أشتات

مع الأستاذ الإمام المفسِّر محمَّد الطَّاهر بن عاشور (1-2)

 ❞ إنَّ القرآن حمَّال ذو وجوه ❝ علي بن أبي طالب.

 ❞ لا يكون أحد فقيهًا، حتى يحمل الآية الواحدة على محامل متعددة ❝ أبو الدرداء.

منذ قرابة عشر سنوات، وأثناءَ قراءتي في سورة (القمر)، لفتَ انتباهي الآية التَّاسعة منها، وهي (كذَّبت قبلهم قوم نوحٍ، فكذَّبوا عبْدَنا).

أثار اهتمامي هذا التركيب الذي بدا لي غريبًا لأولِ وهلة. وكان السؤال: لماذا تكرَّرت كلمة كذَّب مرتين (كذَّبت قبلهم قوم نوح، فكذبوا…!)، وما الذي تعنيه في المرةِ الثَّانية غير معناها في المرةِ الأولى؟!

عدت لتفسير “التَّحرير والتنوير” للعلامة محمَّد الطاهر بن عاشور، علِّي أن أجدَ جوابًا شافيًا، ولا أنكر أني اقتنعت في بادئ الأمر بما وجهه من أقوالٍ حول هذا المسألة، ثمَّ مرَّ وقتٌ طويل، ودار نقاشٌ بيني وبين أحد أقربائي ممن لهم تعلقٌ بالعلم، وهو في المرحلة العليا (الدكتوراة) في تخصصِ النَّحو.

دار البحث حول غرابة هذا التركيب، فنقل لي كلام ابن عاشور، وأثناء النقاش معه، انقدحَ في ذهني معنىً يخالفُ ما ذهبَ إليه ابن عاشور، وغالب علماء التفسير حول تفسير هذه الآية.

قال ابن عاشور رحمه الله:

(كذَّبت قبلهم قوم نوحٍ، فكذَّبوا عبْدنا، وقالوا مجنونٌ وازدجِر).

استئنافٌ بيانيّ ناشئٌ عن قوله: (ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر) [القمر: 4]؛ فإنَّ من أشهرها تكذيب قوم نوح رسولهم، وسبقَ الإِنباء به في القرآن في السور النازلة قبل هذه السورة.

والخبر مستعمل في التذكير؛ وليفرع عليه ما بعده؛ فالمقصود النعي عليهم عدم ازدجارهم بما جاءهم من الأنباء بتعداد بعض المهمّ من تلك الأنباء.

1- وفائدة ذكر الظرف (قبلهم) تقرير تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي أن هذه شنشنة أهل الضلال كقوله تعالى: (وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك). [فاطر: 4]. ألا ترى أنه ذكر في تلك الآية قوله: (من قبلك) نظير ما هنا، مع ما في ذلك من التعريض بأن هؤلاء معرِضون.

واعلم أنه يقال: كذَّب، إذا قال قولاً يدل على التكذيب، ويقال: كذّب أيضًا، إذا اعتقد أن غيره كاذب؛ قال تعالى: (فإنهم لا يكذبونك) [1] [الأنعام: 33] في قراءة الجمهور بتشديد الذال، والمعنيان محتملان هنا.

2- فإن كان فعل (كذبت) هنا مستعملاً في معنى القول بالتكذيب، فإن قوم نوح شافهوا نوحًا بأنه كاذب، وإن كان مستعملاً في اعتقادهم كذبه، فقد دلّ على اعتقادهم إعراضهم عن إنذاره، وإهمالهم الانضواء إليه عندما أنذرهم بالطوفان […]،

3- والفاء في قوله: (فكذَّبوا عبدنا)؛ لتفريع الإِخبار بتفصيل تكذيبهم إياه، بأنهم قالوا: (مجنونٌ وازدجر)، على الإِخبار بأنهم كذّبُوه على الإِجمال؛

4- وإنما جيء بهذا الأسلوب؛ لأنه لما كان المقصود من الخبر الأول تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فرّع عليه الإخبار بحصول المشابهة بين تكذيب قوم نوح رسولهم، وتكذيب المشركين محمداً صلى الله عليه وسلم في أنه:

5- تكذيب لمن أرسله الله، واصطفاه بالعبودية الخاصة، وفي أنه تكذيب مشوب ببهتان؛ إذ قال كلا الفريقين لرسوله: مَجنون، ومشوب ببذاءة؛ إذ آذى كلا الفريقين رسولهم وازدجروه.

6- فمحل التفريع هو وصف نوح بعبودية الله تكريمًا له،

7- والإِخبار عن قومه بأنهم افتروا عليه وصفَه بالجنون، واعتدوا عليه بالأذى والازدجارِ.

8- فأصل تركيب الكلام: كذبت قبلهم قوم نوح، فقالوا: مجنون وازدجر[2].

9- ولما أريد الإِيماء إلى تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم ابتداءً، جعل ما بعد التسلية مفرعًا بفاء التفريع؛ ليظهر قصد استقلال ما قبله، ولولا ذلك لكان الكلام غنيًا عن الفاء؛ إذ كان يقول: كذبت قوم نوح عبدنا.

10- وأعيد فعل (كذَّبوا)؛ لإِفادة توكيد التكذيب؛ أي هو تكذيب قويّ، كقوله تعالى: (وإذا بطشتم بطشتم جَبارين) [الشعراء: 130]، وقوله: (ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا) [القصص: 63]، وقول الأحوص:

فإذا تزولُ تزولُ عن متخمطٍ

تُخشى بوادِرهُ على الأقران

وقد نبه على ذلك ابن جنيّ في إعراب هذا البيت من “ديوان الحماسة”، وذَكَر أن أبا عليّ الفارسي نحا غير هذا الوجه […].

وحاصل نظم الكلام يرجع إلى معنى: أنه حصل فعل، فكان حصوله على صفة خاصة أو طريقة خاصة.

11- ويجوز أن يكون فعل (كذبت) مستعملاً في معنى: إنهم اعتقدوا كذبه، فتفريع (فكذّبوا عبدنا) – عليه، تفريع تصريحهم بتكذيبه على اعتقادهم كذبه؛ فيكون فعل (كذبوا) مستعملاً في معنى غير الذي استعمل فيه فعل (كذبت)، والتفريع ظاهر على هذا الوجه.

وهذا الوجه يتأتّى في قوله تعالى: (وكذَّب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي) في سورة سبأ (45).

12- ويجوز أن يكون قوله: (كذبت قبلهم قوم نوح) إخبارًا عن تكذيبهم بتفرد الله بالإِلهية حين تلقوه من الأنبياء الذين كانوا قبل نوح، ولم يكن قبله رسول؛ وعلى هذا الوجه يكون التفريع ظاهراً”[3].

هذا حاصل ما ذكره العلامة ابن عاشور، وقد قمتُ بوضعه في فقرات مرقَّمة، مع حذف ما لا تعلُّقَ له بموضوع النقاش، مشيرًا إلى ذلك الحذف بثلاث نقاط بين معقوفتين؛ لكي يسهل مناقشة أهم الأفكار الواردة فيه.

فإلى مناقشة النص:

قال ابن عاشور في الفقرة (1):

“وفائدة ذكر الظرف (قبلهم) تقرير تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي أن هذه شنشنة أهل الضلال كقوله تعالى: (وإن يكذبوك فقد كُذبت رسل من قبلك)[فاطر: 4]”.

أقول: هذا التركيب الذي أشار إليه ابن عاشور، والذي جاء على أسلوب الشرط، وهو (إن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك) [الحج:42]، يشبه الجملة الخبرية الواردة في قوله تعالى: (كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا) [القمر:9] = من وجه، ويختلف عنها من وجه آخر.

the مع الأستاذ الإمام المفسِّر محمَّد الطَّاهر بن عاشور (1-2)

فالجملة الشرطية في (وإن يكذِّبوك، فقد كذَّبت رسل من قبلك)، هي التي تفيد المواساة لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، والملاحظ فيها حذف جواب الشرط، ويمكن تقدير الكلام: فإن يكذِّبوك، فاصبر، أو فلا تحزن؛ فقد كُذبت رسل من قبلك، ولك فيهم أسوة. وهذا نحو قوله تعالى: (ولقد كذبت رسل من قبلك، فصبروا على ما كذبوا وأوذوا) [الأنعام: 34].

وليس في الجملة الخبرية (كذبت قبلهم قوم نوح، فكذبوا عبدنا، وقالوا مجنون وازدجر) -بحسب رأي الباحث- تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وإنما فيها نعي على مشركي مكة مشابهتهم وتقليدهم في الكفر والتكذيب من سبقهم وهم قوم نوح، وتنديد بهم بأن تكذيبهم، إنما هو تكذيب لمن اختصه الله بعبوديته- ولا يخفى ما في الإضافة إليه جل وعلا من التشريف والتنويه بعظيم قدره صلى الله عليه وسلم عند ربه-، ثم هي تهديد لهم بأن تكذيبهم له- ملحقُهُم- ولا ريب- بأشياعهم قوم نوح حين أغرقهم الله سبحانه بالطوفان. (ويل يومئذ للمكذبين ألم نهلك الأولين، ثم نتبعهم الآخرين، كذلك نفعل بالمجرمين) [المرسلات: 15- 18].

كما أن فيها إشارة وتعريضًا لنبيه محمد بالدعوة على صناديد المشركين من قومه، ممن كذبوه وأسرفوا في عداوته وأذيته، كما دعا نوح على قومه بعد يأسه من هدايتهم.

أما وجه الشبه بين الجملتين الشرطية والخبرية، فهو أننا لو تأملنا تركيب الجملة الشرطية: (وإن يكذبوك، فقد كذبت رسل من قبلك)، سنجد الفعل (كذب) الواقع بصيغتين مختلفتين في الجملتين الواقعتين بين الفاء؛ سنجد الأول منهما يقترن بضمير الجمع (وإن يكذبوك)، والثاني بصيغة المفرد المبني للمجهول، (فقد كُذبت رسل من قبلك)، كما أننا نلاحظ أن معمولي الفعلين لشخوص مختلفة، فالأول معموله الدال على الفاعل هو ضمير الجماعة الدال على مشركي قريش، ومفعوله ضمير الخطاب (الكاف)، والمقصود به نبينا محمد- صلى الله عليه وآله وسلم-، والثاني، وهو الفعل المبني للمجهول في قوله: (فقد كذبت) معموله (رسل)؛ الواقع نائبًا للفاعل، وهو في الأصل مفعول به، وهو نفس التركيب والشبه الوارد أيضًا في سورة الحج، في قوله تعالى: (وإن يكذبوك، فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود). [الحج:42].

ولزيادة الأمر إيضاحًا، فلنعرض هذيْنِ الفعليْن في التركيبين النحويين المختلفين في صيغتيهما: الخبرية، والشرطية الثانية؛ أعني في قوله: (كذبت قبلهم قوم نوح، فكذبوا عبدنا)، وفي: (وإن يكذبوك، فقد كذبت قبلهم قومُ نوح وعاد وثمود).

إذ نلاحظ أن متعلق الفعلين: (يكذبوك)، و(كذبت) ومعمولاتهما في الجملة الشرطية تدل على شخوص مختلفة؛ ففعل وإن (يكذبوك) الفاعل فيه ضمير الجمع يدل على مشركي مكة، ومفعوله (الكاف) الدالة على الخطاب تعود إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، أما قوله: (فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود)، ففاعله قوم نوح وما عطف عليه، ومعموله الواقع مفعولًا به محذوف معروف من دلالة السياق، وهو أنبياءهم.

وهذا ما يجعلنا نصير أيضًا إلى القول بأنَّ متعلقي الفعليْن في (كذَّبت)، و(فكذَّبوا) في الجملة الخبرية (كذَّبت قبلهم قوم نوح، فكذَّبوا عبدنا)، ومعموليهما مختلفان؛ ففي الجملة (كذَّبت قبلهم قوم نوح) فاعلها قوم نوح، ومفعولها محذوف للإيجاز وهو معروف من دلالة السِّياق، وهو نوح عليه السَّلام، وقد اكتفى بذكره بوقوعه مضافًا إليه[4]، وأما (فكذبوا عبدنا)، ففاعلها ضمير الجمع وهو عائد إلى مشركي مكة- بحسب ما يرى الباحث-، و(عبدنا) الواقع مفعولاً به المراد به النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

يمكننا القول إذًا: بأن الإتيان بالفعل الواحد في صيغتين مختلفتين يجعل متعلقهما مختلفًا، كما أنَّ اقتران الفعل بواو الجماعة، سواء في الجملة الخبرية أو الشرطية كما لاحظنا، يجعلنا نذهب إلى القول بأن ضمير الجمع يدل على حضور المخاطبين ساعة الخطاب، سواء كانوا مشركي مكة، أو المنافقين أو أهل الكتاب بحسب سياق الآيات الواردة بشأن كل منهم.

فهذا هو وجه الشبه بين هذين التركيبين: الجملة الخبرية، والجملة الشرطية.

وقال في الفقرة (2):

“فإن كان فعل (كذبت) هنا مستعملاً في معنى القول بالتكذيب، فإن قوم نوح شافهوا نوحًا بأنه كاذب، وإن كان مستعملاً في اعتقادهم كذبه، فقد دلَّ على اعتقادهم إعراضهم عن إنذاره، وإهمالهم الانضواء إليه عندما أنذرهم بالطوفان.

أقول: قد ورد في القرآن ما يبين أنهم لم يكتفوا باعتقادهم كذبه حتى صارحوه بذلك، قال تعالى حاكيًا مقالة قوم نوح: (فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرًا مثلنا، وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي، وما نرى لكم علينا من فضل، بل نظنكم كاذبين) [هود: 26].

وقال في الفقرة (3) إن:

“الفاء في قوله:(فكذَّبوا عبدنا)؛ لتفريع الإِخبار بتفصيل تكذيبهم إياه، بأنهم قالوا: (مجنون وازدجر)، على الإِخبار بأنهم كذّبُوه على الإِجمال”.

والحقيقة أنَّ الجملة المفرعة هي (فكذبوا عبدنا)، معطوفة على جملة (كذبت قبلهم قوم نوح)، وجملة (وقالوا مجنون وازدجر) معطوفة على جملة (فكذبوا عبدنا).

ثم إنَّ جملة: (وقالوا مجنونٌ وازدجر) لا تصلح أن تكون تفصيلًا لقوله: كذبت قبلهم قوم نوح؛ فإنَّ الرمي بالجنون والزجر غير التكذيب؛ ولذلك لما عطفت على (فكذبوا عبدنا)، جاءت جملتها معطوفة بالواو، وليس بالفاء.

كما أنه ليس في الجملة المفرعة: (فكذَّبوا عبدنا) تفصيل للإجمال الواقع في الجملة التي قبلها، كما نجده في قوله تعالى: (فأزلهما الشيطان عنها، فأخرجهما مما كانا فيه) [البقرة: 36]، على رأي من يذهب إلى أنَّ الضمير في (عنها) يعود إلى الجنة[5].

وفي قوله تعالى: (إنا أنشأناهن إنشاء، فجعلناهن أبكارًا) [الواقعة: 35-36]. وقوله: (ونادى نوح ربه، فقال رب إن ابني من أهلي…) [هود: 45]. وقوله: (فقد سألوا موسى أكبر من ذلك، فقالوا أرنا الله جهرة) [النساء: 153]، وفي قول النحاة: توضأ زيد، فغسل وجهه ويديه، ومسح رأسه ورجليه.

وإنما يلزم بهذا التكرار الذي لا فائدة منه، هذا إذا أخذنا برأي ابن عاشور، ومن سبقه من غالبية المفسرين الذين يجعلون المقصود بقوله: (فكذبوا عبدنا) هو نوح عليه السلام [6].

ويقول في الفقرة رقم (5):

“إن محل التفريع هو وصف نوح بعبودية الله تكريمًا له [7]، والإخبار عن قومه بأنهم افتروا عليه وصفه بالجنون، واعتدوا عليه بالأذى والازدجار”.

والذي يميل إليه الباحث أن المقصود بقوله: (عبدنا) هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه محل التفريع؛ والغرض منه هو التشنيع على كفار قريش أنهم كذبوا من اختصه الله بعبوديته، والإنحاء عليهم باللوم بوصفهم لنبيه وعبده؛ وهو محمد صلى الله عليه وسلم بالجنون والأذى بالزجر[8].

والدليل على ذلك سياق الآيات؛ إذ أنها تتحدث عن مشركي مكة؛ فتقدير الكلام بحسب ما يذهب إليه الباحث:

كذبت قبلهم – أي قبل مشركي مكة- قومُ نوح؛ فكذبوا- أي مشركو مكة- عبدنا، وهو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقالوا مجنون وازدجر.

فتكون الفاء مفيدة للترتيب، بمعنى وقوع تكذيب كفار قريش بعد تكذيب قوم نوح فشابهوهم بذلك، وقد ذهب ابن مالك إلى أنَّ الفاء قد تأتي للتراخي بمعنى ثم [9]، أو أن تكون الفاء مفيدة إلى جانب الترتيب أو التراخي معنى السببية [10]؛ وإفادتها للسببية على جهة المجاز، فكأنَّ تكذيب قوم نوح من قبل لنبيهم نوح عليه السلام أغرى كفار قريش؛ فكذبوا نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، فكان الأمر كما قال المعري:

تثاءب زيدٌ إذ تثاءب خالدٌ    بعدوى…

قال البغوي في تفسيره: “أوصى[11] أولهم آخرهم، وبعضهم بعضًا بالتكذيب وتواطؤوا عليه”[12].

ولما كان تكذيب قريش متأخرًا عن تكذيب قوم نوح لنوح، تأخر المعلول على العلة، والمُسبَّب على السبب= جاء بهذه الفاء الدالة على السببية على جهة المجاز، ومن المعلوم أن ما يسنه الأولون من أخلاق وعادات وطرائق يؤثر فيمن يجيء بعدهم، فيستنوا بسنتهم، ويمشوا على نفس طريقتهم. قال سبحانه: (إنهم على ألفوا آباءهم ضالين؛ فهم على آثارهم يُهرعون) [الصافات :70]. وقال: (قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفًا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون) [الأعراف: 38].2

hell مع الأستاذ الإمام المفسِّر محمَّد الطَّاهر بن عاشور (1-2)

قال ابن عاشور على قوله تعالى: (وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) [البقرة: 57]: “قدر في “الكشاف” الفعل المحذوف مقترنًا بالفاء؛ لأن الفاء في عطف الجمل تفيد مع الترتيب والتعقيب معنى السببية غالباً، فتكون الجملة المعطوفة متسببة عن الجملة المعطوف عليها، فشبه وقوع ظلمهم حين كفروا النعمة عقب الإحسان بترتب المسبب على السبب في الحصول بلا ريث، وبدون مراقبة ذلك الإحسان، حتى كأنهم يأتون بالظلم جزاء للنعمة، ورمز إلى لفظ المشبه به برديفه، وهو فاء السببية، وقرينة ذلك ما يعلمه السامع من أن الظلم لا يصلح لأن يكون مسببًا عن الإنعام على حد قولك: أحسنتُ إلى فلان؛ فأساء إليَّ، وقوله تعالى: (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون)[الواقعة: 82]؛ أي تجعلون شكر رزقكم أنكم تكذبون. فالفاء مجاز لغير الترتب على أسلوب قولك: أنعمَتُ عليه فكفر.

ولك أن تقول إن أصل معنى الفاء العاطفة الترتيب والتعقيب لا غير، وهو المعنى الملازم لها في جميع مواقع استعمالها؛ فإن الاطراد من علامات الحقيقة. وأما الترتب؛ أي السببية، فأمر عارض لها؛ فهو من المجاز أو من مستتبعات التراكيب، ألا ترى أنه يوجد تارة، ويتخلف أخرى؛ فإنه مفقود في عطف المفردات، نحو: جاء زيد فعمرو، وفي كثير من عطف الجمل نحو قوله تعالى: (لقد كنتَ في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك) [ق: 22]. فلذلك كان معنى السببية حيثما استفيد محتاجًا إلى القرائن، فإن لم تتطلب له علاقة قلت: هو من مستتبعات تراكيب بقرينة المقام، وإن تطلبت له علاقة، وهي لا تعوزك، قلت: هو مجاز؛ لأن أكثر الأمور الحاصلة عقب غيرها يكون موجب التعقيب فيها هو السببية، ولو عرفًا، ولو ادعاء، فليس خروج الفاء عن الترتب هو المجاز بل الأمر بالعكس”[13]. اهـ.

ثم إن الإتيان بالاسم المبهم (عبدنا) في الجملة المعطوفة بعد الاسم العلم؛ وهو (نوح) في الجملة السابقة= يجعلنا نذهب إلى القول بأن الاسم المبهم غير الاسم العلم المذكور سابقًا؛ فالإبهام للاسم بعد بيانه أمر غير مألوف في الأسلوب الحكيم [14].

وبتتبع أسلوب القرآن نجد أن الآيات الواردة فيها لفظة (عبد) مضافة إلى ضمير الجلالة نحو (عبده)، أو(عبدنا)= إما أن ترد مطلقة أو مبينة. فإن أريد بيانها بينت بالاسم المفرد المراد بعدها مباشرة، نحو قوله تعالى: (ذكر رحمة ربك عبده زكريا). [مريم:2]، وقوله تعالى: (واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسنى الشيطان بنصب وعذاب). [ص: 41]، وقوله: (اصبر على ما يقولون، واذكر عبدنا دواد ذا الأيد إنه أواب). [ص: 17].

أما ورود لفظة (عبد) مضاف إلى ضمير الجلالة في نحو: (عبده)، أو(عبدنا)، على الإطلاق؛ فالمراد به النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

قال تعالى: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا؛ فأتوا بسورة من مثله…) [البقرة: 23]. (واعلموا أنما غنتم من شيء، فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله، وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان…) [الأنفال: 41]. و(سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى) [الإسراء: 1]. و(الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب، ولم يجعل له عوجا). [الكهف: 1]. و(تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا) [الفرقان: 1]. و) أليس الله بكافٍ عبده) [الزمر: 36].

ثم ألم يكن من الأنسب أن لو كان المراد بالاسم المبهم (عبدنا) هو نوح أن يعبر عنه بـ كذبت قبلهم قوم نوح عبدنا نوحًا، وقالوا مجنون وازدجر[15] دون اللجوء للتكرار؟!

وذهب في الفقرة (5) إلى:

أنَّ نوحًا عليه السَّلام افترى عليه قومه بوصفه بالجنون، واعتدوا عليه بالأذى والازدجارِ.

وهو يقصد الآية (وقالوا مجنونٌ وازدجِر)، ومنشأ غلطهِ ظنُهُ بأن جملة (فكذبوا عبدنا) يراد بها نبي الله نوح عليه السلام، والصواب أن المراد بها النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

أما جملة (وقالوا مجنون وازدجر)، وإن كانت تتناول في الأصل كفار قريش، فإنها قد تكونت استخدمت أيضًا لتدل على صنيع قوم نوح مع نبيهم؛ وهي شبيهة بطريقة الاستخدام عند البلاغيين؛ إذ كلا الفريقين رمى نبيه بالجنون، وآذوه وازدجروه؛ ولذلك ساغ أن يعطف عليها جملة (فدعا ربه أني مغلوب فانتصر).

إذ أن من الملاحظ في أسلوب القرآن أنه إذا اتحدت قصتان في معناهما، يسهل استخدام الضمائر الدالة على ذوات معينة لذوات أخرى، وذلك في القصص المتشابهة؛ لاتحاد مغزاها ومراميها.

قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى: (فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى، أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا ساحران تظاهرا، وقالوا إنا بكل كافرون)[القصص: 48].

“(أولم يكفروا)؛ يعني أبناء جنسهم ومن مذهبهم مذهبهم وعنادهم عنادهم، وهم الكفرة في زمن موسى عليه السلام”[16].

فأنت ترى أنه بينما كان يتحدث عن مشركي قريش وتعنتهم في قوله: (فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى)، أتى عقبها بجملة، وهي (ألم يكفروا بما أوتي موسى) التي توهم- بادي الأمر- أنها تعود للمذكورين سابقًا، وهم كفار قريش، بينما الحديث كان قد انتقل إلى قوم موسى المكذبين به، وإنما سوغ ذلك اتحاد الطائفتين المتقدمة والمتأخرة في الكفر والتكذيب.

ويقول ابن عاشور في تفسير هذه الآية، وإن نحى منحىً آخر، لكنه قريب من كلام الزمخشري: “وضمير (يكفروا) عائد إلى القوم من قوله: (لتنذر قومًا) [القصص: 46].  لتتناسق الضمائر من قوله: (ولولا أن تصيبهم) [القصص: 47]، وما بعده من الضمائر أمثاله.

فيشكل عليه أن الذين كفروا بما أوتي موسى هو قوم فرعون دون مشركي العرب، فقال بعض المفسرين: هذا من إلزام المماثل بفعل مثيله؛ لأن الإشراك يجمع الفريقين فتكون أصول تفكيرهم واحدة ويتحد بهتانهم، فإن القبط أقدم منهم في دين الشرك، فهم أصولهم فيه، والفرع يتبع أصله، ويقول بقوله، كما قال تعالى: (كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون) [الذاريات: 52- 53]؛ أي متماثلون في سبب الكفر والطغيان، فلا يحتاج بعضهم إلى وصية بعض بأصول الكفر. وهذا مثل قوله تعالى:(غُلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غَلَبهم سيغلبون). [الروم: 2 – 3]، ثم قال:(ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله) [الروم: 4 – 5]؛ أي بنصر الله إياهم؛ إذ نصر المماثلين في كونهم غير مشركين، إذ كان الروم يومئذ على دين المسيح” [17].

لكن ابن عاشور عاد ووافق الزمخشري وذلك في تفسير قوله تعالى: (قال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه).

فقال: “وقد كان القرآن حاجَّهم بأنهم كفروا (بما أوتي موسى من قبل)، كما في سورة القصص (48)؛ أي كفر أمثالهم من عَبدة الأصنام، وهم قِبط مصر بما أوتي موسى، وهو من الاستدلال بقياس المساواة والتمثيل”[18].

وذكر البغوي عند تفسير قوله تعالى: (ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل)، عن يمان بن رباب أنه قال: “هذا على معنى أن كل نبي أنذر قومه بالعذاب فكذبوه، يقول: ما كانوا ليؤمنوا بما كذب به أوائلهم من الأمم الخالية، بل كذبوا بما كذب أوائلهم، نظيره قوله عز وجل:(كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون)”[19].

وذكر ابن عطية في تفسيره لنفس الآية بعد أن قال إنها تحتمل أربعة وجوه من التأويل: “الثاني من الوجوه: أن يريد فما كان آخرهم في الزمن والعصر ليهتدي ويؤمن بما كذب به أولهم في الزمن والعصر، بل كفر كلهم ومشى بعضهم عن سنن بعض في الكفر”.

ثم قال: “أشار إلى هذا القول النقاش، فكأن الضمير في قوله: (كانوا) يختص بالآخرين، والضمير في قوله: (كذبوا) يختص بالقدماء منهم [20].

فأنت ترى أن من ذهب إلى هذا الرأي، جعل الأفعال الواقعة في سياق واحد وضمائر الجمع الواحدة في (فما كانوا ليؤمنوا)، و(بما كذبوا من قبل)؛ لشخوص مختلفة؛ فالذين كذبوا من قبل هم غير المتكلم عنهم سابقًا الذين جاءتهم رسلهم بالبينات والذين ما كانوا ليؤمنوا؛ لكنهم لما اتحدت آراؤهم في الكفر والتكذيب، ساغ له أن يجعل نفس الضمير والأفعال الواقعة في نفس السياق لشخوص مختلفة اتحدت مذاهبهم في الكفر والتكذيب.

= وإما أن تكون جملة (فدعا ربه) معطوفة ومفرعة أيضًا على (كذبت قبلهم قوم نوح)، وهو الراي الأقرب في نظر الباحث، ويعود الضمير في (فدعا ربه)، إلى نوح الواقع مضافًا إليه في قوله: (كذبت قبلهم قوم نوح). فتكون الآيات التي تتحدث عن كفار قريش وشأنهم مع نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم انتهت في الآية رقم (9) بالجملة المعترضة التي سيقت على طريق الإطناب إلى آخر الآية، وهي جملة (فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر)، وبعدها استأنف الحديث عن نوح المذكور في الآية السابقة، ودعائه على قومه، وما اقتص من خبر إغراق الله لهم بالطوفان الكبير.

ولو كانت جملة (فدعا ربه أني مغلوب فانتصر) متعلقة بجملة (فكذبوا عبدنا) على فرض أن المقصود بــ (عبدنا) هو نوح؛ لكان القياس يقتضي أن يقول: (فدعانا)، فيكون تقدير الكلام: فكذبوا عبدنا؛ فدعانا.

N مع الأستاذ الإمام المفسِّر محمَّد الطَّاهر بن عاشور (1-2)

تقول في النحو: (نوح دعا ربه) فتعيد ضمير الغائب على الاسم العلم المذكور قبله، كما تقول: عبدنا دعانا، فتسلط الاسم (عبد)، والفعل (دعا) على نفس الضمير؛ وهو ضمير الفاعلين (نا) المعبر عن ذات واحدة.

أما إذا قلت: (عبدنا دعا ربه)؛ فقد يفهم منه في هذا السياق أن لنوح ربًا غير الله دعاه.

إذن فهناك فرق بين التركيبين: (عبدنا دعانا)، و(عبدنا دعا ربه)؛ فإن ما يقع عليه الفعل في جملة (دعانا)، هو نفس الضمير الواقع مضافًا إليه في (عبدنا)، أما في الجملة الثانية (عبدنا دعا ربه)، فإن الرب في كلمة (ربه) غير الضمير الواقع مضافًا إليه، وهو نا الفاعلين في كلمة (عبدنا).

وإنما تم حمل الضمير في قوله: (فدعا ربه) على نوح دون النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يؤثر عن النبي أنه دعا على قومه، وإنما دعا على أشخاص معدودين من كبرائهم وطغاتهم فقط بخلاف نوح عليه السلام.

وبناءً على ما سبق، تكون جملة (كذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر) معترضة على سبيل الإطناب[21] بين جملة (كذبت قبلهم قوم نوح)، و(فدعا ربه).

قال الزمخشري عند تفسيره للآيات الواردة في سورة العنكبوت، وهي شبيهة بآيات سورة القمر السابقة، وهي: (وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه؛ ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون؛ إنما تعبدون من دون الله أوثانًا، وتخلقون إفكًا، فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون، وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين.  أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير قل سيروا في الأرض، فانظروا كيف بدأ الخلق، ثم الله ينشئ النشأة الآخرة، إن الله على كل شيء قدير، يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون، وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء ومالكم من دون الله من ولي ولا نصير والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم، فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون. [العنكبوت: 18- 24].

قال الزمخشري على قوله تعالى: (وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم): ” وهذه الآية والآيات التي بعدها إلى قوله: (فما كان جواب قومه) محتملة أن تكون من جملة قول إبراهيم صلوات اللّه عليه لقومه، وأن تكون آيات وقعت معترضة في شأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وشأن قريش بين أوّل قصة إبراهيم وآخرها[…].

فإن قلت: فإذا كانت خطابًا لقريش فما وجه توسطهما بين طرفي قصة إبراهيم، والجملة أو الجمل الاعتراضية لا بد لها من اتصال بما وقعت معترضة فيه؛ ألا تراك لا تقول: مكة – وزيد أبوه قائم – خير بلاد اللّه؟

قلت: إيراد قصة إبراهيم ليس إلا إرادة للتنفيس عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وأن تكون مسلاة له ومتفرجًا بأنّ أباه إبراهيم خليل اللّه كان ممنوّا بنحو ما مني به من شرك قومه وعبادتهم الأوثان ، فاعترض بقوله: وإن تكذبوا، على معنى إنكم يا معشر قريش إن تكذبوا محمدًا؛ فقد كذب إبراهيم قومه وكل أمة نبيها، لأن قوله: فقد كذب أمم من قبلكم لا بد من تناوله لأمّة إبراهيم، وهو كما ترى اعتراض واقع متصل، ثم سائر الآيات الواطئة عقبها من أذيالها وتوابعها؛ لكونها ناطقة بالتوحيد ودلائله، وهدم الشرك وتوهين قواعده، وصفة قدرة اللّه وسلطانه، ووضوح حجته وبرهانه”[22].

ولنا فيما ذكره الزمخشري شاهدان اثنان:

الأول: إنَّ ما قاله الزمخشري في أن الغرض من ذكر قصة الخليل إبراهيم عليه السلام هو التسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ينطبق على شبيهتها في سورة القمر (كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا) والتي أتى فيها على ذكر قصة نوح؛ إذ يرى فيها ابن عاشور أيضًا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم.

أما ابن عطية، فيرى في قوله: (وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم) وعيدًا- وهو ما يميل إليه الباحث-، وهو نفس ما نراه في شبيهتها (كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا) التي نرى أن فيها وعيدًا لمشركي مكة.

قال ابن عطية- رحمه الله-: “في قوله تعالى: (وإن تكذبوا).. الآية وعيد؛ أي قد كذب غيركم وعذب، وإنما على الرسول البلاغ، وكل أحد بعد ذلك مأخوذ بعمله”[23].

الثاني: وكما كانت جملة (وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم) جملة معترضة بين أول قصة إبراهيم وآخرها على طول ما بينهما؛ إذ بلغت الجملة المعترضة ست آيات؛ وهي في شأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مخاطبًا بها كفار قريش؛ فكذلك الآية (فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر) معترضة بين قوله: (كذبت قبلهم قوم نوح)، وقوله: (فدعا ربه) على قصر ما بينهما؛ إذ أن الجملتين المعترضتين (فكذبوا عبدنا، وقالوا مجنون وازدجر)، واقعتان مع جملة (كذبت قبلهم قوم نوح) في سياق آية واحدة، وهي الآية رقم (9) من سورة القمر.

وكما نلاحظ أيضًا أن متعلق الفعلين: (تكذبوا)، و(كذب) مختلفان؛ فالأول فاعلها واو الجماعة والمقصود بهم كفار قريش، والثاني: فاعلها أمم من قبلك، وكذلك الأمر في قوله: (كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا).

وبالرجوع إلى سورة الدخان، وهي أيضًا شبيهة بسورتنا هذه؛ فأوائلها تتحدث عن مشركي مكة، ثم يأخذ القص القرآني طريقه بالحديث عن شأنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول عنهم: (أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين، ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون)، ثم ينتقل بعدها للحديث عن قوم فرعون وقصتهم مع نبيهم موسى عليه السلام، وأنهم ابتلوا وفتنوا بما فتن به مشركو قريش، فقال: (ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم أن أدوا إلي عباد الله إني لكم رسول أمين وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون)، ثم قال بعدها: (فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون). فأنت ترى أن الضمير في ربه يعود إلى الرسول الكريم الذي سبق ذكره؛ وهو موسى عليه السلام.

ويقول المفسرون أن هناك محذوفًا، وهو عند ابن عطية تقديره: “فما كفوا عنه، بل تطرقوا إليه وعتوا عليه وعلى دعوته؛ (فدعا ربه)” [24]، وعند ابن عاشور: “فلم يستجيبوا له فيما أمرهم، أو فأصرّوا على أذاه وعدم متاركته”[25]؛ فدعا ربه. وعند الألوسي: فدعا ربه بعد أن أصروا على تكذيبه عليه السلام[26].

فهذه الآيات في سورة الدخان كالآيات في سورة القمر مثلاً بمثل وسواءً بسواء إلا أنا نلاحظ أن الله وصف نبيه موسى عليه السلام في سورة الدخان بأنه (رسول كريم)، وفي سورة القمر لم يذكر نوح عليه السلام إلا باسمه فقط، وفضلت سورة القمر سورة الدخان بالجملة المعترضة (فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر) التي جيء بها لمزيد التأكيد أن تكذيب قريش لمحمد- صلى الله عليه وسلم، زاد على تكذيب قوم نوح لنبيهم نوح بأنه تكذيب لمن اختصه الله بعبوديته، ثم إنهم لم يكتفوا بذلك حتى وصفوه بالجنون وانتهروه، وهو نفس الوصف الوارد في سورة الدخان مع زيادة أنه مُعّلَم، ثم أستأنف البيان طريقه في سورة القمر بالحديث عما وقع مع قوم نوح بعد دعاء نبيهم عليهم ، كما استأنف مساره في سورة الدخان بالحديث عما جرى مع قوم فرعون بعد دعاء نبيهم عليهم.

لكن في سورة الدخان عاد ليلتفت إلى مشركي مكة مرة ثانية، ليقول: (إن هؤلاء ليقولون إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين، أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين) [الدخان:34-37]. وفي هذه الآية مقارنة بين مكذبي الأمم السابقة وهم قوم تبع، وكفار قريش الذين يصفهم بأنهم لم يكونوا خيرًا من قوم تبع، وهي شبيهة بالمقارنة في سورة سبأ بين كفار قريش والذين من قبلهم- ولعله يعني أيضًا قوم سبأ- بأن كفار قريش لم يبلغوا معشار ما أوتوه، حسب بعض الوجوه الواردة في تفسير الآية.

مع الأستاذ الإمام المفسِّر محمَّد الطَّاهر بن عاشور (1-2)

ويذهب في الفقرة (9):

إلى أن إعادة فعل كذبوا؛ لإفادة توكيد التكذيب وقوته، كقول تعالى: (وإذا بطشتم بطشتم جبارين)، وقوله: (ربنا هؤلاء الذين أغويناهم أغويناهم كما غوينا)، وقول الأحوص:

وإذا تزولُ تزول عن متخمطٍ 

 تُخشى بوادره على الأقران [27]

والجواب: لو سلمنا أن جملتي: (كذبت قبلهم قوم نوح)، و(فكذبوا عبدنا) متعلقهما واحد لوقعنا في التكرار دون أدنى فائدة، كما أنه ليس في الجملة الثانية المفرعة (فكذبوا عبدنا) ما يدل على أن التكذيب قوي كقوله تعالى: (وإذا بطشتم بطشتم جبارين)؛ فكلمة جبارين هي التي أفادت قوة البطش في الكلمة المُعادة، وكذلك في الآية (ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا). فكلمة (كما غوينا) التي هي صفة للمصدر المقدر أفادت وأحدثت معنى جديدًا ليس في الأولى.

ثم إن بيت الأحوص وقوله: (تزول عن متخمط) وتأكيد متخمط بالصفة التي بعدها، وهي: تخشى بوادره على الأقران فيه من المعنى ما ليس في (تزول) الأولى.

نعم قد يقال: إنه أراد أن يقول إنهم كذبوا نوحًا، فكان تكذيبهم لمن اختصه الله بالعبودية الخالصة؛ أي نوح عند من يذهب لهذا الرأي، وقد قد قصد هذا المعنى ابن عاشور، وسبقه إلى ذلك ابن المنير الإسكندري في حاشيته الانتصاف على الكشاف، لكن كان يمكن أن يقول فيما لو أراد هذا المعنى: (كذبت قبلهم قوم نوح عبدنا نوحًا) دون الحاجة لتكرار فعل التكذيب.

وجوز ابن عاشور في الفقرة (10):

أن يكون فعل (كذبت) مستعملاً في معنى إنهم اعتقدوا كذبه؛ فتفريع (كذبوا عبدنا) عليه تفريع تصريحهم بتكذيبه على اعتقادهم كذبه، فيكون فعل كذبوا مستعملاً في معنى غير الذي استعمل فيه فعل (كذبت). وقال إن التفريع ظاهر على هذا الوجه.

أقول: إن فعل كذب في قوله (كذبت قبلهم قوم نوح) يحتمل كل هذا المعاني، فقوم نوح اعتقدوا كذبه بأنه نبي مرسل من عند الله، وكاشفوه بذلك صراحة، وكذبوه فيما يدعو إليه من وحدانية الله، وضرورة إفراده بالعبادة دون غيره من الأصنام التي عبدوها؛ فطريقة الإيجاز قاضية بعدم تكرير الفعل ما لم يدل عليه في سياقه الثاني معنى زائدًا ليس موجودًا في الفعل الأول نحو قوله تعالى: (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم). [الإسراء: 7]، ونحو: (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم). [الفاتحة: 6- 7].

وجوز ابن عاشور في الفقرة (10):

أن يكون قوله تعالى: (كذبت قبلهم قوم نوح) إخبارًا عن تكذيبهم بتفرد الله بالإلهية حين تلقوه من الأنبياء الذين كانوا قبل نوح، ولم يكن قبله رسول، وعلى هذا الوجه يكون التفريع ظاهرًا.

ويقول: إن هذا الوجه يتأتّى في قوله تعالى: (وكذب الذين من قبلهم، وما بلغوا معشار ما آتيناهم، فكذبوا رسلي) في سورة سبأ (45).

والجواب قد سبق بأن كلمة كذب الأولى تفيد كل هذا المعاني، فلا فائدة من التكرار الذي ينزه عنه النظم الحكيم؟!

هنا نكون قد فرغنا من مناقشة تفسير ابن عاشور لآيات سورة القمر، فلنأتِ على الآيات الأخرى التي فسرها في سورة سبأ، في المقال القادم بحول الله.

الهوامش:

  1. سياق الآية هنا يدل على التكذيب المنفي هو عدم اعتقادهم كذبه. وقال الزمخشري: إن (كذبه) بمعنى جعله كاذبًا في زعمه، وقد ذكر في الكشاف معان أخرى لهذه الآية، فارجع إليها.
  2. يرى الباحث أن العطف بالواو هنا أولى، وهو ما عبر عنه القرآن في الآية؛ إذ لا يظهر معنى التفريع هنا؛ فالرمي بالجنون والزجر غير التكذيب.
  3. التحرير والتنوير، سماحة الأستاذ الإمام الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس،11/ 181.
  4. ويشبهه الحديث الذي في صحيح مسلم: “إن رسول الله دخل يوم فتح مكة، وعليه عمامة سوداء”؛ ففيه حذف مفعول دخل، وهو مكة، اكتفاءً بدلالة ظرف الزمان عليه.
  5. وهناك قول آخر ذكره صاحب الكشاف أن الضمير في (عنها) يعود إلى الشجرة، فانظره في الكشاف.
  6. انظر على سبيل المثال تفسير: الطبري، والبغوي، والزمخشري، وابن عطية، وابن حيان، وغيرهم من المفسرين الذين كادوا يطبقون على هذا المعنى بحسب ما وقفت عليه.
  7. هذا ما ذهب إليه أيضاً العلامة ابن المنير في حاشيته على الكشاف.
  8. للزمخشري وغيره تفسير آخر لمعنى الازدجار، فينظر في الكشاف وغيره من كتب التفسير.
  9. وجُعِل من ذلك قوله تعالى: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة). إذ أن اخضرار الأرض متراخٍ عن إنزال المطر. ومما يدل على ذلك أيضًا، قوله تعالى: ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما)، فقد وردت في آية أخرى بالحرف “ثم” الدال على التراخي والمهلة: (إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة).
  10. وهذا غالب في عطف الجمل نحو قوله تعالى: فوكزه موسى فقضى عليه.
  11. هكذا وردت في البغوي بسقوط حرف الاستفهام الألف، ولعل الصواب إثباته.
  12. معالم التنزيل، لأبي محمد الحسين بن مسعود البغوي، حققه وخرج أحاديثه محمد عبد الله النمر، عثمان جمعة ضميرية، سليمان مسلم الحرش، دار طيبة للنشر والتوزيع، ط4، 1417هـ- 1997م، 7/ 380.
  13. التحرير والتنوير (مصدر سبق ذكره)، 1/ 510- 511. وإن كان استظهر ابن عاشور أن لا حاجة لتقدير “فظلموا”، فينظر في موضعه.
  14. من المعروف هو “التفسير بعد الإبهام”، والذي يذكره البلاغيون، ويستخدم لضرب من المبالغة من أجل تضخيم أمر المبهم وإعظامه، كقوله تعالى: (وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين). فقد فسر الأمر بعد إبهامه بقوله: أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين؛ لتفخيم الأمر وتعظيم شأنه.
  15. كرر الباحث لفظة نوح؛ لكيلا يوهم أن العبد المشار إليه هو شخص غير نوح.
  16. الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، دار الكتاب العربي، 1407هـ، جار الله أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري، وحاشية ابن المنير: 3/ 419
  17. التحرير والتنوير (مصدر سبق ذكره): 10/ 137- 138.
  18. المصدر السابق: 11/202.
  19. تفسير البغوي (مصدر سبق ذكره)،3/ 261.
  20. المحرر الوجيز، في تفسير الكتاب العزيز، لأبي محمد عبد الحق بن عطية الأندلسي، تحقيق وتعليق: عبد الله بن إبراهيم الأنصاري، والسيد عبد العال السيد إبراهيم، ط1، قطر، 1407هـ- – 1987، 6/ 22.
  21. انظر الإطناب بالاعتراض في الإيضاح في علوم البلاغة، لجلال الدين أبي عبد الله محمد بن سعدالدين بن عمر القزويني، ص195.
  22. الكشاف (مصدر سبق ذكره)، 3/446.
  23. المحرر الوجيز (مصدر سبق ذكره)، 11/373.
  24. المحرر الوجيز (مصدر سبق ذكره)، 13/ 271.
  25. التحرير والتنوير (مصدر سبق ذكره)،12/ 299.
  26. روح المعاني، في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، للعلامة أبي الفضل شهاب الدين السيد محمود الألوسي البغدادي، دار إحياء التراث العربي ،12/ 299.

27. أوله:
إني على ما قد علمت محسد
أنمي على البغضاء والشنآن

ما تعتريني من خطوبِ مُلمةٍ
إلا تشرفني وتعظم شاني

فإذا تزول تزول عن متخمطٍ 
تخشى بوادره لدى الأقران.

يقول: إذا انكشفت تلك الخطوب والملمات انكشفت عن رجلٍ متكبرٍ يخاف فلتاته وبدراته عند نظرائه في البأس والشدة. والمعنى: إن الدواهي إذا نزلت بساحتي لا تلين لها عريكتي، ولا تحصل عليّ تذللاً لم يكن من قبل لي. وقوله: ” تخشى بوادره ” في موضع الصفة للمتخمط. انظر: شرح المرزوقي على الحماسة بتحقيق: أحمد أمين، وعبد السلام هارون، دار الجيل، بيروت، ط1، 1411هـ- 1991م: 1 / 222-223.

 

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى