جرى خلاف كبير بين النحاة والمفسرين في جواب “إذا” وفي نوع الواو في قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾ في آية: ﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ﴾ [الزمر:73]. ولبيان هذا الخلاف والراجح فيه سنقسم الكلام في ذلك إلى مطلبين:
المطلب الأول: اختلاف المفسرين والمعربين في جواب "إذا":
اختلفوا في ذلك إلى قولين:
القول الأول: أن الجواب موجود في الآية.
واختلفوا في تعيينه:
فقال قوم: هو قوله: ﴿وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾.
وقال آخرون: هو قوله: ﴿ وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا﴾ وأن الواو زائدة[1]. وهذا قول الكوفيين. واستدلوا على قولهم بوجود ذلك في شواهد العربية؛ كقول الشاعر:
حَتَّى إذَا قَمِلَتْ بُطُونكُمُ
وَرَأَيْتُمُ أَبْنَاءَكُمْ شَبُّوا
وَقَلَبْتُمْ ظَهْرَ المِجَنِّ لَنَا
إنَّ اللَّئِيمَ العَاجِزَ الخِبُّ[2].
معناه عندهم: قلبتم ظهر المجن لنا[3].
وسيأتي مزيد تفصيل عند الحديث عن نوع الواو قريبًا.
القول الثاني: أن الجواب محذوف.
وهذا قول البصريين واختيار أبي عبيد والمبرد والزجاج، ورجحه ابن جرير وابن فورك والزمخشري والبيضاوي والرازي وابن القيم وأبو السعود، وغيرهم.
وحذف الجواب عند العرب أفخم وأبلغ [4].
قال الفارسي: ” قال أبو العباس: حذفُ الجواب في مثل هذه المواضع أفْخَمُ؛ لأنّ المخاطبَ يَتَوَهّمُ كُلَّ شيءٍ، فإذا ذُكِرَ شيءٌ بعينِه حَضَرَهُ فَهْمُه”[5].
وقال العكبري: ” وحذف الجواب كثير في القرآن والشعر فمنه قوله تعالى: ﴿ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ﴾[النور:10] وفي هذه السورة: ﴿ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾[النور:20] والتقدير: لهلكتم، وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ﴾[الرعد:31] أي: لكان هذا القرآن، وحذف الجواب أبلغ في هذا المعنى من ذكره، ولأن الموعود أو المتوعد إذا لم يذكر له جواب ذهب وهمه إلى أبلغ غايات الثواب والعقاب، فيكون أبلغ في الطاعة والانزجار”[6].
وقد ذكر أصحاب هذا القول تقديرات متعددة، فمن التقديرات التي ذكروها جوابًا لهذا الشرط:﴿حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا﴾:
أ- سعدوا، أي: حتى إذا كانت هذه الأشياء صاروا إلى السعادة [7].
ب- فازوا ونعموا [8].
ج- دخلوها [9].
د- حتى إذا جاؤوها جاؤوها وفتحت أبوابها، أي: مع فتح أبوابها [10].
وعلى معنى قول هؤلاء: أنه اجْتَمَع المجيءُ مع الدخول في حال، أي: حتى إذا جاءوها وقع مجيئهم مع فتح أَبْوَابِها [11].
هـ- اطمأنوا [12].
ز- نالوا المنى [13].
ح- صُدقوا وعدَهم، وطابت نفوسهم [14].
ط- عرفُوا صحّة وَمَا وُعدوا وعاينوه [15].
ي- صادفوا الثواب الذي وُعدوه [16].
ك- تمت سعادتهم [17].
أما عن حِكم حذف الجواب هنا فذكر أهل العلم من ذلك أموراً:
قال ابن القيم: “بقي أن يقال: فما السر في حذف الجواب في آية أهل الجنة، وذكره في آية أهل النار؟ فيقال: هذا أبلغ في الموضعين؛ فإن الملائكة تسوق أهل النار إليها وأبوابها مغلقة حتى إذا وصلوا إليها فتحت في وجوههم فيفجأهم العذاب بغتة، فحين انتهوا إليها فتحت أبوابها بلا مهلة؛ فإن هذا شأن الجزاء المرتب على الشرط أن يكون عقيبه؛ فإنها دار الإهانة والخزي، فلم يستأذن لهم في دخولها ويطلب إلى خزنتها أن يمكنوهم من الدخول، وأما الجنة فإنها دار الله ودار كرامته ومحل خواصه وأوليائه، فإذا انتهوا إليها صادفوا أبوابها مغلقة، فيرغبون إلى صاحبها ومالكها أن يفتحها لهم، ويستشفعون إليه بأولي العزم من رسله وكلهم يتأخر عن ذلك، حتى تقع الدلالة على خاتمهم وسيدهم وأفضلهم فيقول: أنا لها، فيأتي إلى تحت العرش ويخر ساجداً لربه فيدعوه ما شاء الله أن يدعوه، ثم يأذن له في رفع رأسه وأن يسأله حاجته، فيشفع إليه سبحانه في فتح أبوابها فيشفعه ويفتحها تعظيمًا؛ لخطرها وإظهاراً لمنزلة رسوله وكرامته عليه” [18]
وقال أيضًا: ” حذف الجواب لنكتة بديعة وهي: أن تفتيح أبواب النار كان حال موافاة أهلها ففتحت في وجوههم؛ لأنه أبلغ في مفاجأة المكروه، وأما الجنة فلما كانت ذات الكرامة وهي مأدبة الله، وكان الكريم إذا دعا أضيافه إلى داره شرع لهم أبوابها ثم استدعاهم إليها مفتحة الأبواب؛ أتى بالواو العاطفة ههنا الدالة على أنها جاءوها بعدما فتحت أبوابها، وحذف الجواب تفخيمًا لشأنه، وتعظيماً لقدرة كعادتهم في حذف الأجوبة”[19].
وقال كذلك: “… ومن فهم هذا فهم السر في حذف الواو في قوله تعالى: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾[الزمر: 71]، ففاجأهم وبغتهم عذابها وما أعد الله تعالى فيها، فهم بمنزلة من وقف على باب لا يدري بما يفتح له من أنواع الشر، إلا أنه متوقع منه شراً عظيمًا، ففتح في وجهه وفاجأه ما كان يتوقعه، وهذا كما تجد في الدنيا من يساق إلى السجن فإنه يساق إليه وبابه مغلق، حتى إذا جاءه فتح الباب في وجهه ففاجأته روعته وألمه، بخلاف ما لو فتح له قبل مجيئه.
وهذا بخلاف أهل الجنة فإنهم لما كانوا مساقين إلى دار الكرامة وكان من تمام إكرام المدعو الزائر أن يفتح له باب الدار فيجيء فيلقاه مفتوحًا فلا يلحقه ألم الانتظار فقال في أهل الجنة: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾ وحذف الجواب تفخيمًا لأمره، وتعظيمًا لشأنه على عادتهم في حذف الجوابات لهذا المقصد “[20].
وقال الزمخشري: ” وإنما حذف لأنه صفة ثواب أهل الجنة ، فدلّ بحذفه على أنه شيء لا يحيط به الوصف”[21].
وقال الرازي: ” والمقصود من الحذف أن يدل على أنه بلغ في الكمال إلى حيث لا يمكن ذكره” [22].
وقال أبو السعود: ” وجوابُ إذا محذوفٌ للإيذانِ بأن لهم حينئذٍ من فُنون الكراماتِ ما لا يَحدِقُ به نطاقُ العباراتِ”[23].
وقال السيوطي: “فحذف الجواب إذ كان وصف ما يجدونه ويلقونه عند ذلك لا يتناهى، فجعل الحذف دليلاً على ضيق الكلام عن وصف ما يشاهدونه، وتركت النفوس تقدر ما شاءته ولا تبلغ مع ذلك كنه ما هنالك” [24].
وقال ابن عجيبة: “وجواب ” إذا ” محذوف؛ للإيذان بأن لهم من فنون الكرامة ما لا تُحيط به العبارة، كأنه قيل: حتى إذا جاؤوها، وقد فتحت أبوابها، كان من الأمر والخبر ما يقصر عنه البيان”[25].
الترجيح:
ويبدو أن القول بالحذف هو الراجح؛ لكونه أليق ببلاغة القرآن وإعجازه، واشتماله على المعاني المتكاثرة، “وحذف الجواب بليغ في كلام العرب، قال الشاعر:
فَلَوْ أنَّهَا نَفْسٌ تَمُوتُ جَمِيعَة
ولَكنَّهَا نَفْسٌ تَسَاقَطُ أنْفُسَا [26].
فحذف جواب “لو” والتقدير: لكان أروح [27].
قال سيبويه: “وسألت الخليل عن قوله جل ذكره: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾
أين جوابها؟ وعن قوله جل وعلا: ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ﴾ [البقرة: 165]، ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ﴾ [الأنعام: 27]؟ فقال: إن العرب قد تترك في مثل هذا الخبر الجوابَ في كلامهم؛ لعلم المخبر لأي شيءٍ وضع هذا الكلام” [28].
وقال ابن كثير: “لم يذكر الجواب هاهنا، وتقديره: حتى إذا جاءوها، وكانت هذه الأمور من فتح الأبواب لهم إكرامًا وتعظيمًا، وتلقتهم الملائكة الخزنة بالبشارة والسلام والثناء، لا كما تلقى الزبانية الكفرة بالتثريب والتأنيب، فتقديره: إذا كان هذا سَعِدوا وطابوا، وسُرّوا وفرحوا، بقدر كل ما يكون لهم فيه نعيم. وإذا حذف الجواب هاهنا ذهب الذهن كل مذهب في الرجاء والأمل” [29].
وقال الرماني: “كأنه قيل: حصلوا على النعيم المقيم الذي لا يشوبه التنغيص والتكدير، وإنما صار الحذف في مثل هذا أبلغ من الذكر؛ لأن النفس تذهب فيه كل مذهب، ولو ذكر الجواب لقصر عن الوجه الذي تضمنه البيان” [30].
المطلب الثاني: اختلاف المفسرين والمعربين في بيان نوع الواو في قوله تعالى: ﴿وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾:
اختلفوا في ذلك إلى أربعة أقوال:
القول الأول: أنها زائدة، ودخولها كخروجها.
وهذا قول الكوفيين والأخفش، ويسمى الحرف الزائد في القرآن صلة، فـ “فتحت” جواب “إذا” والواو صلة جيء بها لتوكيد المعنى بدليل الآية الأخرى قبلها وهي: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾[الزمر:71] بغير واو، وهذا له ما يشهد له كقول الشاعر:
فإذَا وَذلكَ يا كُبَيْشَةُ لَمْ يَكُن
إلا تَوَهُّمَ حَاِلمٍ بِخَيالِ [31].
فيشبه أن يكون يريد: فإذا ذلك لم يكن [32].
وقول امرئ القيس:
فَلمَّا أَجَزْنا ساحةَ الحَيِّ وانْتَحَى
بِنا بَطنُ حِقْفٍ ذي رُكامٍ عَقَنْقَلِ [33].
أي: انْتَحَى [34].
واختار هذا القول ابن مالك، حيث قال: ” فمن زيادة الواو قوله تعالى: ﴿وفُتِحت أبوابُها وقال لهم خزنتها﴾ قال الحسن: أي: قال لهم خزنتها”[35].
وقد ردّ هذا القول بعض العلماء؛ كابن عطية وابن القيم:
قال ابن عطية: ” وقيل: هي زائدة، وهذا قول ضعيف لا معنى له”[36].
وقال ابن القيم: “وقالت طائفة أخرى: الواو زائدة، والجواب الفعل الذي بعدها كما هو في الآية الثانية، وهذا أيضًا ضعيف؛ فإن زيادة الواو غير معروف في كلامهم، ولا يليق بأفصح الكلام أن يكون فيه حرف زائد لغير معنى ولا فائدة”[37].
القول الثاني: أنها واو الحال، فالمعنى: جاؤوها وقد فُتحت أبوابها فُدخلت.
فأدخل الواو لبيان أنها كانت مفتحة قبل مجيئهم. وحذفها في الآية الأولى لبيان أنها كانت مغلقة قبل مجيئهم.
قال قوام السنة الأصبهاني: فدخلت واو الحال لتدل على أنّهم إذا جاءوها وجدوا أبوابها مفتحة، فلم يعقهم عائق عن الدخول، وحُذِفت من الأول، كأن جهنم قد أغلقت، وأقيموا على أبوابها؛ لأنّه أشدّ لخوفهم وفزعهم؛ لأنَّ البلاء توقعه أشد من وقوعه[38].
قال المرادي: ” وأما قوله تعالى: ﴿وفتحت﴾ فقال أبو علي وغيره: هي واو الحال، والمعنى: حتى إذا جاؤوها وقد فتحت. أي: جاؤوها، وهي مفتحة، لا يوقفون. وهذا قول المبرد أيضاً. وقيل: إن أبواب جهنم لا تفتح، إلا عند دخول أهلها، وأما أبواب الجنة فيتقدم فتحها، بدليل قوله تعالى: ﴿ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ ﴾[ص:50]”[39].
وهذا قول المبرد، والفارسي، واختاره من المفسرين: الثعلبي، وابن عطية، وابن جزي، والقاسمي، وابن عاشور، وغيرهم، وقال به أيضًا صلاح الدين العلائي.
ووجه الحكمة في ذلك من أوجه:
أحدها: أن أهل الجنة جاؤوها وقد فتحت أبوابها ليستعجلوا السرور والفرح إذا رأوا الأبواب مفتحة، وأهل النار يأتونها وأبوابها مغلقة ليكون أشد لحرها. فناسب كونها حالاً: أن أبواب الأفراح تكون مفتحة لانتظار من تجيء إليها، بخلاف أبواب السجون.
وثانيها: أن الوقوف على الباب المغلق نوع ذل فصين أهل الجنة عنه وجعل في حق أهل النار.
وثالثها: أنه لو وجد أهل الجنة بابها مغلقًا لأثر انتظار فتحه في كمال الكرم، ومن كمال الكرم غلق باب النار إلى حين مجيء أهلها؛ لأن الكريم يعجل المثوبة ويؤخر العقوبة، وقد قال عز وجل: ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾ [النساء].
وهذا قول المبرد، والفارسي، واختاره من المفسرين: الثعلبي، وابن عطية، وابن جزي، والقاسمي، وابن عاشور، وغيرهم، وقال به أيضًا صلاح الدين العلائي [40].
القول الثالث: أنها عاطفة.
فالواو واو العطف دخلت في آخر الكلام؛ إخباراً عن عددهم لتفصل أمرهم وتدل على أن هذا نهاية ما قيل، ولو سقطت لصح الكلام[41].
والتقدير: حتى إذا جاؤوها وصلوا، وفتحت أبوابها[42].
قال ابن القيم: “وقالت طائفة ثالثة: الجواب محذوف، وقوله: ﴿وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾ عطف على قوله: ﴿جَاءُوهَا﴾، وهذا اختيار أبي عبيدة والمبرد والزجاج وغيرهم، قال المبرد: وحذف الجواب أبلغ عند أهل العلم، قال أبو الفتح ابن جني: وأصحابنا يدفعون زيادة الواو ولا يجيزونه، ويرون أن الجواب محذوف؛ للعلم به”[43].
واختار هذا القول: ابن الأنباري، والثعالبي[44].
القوال الرابع: أنها واو الثمانية.
وذلك لأن أبواب الجنة ثمانية، ولم تذكر عند الحديث عن النار؛ لأن أبوابها سبعة، ومن عادة قريش أنهم يعدون من الواحد فيقولون: خمسة ستة سبعة وثمانية، فإذا بلغوا السبعة قالوا: وثمانية[45].
قال المرادي:”…قالوا: من خصائص كلام العرب: إلحاق الواو في الثامن من العدد، فيقولون: واحد اثنان ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة وثمانية، إشعاراً بأن السبعة عندهم عدد كامل”[46].
وقال ابن عطية: ” وحدثني أبي رضي الله عنه عن الأستاذ أبي عبد الله الكفيف المالقي- وكان ممن استوطن غرناطة وقرأ فيها في مدة ابن حبوس- : هي لغة فصيحة لبعض العرب من شأنهم أن يقولوا إذا عدوا: واحد اثنان ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة وثمانية تسعة عشرة، فهكذا هي لغتهم، ومتى جاء في كلامهم أمر ثمانية أدخلوا الواو”[47].
وهذا القول قاله بعض العلماء كابن خالويه والحريري:
قال ابن خالويه: “..وقال آخرون: العرب تعدّ من واحد إلى سبعة وتسميه «عشرا» ثم يأتون بهذه الواو فيسمونها «واو العشر» ليدلوا بذلك على انقضاء عدد، وذلك في مثل قوله تعالى: ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ.. ﴾ [التوبة:112]، فلما سمّى سبعة أتى بعد ذلك بالواو، ومثله قوله: ﴿وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ [ الكهف: 22]، ومثله قوله تعالى في صفة الجنة: ﴿وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾؛ لأن للجنة ثمانية أبواب، وللنار سبعة”[48].
وقال الحريري: “ومن خصائص لغة العرب: إلحاق الواو في الثامن من العدد؛ كما جاء في القرآن: ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة:112]، وكما قال سبحانه: ﴿سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ [ الكهف: 22]، ومن ذلك أنه جل اسمه لما ذكر أبواب جهنم ذكرها بغير واو؛ لأنها سبعة فقال: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾، ولما ذكر أبواب الجنة ألحق بها الواو لكونها ثمانية فقال سبحانه: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾، وتسمى هذه الواو واو الثمانية”[49].
وذكره الفيروز آبادي في معاني الواو عند هذه الآية من سورة الزمر[50].
وهو ظاهر قول ابن فورك؛ حيث قال: ” جاء في الجنة ﴿وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾ بالواو، دون أبواب النار؛ لأن أبواب الجنة ثمانية، ففرق بينهما للإيذان بهذا المعنى”[51].
ونسب بعض العلماء- كابن الجوزي والمرادي وابن هشام وغيرهم- هذا القول أيضًا إلى الثعلبي[52].
لكنني رجعت إلى تفسير “الكشف والبيان” للثعلبي عند تفسير هذه الآية فوجدته حكى ذلك القول عن بعض شيوخه ولم يقل به هو، بل الذي قاله: إن هذه الواو للحال، وهذا نص قوله عند آية الزمر: “﴿وَفُتِحَتْ﴾ الواو فيه واو الحال ومجازه: وقد فتحت أبوابها، فأدخل الواو هاهنا لبيان أنها كانت مفتحة قبل مجيئهم، وحذفها من الآية الأولى لبيان أنها كانت مغلقة قبل مجيئهم، ويقال: زيدت الواو هاهنا؛ لأن أبواب الجنّة ثمانية وأبواب الجحيم سبعة، فزيدت الواو هاهنا فرقاً بينهما..”.
ثم نسب القول بأنها واو الثمانية لبعض شيوخه عن غيرهم فقال: ” حكى شيخنا عبد الله بن حامد عن أبي بكر بن عبدش أنها تسمى واو ثمانية. قال: وذلك أن من عادة قريش أنهم يعدون العدد من الواحد إلى الثمانية، فإذا بلغوا الثمانية زادوا فيها واوًا فيقولون: خمسة، ستة، سبعة، وثمانية…” [53].
ولعل من نسب إلى الثعلبي القول بهذا القول اعتمد على ما ذكره في سورة الكهف حين قال: ” وقال بعضهم: هذه الواو واو الثمانية، إن العرب يقولون: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة، سبعة، وثمانية، لأن العقد كان عندهم سبعة كما هو اليوم عندنا عشرة. ونظيره قوله تعالى: ﴿التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾، وقوله في صفة أهل الجنّة: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوابُها﴾ وقوله لأزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم: ﴿ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً﴾” [54].
وهذا القول من الثعلبي في تفسير سورة الكهف وإن كان ظاهره الموافقة على أنها واو الثمانية؛ لكن قوله في تفسير آية الزمر يخالف ذلك، فكان الأولى الاعتماد على قوله هنا وترك قولك هناك؛ لسببين: الأول: أن هذا قوله عند تفسير الآية، والثاني: أن هذا هو المتأخر لديه. والله أعلم.
وقد رد بعض العلماء المحققين القول بأن الواو في الآية واو الثمانية:
قال ابن القيم: ” وهذا في غاية البعد، ولا دلالة في اللفظ على الثمانية حتى تدخل الواو لأجلها”[55].
وقال أيضًا: “وهذه الطريقة تريحك من دعوى زيادة الواو، ومن دعوى كونها واو الثمانية؛ لأن أبواب الجنة ثمانية؛ فإن هذا لو صح فإنما يكون إذا كانت الثمانية منسوقة في اللفظ واحداً بعد واحد فينتهون إلى السبعة ثم يستأنفون العدد من الثمانية بالواو، وهنا لا ذكر للفظ الثمانية في الآية ولا عدها فتأمله، على أن في كون الواو تجيء للثمانية كلامًا آخر قد ذكرناه في الفتح المكي، وبينا المواضع التي ادعي فيها أن الواو للثمانية، وأين يمكن دعوى ذلك، وأين يستحيل”[56].
وقال أيضًا: “فقالت طائفة: هذه واو الثمانية دخلت في أبواب الجنة لكونها ثمانية، وأبواب النار سبعة فلم تدخلها الواو، وهذا قول ضعيف لا دليل عليه، ولا تعرفه العرب، ولا أئمة العربية، وإنما هو من استنباط بعض المتأخرين”[57].
و”قال القفال: وقولهم: واو الثمانية ليس بشيء؛ بدليل قوله تعالى: ﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾[الحشر:23]، ولم يذكروا الواو في النعت الثامن”[58].
وقال العلائي:” ..وهو قول لا دليل له ولا أصل له، وأعجب من ذلك أنهم قالوا في قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾ إنها واو الثمانية؛ لأن الجنة كلها ثمانية أبواب، وهو تخيل عجيب!”[59].
وقال ابن هشام: “وأقول: لو كان لواو الثمانية حقيقة لم تكن الآية منها؛ إذ ليس فيها ذكر عدد البتة، وإنما فيها ذكر الأبواب، وهي جمع لا يدل على عدد خاص، ثم الواو ليست داخلة عليه، بل هي جملة هو فيها”[60].
وقال ابن كثير: “ومن زعم أن “الواو” في قوله: ﴿وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾ واو الثمانية، واستدل به على أن أبواب الجنة ثمانية، فقد أبعد النّجْعَة وأغرق في النزع. وإنما يستفاد كون أبواب الجنة ثمانية من الأحاديث الصحيحة”[61].
وقال القاسمي: “وقال في (الانتصاف) : الصواب في الواو ما تقدم من كونها لتأكيد اللصوق. لا كمن يقول: إنها واو الثمانية؛ فإن ذلك أمر لا يستقر لمثبته قدم. ويعدون مع هذه الواو في قوله في الجنة: ﴿وَفُتِحَتْ أَبْوابُها﴾ قالوا: لأن أبواب الجنة ثمانية وأبواب النار سبعة، وهب أن في اللغة واواً تصحب الثمانية فتختص بها، فأين ذكر العدد في أبواب الجنة حتى ينتهي إلى الثامن فتصحبه الواو؟ وربما عدوا من ذلك: ﴿وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ وهو الثامن من قوله: ﴿التَّائِبُونَ﴾ وهذا أيضًا مردود بأن الواو إنما اقترنت بهذه الصفة لتربط بينها وبين الأولى التي هي: ﴿الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ لما بينهما من التناسب والربط؛ ألا ترى اقترانهما في جميع مصادرهما ومواردهما؟ كقوله: ﴿يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾[التوبة: 71]، وكقوله: ﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾[لقمان: 17] ، وربما عدّ بعضهم من ذلك، الواو في قوله: ﴿ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً﴾؛ لأنه وجدها مع الثامن. وهذا غلط فاحش؛ فإن هذه واو التقسيم. ولو ذهبت تحذفها فتقول: ثيبات أبكارا لم يستدّ الكلام. فقد وضح أن الواو في جميع هذه المواضع المعدودة واردة لغير ما زعمه هؤلاء”[62].
وقال الأزهري: “وقولهم: إن منها- أي: من واو الثمانية-: قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ [ الكهف: 22]، وهذا القول لا يرضاه نحوي؛ لأنه لا يتعلق به حكم إعرابي، ولا سر معنوي”[63].
الترجيح:
ويبدو أن القول بأن الواو في ﴿وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾ واو الحال هو القول الراجح؛ لما تقدم من وجوه التأييد له وإبطال ما سواه، والله أعلم.
الهوامش:
- سر صناعة الإعراب(2/646).
- البيتان -غير منسوبين- في جمهرة الأمثال، لأبي هلال العسكري (2/125).
- المجن: الترس، الخب: المخادع. المعجم الوسيط( 1/141)، (1/214).
- ينظر: سر صناعة الإعراب(2/646)، تفسير الطبري 7/293)، تفسير البحر المحيط (7/425)، الخصائص (2/462).
- ينظر: الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين (2/ 459)، إعراب القرآن، لأبي جعفر النحاس (4/22)، معاني القرآن وإعرابه للزجاج (4/ 364)، تفسير الطبري (21/341)، تفسير ابن فورك (2/ 338)، تفسير الكشاف (4/ 150)، تفسير البيضاوي (5/ 50)، تفسير الرازي(27/ 480)، حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح(ص: 38)، تفسير أبي السعود (7/ 264).
- التعليقة على كتاب سيبويه (2/ 211).
- اللباب في علل البناء والإعراب (1/ 420).
- قاله المبرد. إعراب القرآن، للنحاس (4/ 22)، حجة القراءات (ص: 626).
- قاله ابن الأنباري. الإنصاف في مسائل الخلاف (2/ 459).
- قاله الزجاج، وارتضاه الطبري. تفسير البغوي (7/133)، تفسير الطبري (21/341). قال الزجاج: ” والذي قلته أنا – وهو القول إن شاء اللَّه – أن المعنى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾؛ دخلوها. فالجواب ” دخلوها “، وحذف لأن في الكلام دليلاً عليه”. معاني القرآن وإعرابه للزجاج (4/ 364).
- نقله الزمخشري غير منسوب. الكشاف(4/150).
- معاني القرآن وإعرابه للزجاج (4/ 364).
- قاله العكبري. التبيان في إعراب القرآن (2/ 1114).
- الجنى الداني في حروف المعاني (ص: 169).
- الخصائص (2/ 464).
- اللباب في علل البناء والإعراب (1/ 420).
- شرح المفصل لابن يعيش (5/ 12).
- تفسير ابن فورك (2/ 338).
- حادي الأرواح (ص: 38).
- بدائع الفوائد (3/ 54).
- بدائع الفوائد (2/ 175).
- تفسير الكشاف (4/ 150).
- تفسير الرازي(27/ 480).
- تفسير أبي السعود (7/ 264).
- الإتقان في علوم القرآن(3/190).
- البحر المديد (6/430).
- البيت لامرئ القيس، ديوانه (112).
- تفسير القرطبي(15/285).
- كتاب سيبويه (3/103).
- تفسير ابن كثير (7/121).
- إعراب القرآن وبيانه(8/453).
- البيت لابن مقبل في ديوانه: (ص: 124).
- ينظر: الخصائص(2/462)، مغني اللبيب(ص: 473)، موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب(ص: 145)، معانى القرآن ــ للأخفش (1/96)، تفسير الطبري (21/340)، الجنى الداني في حروف المعاني (ص: 166)، دليل الطالبين لكلام النحويين (ص: 88)، شرح قواعد الإعراب (1/ 154)، همع الهوامع في شرح جمع الجوامع (3/ 190).
- ديوان امرئ القيس (ص: 3).
- التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل (7/ 323). وقد أجاب القائلون بعدم الزيادة بأن الجواب في هذا البيت محذوف وتقدير الكلام: فلما أجزنا ساحة الحي خلونا ونعمنا. إعراب القرآن للأصبهاني (ص: 355).
- شرح التسهيل لابن مالك (3/ 355).
- المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (3/ 89).
- حادي الأرواح (ص: 38).
- إعراب القرآن للأصبهاني (ص: 356).
- الجنى الداني في حروف المعاني (ص: 169).
- ينظر: تفسير البغوي (7/133)، زاد المسير(7/199)، موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب (ص: 146)، مغني اللبيب(ص: 475-476)، شرح كتاب سيبويه (3/ 311)، إيجاز البيان عن معاني القرآن (2/ 723)، الكشف والبيان (8/257)، المحرر الوجيز (3/ 349)، التسهيل لعلوم التنزيل (2/ 476)، تفسير الخازن (6/ 86)، محاسن التأويل (8/ 298)، التحرير والتنوير (24/ 71)، الفصول المفيدة في الواو المزيدة(ص: 142)، البحر المحيط في التفسير (9/ 225).
- مغني اللبيب (ص: 476)، الإنصاف في مسائل الخلاف (2/459)، موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب (ص: 146)، تفسير الثعالبي (2/375).
- حجة القراءات (ص: 626).
- حادي الأرواح (ص: 38).
- الإنصاف في مسائل الخلاف (2/459)، تفسير الثعالبي (2/375).
- ينظر: تفسير القرطبي (15/285)، التحرير والتنوير (24/137)، موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب (ص: 146)، بحر العلوم(3/188).
- الجنى الداني في حروف المعاني (ص: 167).
- المحرر الوجيز (3/ 102).
- الحجة في القراءات السبع (ص: 311).
- درة الغواص في أوهام الخواص(ص:31).
- بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز (5/ 146).
- زاد المسير (7/200)، الجنى الداني في حروف المعاني (ص: 167)، مغني اللبيب(ص: 477).
- الكشف والبيان (8/257).
- الكشف والبيان (6/162).
- بدائع الفوائد (3/ 54).
- بدائع الفوائد (2/401).
- حادي الأرواح (ص: 38).
- السراج المنير (2/ 364).
- الفصول المفيدة في الواو المزيدة (ص: 142).
- مغني اللبيب (ص: 475).
- تفسير ابن كثير( 7/121).
- محاسن التأويل (7/ 21).
- موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب (ص: 146).