القرآن الكريم كتاب معجز في مبناه ومعناه، فقد جاء على أرقى أساليب البيان وأرفعه، وأحسن طرق الوضع الكلامي وأبدعه، فكل حرف وكلمة وجملة فيه في مواضعها المناسبة، ولا يمكن لغيرها أن يقوم مقامها فيؤدي ما تؤدي إليه. كأن ذلك الحرف أو تلك الجملة أو اللفظة خصت لذلك المعنى ولا يناسبه غيرها.
ولقد لاحظ كل متأمل في هذا الكتاب العزيز أن “كل كلمة فيه تؤدي معنى لا تغني عنه كلمة أخرى مهما حاول الانسان ذلك”(1).
ولا غرو في هذا؛ فمن إعجاز القرآن: ” الدقة في اختيار المفردات ، فكل كلمة تأتي في مكانها المناسب لها، فلو غير موضعها بتقديم أو تأخير أو جمع أو تثنية أو إفراد لتأثر المعنى، ولم يؤد ما أُريد منه ، وكذلك لو جيء مكانه بكلمة أخرى ترادفه لم تقم بالمطلوب أبدا”(2).
ومن بلاغته الظاهرة: ” أن كل كلمة فيه وكل حرف وضع في موضعه المناسب من السياق, ويعبر عن معنى أو معان لا يطلع عليها إلا من له اطلاع واسع على لغة العرب، ورزقه الله تعالى تدبر كتابه ونور قلبه وألهمه دقيق المعاني, فكل جملة أو كلمة أو حرف في كتاب الله تعالى وضع في موضع يناسبه مناسبة عجيبة”(3).
ومن الأشياء التي ليست بخافية عن هذا الكتاب المعجز أن نظمه: ” يتميز بهذه الميزة العظيمة؛ أنك لا تستطيع أن تضع حرفًا مكان حرف أو كلمة مكان كلمة، أو تغير من ترتيب الكلام بتقديم أو تأخير وغير ذلك، بعكس كلام البشر وكلام العرب؛ فإنك تستطيع أن تبدل في الأشعار وأن تضع كلمات موزونة تفي بالوزن العروضي، وتفي بالمعنى المراد، وتستطيع كذلك في كلام الخطباء أن تأتي بكلمة مكان كلمة، وربما يأتي النقاد ويقولون: لو قال الشاعر كذا مكان كذا لكان أولى”(4). أما كتاب الله القرآن فلا يمكن ذلك. وصدق الله إذ يقول عن كتابه: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ }[فصلت:41-42].
يقول الباقلاني (المتوفى: 403هـ): ” “ثم انظر في آية آية، وكلمة كلمة: هل تجدها كما وصفنا: من عجيب النظم، وبديع الرصف؟ فكل كلمة لو أفردت كانت في الجمال غاية، وفي الدلالة آية، فكيف إذا قارنتها أخواتها، وضامتها ذواتها مما تجري في الحسن مجراها، وتأخذ في معناها؟ ثم من قصة إلى قصة، ومن باب إلى باب، من غير خلل يقع في نظم الفصل إلى الفصل، وحتى يصور لك الفصل وصلاً ببديع التأليف، وبليغ التنزيل”(5).
ويقول الرافعي (المتوفى: 1356هـ): ” فكل كلمة منه ما دامت في موضعها فهي من بعض إعجازه”(6).
إن من ينظر في القرآن الكريم يجد آيات متفقة في أكثر جملها وكلماتها، غير أنها قد تختلف في كلمة أو كلمات أو حرف أو أحرف، فهل لهذا الاختلاف من سر؟
ومن ذلك هاتان الآيتان: قوله تعالى: { وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }[الأعراف:200].
وقوله: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[فصلت:36].
فما وجه تنكير اسمي السميع والعليم في سورة الأعراف، وتعريفهما في سورة حم السجدة(فصلت)؟
لقد تلمس بعض العلماء أسرار ذلك فذكروا أوجهاً.
ونحن سنذكر في هذه المقالة شيئًا مما ذكره أهل العلم في هذا الصدد، ثم نلخص ما قالوه في نقاط في نهاية المقالة.
1- قال الخطيب الإسكافي (المتوفى: 420هـ): ” للسائل أن يسأل فيقول: لأي معنى جاء في الآية من سورة الأعراف (سميع عليم) على لفظ النكرة، وفي سورة حم السجدة معرفتين بالألف واللام مؤكدتين بـ هو؟
والجواب أن يقال: إن الأول وقع في فاصلة ما قبلها من الفواصل أفعال جماعة، وأسماء مأخوذة من الأفعال نحو قوله تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف: 190]. وبعده: {يُخْلَقُونَ} [الأعراف: 191] و: {يَنصُرُونَ}[الأعراف: 192 ]و: {لا يُبْصِرُونَ}[ الأعراف: 198]و: {الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]. فأخرجت هذه الفاصلة بأقرب ألفاظ الأسماء المؤدية معنى الفعل- أعني النكرة- وكأن المعنى: استعذ بالله إنه يسمع استعاذك، ويعلم استجارتك.
والتي في سورة (حم السجدة) قبلها فواصل سُلك بها طريق الأسماء، وهي ما في قوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 34-35].
فقوله: {وَلِيٌّ حَمِيمٌ} ليس من الأسماء التي يراد بها الأفعال، وكذلك قوله: {ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} ليس ذو حظ بمعنى فعل، فأخرج {سميع عليم} بعد الفواصل التي هي على سنن الأسماء على لفظ يبعد عن اللفظ الذي يؤدي معنى الفعل، فكأنه قال: إنه هو الذي لا يخفى عليه مسموع ولا معلوم، فليس القصد الإخبار عن الفعل، كما كان في الأولى: إنه يسمع الدعاء، ويعلم الإخلاص، فهذا فرق ما بين المكانين”(7).
2- وقال برهان الدين الكرماني، ويعرف بتاج القراء (المتوفى: نحو 505هـ): ” سؤال: لِمَ قال هنا (سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ، وقال في حم السجدة: (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ، فزاد هو والألف واللام فيها؟.
الجواب: لأن قوله: {سَمِيعٌ عَلِيمٌ} في هذه السورة خبر المبتدأ، وشرط الخبر أن يكون نكرة في الأغلب، وفي “حم” تكرار لما في هذه السورة، والنكرة إذا تكررت تعرفت، كما في قوله: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل:15-16]. وزيد “هُوَ” ليعلم أنه خبر وليس بوصف”(8).
3- وقال أيضًا: ” قوله: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } ومثله في الأعراف لكنه ختم بقوله {إنه سميع عليم}؛ لأن الآية في هذه السورة متصلة بقوله: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} فكان مؤكدًا بالتكرار وبالنفي والإثبات، فبالغ في قوله: {إنه هو السميع العليم} بزيادة {هو} وبالألف واللام، ولم يكن في الأعراف هذا النوع من الاتصال فأتى على القياس المخبَر عنه معرفة، والخبر نكرة”(9).
4- وقال أبو جعفر الغرناطي (المتوفى: 708هـ): ” وردت الصفتان في سورة الأعراف على طريقة التنكير، ووردتا في السورة الأخرى معرفتين، وزيد قبلهما الضمير الواقع فصلاً فقيل: “إنه هو ” وللسائل أن يسأل عن وجه التعريف والتنكير، وعن زيادة الضمير؟
والجواب عن السؤالين: أن سورة الأعراف تقدم فيها قبل الآية وصف آلهتهم المنحوتة من الحجارة والخشب التي وبخوا بعبادتها في قوله في موضع آخر: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ}[الصافات:95]، فوصفت هنا بأنها: لا تخلق شيئًا ولا يستطيعون لهم نصرا، وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون” فنفى عنهم القدرة والسمع والبصر وآلة المشي وآلة البطش بقوله: ” أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا ” ولم يتقدم هنا ما يوهم أدنى شيء يلحقها بشبه الأحياء فضلاً عما فوق ذلك فورد الصفتان بقوله: “سميع عليم ” موردًا لم يتقدمه ما يوهم صلاحية شيء من ذلك لغيره تعالى مما عبدوه من دونه مما قصد هنا ولا ذكر دعوى شيء من ذلك من مدع فيستدعي ذلك التوهم مفهومًا ينفيه فجاء على ما يجب.
أما آية حم السجدة فتقدم قبلها قوله تعالى: {وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ}[فصلت:22]، وقوله تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ}[فصلت:25]،
وقوله تعالى: {أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ}[فصلت:29]. فحصل من هذا أن مضليهم إنما كانوا من عالم الإنس والجن، وكلا الصنفين موصوف بالسمع والبصر، وممن ينسب إليه علم، بخلاف المقدم ذكره في الأعراف، فلما تقدم في سورة السجدة من يظن منه الغنى ويمكن منه أن يسمع ويبصر ويعلم ناسبه التعريف في الصفة؛ ليعطي بالمفهوم نفي ذلك عن غير الموصوف بهما تعالى، ثم أكد ذلك بضمير الفصل المقتضي التخصيص فقوى المفهوم المسمى عند كثير من الأصوليين بدليل الخطاب، فصار الكلام في قوة: أن لو قيل: الله هو السميع العليم لا غيره، وأحرز الفصل بالضمير هذا المعنى مع إعطاء المفهوم إياه ولم يكن ورود ما في سورة الأعراف من التنكير ليناسب الوارد متقدمًا في سورة السجدة، ولا التعريف الوارد في الصفتين العليتين في سورة السجدة ليناسب ما تقدم آية الأعراف فجاء كل على ما يناسب، والله أعلم”(10).
5- وقال ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751هـ): ” وسر ذلك- والله أعلم- أنه حيث اقتصر على مجرد الاسم ولم يؤكده أريد إثبات مجرد الوصف الكافي في الاستعاذة والإخبار بأنه سبحانه يسمع ويعلم، فيسمع استعاذتك فيجيبك ويعلم ما تستعيذ منه فيدفعه عنك، فالسمع لكلام المستعيذ والعلم بالفعل المستعاذ منه، وبذلك يحصل مقصود الاستعاذة، وهذا المعنى شامل للموضعين، وامتاز المذكور في سورة فصلت بمزيد التأكيد والتعريف والتخصيص؛ لأن سياق ذلك بعد إنكاره سبحانه على الذين شكوا في سمعه لقولهم وعلمهم به، كما جاء في الصحيحين من حديث ابن مسعود قال: (اجتمع عند البيت ثلاثة نفر: قرشيان وثقفي، أو ثقفيان وقرشي، كثير شحم بطونهم، قليل فقه قلوبهم، فقالوا: أترون الله يسمع ما نقول؟ فقال أحدهم: يسمع إن جهرنا، ولا يسمع إن أخفينا، فقال الآخر: إن سمع بعضه سمع كله، فأنزل الله عز وجل: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} إلى قوله: {فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الخاسِرِينَ} [فصلت: 22 – 23] .
فجاء التوكيد في قوله: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 36] في سياق هذا الإنكار: أي هو وحده الذى له كمال قوة السمع وإحاطة العلم، لا كما يظن به أعداؤه الجاهلون: أنه لا يسمع إن أخفوا وأنه لا يعلم كثيرًا مما يعملون.
وحسن ذلك أيضًا: أن المأمور به في سورة فصلت دفع إساءتهم إليه بإحسانه إليهم، وذلك أشق على النفوس من مجرد الإعراض عنهم؛ ولهذا عقبه بقوله: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35]، فحسن التأكيد لحاجة المستعيذ.
وأيضًا فإن السياق هاهنا لإثبات صفات كماله وأدلة ثبوتها وآيات ربوبيته وشواهد توحيده؛ ولهذا عقب ذلك بقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ الليْلُ وَالنَّهَارُ} [فصلت: 37] وبقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أنك تَرَى الأرْضَ خَاشِعَة} [فصلت: 39] .
فأتى بأداة التعريف الدالة على أن من أسمائه: “السميع العليم” كما جاءت الأسماء الحسنى كلها معرفة، والذى في الأعراف في سياق وعيد المشركين وإخوانهم من الشياطين ووعد المستعيذ بأن له ربًا يسمع ويعلم، وآلهة المشركين التي عبدوها من دونه ليس لهم أعين يبصرون بها ولا آذان يسمعون بها، فإنه سميع عليم، وآلهتهم لا تسمع ولا تبصر ولا تعلم، فكيف تُسَوُّونها به في العبادة، فعلمت أنه لا يليق بهذا السياق غير التنكير، كما لا يليق بذلك غير التعريف، والله أعلم بأسرار كلامه”(11).
6-وقال أيضًا: ” وتأمل سر القرآن الكريم كيف أكد الوصف بالسميع العليم بذكر صيغة “هو” الدال على تأكيد النسبة واختصاصها، وعرف الوصف بالألف واللام في سورة حم؛ لاقتضاء المقام لهذا التأكيد وتركه في سورة الأعراف؛ لاستغناء المقام عنه؛ فإن الأمر بالاستعاذة في سورة حم وقع بعد الأمر بأشق الأشياء على النفس وهو مقابلة إساءة المسيء بالإحسان إليه، وهذا أمر لا يقدر عليه إلا الصابرون ولا يلقاه إلا ذو حظ عظيم كما قال الله تعالى، والشيطان لا يدع العبد يفعل هذا بل يريه أن هذا ذل وعجز ويسلط عليه عدوه فيدعوه إلى الانتقام ويزينه له، فإن عجز عنه دعاه إلى الإعراض عنه وأن لا يسيء إليه ولا يحسن فلا يؤثر الإحسان إلى المسيء إلا من خالفه وآثر الله تعالى وما عنده على حظه العاجل، فكان المقام مقام تأكيد وتحريض فقال فيه: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}. وأما في سورة الأعراف فإنه أمره أن يعرض عن الجاهلين وليس فيها الأمر بمقابلة إساءتهم بالإحسان بل بالإعراض وهذا سهل على النفوس غير مستعص عليها، فليس حرص الشيطان وسعيه في دفع هذا كحرصه على دفع المقابلة بالإحسان فقال: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}“(12).
7- وقال السيوطي (المتوفى: 911هـ): ” قوله تعالى: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}؛ وفي فصلت { فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } قال ابن جماعة: لأن آية الأعراف نزلت أولاً، وآية فصلت نزلت ثانياً، فحسن التعريف؛ أي هو السميع العليم الذي تقدم ذكره أولاً عند نزوغ الشيطان”(13).
الخلاصة:
نخلُص مما ذكره أهل العلم السابق ذكرهم إلى أن هذا التغاير له حكم تندرج تحت خمس مناسبات:
1- مناسبة السباق:
أ- ما قبل آية الأعراف يناسب التنكير، وما قبل آية فصلت يناسب التعريف؛ ففي الأعراف غلب جانب الفعلية فناسب معه التنكير المؤدي معنى الفعل. وكأن المعنى: استعذ بالله إنه يسمع استعاذك، ويعلم استجارتك.
وفي سورة فصلت غلب جانب الاسمية، فكأنه قال: إنه هو الذي لا يخفى عليه مسموع ولا معلوم، فليس القصد الإخبار عن الفعل، كما كان في الأعراف: إنه يسمع الدعاء، ويعلم الإخلاص.
ب- في سورة الأعراف تقدم على الآية الحديث عن الأصنام المصنوعة من الخشب والحجارة التي لا يمكن أن تتصف بسمع ولا علم وليس هناك من يتوهم حصول ذلك منها، فناسب المجيء بالتنكير من غير توكيد بضمير فصل.
وأما في سورة فصلت فتقدم على الآية الحديث عن المضلين من الجن والإنس وهما ممن له اتصاف بالسمع والعلم، فناسب التعريف ليعطي بالمفهوم نفي ذلك عن غير الموصوف بهما تعالى، ثم أكد ذلك بضمير الفصل المقتضي التخصيص، ولو حصل التعريف في الأعراف والتنكير في فصلت لفاتت المناسبة المذكورة.
ج- في سورة الأعراف أراد مجرد الإخبار وليس هناك ما يستدعي التعريف والتوكيد، وأما في سورة فصلت فقد تقدم إنكار الله على الذين شكوا في سمعه وعلمه، فجاء التوكيد والتعريف تاليًا، فكأن المعنى حينئذ: هو وحده الذى له كمال قوة السمع وإحاطة العلم، لا كما يظن به أعداؤه الجاهلون أنه لا يسمع إن أخفوا وأنه لا يعلم كثيرًا مما يعملون.
د- مقام ما في سورة فصلت مقام تأكيد وتحريض لما تقدم من الأمر بالإحسان إلى المسيء وهذا لا يقدر عليه كل أحد فقد يصور الشيطان ذلك عجزاً وذلاً فكان فيه مشقة على النفس.
وأما في آية الأعراف فما قبلها إنما هو مجرد أمر بالإعراض عن الجاهلين، وهذا أمر سهل لا يحتاج إلى تحريض وتأكيد.
2- مناسبة السياق:
فآية فصلت متصلة بما قبلها المؤكد بالتكرار والنفي والإثبات فجاءت جملة(إنه هو السميع العليم) مناسبة لذلك بتأكيدها بضمير الفصل والتعريف.
وأما آية الأعراف فليس فيها هذا الاتصال فجاء الإخبار على القياس: المبتدأ معرفة، والخبر نكرة.
3- مناسبة اللحاق:
ففي فصلت تلت هذه الآية آيات تدل على إثبات صفات كماله وأدلة ثبوتها وآيات ربوبيته وشواهد توحيده، فأتى بأداة التعريف الدالة على أن من أسمائه “السميع العليم” كما جاءت الأسماء الحسنى كلها معرفة. وأما في الأعراف فليس هناك ما يقتضي هذا. فعلمنا أنه لا يليق بسياق الأعراف غير التنكير، كما لا يليق بسياق فصلت غير التعريف.
4- مناسبة الخبرية:
ففي سورة الأعراف جاء قوله: (سميع عليم) خبر المبتدأ، وشرط الخبر أن يكون نكرة في الأغلب. وأما في فصلت فذلك تكرار لما في هذه السورة، والنكرة إذا تكررت تعرفت.
5- مناسبة النزول:
فآية الأعراف نزلت أولاً فكانت نكرة، وآية فصلت نزلت ثانيًا فحسن التعريف؛ أي هو السميع العليم الذي تقدم ذكره أولا.
والله تعالى أعلم بأسرار كتابه.
4/12/1443هـ، 3/7/2022م.
الهوامش:
- القرآن وإعجازه العلمي (ص: 26).
- الإعجاز اللغوي والبياني في القرآن الكريم (ص: 350).
- الإعجاز اللغوي والبياني في القرآن الكريم (ص: 385).
- الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم – جامعة المدينة (ص: 53).
- إعجاز القرآن للباقلاني (ص: 190).
- إعجاز القرآن والبلاغة النبوية للرافعي (ص: 162).
- درة التنزيل وغرة التأويل (2/ 687-688).
- غرائب التفسير وعجائب التأويل (1/ 431).
- أسرار التكرار في القرآن = البرهان في توجيه متشابه القرآن (ص: 222).
- ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل (1/ 223).
- إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 96-97).
- بدائع الفوائد (2/ 267).
- الإتقان في علوم القرآن (3/ 395).