أمة جُمعت في شخص واحد؛ امتلأ فقهًا وأدبًا ودعوة وحكمة وربانية وجهادًا، قلَّ أن يجود به الزَّمان. انحاز باكرًا لرهطِ الفقهاء الأحرار الذين كسروا ربقة التقليد، وحلّقوا في مدارات الاجتهاد الأصيل، وأثار نقع المعارك الفقهية، ولم تلن له قناة في مواجهةِ التَّقليد والتغريب.
• تبلورت مدرسة الإمام يوسف القرضاوي الفقيهة منذ وقتٍ مبكر، عندما أطل بكتابه “الحلال والحرام” في أيام شبابه الأول، فقدم صورة من الفقه الأصيل المعاصر، الوسطي المتسامح، للجاليات المسلمة في بلاد الغرب، وقد أثار الكتاب حفيظة الجامدين، ولكنه بقي شرارة الإبداع الفقهي لفقيدنا، وحين سأله الشيخ سلمان العودة في مقابلة قبل سنوات عن أحبّ الكتب إلى قلبه أجاب قائلًا: “الحلال والحرام”. فقلت في نفسي: ما الحب إلا للحبيبِ الأول.
• ثم كانت إضافته الفقهية النوعية (فقه الزكاة) وهو أطروحته للدكتوراة، وقد قال عن ذلك السِّفْر الفقهي الفريد الإمام المودودي: (إنه كتاب القرن في الفقه الإسلامي)، وقال الشيخ محمد الغزالي: (لم يؤلَّف في الإسلام مثله في موضوعه).
• وحين استبدَّ الغلاة بساحةِ الجهاد، يحركهم ظلم النظام الدولي الجديد وغطرسته، وتؤزهم أجهزة الاستخبارات الماكرة، ويستندون إلى فقر فقهي، وغبش في فهم خريطة القوى العالمية، قاموا بتلطيخ قُليس إبرهة القرن في نيويورك، واستعدوا على أمة الإسلام مغول العصر، فتصدى لهم الوعاة، ولكن فقه الجهاد كان ينتظر فقيهًا عملاقًا ينتشله من براثن أهل الغلو، فاقترح العلامة محمَّد أحمد الراشد على القرضاوي أن يتبع فقه الزكاة بفقه الجهاد، فالتفت الليث، وأضاف لبنة في فقه الجهاد، نادرة من نوادر الفقه الإسلامي، وعاكس النظرة الفقهية التقليدية في العلاقات الدولية، وأسَّسَ للسلم العالمي على أساسٍ قرآنيٍّ متين، وأعلنها مدوية: الأصل بيننا وبين الأمم السِّلم لا الحرب، والتعاون لا التنافر، وما الجهاد إلا لرد العدوان، وبسط الحرية لكل الإنسان.
مرشد الصحوة الإسلامية
وعندما انبثقت الصحوة الإسلامية غرة السبعينيات الميلادية عقب فشل المشاريع القومية والعلمانية، اتسم الزخم الصحوي بعفوية وسذاجة ومسحة تشدد تهتم بالمظاهر وقشور الدين، فكان الإمام القرضاوي مع شيخه محمَّد الغزالي آباءً مرشدين للصحوة الإسلامية، ولإن اتسم خطاب الشيخ الغزالي بالنقد اللاذع لمظاهر التدين القشوري، فقد اتسم خطاب القرضاوي بالحكمة وتوجيه عاطفة الشباب برفق وحنان؛ فابتدأ كتبه بمحاولة رأب الصدع بين تيارات الصحوة من خلال كتابه (الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم) ثمَّ نقل الصحوة إلى أفق وطني وحضاري من خلال تقديمها كمشروع نهوض للأمة، ومن أبرز مؤلفات هذه المرحلة (الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي) فهي ليست صحوة لإحياء الشعائر الإسلامية، وإنما لإحياء الأمة والأخذ بيدها في مدارج النهوض الحضاري. ولما طالت المراهقة عند بعض فصائل الصحوة الإسلامية كان صريحا معهم في كتابه (الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد).
أستاذ الوسطية الإسلامية
من توفيق الله لهذا الإمام أن استلَّ مصطلح الوسطية ليجعله عنوانًا لمشروعه العلمي الدعوي العظيم، فكان بحق إمام الوسطية في الفقه والعمل.
ولقد جلبت شجاعة القرضاوي وسماحته ووسطيته وتمسكه بثوابت دينه عليه السهام من كل مكان، ولكنه بقي طودًا شامخًا أمام أعاصير الطغاة والجفاة والغلاة. فغلاة التيار العلماني كانوا يتميزون غيظًا من وجه الشيخ، وقد صرح الصليبي السوري جورج طرابيشي أن وجه القرضاوي في قناة الجزيرة يثير في نفسه الكآبة!. لأنَّ لقاءً مستنيرًا من فقه الشيخ يهدم هرطقات طغمة العلمانيين العرب.
كما تلمظ في المقابل جفاة التيار الإسلامي، وكانوا يعتبرون الشيخ حجر عثرة أمام خطابهم اليابس الجافي، حتى قال أحدهم: هناك صنم اسمه القرضاوي ينبغي أن يكسر! ولكن الله حمى الشيخ من محاولات الاغتيال المعنوية المزمنة، حتى صار الشيخ رمز الوسطية ومعيارها الأظهر. وقد عبر عن منهجه: بأنه ينظر إلى التراث بعين وإلى الواقع بعين، حتى يخرج برؤية معاصرة أصيلة. و يا لله كم أنقذ من أجيال، وانتشلهم فقهه وفكره من براثن الغلو والتشدد والتكفير، وقدم رؤى أصيلة تعالج الواقع بمنظور فقهي سام وسامق ورصين.
فقيه القضية الفلسطينية
لا أعلم قضية إسلامية كبرى إلا وضرب الشيخ فيها بسهمٍ وافر، موجهًا ومساندًا داعمًا، فقد ساند الجهاد الأفغاني ضد السوفييت، ووقف مع الكويت في محنتها، وتبنى مع رفاقه حملة مواجهة التنصير العالمي لأفريقيا وجنوب شرق آسيا، وأطلقوا شعار (ادفع دولارًا تنقذ مسلمًا)، وناصر البوسنة في مأساتها، ولكن القضية الفلسطينية حازت على قلب اهتماماته الإسلامية، فقد انحاز للجهاد المقدس في فلسطين منذ بواكير حياته، وافتى المقاومة بالعمليات الاستشهادية كإجراء مرحلي ضروري، في حين استنكرها البعيدون عن روح الجهاد والقضية. ورافق القضية مساندًا وداعمًا، وتوفي وهو يرفع راية المقاومة ودفع أثمانًا باهظة جراء موقفه الصلب من القضية الفلسطينية، ولذلك لا غرابة أن يوصي الكيان الصهيوني حلفاءه في المنطقة بوضع القرضاوي في دائرة الاستهداف، لأنه العدو رقم 1 من بين علماء المسلمين للكيان الصهيوني الغاصب.
رحيل الجسد وبقاء الأثر
ولئن رحلَ إمامنا القرضاوي جسدًا، فإنَّ مدرسته الفقهية الدعوية التربوية ستبقى شامخة تهتدي بها الأجيال، فهو أحد الذين ابتعثهم القدر للحضور والخلود، ومن أولئك الذين أنعم الله عليهم باستنارة العقل، ورسوخ القدم في الشريعة، وصفاء القلب، وربانية المسلك، تستنير بهم الأمة في دياجير الظلم، ويبقيهم الزمان منارات تهدي السالكين.