أشتات

الأحداث المركبة واستغلالها في بناء الوعي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

- الحدث المركب وفقه التعامل معه:

حينما نكون أمام حدثٍ ما.. قد يبدو معقَّدًا؛ فليسَ بالضَّرورةِ أنَّنا سنواجه أزمةً بنفس مقدار الحدث، هذا الإدراك مؤهلٌ من حيث المبدأ لتجاوز الحدث بأقل مقدار ممكنٍ من الخسـارة، ورفع مستوى الاستثمار والتصحيح، والخروج بمصالح مُناسبة.

قد تكون البدايات لحدثٍ ما تصطدم بمفهومنا التَّأسيسي للتَّعامل مع الأحداث، فحينما تكون بداية الحدث لا تتجه في مسار الخير والفضيلة -بشكلٍ يُجمع عليه الخاصّ والعامّ-؛ يتحوَّلُ الحدث لدى كثيرين إلى حركة من الشرور والإفساد، ويُعطي هذا المفهومُ الإذنَ لمحرِّكات الفساد أن تمارس تطويع الحقيقة الربّانية من حدثٍ ما في بدايته وتوسيع دائرتها إلى فصول ومراحل ريثما ييأس القوم من حكمة الله في تقدير الحدث ابتداءً.

هذه الرؤية التي يستعملها كثيرون تفتقد إدراك وجود حكمة من السنن والحوادث الكونية التي تجري في هذا العالم بقدر الله ومشيئته، وتفتقد الوعي بقانون الأشياء المركَّبة المعبِّر عن كون البداية لا تمثل إلا نفسها، وليست حاكمًا على كل تسلسلات ونتائج الحدث.. لما رمى قوم من المنافقين عائشة زوج النبي ﷺ بالإفك؛ ظنَّ قومٌ من المُسلمين أنَّ هذا شرٌّ محض في مُبتداه ومُنتهاه؛ فجاءَ قوله تعالى: “لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ”.. ولمّا هُزِمَ المسلمون في أحد -وهذا شرٌّ من حيث هو- لم يمتدَّ ليتحوَّلَ إلى هزيمة في المبادئ والأخلاق؛ بل تحصلّ بفضل الله خيرٌ كثير بعد ذلك، ومن أخص ذلك تثبيت المبادئ في نفوسِ أهل الإيمان، وبناءِ الوعي الذَّاتي في التعامل مع السنن الشرعية والكونية، فلمّا حاولَ بعضُ المشركين في آخر المعركة مُضاعفة هزيمةِ المسلمين فصارَ أبو سفيان -وكانَ وقتها مُشركًا- يعلو صوته: (لنا العُزّى ولا عُزّى لكم).. كانَ من جوابات المُسلمين بأمرٍ من الرسول ﷺ : (اللهُ مولانا ولا مولى لكم) “أخرجه البخاري وغيره”.

المركبة واستغلالها في بناء الوعي 3 الأحداث المركبة واستغلالها في بناء الوعي

- الهزيمة الجزئية ليست هزيمةً شاملة:

إن شكلًا واحدًا من الهزيمة لا تعني شمولية الهزيمة أو إطلاقها في النفوس، وأهلُ الإسلام يُقدّر تجاوزهم الهزيمة بما يملكون من الوعي، فإنَّ من أوثق الوعي = الوعيُ بما هو من أصل العبودية (الله مولانا ولا مولى لكم) إنَّ هذا الحرف النبويّ بناءُ للنفوس المؤمنة، وحديث عن انتصار المبادئ والأخلاق، وقُدسيَّة الرسالة والعمل.

وهُنا يكُن من المُهم أن نفقه مفهومَ النصر، والعاقبة التي وُعدت بها هذه الأمة، فهي بإذن الله منصورة مرحومة، والعاقبة لها في الدنيا والآخرة.

من هذا المفهوم في تصور الحدث -ولا سِيَما إذا كان شموليًا يقدم كحركة من الصراعات أو المطالبات والتحولات في مسارات مختلفة، ويتجاوز دائرة المثال والخصوصية-يجب أن ندرك أن الأحداث تُعدّ مرحلة خصبة لبناء الوعي والتصحيح.

- سياسة الوعي الشرعي في الأزمات:

إن المصالح الخيرية التي تتكون من حدثٍ ما ليست من فاضل البداية؛ بعضُها محضُ فضلٍ إلهي يتجرَّد عن السَّببية الآدمية؛ ولهذا جاء قوله : “وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ”، وبعضها الآخر فضلٌ من الله يجازي به العباد ويكون مرتبطًا بالسببية والعمل الآدميّ.

ومن هنا يُقَدّر أن ندرك في التعامل مع الأحداث التي تعرض للأمة أيًا كانَ مسارُها أنّنا أمامَ تكليف شرعيٍّ بتطويق حركة الفساد والشر التي قد تتمثل واضحة في مرحلة ما من تسلسلات الحدث، وفي الغالب تكون في مرحلة البداية.

ثمّت مقاصد شرعية لا يمكن أن تتحقق في نفوسِ المؤمنين إلا في دائرة من الصراع، وحركة من المتقابلات؛ وهنا يتكون التوازن الذي هو مقصود الشريعة في ثبات المبادئ، وصدق التعامل، وتحقيق العدل، وتجاوز الذّاتية وفرضيّاتها المثالية.

من هذا المعنى يُفْتَرض أن يكون لدينا سِعَةٌ في التفكير والإدراك، وأن نتجاوز عقلية البُعد الواحد في التعامل مع الأحداث.. فالأزمات تتفاقم عندما نفترض أنها ضرورية لتحقيق الأهداف، مما يؤدي إلى تكرارها وتصاعدها في ذات السياق؛ فالأزمات جزء من الحدث وليست كل الحدث.

ولهذا تكن هذه الفرضية غير عادلة، وهي تعبيرٌ عن هزيمة الوعي في الأزمات والأحداث، ومن المهم أن ندرك أنها ليست تصنع شيئًا لصالحنا.

وهنا يُفترض أن ندرك ضرورة المحافظة على أمن الوعي والتفكير، وألا نتحول -تِبَعًا لتطورات الأحداث- إلى استجابات لكل حركة ارتباك يرسمها الطرف الآخر في الصراع وصناعة الحدث؛ فحينها نفتقد التوازن، وربما يلحُّ البعض في رسم صورة النهاية على بناء استقراء ومراقبة من مقدمات تكوّن بداية الحدث؛ فهنا ندرك أننا لم نحسن تقدير الأمور، وكأننا نستعجل رسم خيارات غيرنا في التعامل معنا!

المركبة واستغلالها في بناء الوعي 4 الأحداث المركبة واستغلالها في بناء الوعي

- أكبر التحديات؛ تحدي الوعي:

إن الإشكال الأكبر في الحدث يوم ينتجُ عنه هزيمةٌ في الوعي.. ربما يكون التعبير الأدقُّ هنا أن نقول: يوم نُنْتج من الحدث هزيمةَ الوعي ،إن أي حدث -أيًا كانت بدايته- لا يمكن أن يؤهل لهذا الإنتاج؛ بل طبيعة الأحداث أنها: تصنع الوعي والإدراك؛ ولهذا ذكر الله قصص وأحداث الأمم في القرآن وقال: “لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ..”.

وأحيانًا قد يكون هذا الإشكال قد تولَّد من النظر القاصر إلى الحدث، فحينما يكون الحدث في دائرة الصراع -أي أنه يتكون منه صراع: اقتصادي، أو عسكري، أو حضاري، أو ثقافي أو نمط آخر- فهنا يتحصَّل لدى كثيرين سيطرة عقلية الصراع في سائر تسلسلات المرحلة، وربما تشكّل عن هذا مفهوم متواصل كنتيجة لهذه السيطرة.. وهنا ندرك أن الخطأ لم يتكوّن من مجرد طبيعة الصراع، فهذا أمر تحتّمه طبيعة الحدث.

والصراعُ ليس أزمةً في سائر المواقع؛ بل قد يكون قانونَ فضيلةٍ يومَ يقع في المحل المناسب له؛ لكنّ تكوّن الخطأ فرع عن سيطرة مفهوم واحد، هو في هذه الفرضية (الصراع)، ولذا يمكننا أن نقول: إن نفس الإشكال والخطأ سيتكوّن بدرجة ما لو فرض سيطرة عقلية (اللاصراع)، فليست الأزمة نتيجة قبول الصراع أو رفضه.

ولذلك كانت عقلية البعد الواحد في التعامل مع الحدث من أخص أزمات فقدان التـوازن والوعي؛ وبهذا قد يتولد من هذا المفهوم ظاهرة اليأس والإحباط ويكون خلال الأحداث الشمولية التي تحمل خسارة في بعض مراحلها، ومن الوارد جدًا أن عقلية البعد الواحد في التعامل مؤهلة لصناعة المواقف المتناقضة، وحركة صراع المتقابلات داخل الأمة.

ثمَّتَ مجالات من العمل تُعَد الأحداث الشمولية رائدة في بناء مفاهيمها الصحيحة؛ أي أنها تساعد في تكوين الفكرة، واختبارها، وتأهيلها للعمل وِفق هِدايات سامية.

وحينما نلتفت إلى المفهوم الشمولي التعددي في التعامل مع الأحداث؛ فمجرد تجاوزنا لعقليَّة البعد الواحد = يعد قاعدة من الفضيلة التأسيسية لبناء الوعي.

- ردود الفعل؛ بين الطبيعة البشرية والضوابط الشرعية:

هنا يُقّدر أن ندرك أن الأحداث الشمولية وإن كانت تفرض بطبيعتها ردود أفعال فمن المهم أن نتصور أن ردود الفعل تعتبر من حيث الأصل حالة طبيعية من الصعب معاندتها، أو حتى فرض تجاوزها الحدث الشمولي دون مشاهدة حركة منها؛ لكن مع هذا التقدير لواقعية ردود الأفعال باعتبارها قاعدة تقابلية قائمة في الأشياء؛ يجب ألا نسمح لردود الفعل أن تتحول إلى مفهوم شمولي يحكم تعاملنا مع الحدث باستبداد وأُحادية.. فلا يجب أن نسمح لردود الفعل أن تطور الأزمة وتعقِّد المشكلة القائمة.

إن ردود الفعل طبيعة ذاتية في الإنسان، ومن الصعب أن نفترض إلغاءها.. نحنُ لا نصنع شيئًا يُذكر بإلغاء هذه الطبيعة؛ بل إذا وقعت في دائرة الاعتدال = كانت مؤهلة للمشاركة في بناء اعتدال النفس وتحريرها من غضب قد يعميها في مرحلة قادمة قد تكون أصعب من البداية، فمن المهم أن تحتفظ النفس باعتدالها ومصداقيتها.

حين ندرك أن ردود الفعل جزء من الطبيعة البشرية، فمن الضروري الوعي بأن هذه الطبيعة ليست مؤهلة لتكوِّن سلطة.. ولئن كانت تساهم في اعتدال النفس، فقد تكون مسؤولة عن خلل في حركة النفس ونظام التفكير.

والوعي بالمصطلحات السياسية1 الأحداث المركبة واستغلالها في بناء الوعي

- حاكمية الوعي مقابل حاكمية الذات في الأزمات:

الاستسلام لهذه الطبيعة -أي الطبيعة البشرية- يعني حاكمية الذات وتجاوز قواعد العدل والإحسان.. هذه الحال لا تناسب أهل الإسلام، فإنهم محكومون بقضاء الله ورسوله: “وما كانَ لمؤمنٍ ولا مُؤمِنَةٍ إذا قضى اللهُ ورَسولَهُ أمرًا أن يكونَ لهمُ الخِيَرةُ من أمرهم”.

حين ندرك هذا الرفض لهذا النوع من الحاكمية الذي ذكره الله في تنزيله: “أرأيتَ من اتَّخَذَ إلهَهُ هَواه أفأنتَ تكونُ عليهِ وَكيلاً”، يتضح تصوُّر آخر؛ ألا وهو أن حاكمية الذات تؤدي إلى فقدان الوعي وصواب التفكير.. ولهذا جاء قوله بعد الآية: “أم تحسبُ أن أكثرَهُم يسمعون أو يعقلون إن هُم إلا كالأنعام بل هم أضّلُّ سَبيلاً”.

فعندما نتحدث عن تجاوز عقلية البُعدِ الواحد، نتطلع إلى تحويل مسار الحدث إلى الأفضل، وأن نصنع شيئًا لصالحنا ونتجاوز اليأس والقعود.

البلاء يؤهِّل للعاقبة، كما قال هرقل في الحديث المخرَّجِ في الصحيحين: “وكذلك الرسل تُبتلى.. ثم تكونُ لهم العاقبة”.

وأن من فضل الله على هذه الأمة أن جعل لها مخرجًا من كل عارض يعرض لها، سواء كان مبتداه منها أو من غيرها، وسواء كان صوابًا أم خطأً.. لكن هذا يستدعي لتحقيقه صدق الديانة وفقه الشريعة والسنن.

فكان من ذلك أن للأحداث وجوب تأهيل أفرادَ الأمة لتخليصهم من سذاجة الرأي، ومحدودية التفكير، والجهل بالمبادئ والثوابت، وفساد الأخلاق والتربية.

ويُقدَّر أن تعمل دوائر العمل في الأمة انطلاقًا من التربية الذاتية الخاصة على الإيمان، والصدق، والفقه، مع صناعة مشاريع بالخير تعالج الواقع.

فمن عناية الشريعة بهذا المعنى ورود آثار تأكيد العمل في الأزمات العامة؛ ففي صحيح مسلم من حديث معقل، أن النبي ﷺ قال: “العبادة في الهرْج كهجرة إليّ”، وهذا التعبير شمولي، يدخل فيه العلم والعمل والدعوة والتواصي بالحق، وغيرها من العبادة اللازمة أو المتعدية.

من هنا يُعتبر هذا الحديث قاعدة في تدارك وعي الأمة أيام الفتن والأزمات؛ لتحقيق عبودية الله.. فالعبادة لها اختصاص في هذه المواقع.

فالعبادة في الإسلام اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يُحبُّه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، اللازمة والمتعدية..

وإن الأمة يوم تخرج من الأحداث وهي تحمل مفاهيم في العلم، والعمل، والدعوة، والتصحيح، مهتدية بهدي الشريعة، فهي تسير في مسار الرسل.. ففي صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار المجاشعي، في سياق طويل عن النبي ﷺ، قال: قال الله تعالى: “وإنما بعثتك لأبتليك وأبتلِيَ بك”.

- الرسالية رُكن أصيل في الوعي:

إن حركة الصراع التي تتكون منها مادة حدث ما، يجب ألا تُنسي الأمة مفهوم رسالة الإسلام وشموليتها.. وهنا، وإن كانت بعض صور التشريع معلقة بالسِعَة واعتبار المصلحة المقدَّرة، فثمَّتَ ثوابتٌ من التشريع يجب المحافظة عليها، وألا تتحول شعيرة إلى إلغاء شعيرة أخرى. فهذا التزاحم بين الشرائع هو نقصٌ في الفهم والفقه الشرعي.. ولهذا لم يكن الجهاد موجبًا لإسقاط الصلاة، بل شُرعت صلاة الخوف.. وهكذا، قواعد الشريعة ومقاصدها الثبوتية لا يمكن أن تتزاحم مع أحكام أخرى فتتجاوز الثوابت لغرض خاص من الاجتهاد.

ويُقدَّر في التعامل مع الأحداث الشمولية أن يكون أهل الإسلام متمتعين بالمسؤولية، وأن تكون لديهم القدرة على قراءة الأمور بشرعية وعدل، تحافظ على سياج الأمة وثوابتها.

وحين تخرج الأمة من حدثٍ ما، وقد تجاوزت أزمة فقدان الوعي ومحدودية الفقه وانفصام عُروة الولاء الإسلامي، وتقنين الانشقاق والصراع بين الإسلاميين، وأمثال ذلك من الأزمات، يجب أن يقف رموز الأمة والقائمون على مسيرتها لمعالجتها وتحقيق هدي الله ورسوله ﷺ في الأمة.. فهذه المصالح التي قد تكون مرحلة الحدث أكثر تأهيلاً لمعالجتها، تُعدُّ انتصارًا يجب ألا يسمح بتفويته!

المركبة واستغلالها في بناء الوعي 1 الأحداث المركبة واستغلالها في بناء الوعي

- ضرورة التفاؤل الشرعي في مواجهة الأزمات:

إن الأمة قد تمر بأزمة ما، لكنها في عقول الكثيرين تكون في دائرة الكمون أو اللاإدراك، وحين يقع حدثٌ ما تتحول إلى ظاهرة للمشاهدة.. هنا يغلط الكثير ممن يظنون أن الأزمة صنيعة الحدث، ويغلط آخرون حينما يصنعون فكر اليأس في تجاوز هذه الأزمة أو تلك.

إن الأمة لا يمكن أن تواجه أزمة غير قابلة للتجاوز والمعالجة في الوعي الجمعي لأبنائها، وهنا يجب أن ندرك ضرورة بناء الفأل بقدر معتدل يؤهل للعمل والمبادرة، لكنه لا يعطي مثالية في تقدير الأمور؛ فإن الأمة حين تُحرَم الواقعية تقع في أزمات معقدة بالغة التأثير..

من الحكمة أن نقدِّر الأحداث الشمولية ذات الطبيعة المركبة والمتسلسلة، وهذا التصور يجعلنا أكثر فقهًا لمواقفنا وتأثرها بحركة التطور داخل الحدث.. فإن هذا من اعتبار قاعدة “تحصيل المصلحة ودرء المفسدة”، كما أنه يعطي فقهًا لتنوع المواقف وربما اختلافها أحيانًا.

الغالب في الأحداث الشمولية أنها مركبة -من حيث الحكم- من أوجه محكمة لابد أن يتشكل فيها لأهل الإسلام موقف واحد، وألا يتنازعوا فيه، فإن هذا ضرورةٌ لتجاوز الحدث والتعامل معه برسالة شمولية حضارية قادرة على استيعاب الأحداث والمحافظة على الثوابت.

هذا الموقف بالغُ الأهمية، ثم بعد ذلك يقع في الحدث -حسب اقتضاء الشريعة- أوجه تقبل التنوُّع والاختلاف في المواقف، وهذه مساحة واسعة لأهلها من أهل الاختصاص.

يُقدَّر أن يكون لأهل الإسلام وقت مناسب أثناء الحدث ليتحدثوا معًا في موقفهم الخاص، ويصحِّحَ بعضهم لبعض تحت مظلة الرحمة وحسن القصد والفقه، وأن يكون هناك سعة في قبول الاجتهاد الذي أذنت به الشريعة، وألا تضيق النفوس به، وألا يتحول ما يقبل الخلاف في حكم الشريعة إلى مفهوم للصراع والملاسنة والانكفاء على الذات، أو التصرف بفرضية مثالية لتجاوز الآخرين ممن لهم علم وصدق وديانة.

إن تراحم هذه الأمة أخص ما يكون يوم تُبتلى ببلاء عام ويظهر تسلط أعدائها عليها.. وهذا التراحم يعطي مساحة لصدق الحديث والإنصاف، ومراجعة التصورات، ومنهج التعامل والعمل، واستقراء شرعية المواقف وصوابية الرأي.

“المؤمن لا يفرك المؤمن”، هذه من قواعد النبوة.. وهنا فإن تحقيق الأخوة بين أهل الإسلام -وهي من أخص ما يعصم الديانة- ضرورة للتعامل مع الحدث بفقهٍ واعتدال، حتى لا تتكون المواقف لدى الإسلاميين تحت مظلة الصراع الداخليّ بينهم وفي ظروف نفسية غير هادئة؛ فإن فقدان التوازن في تأسيس الموقف قد يكون مسؤولاً عن تداعيات متسلسلة.

الإسلامية من الصلاحية إلى الضرورة ج19 الأحداث المركبة واستغلالها في بناء الوعي

- الاجتهاد والاختلاف؛ بين المرونة والتزمُّت:

من هنا يجب أن تقدر المواقف حسب اقتضاء الشريعة ومقاصدها، ويجب تجاوز تمامية الرأي والاجتهاد، فمن كبرى مشاكلنا أن يتحول الموقف الاجتهادي إلى موقف ثبوتي يكون التحول عنه تحولاً عن مبدأ وأصل.

إن أهمية موقف ما في سياق معين = لا يمكن أن تمنحه حكمًا ليس مقدرًا في حكم الشريعة، فالاجتهاد غالبًا لا يكون مستوعبًا لسائر المقاصد والمقتضيات.. وهنا يقع للبعض أحد تصورين:

-إما تحويل كل أوجه الحكم والتعامل إلى مواقف ثبوتية؛ نتيجة ظهور وجه محكم ثبوتي بحق في تكوين الحدث والتعامل معه، مع أن هناك أوجه أخرى منفكة عنه، وليس بالضرورة أنها تتمتع بنفس الدرجة من الحكم.

-أو بتحويل الموقف الشمولي إلى رؤية اجتهادية في سائر أوجهها، دون تحقيق الوجه المحكم الثبوتي.

واللازم منا في ذلك = أن ندرك تعددية الأوجه في تكوين الحدث، وما قد يترتب على ذلك من تعددية النظر وأوجه الحكم.. فالرؤية الشمولية الشرعية يمكن بها تجاوز الحدث مع تحقيق مصالح أساسية في الاعتبار.

إن الغرب مع الحدث القائم اليوم يحاول، بل واستطاع -إلى حد ما- توظيف دوائره وآلياته المتعددة؛ لخدمة وترسيم الرؤية الغربية في التعامل مع الحدث.. ومن المعروف أن الغرب لا يتحرك الآن في البعد العسكري فقط؛ بل يعمل في تشغيل كل الآليات المتاحة والممكنة له.

وهذه الشمولية الغربية في الآلية والتوظيف، وإن كانت تحقق له سبقًا، إلا أننا ندرك أن الغرب، وإن تمتع بشمولية في الآلية، يتمتع برؤية أحادية ضيقة في مفهوم التعامل مع الحدث.. فالأحادية المتطرفة في الرؤية الغربية جعلت هذا الكم من آليات التوظيف لترسيم هذه الرؤية تبدو غير منسجمة وواقعية، لكن مع هذا فهو يحاول تجاوز هذه العقبة، والتي من الصعب عليه تجاوزها إلا في حالة ركود المجتمع الإسلامي عن تبني الشمولية الشرعية في الرؤية وآلية العمل.

فمن الحكمة أن ندرك أن الغرب، رغم تفوقه المؤسسي، يفتقد إلى الشمولية التي تمتاز بها الشريعة الإسلامية في الرؤية والعمل.

وأن هذه الأحادية في الرؤية الغربية قد تبدو قوية على السطح بفضل الهيمنة الاقتصادية والعسكرية، لكن عند التدقيق يتضح أن تلك القوة تكمن في الجانب الآلي أكثر من الفهم العميق أو الشمولي.. فالغرب يتحرك من منطلقات مادية بحتة، وتسيطر عليه أبعاد الأنا والنفعية، يل لا يتحرك إلا بمفاهيم مفرطة في الأنانية، وعبودية الذَّات، وفقدان التوازن والإنصاف، وكل ذلك من الأفكار التي هي نتاج الأصوليةِ النصرانية واليهودية المتطرفة التي لا تزال تتحرك في دوائر غربية، وفلسفاتِ ما بعد عصر الكنيسة، والتي صورها الغرب كأنموذج حضاري في الاعتدال والوعي والإنسانية، لكن الواقع يرسم صورة أخرى لهذه الفلسفات، ويكشف الفشل الذريع في النظرية الغربية كرسالة حضارية غير قادرة على استيعاب الذات، و هذا من أخص صور هزيمة الغرب، الذي يحاول محاسبة الدول والمجتمعات الإسلامية بناءً على أزماته الخاصة!

وفي المقابل، نجد أن الشمولية الإسلامية تتميز بأنها نابعة من منهج سماويّ وحضاريٍّ متكامل، ينظم حياة الإنسان بشقيها الروحي والمادي.. فالإسلام لا ينظر للأحداث من زاوية ضيقة، بل يضع كل شيء في إطار أهدافه الكلية التي تتلخص في تحقيق العبودية لله بين الناس وإقامة العدل.. ولهذا، فإنه عند مواجهة أي حدث، كبيرًا كان أو صغيرًا، لا يمكن فصل التعامل معه عن هذا الإطار العام الشمولي.

2 الأحداث المركبة واستغلالها في بناء الوعي

- شمولية رسالة الإسلام في تعاملها مع الأزمات:

ما يجب أن ندركه نحن كمسلمين، هو أن قوتنا الحقيقية تكمن في شمولية رؤيتنا، التي تستند إلى الدين، وترتكز على العدل.. فبينما يفتقد الغرب تلك الأبعاد السماوية في تعاطيه مع القضايا، نحن نملك رؤية واضحة تنطلق من قيم ثابتة لا تتغير بتغير الظروف.

إن الشمولية في الرؤية والآلية التي تحكمها الشريعة الإسلامية تتيح للأمة تجاوز الأزمات، والتعامل معها بطريقة تُرضي الله وتحافظ على مصالح الناس في الدنيا والآخرة.

فكان مما يميز المنهج الإسلامي أنه كذلك لا يقتصر على الحلول المادية أو العاجلة فحسب، بل يمتد ليشمل الجوانب الروحية والمعنوية، مع التركيز على تحصيل المصالح ودرء المفاسد.. وعلى عكس الغرب، الذي يتحرك وفق منافع وقتية، يضع الإسلام في الاعتبار الأبعاد البعيدة المدى في أي تصرف أو موقف، بحيث تكون العاقبة في النهاية لصالح الأمة.

إن استيعاب الأمة لهذا التميز هو الذي يمكنها من مواجهة الأحداث المعقدة التي تعصف بها، بعيدًا عن التشتيت أو التردد، فعلى الأمة أن تدرك أن ما تملكه من أدوات حضارية ودينية كفيل بإحداث التغيير المطلوب، شريطة أن تُحسن استخدامها في ضوء هدي الله ورسوله ﷺ.

ختامًا، يتوجب على الأمة الإسلامية، في ظل هذه الرؤية الشمولية، أن تتعامل مع أزماتها بشجاعة وصبر وتخطيط محكم، مع استشراف المستقبل بنظرة ملؤها التفاؤل والثقة في الله، لأنه هو القائل: “والعاقبة للمتقين”. فإن الأمة التي تستلهم قوتها من هذا الهدي السماوي، وتجمع بين الفقه والعمل، بين العلم والعبادة، وبين التخطيط والتنفيذ، هي الأمة التي ستكون لها الغلبة والنصر في نهاية المطاف.

والله مولانا ولا مولى لهم، والعاقبة لأهل الإسلام.

وصلّى اللهُ على حبيبنا محمّد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى