فكر

قراءة في أسئلة الفطرة

يحاول هذا المقال البرهنة على وجود أسئلة تطرحها كلّ فطرة إنسانية، بغضّ النظر عن معتقد صاحبها، وعلى أنّ الإجابة عن تلك الأسئلة هي المنظومة الدافعة التي تصوغ حياته. هذه الأسئلة هي: سؤال المنشأ (من أين)، سؤال الغاية (لماذا)، سؤال المنهج (كيف) سؤال المصير (إلى أين). ثمّ يسعى المقال إلى البيان بأنّ الإسلام يقدّم إجابات وافية عن تلك الأسئلة، ممّا يؤكّد دون شكّ أنّه يؤسّس منظومة لصياغة الحياة بجميع جوانبها، فهو – فضلا عن كلامه عن المنشأ والمصير – يقدّم مفهومه الخاصّ عن السعادة، وعن معايير الإباحة والتحريم والصحة والفساد، ومفهومه الخاصّ عن العقل ومصادر المعرفة، بل يقدّم نظرية معرفة تضبط بوصلة العقل.

تكمن أهمية هذا الطرح في أنّه يحاول إزالة تلك الصورة البائسة عن الإسلام باعتباره “جانبًا” من الحياة، ولكن في نفس الوقت دون الحاجة إلى استخدام أسلوب المحاججة والردّ على الشبهات التي تحاول حصر الإسلام في المعتقد والشعائر، بل بإثبات مفاصل المنظومة المتكاملة باعتبار أنّ الدين إجابة عن تلك الأسئلة، بعد أن نبيّن بأنّ الإجابة عن تلك الأسئلة هي التي تضبط إيقاع حياة كل إنسان، بوعي أو بدون وعي. ثم يتطرّق المقال بشيء من الإيجاز إلى بعض إشكاليات كل سؤال فيما يتعلق بالخطاب المعاصر.

نقترح أولا، لفهم أعمق للقضية التي نحن بصددها، طرحَ مثال لشخص اختُطف فجأة، ثم صحا فوجد نفسه في غرفة لا يعرف عنها شيئا، ولا يعرف من أحضره إليها ولا سبب ذلك. نفترض أنّ هناك أسئلة جادّة سيطرحها هذا الشخص، بشكل مباشر أو غير مباشر، وأنّ أي انصراف عن هذه الأسئلة ومحاولة العثور على إجابات مناسبة لها هو ضربٌ في التيه. هذه الأسئلة هي:

– مَن جاء بي إلى هنا؟

– لماذا جاؤوا بي إلى هنا؟

– كيف سأتصرّف؟ ماذا ينبغي أن أفعل أو لا أفعل؟

– ماذا سيكون مصيري؟

ترتبط هذه الأسئلة جميعها ببعضها بعضًا؛ فالسؤال عن هوية المتسبّب في وجوده هنا قد يكشف به الإجابة عن سبب إحضاره، فقد تكون عصابة من قطّاع الطرق تريد ابتزاز أسرته لتحصيل المال، وبناء على ذلك سيكون أكثر وعيًا بخصوص كيفية تصرّفه وماذا عليه أن يفعل، وسيدفعه ذلك إلى التفكير بمصيره. وإنّ أي تفكير آخر يخرج عن نطاق هذه الأسئلة هو في الواقع تفكيرٌ عبثيّ؛ كأنْ ينظر إلى جدران المكان ويتأمل نوعية الطلاء ودرجة لونه، أو كأنْ يقرّر التأقلم مع الحياة في هذه الغرفة من غير الانشغال بأيٍّ من تلك الأسئلة باعتبار أنّها أسئلة “ميتافيزيقية” لا تعنيه في “عالمه” الحالي المحسوس!

يمكننا الآن أن نمضي مع هذه الأسئلة إلى مسرح أوسع؛ هو الكون، وقضية أرحب؛ هي قضية الإنسان على هذه الأرض، لتكون الأسئلة هي أسئلة كل فطرة بشرية، أيّا كان معتقد صاحبها، وهي:

– سؤال المنشأ: من أين؟

– سؤال الغاية: لماذا؟

– سؤال المنهج: كيف؟

– سؤال المصير: إلى أين؟

إنّ مسار حياة كل إنسان على وجه الأرض هو عبارة عن الإجابة التفصيلية عن هذه الأسئلة، أيّا كان معتقد هذا الإنسان، حتى لو كان ملحدًا. وسنحاول الآن النظر إلى إجابات نموذجية لشخص ملحد عن تلك الأسئلة، وكيف يؤثّر ذلك بشكل كبير في حياته بأسرها.

بخصوص سؤال المنشأ، يرى ذلك الملحد أنّه يعود إلى تفاعلات كيميائية عشوائية، أدّت إلى نشوء أشكال بدائية من الحياة، وقد تطوّرت هذه الأشكال عبر ملايين السنين لينشأ من خلالها الإنسان وبقية الكائنات الحية التي نراها اليوم[1] . وهذا يعني أنّها نشأة “ماديّة” بحتة، ستنعكس فيما بعد على كل أنشطة حياة ذلك الملحد؛ بدءًا من الأخلاقيات الفردية، التي ستتمركز حول النفعية المادية، وصولا إلى الممارسات السياسية، التي ستنعزل عن القيم والأخلاق، وستصبح معاييرها ماديّة بحتة. أي إنّ ماديّة النشأة في التصوّر الإلحادي ستستمر لتغطّي كل مجالات الحياة، رغم أنّها لن تقضي على الجانب الروحي والأخلاقي للإنسان تمامًا[2] .

المادية

إنّ إجابته عن سؤال المنشأ توفّر بشكل تلقائي أيضًا الإجابة عن سؤال الغاية من الوجود الإنساني، هذه الإجابة ببساطة هي أنّه لا توجد غاية، فهو وجود “صُدفي” عشوائي لا غاية من ورائه، بل لا يوجد كيان أعلى يحدّد تلك الغاية. وإذا انعدمت الغاية، فكيف تتحدّد الإجابة عن سؤال “المنهج” وهو: كيف أتصرّف في هذه الحياة؟ ماذا ينبغي أن أفعل وماذا لا ينبغي أن أفعل؟ ما هو معيار الأفعال؟ بل كيف تتحدّد الإجابة عن سؤال “المصير”؟

الأمر ببساطة أنّ المصير سيكون التراب ولا شيء وراء ذلك، أي سيعود ذلك الإنسان إلى التحلّل للعناصر الطبيعية التي تَكوّن منها في البداية، ولا يوجد عالم آخر ولا حساب ولا جزاء على أعمال، ومن ثَمّ سيتحدّد منهج حياة الإنسان بناء على هذا التصوّر: وهو تحقيق أكبر قدْر من السعادة – حسّيةً ومعنويةً – في هذه الفسحة المتاحة أمام الإنسان من حياة، والعمل على تحسين تلك الحياة وتطويرها لزيادة منسوب تلك السعادة المؤقّتة.

ندرك من خلال هذا النموذج أنّنا شئنا أم أبينا، سنتصرّف في الحياة بناء على إجابات محدّدة عن تلك الأسئلة. ومن هنا تنشأ المعضلة التي يحاول هذا المقال مناقشتها، وهي معضلة المفارقة الكبيرة بين الإجابات المفترضة في الإسلام عن تلك الأسئلة، وبين حياة المسلم المعاصر. إنّها مشكلة “التيه” الذي نشأ من خلال إغفال تلك الإجابات، أو عدم فاعليّتها في حياة المسلم المعاصر، فهو أشبه بتلك “الذرّة التائهة”، التي تمثّل نموذج الغفلة عن أسئلة الفطرة وإجاباتها الجادّة.

فعندما نرى على سبيل المثال إنسانًا يعتنق العقيدة الإسلامية، ثم تكون حياته مطابقة تمامًا لحياة ذلك الملحد، أي بتعبير آخر: تكون إجاباته عن تلك الأسئلة هي نفس إجابات ذلك الملحد؛ ندرك تمامًا أنّ ثمّة خللًا في فاعلية الإجابات التي يقدّمها الإسلام في حياة ذلك المسلم، وأنّه يعتنق الإسلام “شكلا” لا “مضمونًا”، رغم أنّ الإسلام – من خلال دلالة اسمه ومن خلال مبادئه – هو أولا وقبل كل شيء مضمون فاعل يقدّم إجابات واضحة وحاسمة ومؤثّرة عن تلك الأسئلة.

إنّ إعادة ترتيب الإجابات عن تلك الأسئلة، والتعامل معها بجدّية وواقعية، هو سعيٌ نحو بناء علاقة صحّية بين تلك الذرّة (الإنسان) وبين الكون والحياة التي يعيشها، أي هو انتقال من حالة “التيه” إلى حالة “الانتظام” وفقًا لمنظومة حياة تتّسق مع الفطرة البشرية؛ باعتبارها حاملًا للكيان الاختياري للإنسان، ومع الكون؛ باعتباره المسرح الذي تجري عليه أحداث حياته.

سأحاول في المقال مناقشة محاور مختلفة تندرج تحت تلك الأسئلة، ولكن قبل ذلك أودّ أن أستعرض بإيجاز بالإجابات التي يقدّمها الإسلام عن أسئلة الفطرة:

– بخصوص سؤال النشأة: من أين؟ يجيبنا القرآن: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ} (الأنعام: 2).

– وبخصوص سؤال الغاية: لماذا؟ يجيبنا القرآن: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56).

– وبخصوص سؤال المنهج: كيف؟ يجيبنا القرآن: {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ} (الأعراف: 3).

اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ

– وبخصوص سؤال المصير: إلى أين؟ يجيبنا القرآن {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (هود: 4).

وكل إجابة من هذه الإجابات مرتبطة بمنظومة متكاملة من الآيات القرآنية والسنن النبوية التي توسّع الإجابة وتعزّزها في قلب الإنسان، فثمّة مساحة عميقة من سباحة العقل والقلب في قصّة نشأة الخلق وقصة الإنسان واستخلافه وابتلائه وما أعطاه الله من خصائص تكافئ هذه الغاية وتجعله قادرا على اتباع المنهج الذي أنزله إليه على ألسنة رسله، وحول حقيقة الحياة الدنيا وما يواجهه فيها وحقيقة الشيطان وغوايته والنفس وتزكيتها والأحكام وحكمتها ومقاصدها، وحول اليوم الآخر بدءًا من حقيقة الموت وصولا إلى تفاصيل القيامة من حساب وجزاء وجنّة ونار وغير ذلك. ولهذا كان أغلى ما لدى الإنسان في حياته هو هذه الهداية الربّانية من خالقه الكريم، قال سبحانه: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 38). وقال تعالى في الآية الأخرى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} (طه: 123).

إنها الهداية التي ترفع عنه مشاعر الخوف والحزن والضلال والشقاء والقلق والعبثية واللاجدوى التي سوف تَعْتوِرُ قلبه خلال حياته لو عاش من غيرها، جاهلا بحقيقة نشأته وغاية وجوده ومصيره بعد الموت. فحينئذٍ سيشعر بالأسى والخيبة تجاه هذه الحياة وتجاه وجوده العاقل الجميل الذي يحسّه في نفسه في كل لحظة من حياته، ثم يؤسفه أن يتلاشى وينقلب إلى العدم بلا استمرار تنطق فطرتُه بضرورته!

كما نرى، يقدّم الإسلام إجابات واضحة وحاسمة ومتكاملة عن تلك الأسئلة، ولن أتطرّق في المقال إلى تفصيل تلك الإجابات والأدلة البرهانية عليها، ولكنّي سأتناول بعض القضايا والإشكالات المرتبطة بكل سؤال من هذه الأسئلة.

وما يهمّنا أولا هو أن نؤكّد على أنّ هذه الطريقة في العرض تدلّنا على خاصّية مهمّة في الدين، وهي أنّه ليس مجرّد “جانب من الحياة” له طبيعة روحية طقوسية، تشمل الشعائر والهوية الشكلية والمناسبات والأعياد، كما يفهمه الكثير من الناس، ولكنه في الواقع عبارة عن ميزان ناظم لأهم أسئلة الحياة، أي بكلمات أخرى هو إجابة عن تلك الأسئلة الأربعة التي ذكرناها. يقدّم الدين الإجابات الشافية للإنسان ليدرك مكانته وطبيعة دوره وحدود طاقاته ومآله النهائي. فالدين بمدلوله هذا هو قضية واقعية جادّة، بل على درجة أولى من الأهمية والجدية. وإذا كان المسلم يعتقد أنّ هذه الإجابات هي “حقائق” ينبغي التعامل معها بجدية بالغة؛ تكون الغفلة عنها ممارسة “عبثية” وحالة غير سوية ينبغي علاجها، ويكون من المفترض أن يتفرّد عن غير المسلم في الإجابات التي يقدّمها عن تلك الأسئلة والسلوك المرتبط بها، لا أن يقتصر التفرّد في الشعائر والهوية والممارسات الشكلية.

وسنقوم الآن بعرض نماذج من الإشكالات تندرج تحت كل سؤال من هذه الأسئلة:

مركزية الإنسان

سؤال النشأة (من أين؟): {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم}.

من إشكاليات الاهتمام بهذا السؤال في الخطاب المعاصر التركيز على الإجابة العقلية البرهانية عن هذا السؤال، أي التركيز على جانب “الإقناع العقلي” بوجود الله من خلال الأدلة والبراهين العقلية، مع إغفال العلاقة بين الإنسان وخالقه ومدى ارتباط ذلك بإيمان الفرد. وهنا لا بدّ لنا من الإشارة إلى أنّ قضية الإيمان بالله ليست مجرّد قناعة عقلية بوجوده، فهي أعمق من أن تنحصر في هذا السياق الضيّق. وخلال الاطلاع على النصوص القرآنية والحديثية سنجد الكثير من النصوص التي تشير بقوّة إلى وجود عوامل أخرى تؤدي إلى الوصول إلى حالة الإيمان بالله.

من تلك النصوص قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت: 69). وهو مثال واضح على أثر الإرادة الإنسانية المقبلة على الله في الوصول إلى مرحلة الهداية. ومنها أيضًا قوله عليه الصلاة والسلام: “ما مِن قلبٍ إلَّا بينَ إصبعينِ من أصابعِ الرَّحمنِ، إن شاءَ أقامَهُ، وإن شاءَ أزاغَهُ وَكانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يقولُ: يا مثبِّتَ القلوبِ، ثبِّت قلوبَنا على دينِكَ” (ابن ماجة). وهو مثال على ضرورة الرجاء وتعلّق الإنسان بخالقه المنعم والمتفضّل عليه بكل شيء، باعتبار أنّ هذا الرجاء والتعلّق هو أحد سبل الهداية للإيمان والنجاة من الضلال؛ لأنّ كلّ شيء بيده سبحانه. ومنها أيضًا قوله عليه الصلاة والسلام: “تُعرَضُ الفتنُ علَى القلوبِ كالحصيرِ عودًا عودًا، فأيُّ قلبٍ أُشرِبَها نُكِتَ فيهِ نُكتةٌ سَوداءُ، وأيُّ قلبٍ أنكرَها نُكِتَ فيهِ نُكتةٌ بَيضاءُ، حتَّى تصيرَ علَى قلبَينِ علَى أبيضَ مِثلِ الصَّفا فلا تضرُّهُ فتنةٌ ما دامتِ السَّماواتُ والأرضُ، والآخرُ أسوَدُ مُربادًّا كالكوزِ مُجَخِّيًا لا يعرِفُ معروفًا ولا ينكرُ مُنكرًا إلَّا ما أُشرِبَ مِن هواهُ” (صحيح مسلم). وهو مثال على أثر سلوك الإنسان في حالته القلبية وموقفه الإيماني والمعيار الذي يقوّم الأشياء به.

إلى جانب هذه الجوانب “النفسية” التي أغفلها الدرس العقدي الإسلامي، وبقيت محصورة في الغالب في درس التزكية، هناك جانب مهمّ تم إغفاله مع الأسف، وهو ضرورة الانطلاق من موقف قوّة في مواجهة الخطاب المادّي الإلحادي، لا موقف ضعف. فقد تنازل الكثير من الإسلاميين أمام الطرح الإلحادي عندما طرحوا مقولة “إثبات وجود الله”، وهو مصطلح هزيل يضع من يقول به بشكل حتمي في موقف الدفاع، وهو الموقف الذي لا يليق بحامل الإيمان.

لقد كان حريّا بنا اعتماد الطرح الذي يواجه الخطاب المادي بأسئلته المحرجة، ومن أمثلته الرفيعة ذلك الطرح الذي قدّمه الأستاذ سيّد قطب رحمه الله في آخر ما كتبه، وهو كتاب مقومات التصوّر الإسلامي تحت عنوان “استنقاذ الفطرة من تحت الركام”، والذي يعني بشكل أساسي أنّ عناصر الإيمان كامنة في كلّ فطرة بشرية خلقها الله، وأنّ وظيفة الخطاب الدعوي ليست إثبات وجود الله، بل استنقاذ تلك العناصر الإيمانية الكامنة تحت ركام التصوّرات الفاسدة المكتسبة. وسنجد لهذا الطرح شواهد لدى القدماء والمعاصرين، ومن ذلك ما يقوله العلامة شهاب الدين المرجاني رحمه الله في كتابه ناظورة الحق:

“فأول ما وجب على المخاطب هو تصديقه، وأمّا صدقه فهو بمنزلة الثابت عند المخاطب؛ لفرط تمكّنه منه بما يرى من الآيات البيّنات، والمعجزات القاهرات، ولا يحتاج إلا على التنبيه، وقد حصل بإخباره، فثبت الشرع بنفسه لكون العاقل متمكّنا من العلم بصدقه فرطَ التمكّن، فكان صدقه مركوزًا في فطرته يكفيه التذكير من الشارع في نبوّته، فإذا التفتَ إليه المخاطب أدنى التفاتٍ تحصل له المعرفة بصدق دعواه، كما قال سبحانه: {كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ} (ص: 29). أي: ليستحضروا ما هو كالمركوز في عقولهم لفرط تمكّنهم منه”[3].

ومن ذلك أيضًا ما قام به الأستاذ علي عزت بيجوفيتش رحمه الله لاحقا في كتابه الإسلام بين الشرق والغرب، حيث واجه التفسير المادي للحياة والإنسان بأسئلة محرجة، فانتبه مثلا إلى أنّ قيمة التضحية هي قيمة تنتمي إلى الإيمان ولا تنتمي إلى المادة؛ إذ لا يمكن تفسير مفهوم التضحية في الفلسفات المادية إلا باعتباره تراجعا عن عملية التطوّر. وانتبه أيضًا إلى أنّ ظاهرة الفنّ بحدّ ذاتها ظاهرة تنتمي إلى الدين، فهي بالمفهوم المادي البحت عبثٌ لا معنى له. انطلق بيجوفيتش في “تكتيكه الدعوي” (كما يصفه المسيري) من الإقرار المبدئي بمقولة “الإنسان الطبيعي” أو “الإنسان الدارويني”، ليراقب هذا الإنسان والممارسات والمشاعر “الأخلاقية” و”الروحية” التي ما زال يحتفظ بها، مشيرا إلى أنّها تؤكّد على وجود “نفخة الروح” في “قبضة الطين”، مهما تبجّح الخطاب المادي بالنشأة المادية وضرورة انعكاسها على كل أوجه الحياة.

2 قراءة في أسئلة الفطرة

سؤال الغاية (لماذا؟): {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}.

تقدّم إجابة الإسلام عن سؤال الغاية {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} معنى لحياة الإنسان على الأرض، وتعطيه قيمة متجاوزة للمادة، بحيث يرتبط سلوك الإنسان دائمًا بغاية متجاوزة لحيّز الزمان والمكان الذي يعيش فيه.

في سياق هذه الإجابة نلاحظ أحيانًا ارتباطًا غيرّ جادّ بها، أي نجد أنّ غاية الكثير من الأفراد المسلمين تكون مطابقة أحيانًا لغايات غير المسلمين، والتي تتمحور حول تحصيل أكبر قدْر من اللذّات في الدنيا والابتعاد عن الألم قدر الإمكان، مع غياب الهدف الأسمى المتجاوز لهذه الدنيا. ومن النماذج التي يُلاحَظ ذلك فيها بشدّة نموذج “معضلة القرض الربوي” كما أحبّ أن أسميه. فهو نموذج صارخ لاختلال معيار هذه الإجابة في حسّ الشخصية المسلمة المعاصرة؛ ذلك أنّ الذين يسوّغون أخذ القرض الربوي لتسهيل شؤون الحياة يعتمدون في الكثير من الأحيان على مقولة مفادها أنّ أخذ القرض الربوي لشراء منزل – مثلا – هو أكثر ربحًا من المعاناة مع الإيجار. وهو كما نرى معيار ماديّ بحت، لا يختلف في شيء عن تسويغ شخص غير مسلم لأخذ قرض ربوي من أجل شراء منزل. ولهذا فمعضلة القرض الربوي في الأساس معضلة مرتبطة بأسئلة الفطرة، وتحديدا بسؤال “الغاية”، قبل أن تكون معضلة فقهية تحتاج إلى “فتوى” على مقاسها. أي إنّ الخلل الأساسي بشأنها هو أنّ من يتعاطى ذلك غفل عن الغاية الأهم التي يسعى إليها؛ هل هي اكتساب أكبر قدْر من الراحة واللذّة والابتعاد عن الألم في الحياة الدنيا؟ أم الحصول على السعادة الأخروية بنَيْل رضوان الله عزّ وجلّ؟ باعتبار أنّ معادلة الصبر على مصاعب الحياة تجنّبا للحرام هي إحدى معادلات تحقيق السعادة في الدنيا والآخرة.

سؤال المنهج (كيف؟): {اتّبعوا ما أنزل إليكم من ربّكم ولا تتّبعوا من دونه أولياء}.

في إطار الإجابة عن سؤال المنهج نودّ أن نشير أولا إلى محدّدات هذه الإجابة، ولماذا يجب على الإنسان أن يتّبع منهجًا جاء به الوحي من عند الله؟

هذه المحدّدات في الأساس هي:

1) إثبات العلم الكامل لله، والجهل المطبق للإنسان: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 216).

2) اتّصاف الإنسان بالهوى، وتنزّه الله عن الهوى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ} (الجاثية: 23).

3) تنزّه الله عن الغرض والمصلحة، واتّصاف الإنسان بذلك: {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (آل عمران: 97).

تساعدنا هذه المحدّدات في بيان الفرق بين المساحة التي يتناولها الوحي (المنهج) من سلوك الإنسان، والمساحة المتروكة للعقل بأداوته، وأهمية عدم الخلط بين المساحتين. فالخلط بينهما هو الذي أنتج لنا الكثير من نظريات “الإعجاز العلمي” ومقولات مثل: “القرآن اكتشف هذه النظرية العلمية قبل علماء الغرب”، وإدخال العلوم وما يمكن التوصل إليه بالعقل البشري تحت مفهوم “الشمول” في الإسلام، باعتبار أنّ الإسلام دين شامل لكل شيء ولقول الله عز وجلّ: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} (النحل: 89)[4] ، والتعامل مع القرآن وكأنه سيقدم لنا إجابات فيزيائية وفلكية وبيولوجية منتهية الصلاحية؛ أي بعد أن يكتشفها علماء الغرب.

إنّ هذه المقولات ناتجة عن اضطراب التحديد العلمي لأهداف نزول المنهج، ولكون القرآن الكريم كتاب “هداية” في الأساس، وليس منجمًا للنظريات العلمية؛ لأنّ الله قد وهب الإنسانَ أداة العقل والتفكير لمزاولة العلم ولاكتشاف ظواهر الكون وأسرار المادة وحقائق الطبيعة. أما الأخلاقيات ومعايير الخطأ والصواب، والإباحة والتحريم، والخير والشر فقد تكفّل المنهج بتحديدها؛ لقصور العقل عن القدرة على البتّ بها، وذلك لاتّصافه بالجهل والضعف والهوى والمصلحة.

والنار قراءة في أسئلة الفطرة

سؤال المصير (إلى أين؟): {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

هناك مفهوم مغلوط يسري بين الكثير من المسلمين مفاده أنّ كلّ مسلم سيدخل الجنّة بغير حساب لمجرد انتسابه الوراثي لأمة الإسلام، وكل كافر سيدخل النار لمجرّد انتسابه الوراثي لغير المسلمين. وفي ضوء هذا المفهوم المغلوط يتساءل الكثير من المسلمين قبل غيرهم: أليس من الظلم أن تكون معايير دخول الجنة والنار جبرية؟

لقد أدّى هذا المفهوم المغلوط عن الإيمان إلى تشويش فكرة اليوم الآخر في عقول المسلمين قبل غيرهم، حيث يُضعف هذا المفهوم من دور الاختيار البشري الحرّ ومسؤولية الإنسان عن موقعه في الآخرة، وهو الأمر الذي يؤكّد عليه القرآن كثيرا كما في قوله تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (غافر: 17) والحديث هنا عن “كلّ نفس”، أي يشمل المسلمين وغيرهم، وكذلك “بما كسبت”، أي بأفعالها الاختيارية. وفي قوله تعالى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} (النساء: 123). فهو حساب دقيق بناء على اختيارات الإنسان لا أمنياته أو انتساباته التي لم يكن له خيار فيها، سواء كانت الاختيار بين الاعتراف بالله والتزام العبودية الخالصة له من جهة، أو إنكار وجوده أو إشراك غيره معه في العبادة من جهة أخرى، فهذا أيضًا اختيار حرّ يُحاسب الإنسان عليه.

وفي إطار الإسلام يُحاسَب المسلم الذي نبذ الشرك على ما قصّر من واجبات وما وقع به من محرّمات، وليس الجميع سواسية ولن ينجوَ جميعُ المسلمين بدون حساب كما يقول المفهوم المغلوط، حتى وإنْ كان المسلم الموحّد لا يخلُد في النار. وفي إطار الخروج عن الإسلام، يُعتبر الاستكبار عن عبادة الله، ورفض الإقرار بالخالق المنعم المتفضّل، وإشراك غيره معه في العبادة؛ تعتبر هذه كلّها “مواقف اختيارية” وليست جبرية. وبهذا الشكل تعود لليوم الآخر فاعليّته باعتباره يوم حساب دقيق لاختيارات البشر في دار الاختبار، مسلمين وغير مسلمين، وليس حكرًا على قوم دون آخرين باعتبارات جبرية.

هناك الكثير ممّا يمكن قوله في إطار أسئلة الفطرة وإجاباتها، ولكنّي حاولت في هذا المقال تسليط الضوء على أهميّة الوعي على هذه الأسئلة وضبط إجاباتها في تنظيم حياة المسلم، مع الإشارة إلى نماذج من الإشكاليّات التي تندرج تحت كل سؤال منها. آملا أن يكون هناك مقام آخر للتوسّع في دراسة شاملة، تستكشف مساحات أخرى في إطار هذه الأسئلة وإجاباتها، وتروي شيئًا من عطش الأسئلة المعاصرة فيما يتعلق بهذا المجال.

الهوامش:

  1. لاحظ كيف تلغي هذه الإجابة عن سؤال المنشأ أيّ تميّز أو تكريم للإنسان، وهو ما تعطيه له العقيدة الدينية عموما والإسلام بشكل خاص.
  2. راجع: الإسلام بين الشرق والغرب، علي عزت بيجوفيتش، الفصل الأول: الخلق والتطوّر.
  3. شهاب الدين المرجان، ناظورة الحق، 20-21.
  4. لنقاش هذه الفكرة راجع كتاب الخطاب المريض للكاتب، ص61.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى