أشتات

الإِسلام واللغَة العربية فِي كُوريا

يكادُ كلُّ شخصٍ على وجهِ الأرضِ يَسمعُ اسمَ هذهِ الدَّولةِ النَّائيةِ الواقعةِ في أقصى الشَّرقِ، والتي قُسِّمَتْ إلى شَطريْنِ: شماليٍّ وجنوبيٍّ بعد الحربِ الكوريَّةِ الطَّاحنةِ (1950-1953م)؛ ولِمَ لا؟ وهو يسمعُ دائمًا اسمَ الزَّعيمِ الكُوريِّ الشَّماليِّ: كيم جونغ أون (Kim Jong Un)، ذلك الشابُّ الغريبُ الطَّلعاتِ، العجيبُ القراراتِ، المَلغومُ بالمفاجآتِ، والذي ما فَتِئَ يُهدِّدُ أمريكا والعالمَ بأسْرِهِ بأسلِحَتِهِ النَّوويَّةِ، وصواريخِه العابرةِ للقارَّاتِ. وفي الشَّطْرِ الجنوبيِّ، تتألَّقُ في أيدي جُلِّ سُكَّانِ المَعمورةِ منتجاتُ شركةِ: سامسونج (Samsung) الكوريَّة الجنوبيَّة، والتي يعنِي اسمُها باللُّغةِ الكُوريَّةِ: النُّجومُ الثَّلاثةُ، وهي شركةٌ عملاقةٌ تصنعُ كلَّ شيءٍ تقريبًا، لا الهواتفَ المحمولةَ فقط، كما يظنُّ البعضُ، فهي تعملُ في الإنشاءاتِ والأغذيةِ والمنسوجاتِ وبناءِ السُّفنِ، وإنتاجِ أشباهِ الموصِّلاتِ… وغيرها، ويعادلُ رأسُمَالِها ميزانيةَ عدَّةِ دُولٍ، وتتجاوزُ إيراداتُها 300 مليار دولارٍ سنويًّا!

وقد كانتْ مَعلوماتي عن كُوريا شَحيحةً؛ لأنَّها غيرُ عربيَّةٍ أو إسلاميَّةٍ، وشديدةُ البُعْدِ عنَّا جُغرافيًّا، أمَّا مجالُ تَخصُّصِي فتصوُّرُهُ هناكَ ضَرْبٌ من الأوهامِ، أو أضغاثُ الأحلامِ. وشاءَ اللهُ في مطلعِ هذا العامِ أنْ تَدْعُوَنِي حَرَمُ السَّفيرِ التُّركيِّ في بروناي -التي تُدَرِّسُ لنا اللُّغةَ التُّركيَّةَ في الجامعةِ- إلى مَقرِّ السِّفارةِ التركيَّةِ؛ لِمُشاهدةِ فيلمٍ عنوانُه: (Ayla the daughter of war)، وهو يَحكِي قِصَّةً واقعيَّةً حدثتْ إبَّانَ مُشاركةِ تُركيا في الحربِ الكوريَّةِ إلى جانبِ القوَّاتِ الأمريكيَّةِ؛ دَعْمًا للجنوبِ في مُواجهةِ الشُّيوعيِّينَ في الشَّمالِ، وقد صَوَّرَ الفيلمُ مآسيَ تلكَ الحربِ بصورةٍ مُرعِبَةٍ؛ حيثُ استخدمَ المُنتِجُونَ تقنيَّاتٍ فائقةً في التَّصوير، إذْ أُنْتِجَ الفيلمُ عام 2017م، وفي أثناءِ إحدى الغاراتِ دُمِّرَتْ منطقةُ بأكمَلِها، ووسطَ الرُّكامِ والجُثَثِ المتناثرةِ وجدَ جنديٌّ تُركيٌّ برتبةِ رَقيبٍ (Sergeant)، أو شاويش/ جاويش (Çavuş) باللُّغةِ التُّركيَّةِ، يُدْعَى سُليمانَ (Süleyman) طفلةً صغيرةً في الرَّابعةِ من عُمْرِها تقريبًا لا تزالُ حيَّةً، فَمَسحَ عنها الغُبارَ، وحَمَلَها معهُ إلى المعسكرِ، ولمْ يتمكَّنْ من معرفةِ اسمِها بسببِ حاجزِ اللُّغةِ، فسمَّاها (Ayla)، وتعلَّقَ بِها جِدًّا، كما تعلَّقَ بها كثيرٌ من رُفقاءِ السَّلاحِ، وبعد أشهرٍ جاءتْ إحدى الجمعيَّاتِ التي تَرْعَى أبناءَ ضحايا الحربِ، وألحقَتْها بالمَدْرسةِ، وبدأتْ مَسيرَتَها التعليميَّةَ، فكان سليمانُ يزورها دائمًا، ولمَّا حانَ وقتُ المُغادرةِ، قامَ بتَهْريبِها من المدرسةِ، ووضَعها في حقيبةٍ سَفَرٍ، وصَعَدَ بها الباخرةَ المُبْحِرَةَ إلى تُركيا، وفي اللَّحظاتِ الأخيرةِ قبلَ الإقلاعِ جاءتْ مُشرِفَةٌ من المدرسةِ تبحثُ عنها، واكتُشِفَ الأمر، فأُخِذَتْ مِنْه، فعادَ سليمانُ وهو يحملُ من الأحزانِ ما يربو على بَتْرِ أحدِ أعضائِهِ في الحربِ، وظلَّ الرَّجُلُ يحملُ صُورتَها، ويذكُرُها لِزَوْجتِه وأبنائِهِ وأحفادِه، وفي عام 2014م، أيْ بعدَ نِهايةِ الحربِ وبعدَ عودَتِهِ بأكثرَ من سِتِّينَ سنةً، تواصلَ سُليمانُ مع السفارةِ التُّركيَّةِ في العاصمةِ سيول (Seoul)، وطلبَ منهم البحثَ عنها، وبعد جُهْدٍ جهيدٍ توصَّلوا إليها، فسافرَ مع زوجَتِه إلى كوريا مُتوَكِّئًا على عصاه، إذ كانَ في الحاديةِ والتِّسعينَ من عُمره؛ ليقابِلَها في حديقةِ السِّفارةِ التًّركيَّةِ، وهي يومَها في الحاديةِ والسَّبعينَ، فجاءتْ ومعها ثلاثةٌ من أبنائِها، وتَعانقا طويلًا في لقاءٍ مَليءٍ بالشَّجنِ والدُّموعِ، أبكى جُلَّ المُشاهدينَ، وهو لقاءٌ حقيقيٌّ خُتِمَ به ذلك الفيلمُ المشحونُ بِالعواطفِ الجيَّاشة، المُتعانقةِ معَ وَيْلاتِ الحَربِ.

وقدْ دَفَعَتْني مُشاهدةُ ذلك الفيلمِ إلى المزيدِ من البحثِ عن كُوريا وتاريخِها، فشاهدتْ أكثرَ من فيلمٍ وثائقيٍّ عنها، وقرأتُ أُطروحاتٍ كثيرةً حولَ تاريخِ وصولِ الإسلامِ إليها، إذْ تحدَّثَ نفرٌ من المؤلِّفينَ عن وصولِ عددٍ من التُّجارِ المُسلمينَ إلى كُوريَا في وقتٍ مُبكِّرٍ جدًّا، وزَواجِهم من نساءٍ كوريَّاتٍ، وإقامَتِهم قُرًى مسلمةً صغيرةً، وفقَ تفسيراتٍ لما جاءَ في كتبِ بعضِ الجغرافيِّينَ القُدامى مثل: المَسالكُ والممالكُ، لابن خرداذبة (ت280هـ)، ونُزهةُ المُشتاقِ في اختراقِ الآفاقِ، للإدريسيِّ (ت560هـ) وغيرُهما، لكنَّ هذه الرِّواياتِ وتلك الخَرائطَ محلُّ شكٍّ كبيرٍ، وإنْ صحَّ سَفَرُ بَعضِ المسلمينَ الأوائلِ إلى هناكَ، فَهُمْ لَمْ يتركُوا أثرًا مَلْموسًا حتَّى مُنتصفِ القرنِ العشرينَ.

IMG ٢٠٢٣٠٨٠٦ ٢١٤٢٣١ الإِسلام واللغَة العربية فِي كُوريا

لكنَّ التحوُّلَ الأعظمَ جاءَ مع مشاركةِ تلك الكتيبةِ التُّركيَّةِ في الحربِ الكُوريَّةِ منتصفَ القرنِ الماضِي، حيثُ قامَ الجُنودُ الأتراكُ ببناءِ أوَّلِ مُصَلَّى في كوريا عام 1956م، وكان مع البعثةِ إمامٌ تُركيٌّ، اسمُهُ الشيخ عبد الرحمن، فشرعَ يدعو الكُوريِّينَ إلى الإسلامِ، حتَّى أسلمَ ما يزيدُ على أربعةِ آلافِ كُوريٍّ في وقتٍ وجيزٍ، فتأسَّسَ بهم الاتحادُ الإسلاميُّ الكوريُّ عام 1963م، وعُيِّنَ “صبري سوح” رئيسًا له، وقد قامَ مع رفاقِهِ بجولاتٍ في كثيرٍ من الدُّولِ العربيَّةِ والإسلاميَّةِ منها: ماليزيا وباكستان والسَّعودية ومصر، كما ظلَّ يتفاوضُ مع الحكومةِ الكوريَّةِ، حتَّى خَصَّصتْ قطعةً من الأرضِ لِبناءِ أوَّلِ مركزٍ إسلاميِّ في “سيول” عام 1971م، فدعَمَتْهُ دولٌ عربيَّةٌ كثيرةٌ، وبخاصَّةٍ السعودية والكويت، وتمَّ افتتاحُه عام 1974م، وبعد عامَيْن فقط، عُقِدَ مؤتمرٌ لِلأقليَّاتِ المُسلمةِ في ذلكَ المركزِ الوليدِ، وافتُتحَ في المركزِ مَعْهدٌ لِلُّغةِ العربيَّةِ في العامِ نفسِهِ. وبفضل الله ما زالتْ أعدادُ المسلمينَ تتزايدُ باطِّرادٍ؛ حتَّى وصلَ عددُ المسلمينَ اليومَ من الكوريِّينَ الأصليِّين إلى 70 ألفًا، بينما يصلُ العددُ الإجماليُّ من المَحليِّينَ والمُهاجرينَ قرابةَ 200 ألفِ مسلمٍ، وتزيدُ المساجدُ اليومَ في كُوريا على سبعينَ مسجدًا، بعد أقلِّ من سبعةِ عقودٍ من بناءِ ذلك المُصلَّى الصَّغيرِ، الذي أقامَتْهُ الكتيبةُ التركيَّةُ، والذي كان نَبتةً طَيِّبَةً، ‌كَشَجَرَةٍ ‌طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ، تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها.

ولعلَّ أهمَّ شخصيَّةٍ إسلاميَّةٍ في كُوريا الجنوبيَّة الآنَ هو البُروفسور تشوي يونغ كيل (Choi Yong Kil )، أستاذُ كُرسيِّ الدِّراساتِ الإسلاميَّةِ بجامعةِ (ميونغ جي)، وقد ولدَ عام 1949م، والتحقَ بقسمِ اللُّغةِ العربية بجامعةِ (هانكوك) عام 1970م، وحصلَ منها على البَكالوريوسِ في اللغةِ العربيَّةِ عام 1975م، ثمَّ المَاجستير عام 1982م، وقد أسلمَ بُعَيْدَ التحاقِه بالجامعةِ، وسمَّى نفسَه: حامد تشوي، تقديرًا لاسمِ أستاذِهِ المصريِّ: حامد الخولي، الذي كانَ يُعلِّمُهُ اللُّغةَ العربيَّةَ، وكانَ سببًا في دخولِهِ الإسلامَ، ولم يكتفِ الشَّابُّ الطَّمَوحُ بما حصَّلَ من معارفَ وشهاداتٍ تَضمَنُ له وظيفةً جيِّدةً في بلادِه، بل ارتحلَ إلى السَّعوديَّةِ؛ لِيدرسَ في كليَّةِ أصولِ الدِّينِ والدَّعوةِ الإسلاميَّةِ بالجامعةِ الإسلاميَّةِ بالمدينةِ المنوَّرةِ عام 1980م، وفي الوقتِ نفسِهِ كان يعملُ أستاذًا زائرًا في جامعةِ الإمامِ محمَّد بن سُعود الإسلاميَّةِ، كما كانَ مشغولًا بترجمةِ القرآنِ الكريمِ إلى اللُّغةِ الكُوريَّة، والتي أنجزها خلالَ خمسةِ أعوامٍ (1977-1982م)، وهي المرجعُ الأشهرُ والأوثقُ لجميعِ مُسلمي كُوريا، وقد أجازتْ رابطةُ العالمِ الإسلاميِّ تلك الترجمةَ، فطُبِعَتْ عِدَّةَ مرَّاتِ على نفقةِ بعضِ المُحسنينَ العربِ، فجزاهمْ الله خيرًا. ثمَّ ارتحلَ إلى السُّودانِ؛ ليلتحقَ بجامعةِ “أمّ دُرْمانَ الإسلاميَّة” لِيحصلَ منها على درجةِ الدكتوراه عام 1986م، في موضوعِ: الدَّعوةُ الإسلاميَّةُ في كُوريا، ولم يكتفِ الرَّجُلُ بترجَمَةِ القرآنِ، بل ترجمَ أكثرَ من مِئةِ كتابٍ منها: الأربعون النوويةَّ، ورياض الصَّالحين، والمعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، ومختصر صحيح ِالبُخاريِّ، والرَّحيق المختوم، كما وضعَ أول معجمٍ عربيّ-كوريّ، وألَّفَ أكثرَ من كتابٍ في تعليمِ اللغة العربيَّةِ للكُوريِّينَ، وهو أوَّلُ مَنِ ابتكرَ بَرْنامجًا لتحفيظ ِالقرآنِ الكريمِ عبر الهاتفِ في تسعينيَّاتِ القرنِ الماضِي، وقد حصلَ على العديدِ من الجوائزِ منها: جائزةُ عبد الله بن عبد العزيز العالميَّةُ للترجمةِ عام 2008م، ووسامُ رئيسِ جمهوريَّةِ كُوريَا، عام 2013م، وأخيرًا تُوِّجَتْ مَسِيرَتُهُ الحافلةُ بحصولِهِ على جائزةِ الملكِ فَيْصلِ العالميَّةِ، في فرع خدمة الإسلام، لعام 2023م، ويشغلُ الآنَ العديدَ من المناصبِ، منها: رئيسُ الاتِّحادِ الإسلاميِّ الكُوريِّ، وعميدُ الجاليةِ الإسلاميَّةِ في كوريا الجنوبيَّة، وعُضْوُ رابطةِ العالمِ الإسلاميِّ، وعضوُ المجلسِ الإقليميِّ للدعوةِ الإسلاميَّةِ في منطقةِ جنوبِ شرقِ آسيا والمُحيطِ الهَادي، وعضوُ المجلسِ الأعلى العالميِّ للمساجدِ في رابطةِ العالمِ الإسلاميّ.

أمَّا بالنسبةِ لِلُّغةِ العربيَّةِ، ففي يوم السبتِ الماضي (3/6/2023م) شاركْتُ في مؤتمرٍ عِلْمِيٍّ بجامعة هانكوك (Hankuk) في (سيول)، وقد كُنْتُ حريصًا على السَّفَرِ إلى هناكَ لِزيارةِ هذه الدَّولَةِ الفائقةِ التقدُّمِ، والتي يحتلُّ جوازُ سَفَرِها المرتبةَ الثانيةَ عالميًّا، ولكنَّ الإجراءاتِ لم تَجْرِ كما ينبغِي، فشاركْتُ عبر الإنترنت (أونلاين)، مع قطعِ العهدِ بالمشاركةِ الحقيقيَّةِ العامَ المُقبلَ إنْ شاءَ الله، وقد فُوجِئْتُ بحضورٍ كبيرٍ لِلُّغةِ العربيَّة، في تلك البُقعةِ القَصيَّةَ، لا يَجعُلكَ غَرِيبَ الوَجْهِ وَاليَدِ وَاللِّسَانِ، كأبي الطيِّبِ في شِعْبِ بَوَّان، ولكنْ يجعَلُك بين الأهلِ والخِلَّانِ!

وحسبِي أنْ ألخِّصَ لك حُضورَ اللُّغةِ العربيَّةِ هناكَ في النِّقاطِ الآتيةِ:

– عنوانُ المُؤتمرِ هو: (القدسُ، الأرضُ المقدَّسةُ للأديانِ السَّماويَّةِ الثلاثةِ من منظورِ اللُّغةِ والأدبِ والثقافةِ)، وكأنَّ المؤتمرَ مُنعقدٌ في “قِطاعِ غزَّةَ”، فمن المؤكَّدِ أنَّ كثيرًا من الدُّولِ العربيَّةِ المُستأنَسَةِ لا تَستطيعُ أنْ تَعْقِدَ مُؤتمرًا بهذا العنوانِ! (انظرْ الصُّورةَ المُرفقةَ لِلوحةِ الإعلانَ مُعلَّقةً على بابِ الكُليَّةِ)!

– أكثرُ الأساتذةِ الكُوريِّينَ المُشاركينَ في المؤتمرِ يتَّخِذونَ لأنفسهمْ أسماءً عربيَّةً غيرَ رَسميَّةٍ، وهمْ غيرُ مُسلمينَ، فقد كنتُ أتواصَلُ مع دكتورةٍ تُسمِّي نفسَها (ليلى)، وقد عرفتُ لاحقًا أنَّ اسمَها الكُوريَّ هُوَ: (هي وون بيك) (Hyewon Baek)، وهو ما يُذكِّرَنا بما كان يفعلُه بعضُ كبارِ المُستشرقينَ، حيث كانوا يُقرِّبونَ أسماءَهم من الصِّيَغِ العربيَّةِ، وبَعْضُهم يُصدِّرُ اسمَهُ بلقبِ الشَّيخِ، ويكتبُ في النِّهايةِ: عَفَا اللهُ عنه، أو نحوَها من عباراتِ الدُّعاءِ والترحُّم ِفي العربيَّةِ، فأينَ من هؤلاءِ العربُ المتأمْرِكَةُ، الَّذين تخلَّوْا عن هُويَّتهم في أسمائِهم، بل إنَّ مَنِ اختارَ له والداه اسمًا عربيًّا أصيلًا، ثمَّ تَجِدُهم ينحونَ به في الاستعمال مَنْحًى استغرابيًّا وَبيلًا!

– جميعُ الُمراسلاتِ التي جَرَتْ بيني وبينَ الدُّكتورة (ليلى) على مَدارِ أكثرَ من شَهْرَيْنِ كانتْ باللُّغةِ العربيَّةِ فقطْ، ومن النَّادِرِ أنْ تستعمِلَ كلمةً إنجليزيَّةً إلَّا عِنْدَ الضَّرورةِ المُلْجِئَةِ، بينما يتواصلُ معي في الوقت نفسِهِ أساتذةٌ مُسلمونَ بالإنجليزيَّةِ فقطْ، وهم يَحملونَ درجةَ الدُّكتوراه في اللُّغةِ العَربيَّةِ وآدابِها، بل يتبوَّؤُونَ مَناصبَ مرموقةً في كليَّاتٍ وبرامجَ مُتخَصِّصةٍ في علومِ اللُّغةِ العَربيَّةِ!

–  تُدرَّسُ اللُّغةُ العربيَّةُ في عددٍ من الجامعاتِ الكُوريَّةِ، منها: جامعةُ هانكوك للدِّراساتِ الأجنبيَّةِ ((Hankuk University of Foreign Studies، جامعةُ دانكوك (Dankuk University)، جامعةُ ميونجي (Myongji University)، جامعةُ بُوسان للدِّراساتِ الأجنبيَّةِ (Busan University of Foreign Studies)، جامعةُ تشوسون (Chosun University)، فهذه خمسُ جامعاتٍ كبرى تُقدِّمُ برامجَ لِدراسَةِ اللُّغةِ العربيَّةِ، ناهيكَ عن وجودِ عددٍ من المراكزِ المُتخصِّصةِ في دراساتِ الإسلامِ، والشَّرقِ الأوسطِ، وشمالِ إفريقيا، والبحرِ الأبيضِ المتوسِّطِ!

– معظمُ هذه الجامعاتِ تُقدِّمُ برامجَ البكالوريوس والماجستير والدكتوراه في اللُّغةِ العربيَّةِ، وقد احتفلتْ جامعةُ (هانكوك) هذا العامَ بحصولِ باحثةٍ مصريَّةٍ على درجةِ الدكتوراه في اللُّغةِ العربيَّةِ في موضوعٍ يتعلَّقُ بمناهجِ وطرقِ تدريسِ اللُّغةِ العربيَّةِ للطُّلابِ الكُوريِّينَ!

– يعملُ في هذه الجامعاتِ عددٌ غيرُ قليلٍ من الزُّملاءِ من العالمِ العربيِّ، وبخاصَّةٍ من مصر وسوريا وفلسطين، وهذا يدلُّ على أنَّ الدَّولةَ لا تَأْلُو جَهدًا في استقطابِ الخبراتِ من النَّاطقينَ الأصليِّينَ باللُّغةِ العربيَّةِ، ولم تنجرفْ مع موجاتِ التَّوطينِ (Localization) التي غَزَتْ كثيرًا من الدُّولِ الإسلاميَّةِ، فباتوا يقتصرونَ على المَحليِّين على عِوَجِ ألسِنَةِ مُعْظَمِهِمْ!

– في كُوريا عددٌ من المواقعِ الإخباريَّةِ باللُّغةِ العربيَّةِ، منها وكالةُ (يونهاب) للأنباءِ (Yonhap)، وهي وكالةٌ عالميَّةٌ لها موقعٌ إخباريٌّ هائلٌ، يُقدِّمُ مُحتواهُ بسبعِ لُغاتٍ، منها اللُّغةُ العربيَّةُ، وهو ما يُعطِي فرصةً كبيرةً لِعملِ المُترجِمِينَ والمُحرِّرينَ والمُدقِّقينَ اللُّغويِّينَ من العربِ.

– تأسَّستْ في كُوريا (الجمعيَّةُ الكوريَّةُ لِلغةِ العربيَّةِ وآدابِها)، وهي جمعيَّةٌ غيرُ حكوميَّةٍ تقومُ على اشتراكاتِ الأعضاءِ والتبرُّعاتِ، ولكنَّها تُقدِّمُ نشاطًا مَلْموسًا على أرضِ الواقعِ، وقدْ كانت المؤتمرُ الذي شاركتُ فيه تحتَ رِعَايَتِها، كما رَعَتْهُ شركةُ فليتو(Flitto) المتخصِّصةُ في جمعِ البياناتِ والترجمةِ التَّخصُّصيَّةِ.

– تُقيمُ وزارةُ الخارجيَّةِ الكُوريَّةِ دوراتٍ تدريبيَّةً مُكثَّفةً في اللُّغةِ العربيَّةِ لأعدادٍ غيرِ قليلةٍ من الدُّبلوماسيِّينَ والموظَّفينَ الحُكوميِّينَ؛ لتأهيلِهمْ للعملِ في البلادِ العربيَّةِ، وقدْ رأيْتُ مثلَ هذا بِعَيْنيَّ في باكستان، إذ يُشترطُ لِلالتحاقِ بأيِّ عملٍ في البعثاتِ الدُّبلوماسيَّةِ في البلادِ العربيَّةِ دراسةُ اللُّغةِ العربيَّةِ، والنَّجاحُ في العديدِ من الدَّوراتِ المكثَّفةِ، حتَّى ولو كانَ الشَّخصُ شُرْطِيًّا يقفُ على بابِ السِّفارَةِ، ولا أدري أتفعلُ بلادُنا مثلَ هذا التَّأهيلِ اللُّغويِّ لمَنْ يُبْتَعَثُونَ، أم تَذَرُهُمْ فِي ‌طُغْيانِهِمْ ‌يَعْمَهُونَ؟!

وختامًا، فإنَّ انتشارَ الإسلامِ في هذهِ البُقعةِ القَصيَّةِ تحقيقٌ لِنبوءةِ المصطفى، صلَّى الله عليه وسلَّم، حيثُ قالَ: “لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ ‌مَا ‌بَلَغَ ‌اللَّيْلُ ‌وَالنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللهُ بِهِ الإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ اللهُ بِهِ الكُفْرَ”، وهو دليلٌ على أنَّ اتِّساعَ رُقْعَةِ اللُّغةِ العربيَّةِ كانَ ولا يزالُ مُواكِبًا لانتشارِ الإسلامِ، وإنْ كانَ لكثيرٍ من الكُوريِّينَ في تَعَلُّمِها مآربُ أُخْرَى، وهو برهانٌ على أنَّ الله يَصطفِي لِدينِهِ مَنْ يشاءُ من عبادِه، فإنْ قَعَدَ عنْ الدعوةِ إليه أصحابُ الأنسابِ القرشيَّةِ والهاشميَّةِ والمخزوميَّةِ، بعث اللهَ لدينِهِ من أصحابِ الأنسابِ الكُوريَّةِ والتُّركيَّةِ والأمريكيَّةِ، فكانوا أكرمَ على اللهِ وأحبَّ إليهِ من أولئكِ الأنجاسِ المَناكيدِ، الذين هم أَهْوَنُ على اللَّهِ ‌مِنَ ‌الجُعْلَانِ، وصَدَقَ الحَكيمُ العليمُ إذْ يقولُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ‌مَنْ ‌يَرْتَدَّ ‌مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ).

د. مصطفى السواحلي

د. مصطفى السواحلي أستاذ اللغة العربية وآدابها في جامعة السلطان الشريف علي الإسلامية، سلطنة بروناي دار السلام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى