أي أحد آخر- أن نخبرك بتفاصيل حدوث ذلك. السبب في أن هذا أمر معقول؛ هو بالضبط أن ذلك كله يتم فعله بقواعد موضعية”[7].وهنا مجموعٌ من الخروق المنطقية العظيمة محشودة في بضع كلمات، بَلْهَ الكُتب الكثيرة الحافلة بمثل هذه الخروق لأصحاب هذا التيار.

ولعلَّ هذه السمات قد انتقلت إلى حيوز الفلسفة الصرفة التي تتبنى الموقف الإلحادي؛ في عصر موت الفلسفة وتجزُّئها وتشظيها في أجواء “ما بعد الحداثة” (السياق المقالي لا يسمح بالنقاش الموسع، لذلك أكتفي بالتنويه). فالفلسفة الحديثة صارت أشدَّ تفكُّكًا وتماهيًا مع بنى عديدة من المركَّبات غير الفلسفية، وتداخلت بشدة مع منظومات علمية؛ أفقدتها تلك العمليات السمات الرئيسة في التفكير الفلسفي، وطُبع عليها سمت الجُزئيَّة. ومجموع هذه السمات للأفراد القائلين بالإلحاد تصنع تحديًّا آخر مضافًا فوق المذهبية نفسها، وتجعل المنقود شديد السيولة، فاقدًا للهيكل الثابت العام الذي يُمكِّن الناقد من التعامل معه. وتصوُّر الفارق الهائل بين نقد الماركسية في منظورها الأساس عند ماركس، وكائن هلاميّ اسمه “الإلحاد” يكفي مثالًا هنا.

في مواجهة نفسه .. رصاصة الرحمة في صدر الإلحاد8 "الإلحاد في مواجهة نفسه" .. رصاصة الرحمة في صدر الإلحاد

منهج كتاب "الإلحاد في مواجهة نفسه"

فهذه الطبيعة الشديدة الحَرَكيَّة، والمُصدِّرة الخطاب دون أي انضباط، والمتعسفّة في استنتاج ما تريد من أية مقدمات كانت؛ هذه الطبيعة تُصعِّب نقد الإلحاد في تجربة موحدة في شكل معين -كتابًا أو مقالًا-؛ وتفرض على الناقد فرضًا تحديد مستوى معين، وتعريف معين، ومقولات معينة. وعليه، فقد حددتْ الأطروحة ابتداءً ما تنقده من إلحاد: “هو مذهب الميتافيزيقانيَّة الطبيعانيَّة؛ الذي مُلخصه أن الكون المادي هو كل الحقيقة، ولا شيء بعد ذلك. فلا يوجد شيء فوق طبيعي؛ كالإله والملائكة والجان. والمادة أزليَّة، أو وُجدتْ بلا سبب؛ فلا شيء في كلا الحالين سابق لوجود الزمن؛ سواء كان السبق زمنيًّا أو بالذات. وقد تطوَّرت هذه المادة عبر مراحل مختلفة، منذ وجودها، من طور إلى آخر، بسلطان العشوائية العمياء. فلا قُدرة ولا حكمة تُسيِّر الكون المادي من خارجه”[8].

فمسلَّمة الأطروحة هي مادية الإلحاد. وهنا يستخدم مادية الإلحاد؛ ضامًّا مذاهب الإلحاد جميعًا من حيث المُحصلة، بغض النظر عن نقاط البدء، أو مناطات الارتكاز رغم تعددها الضخم في المذاهب الإلحادية. ثم بدأ يستنتج عناصر اللزوم المنطقي منها؛ وصولًا لإثبات فرض استحالة الإلحاد. وهنا نقرأ سلوك المعالجة التي اختارتها الأطروحة؛ حيث بدأت من نقطة النهاية الضامَّة لكل مذاهب الإلحاد، ثم بدأت تنقض الإلحاد من اللوازم المنطقية التي تنتج ضرورةً من نقطة النهاية. فنحن أمام أطروحة لمْ تخُضْ صراعًا مع الإلحاد في مقولاته الأساس تفصيلًا، بل اختارت أن تردَّه إجمالًا ردًّا واحدًا من خلال ما يستتبع تطبيق هذه الرؤية عقلًا -مُخاطبة لأصل المذهب والنخب-، وفي حياة الملحد -مخاطبة لعامة المقتنعين بالإلحاد-.

بدأت الأطروحة باستدعاء فكرة التناسق بين مُعتقد الإنسان وسلوكه في حياته؛ تقصد أن الإنسان لا بد أنْ يضبط سلوكه وتوجهاته ونظرته إلى الأشياء على حسب ما يعتقده إراديًّا. وهنا تؤسس الأطروحة بذكاء لما ترمي إليه بعدُ؛ فعلى هذا المبدأ البسيط، يلزم إما أن يعيش الملحد على مقتضى إلحاده؛ وهذا مستحيل كما سيثبُتُ في بقية الأطروحة؛ وبذا فقد وصلنا للرفع (الاستحالة)، وإما أن يعيش المُلحد على غير ما يقتضيه الإلحاد -وهو الفرض الواجب-؛ وهذا هو المُراد ابتداءً: أنك لست تؤمن بالإلحاد الذي تدَّعي أنك تؤمن به بإرادتك. وهذا الأسلوب في المنطق والأصول يسمى “القسمة العقلية”، بطريق السبر والتقسيم؛ وهي طريق يقينيّ متى حُصرت الاحتمالات حصرًا. ولم يُصرَّح في الأطروحة بالسابق، بل طُبق وحسب.

ومنطق الإلزام قد طبقته الأطروحة بعد الفصل الابتدائي، في محاورها الستة. وخلاصته في كل محور: أنْ متى قِيلت وأُقرَّتْ المبادئ المنظومة أعلاه؛ فسَدَ طريق الوصول إلى كل محور؛ وبطل القولُ به. فمتى قيل إن الإنسان من محض جنس الحيوان (أيْ تسري فيه العمليات الحيوية)، وأن لا فارق بينه وبين غيره من الحيوانات، وأن وجوده ناجم تطور وئيد وئيد في عماء وعشوائية؛ سقط الإنسان سقوطًا عظيمًا ونتج عن هذا التصور فساد لا حصر له. ولأن هذا الفساد العظيم ليس واقعًا، وليس ما تسري عليه الحياة وطبيعة الإنسان؛ فالمحصلة والنتيجة أن التنظير الذي أوصلنا إلى النتيجة باطل. هذا الطريق في كل لازم من اللوازم (سيرى القارئ هذا عمليًّا في القسم الآخر). وخلاصة التنظير هنا؛ أن الأطروحة تلحق حُكم الاستحالة بالإلحاد، بمُوجب مضادته للواقع الكائن المحسوس والمعقول، ولطبيعة الكون والإنسان.

وقد تمثَّل استخدام آخر لمنطق الإلزام في إنجاح المعالجة؛ وهي النقول الكثيرة عن أكابر فلاسفة الإلحاد والعلماء الملحدين. ومعلوم أن البصر بأي أمر يتفاوت بين الناس، وأنه أقوى -بما لا يقارن- عند أهل التخصص في كل مجال نظر؛ لذلك قولهم مُحكَّم على غيرهم من العوام (العامة في كل مجال هُم من ليسوا من أهله الخاصة، أيْ أن كل أهل الأرض عامة في كل مجال؛ إلا مجالًا أو أكثر مما هم أهله). فأهل الاختصاص هُم من فحصوا كل أمر، وقلبوه على كل وجه، واستبان لهم كما لمْ يستبِنْ لأي من الآخرين؛ لذلك يتوجه إليهم السؤال الجاد في كل شأن. وكلامهم ومُحصلات أنظارهم حاكمة على محصلات أنظار الآخرين -إجمالًا-. وهذه النقول العديدة تمثل هذا الشق الإلزامي الآخر من منطق الإلزام في المعالجة.

ولعلَّ فائدة أخرى لهذه النقول العديدة؛ وهي الوقوف على حقيقة المذهب عند أهله، وتكون بذلك إحدى الضمانات لأن النقاش يتناول الإلحاد كما هو، لا كما يُكيِّفه الطرح الضدِّيّ. وفي هذا دحض الرد بمغالطة “رجل القشّ” من المخالفين. فسرعان ما سيلجأ المُخالِف للأطروحة، مُتهمًا إيَّاها بتقزيم الإلحاد، وحصره فيما لا ينحصر به. وهنا نلحظ هذا الرد الاستباقي من الأطروحة، المُودَع فيها. ولعل اللجوء إلى الإلزامات -بكل ما تعنيها- في الأطروحة؛ يدلُّ على ما أشرت له سابقًا من هُلاميَّة محل المعالجة، واتخاذ الحيطة في مجابهته.

نأتي إلى القضية التالية؛ وهي تضمُّن الرد الفلسفي في الأطروحة استخدام جميع مراتب الحجج. أيْ أنه استخدم الحجج البرهانية، والجدلية، والخطابية، والشِّعرية؛ في سبك بدا موحدًا. ولهذا سبب وجيه، هو تنويع الرد في مخاطبة المُخالف -الملحد هنا-. فالمخالفون ليسوا سواء؛ بل أشتات وطبقات فكرية وعاطفية. لذا وجب الرد عليهم بتنويعات حجاجية أيضًا. ولو اتبع الطريق المنطقي في المؤلفات الفلسفية أو الكلامية لتعاطى مع الخطاب فئة العقليين وحسب. رغم أن الطريق المنطقي أخصر -بما لا يقارن- بطريق الخطاب المَكسيّ مادةً الذي يعرفه الجمهور أجمع. مثلًا، قال أبو البركات النسفي (ت 710هـ)، في أول “عمدة العقائد”: “قال أهل الحقّ: حقائق الأشياء ثابتة؛ لأنَّ في نفيِها ثبوتَها[9]”. فهذه الجملة القصيرة أنهت مقالات طويلة، وأجهزت عليها؛ لكنها لا تليق بكل أحد.

لكن امتياز الأطروحة هنا أنها تسابق وتبادر بالمستوى البرهاني اليقيني، ثم تستخدم الحجج الباقية في تنويعات الخطاب. وقد تعظم الحجج الأقوى (في فصل العقل على مذبح الإلحاد)، وقد تكثر الحجج الأضعف -الخطابية والشِّعرية- (في فصل نهاية معنى وغيبة غاية، خاصةً في عنوانه الأخير). فكان تنويع الخطاب سمة نجاح للأطروحة.

ومن السمة الأخيرة “تعدد مستويات الحجج”، لا بد من التنويه على أمر؛ وهو أن الأطروحة تضمَّنت في أثناء معالجتها ونقاشها الكثير من التناقضات المنطقية. هذا الأمر طبيعي في المعالجات والنقاشات الفكرية، أثناء نقد كلام المُخالف. ويجبر هذا الوقوعَ في التناقض معرفتُنا باستخدام المعالجات الفكرية لأسلوب في الدحض هو “التسليم الجَدَليّ للخصم” (سأسلِّم أن قولك صحيح، لكن ينتج عنه كذا وكذا من الفساد -بأنواعه-؛ إذن قولك لم يكن صحيحًا). فهنا تنويه إكمالي لمنهج المعالجة.

من الملحوظات الهامة في ترتيب محاور النقاش، أن إثبات المطلوب في محور المعنى، وصولًا لانعدام المعنى في الإلحاد؛ كان كافيًا ومُغنيًا عن عقد المحورين التاليين له (الأخلاق، والجمال). فالأخلاق والجمال والفن و.. من أفراد المعنى؛ فمتى أُجهز على المبدأ لم يكن لأفراده وجود حتى يُدحض. لكن السبب الواضح في عقد الفصلين؛ كونهما من الموضوعات المثارة والمُناقشة رأسًا في جدل الإلحاد، ولإكمال الرؤية الكلية في مخاطبة الملحدين.

أمَّا عن التكييف المنهجي، أو عن الوصف الإجمالي للمنهج (الذي يراه القارئ في مقدمة الدراسات)؛ فهو هنا نقدي تحليلي مقارن. والمقارنة في الأطروحة وُصفت لإدراج المبادئ الإجمالية لكل محور في ظل التصور الإسلامي (الإنسان في الإسلام، العقل في الإسلام،..). ولعلَّ سؤال الحيِّز لازم الإجابة؛ فحيز الحديث عن الإسلام في كل محور لم يزد عن ثلاث صفحات، والحيز المقارب بين عناصر المقارنة لازم. فما مبرر الاختلاف في حيز المعالجة؛ بين صفحتين للمحور في التصور الإسلامي، وعشرين صفحة في التصور الإلحادي؟

الإجابة واضحة في عنصرين: أولهما أن المقصود الأعظم بالتناول هو التصور الإلحادي، والآخر أن فارقًا هائلًا في صوغ التصور للمحاور بين الإسلام والإلحاد. فالإسلام بناء ذو فلسفة واضحة، ورؤية ثابتة؛ تنجم عن التصور العقدي الواضح في الإسلام (الإله المتعالي، الخالق، المدبر، البادئ، والمنهي المُحاسب)؛ وكذا فللإسلام كتاب مركزي، ومصادر مركزية، معترف بها، وإجابات معروفة مُحددة عن التصور الوجودي العام (أسئلة الوجود الكُبرى)؛ خاصةً من حيث الغاية والهدف. وليس للإلحاد أيٌّ من هذا.

وهناك إجراءات عضَّدتْ بيان المعالجة وتأكيد الضمانات. وهي استخدام جُمل مُركَّزة ومركزيَّة في المعاني في أُطُر ومربعات بين الصفحات. منها إطارات لخَّصت الموضوع كاملًا، وصيغتْ بحرفية (انظر صـ64، تلخيص لمسألة الإلحاد والعقل بطريقة منطقية). وكذا تعريف الأعلام في الهوامش، وما ذلك إلا لتبيين أن أصحاب النقول هم الصفوة والأشد تأثيرًا في المنظور الإلحادي.

في مواجهة نفسه .. رصاصة الرحمة في صدر الإلحاد12 "الإلحاد في مواجهة نفسه" .. رصاصة الرحمة في صدر الإلحاد

بين الإلحاد القديم والإلحاد الجديد

الإلحاد باعتباره جحدًا تامًّا لوجود “الله” -وهنا أقول الله لا إله- قديم جدًّا، وهو أحد قسيمَيْ المسألة الوجودية العُظمى في الفكر البشري: هل من خالق ومُدبِّر لهذا الكون؟ .. فتكون الإجابة إما نعم، وإما لا. حتى بعض الإجابات الشديدة الغيام والتي يبدو من الصعب إلحاقها -ظاهريًّا- بهاتين الإجابتين، تعود اضطرارًا إلى إحداهما. فمسألة الإلحاد قديمة. لكنها تبدو دائمًا في صورة الانقلاب على نظام الكون كله، والبدء في كتابة السطر الأول من جديد.

أما الإشكال المبدئي في مسألة الإلحاد هو اللامعقولية في الطرح؛ فافتراض وجود إلهٍ معقودٌ عليه كل الكون، ونظام الحياة، وفكرة العلم التجريبي نفسها، ووجود الوعي بأشكاله. فمتى خرج الإلحاد شاهرًا سيف إنكاره لهذا النظام، مُدَّعيًا ألَّا نظام عُلويًّا يخلق ويدير هذا الكون، وما هو إلا أنا، ونحن، والكائنات، والمادة؛ أقول متى خرج بهذا سنكتشف أنه طعن بسيفه -أوَّل ما طعن- مبدأ معقولية الكون، بل خان وعيه بحالٍ -وهي الاشتباه بشبهةٍ من مظاهر الكون أو أيًّا يكن- طارئةٍ؛ مُغلِّبًا إيًّاها على الكل الذي يراه. وهو هنا يتجاهل أن الكلَّ أكبر من الجزء، الذي هو مبدأ رئيس في العقل والحس، مركوز فيهما. وهذا هو مدلول وصف القرآن نفسه للإنسان بأنه متسرِّع، أرعن، كفور، لا يجيد النظر فيما حوله من كُلٍّ هائل، ويتناسى هذا الكلَّ، مُقابل غرور -معتمد على الجزئية- زائل، سرعان ما سينكشف وتبقى الحقيقة قاهرةً كلَّ أحد.

أما الإشكال الموضوعي في مسألة الإلحاد؛ هو الصحة النَّسَقيَّة، التي هي الهدف الأسمى لأية فلسفة شاملة. فمذهب الإلحاد -أو مذاهب- بوصفه مذهبًا عقديًّا وفلسفيًّا مختَرَعًا مبتَدَأً؛ يقع عليه العبء التفسيري لكل ما حولنا، أو -بتعبير آخر-؛ تقديم سرديَّة مُناوئة لسردية الكون ذيْ الخالق والمُدبِّر، هي سردية هذا الكون السابح وحده بلا تدبير ولا خالق. الإشكال هنا حادٌّ للغاية، مليء باللامعقولية والتناقضات؛ لأن الفكرة الابتدائية التي ستبدأ السردية الإلحادية منها؛ هي الوعي بوجود سردية جامعة مُفسِّرة لمفردات الكون، من كون لمْ يَهَبْه إله انتظامًا، وهو محض ما حولنا وحسب. فضلًا عن القضية الأصيلة هي تبرير وجود هذا الوعي من شخص المُلحد بوجود سردية أخرى (الأمر في حقيقته سيقضي بتبرير التبرير العقلي ونشوئه، وكل تبرير سيقضي بوجود تبرير، في لا نهائية مُتسلسلة تخرج عن حد المنطق). ولعلَّ هذا هو ما يجعل الاتجاه الإلحادي الأذكى؛ يبثُّ في خطابه روح اللايقين، واللاقطع؛ بما يوحي باللاأدريَّة، لكنه سرعان ما يزاول هذا قاطعًا مؤكِّدًا باتًّا بعدها في سطر آخر. النتيجة أن الإلحاد فرض مستحيل، مجرد تبرير وجوده لغو لا طائل منه، فما الحال مع بقية نسقيته التي ستبرر هذا الكون الواسع، وهذه الأنشطة التي لا حصر لها.

أما مسألة الإلحاد الجديد ومقولاته؛ فقد انتشرت بشكلٍ فاشٍ في مجتمعنا العربي في السنوات الأخيرة، عبر الكثير من الوسائل. والضوء اللامع الذي يجذب الأنظار إلى هذه الموجة هو إصباغ صفة العلمية على مقولاتها -العلمية وفوق العلمية-، وتلك المستويات الحجاجية المُتلوِّنة التي تمتاز بها في كُتُبها ومقالاتها؛ والناتجة من ذلك المزج والخلط بين ما هو مادي وما هو فوق مادي، في حرية لا تبالي بأساسات ما تُصدِّر، ومدى منطقيته.

تحت ضغط الولائية للعلم الحديث، والإيمان بأنه طريقنا نحو التقدُّم تُنشر كُتُب هذا الاتجاه بكثرة -أقصد هنا كثرة لا تتلائم مع نقل غيره من ثمار الغرب وتموجاته-، وفي حيوز حكومية وبأسعار زهيدة. ويكفي النظر لجهود مترجم واحد، هو السيد مصطفى إبراهيم مصطفى؛ الذي نقل إلى العربية من مؤلفات ريتشارد دوكنز (زعيم هذا الاتجاه): العلم والحقيقة، وصانع الساعات الأعمى (الذي غيَّر عنوانه إلى الداروينية الجديدة)، أعظم استعراض فوق الأرض أدلة التطور[10]. نُشرت هذه الكُتُب على حساب الدولة المصرية، بل طُرحت في مشروع “مكتبة الأسرة” (التي تبيع الكُتُب بأسعار لا يمكن مقارنتها). وقد كلفني اقتناء سِفر دوكنز “أعظم استعراض فوق الأرض” عشرة جنيهات مصرية فقط للجزئين. في حين أن أقل مبلغ مُقدَّر ساعتها -منذ ما يقرب من عقد- لشراء الكتاب من دار خاصة مئتا جنيه إلى أربعمائة جنيه.

ولا أقصد نقد نشر الكُتب العلمية بالقطع؛ لكن المقصود هو اختيار كُتب معينة لنشرها؛ لا نستطيع بالنظر إلى محتواها إطلاق صفة “الكتب العلمية” عليها. ومن هذا السمت الأخير، أن “دوكنز” عزا الصدام المحتدم -يقصد عنده في الغرب- حول نظرية التطور إلى أهم عامل -من وجهة نظره-؛ وهو “بسبب الوجود الإسلامي المُتنامي في الفصول الدراسية”[11]. فنحن -كما هو واضح للقارئ من الاقتباسات العدة- لسنا أمام “كتاب علم”؛ بل أمام رؤية أيديولوجية صريحة.

ومن هنا نفهم مدى الخطر المُحدق بنا من هذه الموجة الإلحادية الجديدة؛ بما تمثله من مجموع مركب من أفكار فلسفية، مُغطَّاة بساتر علمي، مُعادية للدين مُعاداة مطلقة. هذا يوجب توالي تناول المسألة في أشكال متعددة؛ رغم أننا -في الوطن العربي- نتعاطى مع مشكلات أشد قبولًا من فكرة الإلحاد -وهي فكرة صُلبة صعبة القبول-؛ من آثار الفكرة الإلحادية الصُّلبة التي تواجه أكبر قدر من الجمهور؛ سواء في مجال العلوم أو في مجالات إدارة الحياة.

في مواجهة نفسه .. رصاصة الرحمة في صدر الإلحاد9 "الإلحاد في مواجهة نفسه" .. رصاصة الرحمة في صدر الإلحاد

بعض دوافع الإلحاد

دوافع الإلحاد قضية لم تهتم بها الأطروحة -لأسباب سبقت في عنوان المنهج-. ولا أقصد هنا معالجة قضية الدوافع، بل التنويه عنها لرفع الوهم عن القارئ أن المقولات الواردة في الكتاب هي مقولات ابتدائية، بل هي مقولات نهائية. فليس هناك مُلحد سيواجه الجمهور قائلًا: “مرحبًا، أنا مُلحد، للعلم أنا أعتقد أن مكب النفايات مُساوٍ جماليًّا للطبيعة الساحرة[12]. تعالوا اعتقدوا معي هذا الاعتقاد”. وأؤكد أن الأطروحة لا تؤدي إلى هذا، بل قد توهم به وحسب. فإن هذه المقولات النهائية التي يطالعها القارئ في الكتاب يسبقها بناء فكري، مثَّله تاريخ من الكُتُب والمقالات والمحاضرات والمُناظرات.

وهنا لا أدافع عن الإلحاد، بل أرفع الوهم عن فراغ المقولات النهائية، وأقرر أن وراءها بناءات فكرية وعلمية، سببتها دوافع ابتدائية أدَّت للإلحاد. هذه الدوافع -والدوافع خاصةً-، وهذه البناءات هي التي تواجه الأذهان التي تتعرض للإلحاد، ثم بعد سوق طويل في سلك الإلحاد، تثمر هذه المقولات النهائية التي يقرأها القارئ في الأطروحة. فكما استبانت المعالجة للمقولات النهائية؛ لا بد من التنويه للدوافع الابتدائية التي تعرض لجمهور الناس، داعية إياهم إلى الإلحاد، مُفضية إلى هذا البؤس السرمدي الذي يطالعه القارئ في الأطروحة.

وأنوه أيضًا للقارئ الذي طالع في الكتاب بعض “الفلاسفة” -بغض النظر عن انطباق هذا الوصف عليهم- وهُم يتخذون نظرية التطور -وغيرها لكن لم يُتعرَّض إلا لها- عمادًا لفلسفتهم؛ أنوه أن الفلسفة طريقها غير طريق العلم، وهي باب وحدها لا تتبع العلم، بل لكل منهما مجال وطريق. إلا في العصر الأخير، في ظلال ما بعد الحداثة التي نالت من علياء الفلسفة وسموها وغيرت الكثير منها جوهرًا وشكلًا. ولعلَّ القارئ العربي والمُشاهد العربي الذي يعرض عليه الكثير من المثقفين المُناقشين المُداولين الكلام عن قضية “الصراع بين الدين والعلم” -تنفيرًا له عن الدين-؛ لم يجد من يعرض عليه قصة “الصراع بين الفلسفة والعلم”.

بعض الدوافع العلمية الابتدائية للإلحاد (غير نظرية التطور):

1-    العلم مبدأً، لا في نظرية بعينها دون أخرى. إنما العلم بوصفه جهدًا إنسانيًّا غير متعلق بالغيبيات -أو هكذا نظروا لجهدهم-. 

2-    المنهج التجريبي ونتائجه الضخمة؛ غيَّر من وجهة نظر الإنسان تجاه الكون، وأغراه بالكثير في قادم الأيام، وأنه قادر وحده على تجاوز عالم الميتافيزيقا وأوهامها. وقد عزَّزَ كل تقدم علمي هذه الروح المُتفائلة يومًا بعد يوم. يقول الفيلسوف “برتراند راسل”: “قد كان لمائة سنة من العلم تأثير ضخم؛ عجز عن إحداث مثله خمسة آلاف سنة من ثقافة ما قبل العلم”[13]. 

3-    تحت مظلة ضخمة -أو وهم ضخم من منظور آخر- تسمى “الحياد” سادت النظرة الفيزيقية الدراسات الفيزيائية والعالم العلمي كله. والفيزياء هي رأس منظومة العلوم الطبيعية أو التجريبية -الأخيرة باعتبارها منظومة قيم؛ فليست كل الحقول العلمية في المنظومة تمتثل للتجربة بمعناها المعروف-. وعليه استبعدتْ وبُترتْ أية قيم عُلوية من المنظومة، واعتبر أي تدخل منها انتهاكًا لرُوح “العلميَّة” و”الحياد” في العلم. 

4-    بعض الاكتشافات الفيزيائية؛ مثل الكشف عن العالم ما تحت الذريّ، وما أدى به عن سؤال “النظام والفوضى” في العالم فوق الذريّ، والشك حول مبادئ علمية حاكمة. وكذلك أثر هذه الاكتشافات على تخصص الفيزياء النظرية، وما تقابل به الوسط العلمي والثقافي العامَّيْن. 

5-    بعض النظريات الفيزيائية غير الثابتة، والتي هي مجرد فرض علمي -أو شاعريّ في حالات-؛ مثل نظرية “العوالم المتعددة”.

· بعض الدوافع الفلسفية المؤدية للإلحاد.

1-   رؤية الكون من منظور مُوحَّد ممتد؛ هو المادة. 

2-   مشكلة الشر. 

3-   قضية الحرية والجبر. 

4-   منطلق الشك في السردية الدينية. 

5-   بعض الفوضى والاضطرابات في الكون؛ التي تُشكل على فكرة وجود نظام. 

6-   الرغبة في التخلص من أية قيود تقيد الإنسان، أو تقزم دوره في الكون. 

7-   الرغبات الانفعالية.

في مواجهة نفسه .. رصاصة الرحمة في صدر الإلحاد11 "الإلحاد في مواجهة نفسه" .. رصاصة الرحمة في صدر الإلحاد

الشق الآخر: عرض موجز لكتاب "الإلحاد في مواجهة نفسه"

ملحوظة: هذا اختصار كامل، لكل أفكار الكتاب الذي يقع في 140 صفحة، في ألفين خمسمائة كلمة وحسب. وما أضفته بين قوسين هو تفسير مني، مساعد ومُختصر. وما أضفته بين علامتَي تنصيص هو بنصه من المؤلف. وقد راعيت في الاختصار إيراد المعلومات كما وردت -قدر الإمكان-، وبترتيب ورودها؛ حتى يكون ما أمام القارئ صورة مصغرة من الكتاب.

· في البدء، كان السؤال

بدأ من تأكيد التناسق بين ما يعتقده الإنسان، وما يسيِّر حياته على وفقه. ويقصد هنا استحالة الحياة تحت مظلة اعتقادية تسمى “الإلحاد”. ثم أشار إلى اختلاف تعريف الإلحاد بين تعريف العامة “الإيمان أنه لا يوجد إله”، وتعريف الخاصة “عدم الإيمان بالله”. وهذا الخطأ في التعريف بمذهبهم ينبئ عن عظيم جهل الملحدين بتفاصيله. كما أن كثيرًا من المُبرَّزين في الإلحاد قال بتعريف العامة.

ثم ينوه إلى أن كلا القولين ينجم عنه تصور كامل؛ حيث هذا الإنكار للإله إطار مفاهيمي، ينطلق منه الملحد. والإطار المفاهيمي هو “الإطار الذي تنجم عنه بقية الأفكار في تداعٍ عفويّ؛ لأنها آثار ضرورية للمقدمات التصورية الأولى”. ويعرفه أنه “مجموع التصورات الأولى والكبرى؛ التي تمكننا من رؤية العالم من زاوية ما خاصة”. وينوه إلى أن الملحدين البارزين أدركوا عاقبة الإطار المفاهيمي الذي تبنوه.

ثم يُعرِّف الإلحاد الذي سيتناوله في الكتاب، قائلًا: “إن الإلحاد الذي نحن بصدد مناقشته، هو مذهب الميتافيزيقانيَّة الطبيعانيَّة؛ الذي مُلخصه أن الكون المادي هو كل الحقيقة، ولا شيء بعد ذلك. فلا يوجد شيء فوق طبيعي؛ كالإله والملائكة والجان. والمادة أزليَّة، أو وُجدتْ بلا سبب؛ فلا شيء في كلا الحالين سابق لوجود الزمن؛ سواء كان السبق زمنيًّا أو بالذات. وقد تطوَّرت هذه المادة عبر مراحل مختلفة، منذ وجودها، من طور إلى آخر، بسلطان العشوائية العمياء. فلا قُدرة ولا حكمة تُسيِّر الكون المادي من خارجه”.

وينجم عن هذا الإطار المفاهيمي الإلحادي مجموع مقولات النسبية في أبواب: الحقيقة، والفكر، والمعنى، والأخلاق، والغاية. فالإنسان نتاج الصدفة، “أن مادة حية (=الإنسان) صنعتها العشوائية بصُدفة سعيدة -وربما صدفة لعينة!-، قدرها أن تحيا لتموت، وأن تموت لأجل لا شيء”.

ثم يقرر أن الملحد المستمسك برؤيته الإلحادية لا سبيل له إلا العدمية، وأن “نيتشه” كان يدرك مآلات العالم بعد نهاية الإيمان؛ لذا أرهص بسيادة العدمية. فالسودواية هي الحال الوحيدة مع الإلحاد. لكنْ، إنْ صرَّح أحد الملحدين بحقيقة المذهب -مثل الفيلسوف روزنبرج- اتهمه البقية أنه يُسطِّح المسائل. ويوجِّه المؤلف الخطاب لمن غُرَّ في النشاطات الاجتماعية التشارُكية التي يقيمها الملحدون (مساعدة في الكوارث، العلماء الملاحدة)؛ أنهم يفعلون ذلك رغم كونهم ملاحدة (يقصد بالمخالفة لأصل ما يصرحون باعتقاده، لعدم فهمهم حقيقة ما يعتقدون)، لا لكونهم ملاحدة. وأنه سيلزم الملحدين بحقيقة مذهبهم في بقية الكتاب، ولا يقدح في هذا معاندة أحدهم أنه لا يعتقد هذا الإلزام (يقصد لأنه إلزام منطقي غير مفارق للمقولات).

· الإنسان ذلك الحيوان

عرض للإنسان في الإسلام؛ من كونه خلقًا منفصلًا عن الكائنات، ومن تكريمه العام، وذكر دليل العناية (أن الكون يبدو مُسخَّرًا للإنسان؛ من بحار وأنهار، وحيوانات ونباتات كلها في خدمة الإنسان) من دون اسمه.

ثم عرض للمبدأ الإلحادي التطوُّري في تفسير الإنسان بكونه مادة حيوية، لا تفترق عن غيرها من المواد الحيوية، فهو بهيمة من البهائم، مثله مثل أي حيوان غيره. “فكل الأحياء على الأرض أثر لأخطاء النسخ في الشريط الصبغي داخل الخلية”. ويحاول بعض الملاحدة أن يكرِّم الإنسان من قبيل مبدأ “تكافُل القطيع” وحسب؛ ويلزم عن هذه الرؤية تفضيل كل عِرق بشري لبنيه. وبعضهم يكرِّمه لأنه يقدر أن يُدجِّن الحيوانات ويفتك بها؛ ويلزم عن هذه الرؤية تفضيل الإنسان القوي، المُستعلِي على غيره المُدجِّن له.

الإنسان في ظل التطور ليس أرقى من الحيوانات، بوصفه آخر صور التطور الحيواني -كما يظن البعض-؛ فلا وجود للتمييز في التطور، بل التطور متعلق بقدرة الكائن على التكيُّف مع البيئة المحيطة والمتغيرات فيها.

ثم نطالع محاولة أخرى لتمييز الإنسان عن غيره؛ بداعي أنه أكثر الكائنات ألمًا، وهذا يكسب الإنسان قيمة وحرمة. ويرد المؤلف أن الألم في ظل الرؤية المادية محض رسالة كهربائية (يقصد أنها لا تحمل دلالة الألم المتعارف عليها في الرؤية الإيمانية). كما أن هذه المحاولة تبيح “القتل الرحيم”؛ لأنه يرحم الناس من آلامهم. وإنْ علمنا أن الفيروسات أشد ألمًا منا؛ فهل نقبل إبادتها لنا؟!

وهذه الدعوى المُنكرة للتميُّز البشري في الكون جعلت البعض يضع الإنسان في أدنى درجات الخلائق؛ لأن أفراده يقتل بعضهم بعضًا، ويقتل الحيوانات أيضًا -التي هي تساويه في التصور البهيمي التطوري-. وهذه الدعاوى بتساوي الإنسان مع الحيوان؛ تجعل الصائب اعتبار التخصصات الأكاديمية المختصة بالإنسان (مثل علم الاجتماع، والأنثروبولوجيا) فروعًا لعلم الحيوان. ويدِّعي البعض -تحت التصور التطوري- أن أفراد الإنسان ذوي العيوب أو العاهات أقل درجةً من الحيوان السليم، بل يدعو بعض العلماء إلى استغلال هؤلاء معمليًّا في التجارب، بدل الحيوانات السليمة.

وهذا التغول في رؤية الإنسان وضيعًا في الكون؛ دفع البعض إلى تبرير القتل الجماعي لتسعين في المائة من البشر، بنشر الفيروسات بينهم، للحفاظ على التوازن البيئي. كل هذه المُمارسات المتطرفة من بعض العلماء الطبيعيين دائر على مبدأ القوة لا أكثر، وسيادة قانون الغاب، ورؤية القوة سببًا في التسلط على الآخرين. وهذا الاستعلاء بالقوة بين الأجناس ناجم عن النموذج التطوريّ؛ فالأقوى هو القادر على البقاء والاستمرار.

وبعد، فحَيْوَنَة الإنسان يلزم عنها النظر إليه كمًّا من اللحم والعظم، وأن مواهبه أصلها كَميّ. وفي ظلال هذه الأجواء تعلو أصوات الاعتناء بـ”علم تحسين النسل” (كما يعمل المختصون على إنجاب أفضل السلالات من النباتات والحيوانات؛ لأن الإنسان حيوان)، الذي يدافع عنه “ريتشارد دوكنز”. ونتيجةً لهذه المنظومة القيمية، تُظلم المرأة -بوصفها أضعف من الرجل-، وتسود فكرة التخلُّص من ذوي الإعاقات استكمالًا لطريق التطور، وتُرتكب الكثير من المجازر. كما في تجربة “هتلر”؛ حيث يرجح المؤلف (والكثيرون) أنه استقى من نظرية التطور الدارويني.

· العقل على مذبح الإلحاد

عرض للعقل في الإسلام؛ من كونه مناط التكليف، ومحل المدح والتقبيح. والعقل الواعي هو آلة إدراك الحق. وقرر تعريفه للعقل بأنه الإدراك الواعي للعالم؛ بما يجعل الإنسان يعرف الأشياء على حقيقتها؛ فيميز بين الحقيقة والوهم، من خلال آلة الدماغ أو غيرها من الآلات.

ثم يُثنِّي بالعقل في ظل التصور الإلحادي. وهنا مُسلَّمة أساسية؛ هي إنكار الملاحدة -بالضرورة- لبرهان التصميم في عالم الأحياء؛ من حيث هو حجة على وجود خالق مدبر. وفي التصور الإلحادي الكلام يدور حول “الدماغ”، لا “العقل”. والدماغ ليس آلة لفهم الوجود، أو للكشف عن الحقائق. وما نراه أثر لبنية دماغية، تصنع ما يبدو لنا حقيقةً؛ فالحقيقة صناعة بيولوجية، لا كشف لما هو واقع خارج الذهن. والدماغ البشري تطور لغرض البقاء، وليُمكِّن الإنسان من مواجهة الفناء والاندثار وحسب، لا لاكتشاف الحقائق. وتمييز الحقائق ليس من مُتطلبات البقاء.

ارتكاز الإلحاد على نفي الخالقية والتدبير يؤدي إلى نفي التعقل؛ فلا يجوز في كون تكوَّن من لا شيء (كما يدعي الملحدون) أن يُنتج عقلًا قاصدًا إلى كشف الحقائق. ويعود المؤلف خطوات للوراء؛ فإذا كان التصور الإلحاديّ كذلك، وهذه نتيجته؛ فلا يمكن قيام الإلحاد ابتداءً، بل يقتضي الأمر ابتداءً الإيمانَ بالله لإقرار الحقائق في الكون، وقصدية العقل إلى الكشف عنها؛ ثم يكون الإلحاد.

يؤدي تصور “أن دور العقل الوحيد هو البقاء” إلى تساوي الوهم مع الحقيقة؛ فالبقاء قد يتمّ بالحقيقة، وقد يتمّ بالوهم. بل هذا هو تفسير الملاحدة لظاهرة الدين المسيطرة طوال التاريخ: البشر خافوا من الظواهر الطبيعية، دفعهم الخوف والرغبة في البقاء إلى اختراع إله ودين، كي يستطيعوا تجاوز المحن، والبقاء على قيد الحياة.

ومحاولة هرب بعض الملاحدة من هذه المعضلات في تفسير ظاهرة التعقُّل؛ من خلال تشبيه العقل الإنساني بالحاسوب؛ مردودة باطلة. فالحاسوب مَقُود من الإنسان، وليس محض مادة؛ بل برمجة أيضًا.

في مواجهة نفسه .. رصاصة الرحمة في صدر الإلحاد7 "الإلحاد في مواجهة نفسه" .. رصاصة الرحمة في صدر الإلحاد

· حرية إرادة .. وهم الآلات

عرض لحرية الإنسان في التصور الإسلامي، وأن الله ميزه بها عن البهائم المجبورة بقوة غريزتها.

ثم عرض للكون في التصور الإلحادي؛ الذي لا يحوي غير المادة والطاقة، وهو محض بنية فيزيائية تحكمها الدفقات والنبضات، الإنسان فيها أسير الخصائص الكيميائية لجيناته. ثم عارَضَ أكابر الملحدين بسؤالين: لماذا يدعونا الملحدون إلى الإلحاد إذا كان الإلحاد ليس خيارًا؟! .. لماذا يُدان المؤمنون في كتابات الإلحاد؛ إذا كُنا بلا خيار؟!

ومتى اتفقنا على أن الإنسان مادة لا تحكمها إلا نبضات الكون، وأثر الماضي على الحاضر؛ فلا معنى للتفكير الحر، أو للتضحية من أجل الاستنارة، والقضاء على الخرافة الدينية (يقصد كما يدعي الملحدون أنهم يخلِّصون العالَم من خرافة الدين والإله).  فموقف الملحدين مُتناقض بشدة؛ فمن جهة يدعون للتخفف من الخرافة، ومن أخرى يؤمن الإلحاد المادي الأعمى أن الإنسان مجرد استجابة آلية لأسباب فيزيائية. وإذا تواضعنا على هذا؛ ترتبت آثار اجتماعية هائلة، فكيف نلوم ونحاسب الإنسان على أفعال مادية آلية دون اختيار واعٍ؟!

· نهاية معنى وغيبة غاية

في الإسلام الإنسان كائن معنويّ؛ فقد خلقه الله خليفة في الأرض، وسيُحاسب على أفعاله في الآخرة، والدنيا دار ابتلاء وعمل، المطلوب فيها الإصلاح.

ثم يأتي الإلحاد ليتردَّى بالنظر الإنساني من المرجعية المُتجاوزة (الوحي)، إلى المرجعية الكامنة في الكون (المادة). ويخلص إلى أن الداء الوبيل لهذا العصر في ظل الإلحاد؛ هو غيبة معنى الحياة. ويأسر معنى الحياة لأمرين: مطابقة صورة المعنى في الذهن لحقيقتها خارج وعينا، والتناسُق بين المقدمات والنتائج، الأصول وما يُبنى عليها، أنفسنا وما حولنا.

في ظل هذا العالَم المادي لا يمكن تأسيس أيَّة قيمة معرفية، وأهون المعاني هي معنى التقدُّم في الحياة يُهدر ويصير فاقدًا للمعنى. وتتولد من هذا أزمة العدمية؛ أيْ عدم المعنى فيما نفعل، وفي حقيقتنا، وفي الحياة كلها.

الملحدون العارفون بمعاني مذهبهم يعترفون بهذا، لكنهم يحاولون حلَّ الإشكال بالاعتراف أنهم لا يؤمنون بمعنى (كُليّ جامع) للحياة؛ لكنهم يؤمنون بمعنى في الحياة. وهنا يصوغ المؤلف سؤالين، يحاور بهما الطرح الإلحادي: لماذا لا ينتج التطور الدارويني إنسانًا قادرًا على الحياة بلا معنى؟! .. ما الفرق بين الملحدين الذين يريدون إنشاء معنى ظرفيّ مؤقت في حياةٍ يعرفون يقينًا أنها بلا معنى، وهؤلاء المُدمنين الذين يطلبون سعادة وهمية مؤقتة من المخدرات؟ .. ثم يُرجح المؤلف حال المُدمنين؛ لأنهم يعرفون أنها سعادة زائلة، ومن يروجها يعرف أنه يقدم حلًّا مؤقتًا لا دائمًا. لكن الملحدين يعظِّمون من أمر المعاني الجزئية الظرفية (التي يصنعونها لأنفسهم)؛ من وهم الخلاص الفردي إلى وهم الخلاص الجماعي.

فلا يمكن أن تروِّج لمعاني الحرية والعدالة وغيرها -التي هي قيم موضوعية مطلقة- في عالَم بلا معنى. وهنا يستخدم الملحد هذه المعاني مُخدرًا له؛ ليحتمل مرارة الحياة التي أقرَّ واهمًا أنها بلا معنى. ويعترض المؤلف على قول الملحد “فلنعشْ الحياة كأنَّ لها معنى”؛ بأنه قول مخالف لطبيعة الحال. كما لا يصح قول ملحد آخر “معنى الحياة أن نحب مَن يحبنا”؛ فالحياة الفارغة من القيمة لا تجعل الحب فضيلة؛ إنما مجرد استجابة غريزية لداعٍ مادي.

ويعجب المؤلف من أن ملحدين كثيرين يعيشون في ظل أهداف، مثل: الدفاع عن الأوطان، مقاومة الظلم، دعم العلم. كلُّ هذه قيم مُختَلَقَة مختَرَعة، لا قيم موضوعية؛ ورغم هذا نجدهم يشنِّعون على غير المؤمنين بها والمُتهاونين فيها؛ وبهذا يتعاملون معها بوصفها قيمًا موضوعية مُلزِمة للجميع، فيناقضون أصل موقفهم.

والقيمة الوحيدة التي يثبتها المؤلف لهم هي الاستجابة الحيوانية لدواعي الجوع المادي (الجوع والشهوة)، والإخلاص في تلبيتها يُضعف إحساسه بمتعتها. والموقف الإجمالي للملحدين في مسألة اختراع معنى في الحياة غير منضبطة بضابط، بل كلٌّ فيها حسب ما يهوى، ولا يمكن الإنكار على أحد. وتؤدي هذه الفوضى إلى كوارث؛ فنيرون وشارون وغيرهما أصحاب أهداف، لا يمكن الإنكار عليها في ظل الفكر الإلحادي.

ثم أنهى المؤلف المحور بذكره بعض أعلام الإلحاد، ومُعاناتهم مع قضية افتقاد المعنى في الحياة: “شوبهنور” والرغبة عن الحياة والزهد فيها، و”نيتشه” وفلسفة القوة، و”سارتر” الذي استعار الخير والشر من الرؤية اللاهوتية، و”كامُو” وفكرة سعادة المُكابدة والحياة في ظل لذة المكابدة، ثم “برتراند راسل” ودعوته إلى الدفاع عن المُثل العُليا في مواجهة هذا العالَم القاسي.

في مواجهة نفسه .. رصاصة الرحمة في صدر الإلحاد8 "الإلحاد في مواجهة نفسه" .. رصاصة الرحمة في صدر الإلحاد

· الإلحاد ووهم الأخلاق

عرض للأخلاق في الإسلام، في دعوة الإسلام لإقامة الأخلاق بين الناس، وأن الأخلاق موضوعية تدركها البداهة، وأنها معيار التفاضُل بين الناس، وأن الخُلُق الحَسَن يدركه الإنسان، ويكون غير المُسلم على خُلُق حسن.

ثم يبادر المؤلف الإلحاد بسؤال: لماذا يجب على المُلحد الالتزام بمبادئ أخلاقية معينة باستمرار، حتى عندما لا يكون ذلك في مصلحته الذاتية أو الآنية؟ .. ويصف الإلحاد الجديد بأنه “تيار أخلاقي، يتدثَّر بالشعارات الإنسانويَّة؛ للطعن في الدين، واتهامه أنه يُسمم كل شيء. وهو منهج دهريّ عُمدته أنه لن تستقيم البشرية على الخير حتى تترك أوهام الإيمان بإله، وتعتقد أن حياة الإنسان تبدأ في الأرحام وتنتهي عند لُحُود المقابر”.

ثم يُثنِّي بأن أعلام الإلحاد ينكرون أن للأخلاق حقيقة. وينقل بعض وجهاتهم. “مايكل رُوس” يفسر الأخلاق بأنها وهم دسَّتْه الجِيناتُ فينا؛ حتى نكون أفرادًا اجتماعيين مُتعاونين. ولنجاح هذا الوهم علينا الاعتقاد أن الأخلاق الجوهرية لها أساس موضوعي. و”سارتر” يعترف بالعدمية القيمية، و”روزنبرج” يقول: إن كل حُكم أخلاقي مرفوض، وفكرة المسموح أخلاقيًّا وهم.

فالإلحاد لا قيمة فيه؛ لذلك لا يمكن الخلوص إلى تصور أخلاقي. وقد حاول “سام هاريس” بناء أخلاق بالنظر إلى المآلات. لكن مذهبه مردود لعدم وجود غاية في الحياة، ولا شيء بعد الموت، ولا خصوصية للإنسان. واعتبار خصوصية الإنسان ركن أساس في البناء الأخلاقي. أما التصور الإلحادي؛ فالكون فيه فيزيائي بلا غاية ولا سبب، والإنسان فيه محض شكل حيوي.

ولا مجال لاستخدام العلم لتحديد الخير والشر؛ فإن مجال العلم فيزيائي مادي، “ليس سوى تغيرات في الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا”. ومن هذا الاتجاه دعوة البعض نقلَ مباحث الأخلاق إلى البيولوجيا. في التصور المادي، الإنسان هو كل شيء، ولكُلٍّ أخلاقه، ولا تثريب على أحد؛ “فالأخلاق -عند عامة أعلام الملاحدة اليومَ- دوافعها جِينيَّة، وطبيعتها مزاجية، وحقيقتها أنها وهم، وحُكمُها أنها بلا قيمة”. فلا فضيلة ولا رذيلة؛ لعدم وجود تصور الأخلاق الموضوعية. وامتناع وجود الأخلاق الموضوعية يعود على الملحد بنقض عمله في التزامه الإلحاد. ومن آثاره قبول الاختلافات -أيًّا كانت-؛ كقبول الشذوذ الجنسي.

آثار الداروينية خطيرة على المجال الأخلاقي، بانت هذه الإرهاصات منذ تدوين “داروين” كتابه “في أصل الأنواع”. وقد اعترف “دوكنز” بالفراغ الأخلاقي في ظل التطور الدارويني. “إن الفعل الذي يفعله الإنسان -مهما كان قبحه- لا يخرج في كليته -في التصور الإلحادي- عن أن يكون حركة فيزيائية لا علاقة لها بالحُسن والقبح؛ فقتل إنسان لآخر لا يخرج عن إدخال سكين بسرعة في بطن آخر .. أفعال لا معنى لإدانتها .. فلِمَ يُدان الإنسان في عالَم بلا أخلاق، باعتراف الملاحدة؟َ!”. والأخلاق المثالية تناقض طبيعة الانتخاب الطبيعي؛ الذي يقضي بالبقاء للأقدر على التكيف.

في مواجهة نفسه .. رصاصة الرحمة في صدر الإلحاد10 "الإلحاد في مواجهة نفسه" .. رصاصة الرحمة في صدر الإلحاد

· الإلحاد ووهم الجمال

بدأ في شق الإسلام بوظيفة المتعة الجمالية، ثم أشار إلى الجمال الأعمق في تقويم الإنسان، ثم في جمال أفعاله، وأقرَّ موضوعية الجمال.

ثم ذكر تكييف الملحدين الجمال بوصفه سحرًا، وأن العِلم رفع هذا المنظور السحريّ عن الإنسان، وألزم الطبيعة ورؤيتها بالكَميَّة الفيزيائية، وفسَّر الجمال بكونه وهمًا من أوهام البصر الفردي، يعود إلى الاستحسان الفردي لشيء ما، دون حقيقة موضوعية في الشيء نفسه. ثم نفى المؤلف اعتقاده بالرؤية المُغرقة في المثالية (الجمال ذات قائمة في عالم المثل)، كما نفى أن يكون الجمال مادة مختلطة بالطبيعة المادية للأشياء. وصرَّح أن موضوعية الجمال هي كون أشياء العالم مُصممة على صورة تثير الإحساس بالاستمتاع؛ إذا لم يقم بين الوعي وأشياء العالم حاجز. فالإمتاع موضوعي في الشيء؛ حتى إنْ لم يستمتع به أحد.

المؤمن بالداروينية لا يقدر على الاستمتاع بالجمال؛ فهو في عالم عشوائي لا جمال فيه، والجمال مقصور على وهم الرؤية الفردية. ورؤية جمال الطبيعة مُساوٍ لرؤية مَكبّ نفايات. وقد أثَّرت هذه الرؤية لقضية الجمال على الفن؛ فغيرت نظرته وأجدبت فيه العذوبة.

يورد المؤلف تفسير داروين لجمال الطاووس؛ بأن جماله ناجم عن انتخاب الأنثى للذكر الأجمل، ويلحظ عليه أنه لمْ يفسر بهذا أصل جمال الطاووس، ولم يفسر مسألة تذوق العجماوات (أنثى الطاووس) للجمال، ولا كيف بقي الطاووس بجماله المُتكلِّف رغم أن هذا يجذب أعداءه إليه ويسهل مهمة مفترسيه، وهذا ضد صفة التخفي والتمويه التي تقتضيها طبيعة بقائه، كما لم يفسر طبيعة التعقيد الجمالي في ريش الطاووس[14].

لكن الجمال -كما يفهمه المؤمنون- هو الأصل في الطبيعة. ثم أورد المؤلف نماذج ليثبت هذا من إدخال بعض العلماء الطبيعيين عنصر الجمال في مُعطيات عملهم، بل اعتباره معيارًا للصحة. منها تأييد فيلسوف العلوم الشهير “هنري بوانكارييه” أن الجمال هو الدافع في استثارة رجل العلم، ومنها تجربة “بول ديراك” -الفيزيائي الملحد الحاصل على نوبل- وقد تلاعب ببحثه في وصف سلوك الإلكترون؛ انحيازًا لرياضيات جميلة. وقادته المعادلة التي حرَّفها إلى الجمع بنجاح بين النسبية الخاصة وميكانيكا الكم، وصار كشفه ركنًا أساسيًّا في الفيزياء. وكيف أثرت هذه القصة على علماء آخرين في نظرتهم للجمال.

ثم سأل المؤلف سؤالين للملحدين: الجمال وجَّهَ العلماء في عملهم؛ فكيف يمكن اختزال الجمال في أوهام بصرية وذائقة شخصية؟ .. إذا كان الجمال شخصيًّا، ورتَّبَ عليه العلماء علمًا؛ فكيف نثق بهذا العلم الشخصي، وهو ذاتي لا يعكس العالَم الخارجي؟ .. ثم سأل عن الحب في مذهب الملحدين؛ هل يقع؟ وهنا يطرح السؤال حال التزام الملحد بمذهبه. “ذلك هو القلب في عالم الإلحاد؛ مضغة تتحرك بقهر الرصيد الجيني. فلم يبقَ بعد ذلك شيء جميل في العالم … لأن الجمال لا وجود له خارج كيمياء الدماغ”.

· كلمات في الختام

خمس صفحات أودع فيها مقتطفات ومقولات، تحمل فحوى ما تقدم، وخلاصته في كلمات جديدة، وأساليب سريعة مؤثرة. أختار منها: “خلاصة هذا الكتاب هي أن الإلحاد لا يرتقي أن يكون خطأ. إنه دون ذلك؛ إنه شيء مستحيل غير قابل للتصور، و”مستحيل”؛ لأنه لا يمكن أن يعاش .. فكيف يوجد إذن عندها ملحد صادق في إلحاده؟!”.

الهوامش:

  1.  كنت قد بحثت هذه السمة في تجربة مشابهة، في أول مقال من سلسلة المقالات التي عقدتها لمناقشة كتاب “المَخرج الوحيد” تأليف عبد الله الشهري. المقال تحت عنوان “كتاب المخرج الوحيد لماذا هو إضافة للمكتبة الإسلامية”. تقرأونه عبر هذا الرابط: https://tipyan.com/the-only-way-out-book-why-is-it-an-addition-to-the-islamic-library 
  2.  الموضوع يطول وبه الكثير من النقاش. وقد طرحته للحيز العام في المقال المُشار إليه في الهامش السابق.
  3. سأعود للتقعيد لما أطلقت عليه “أطروحة الضد”، فيما بعد في مقالات قادمة. لكنني أردت بث الفكرة ابتداءً في مناقشة الكتاب. 
  4.  أعظم استعراض فوق الأرض، أدلة التطور، تشارلز دوكنز، ج2، صـ273، ترجمة وتقديم/ مصطفى إبراهيم فهمي، الهيئة المصرية العامة للكتاب. 
  5.  السابق، صـ271. 
  6.  السابق، صـ9. 
  7. السابق، صـ69،68. 
  8.  الإلحاد في مواجهة نفسه، صـ21.
  9. يقصد الإمام “أبو البركات النسفي” أنك متى نفيت وجود حقائق في الكون؛ فقد أثبتّ حقيقة هي قولك، وبهذا نقضت قولك نقضًا ذاتيًّا. 
  10.  السابق، ج1، المقدمة. مع التنويه إلى أن السيد المترجم موافق تمام الموافقة للاتجاه المعروض في الكتاب، ثم نجده يجمع جمعًا لا مبرر له بين السابق وكونه مسلمًا! .. والمترجم السيد مصطفى حاصل على الدكتوراه في الكيمياء الإكلينيكية من لندن، كما أورد عن نفسه. ومقدمته الطويلة مليئة بالتناقضات والضعف المنطقي، المماثل لأعلام الاتجاه الذي يترجمه. 
  11.  السابق، صـ37. 
  12.  هذه القضية -مثلًا- دونها الكثير من المذاهب والتيارات في الفلسفات الجمالية، وفلسفة الفن خاصةً. والقول بها وراءه الكثير من التاريخ الفكري، والنقاشات. 
  13.  النظرة العلمية – برتراند راسل – المقدمة – تعريب/ عثمان نويه – الهيئة المصرية العامة للكتاب. 
  14.  هذا النموذج هام في التطور، وقد طرحه مترجم كتاب “أعظم استعراض على الأرض” في مقدمته، دليلًا على صحة الانتخاب الطبيعي، وإثبات “الانتخاب الجنسي”؛ الذي هو أحد أنواع الانتخاب. وأورد دخول الرياضيات والإحصائيات في إثباته، مع إشارته لبعض التجارب على الطاووس، وتفضيل الأنثى لطول الذيل؛ وإنْ كان الذيل صناعيًّا. انظر صـ20، ج1.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى