كانت الرّواية ثلاثيّة في غرناطة ومريمة والرّحيل كعناوين أساسيّة وقد أعادت الراوية كتابة التّاريخ فيها بشكل رأسي من خلال الحياة الاجتماعية واليوميّة ورسمته في مسار عائلات وأفراد وسردت كيف انعكست الأحداث التاريخيّة الكبرى مثل سقوط غرناطة، والتنصير، ومحاكم التفتيش، والطرد على تفاصيل حياتهم اليوميّة مثل العمل، والزواج، والعلاقات. وكانت رسالتها بالمجمل إعادة إحياء الثأر في قلوب القرّاء والإشارة الواضحة إلى الألم والمعاناة التي عاشها النّاس وهم ينتزعون من أراضيهم في تلك الفترة ولمّحت بشكل أو بآخر إلى قضايا الاستعمار والهويّة فقد كانت الأراضي العربيّة أثناء كتابة الرّواية تعيش التحوّلات الفلسطينية الكبرى مثل الانتفاضة الأولى واتّفاقيّة أوسلو وكانت تروي في كلّ تفصيل من تفاصيل الرواية عن الفلسطينيين، ولكن بلسان حال الأندلس مثل المقاومات البسيطة، ورفضهم طمس هويّاتهم من قبل الاستعمار ومحيها، وكأنّها أسقطت أحداث فلسطين على أحداث غرناطة بشكل أو بآخر وقد قال النّقاد عن د. رضوى: إنّما حوّلت التاريخ من سجل أحداث إلى حكاية إنسانيّة نابضة.
الكاتبة من المسار اليساريّ وقد انعكس ذلك بشكل كبير في صفحات الرّواية من خلال التصوّرات الدينيّة التي كانت تدخلها في الحوارات ومن خلال التركيز على المقاومة الشعبيّة وشبه إهمال دور الحكام أو النخب فجعلت البطولة للنّاس العاديّين والبسطاء مثل الورّاق، والحفيدة سليمة، وسعد، ومريمة وتناولت المقاومة بأشكال عديدة نذكر منها أولاً: المقاومة الثقافيّة والتي شملت ناحية الهويّة وتمثلت في التمسك باللغة العربيّة والتحدث بها بين أفراد العائلة وإقامة الطّقوس الدينيّة سراً والحرص على تعليم الأجيال اللاحقة القرآن .
ثانياً: فقد شرحت عن المقاومة المعرفيّة والتي تمثلت في الحديث عن إخفاء الكتب ومداومة أحد شخصيّات الرواية على التعلم والمحافظة على الذاكرة الجماعية ونقل الحكايات للأجيال اللاحقة .
وكان ثالثاً: المقاومة المتمثلة في الصمود واستمرار العيش والثبات على مبدأ عدم التّخلي عن الأرض رغم ما كانوا يواجهونه من قهر وتعذيب وحرمان من أدنى حقوق الإنسان .
أمّا رابعاً: المقاومة الثوريّة والسريّة وتمثلت في ذكر بعض الأعمال التي كانوا يقومون بها ومحاولات الجماعات المسلمة لاستعادة حقوقهم وأراضيهم عن طريق الانتفاضات والأعمال المسلحة على بساطتها.
وبضرورة الحال في مثل كلّ الرّوايات التي تتحدث عن النّضال والمقاومة كان يجب أن يكون شخصيات الرّواية عبارة عن رموز فكانوا متمثلين في السّيف والكتاب والحبّ والمرأة والجماعة وبيّنت بطريقة سرديّة عميقة كيف كان لكلّ من هذه الشخصيات دور كبير في دفع العدوان والدّفاع عن الأرض والممتلكات والحقوق، إلا أنّ الشخصيّات كانت غير متزنة على الصعيد الواقعيّ فالبعد الإنسانيّ في رسم الشّخصيات كان مختلاً فتارة كانت تجعل الرّابطة الإنسانيّة بين الأفراد ذات طابع معين ثمّ لا تلبث إلا قليلاً حتّى تذهب بها في سياق آخر .
لقد أخذتنا الراوية في رحلة مأساوية إلى حقبة زمنيّة بعيدة جداً تقريباً إلى أكثر من سبعمائة سنة وأعادت مرّة أخرى بعد قرون المطالبة بحقوق من ماتوا في سبيل الدفاع عن الأرض والتّراث فكانت حكاية تاريخيّة إنسانيّة مؤلمة ما زال حتّى يومنا الحاضر يكوينا بالهوان ألمها فلم يكن سقوط الأندلس إلا إنذاراً لسقوط القدس وباقي الأراضي العربيّة والإسلاميّة وما كان إلّا فاجعة علميّة وسقوط العالم أجمع وليس المسلمين فحسب في بحر الجهل العميق الغائر ولو لم يحرق القشتاليّون الكتب والمحفوظات لوصل العالم إلى ذرى الحضارة قبل أوانها بقرون ولما تعثّر العقل البشري في دروب الظلام طويلاً وما كان إلا انطفاء للنّور، واندثاراً لآلاف صفحات العلم التي سُطّرت بمداد العقل والروح حتى غدت كأنّها لم تكن وبالرغم من كلّ محاولات المحتل لطمس معالم مكتشفو الحقيقة وواضعو أسس العلم مازال صدى العلماء والأدباء والفلاسفة يدوي في وجدان الإنسانية حتى هذه اللحظة كالزرقاليّ وابن البيطار والزهراويّ وغيرهم الكثير.
وكأنّ الكاتبة أرادت أن ترسل رسالة مفادها أنّ التّاريخ لم يخلق ليكن حكاية ماضية بل جعل كمرآة لترى الأمم من خلالها حاضرها ومستقبلها فإن غفلت عن دروسه سقطت كما سقط من قبلها وإنّ فلسطين تشهق الآن آواخر الأنفاس وكأنها غرناطة المدينة البديعة الشهية منبع الحضارات والثورات الثقافيّة والمعرفيّة والتي ماتت حين تأخر أطباء ذاك الزمان عنها وإن لم يتدخل العالم الإسلامي في صنع الإنعاش لفلسطين الحبيبة لربّما سيخسرونها ويخسرون معها هوياتهم إلى الأبد .
ولقد عرضت الراوية شيئاً من الثقافة الزراعيّة للمنطقة ببراعة ومكّنت كلّ قارئ من التعرف على غناء أرض الأندلس بأشجار الزيتون والطبيعة الخصبة وكان ذلك من خلال سرد أعمال النّاس اليوميّة كالحراثة والفلاحة والحصاد وقد عززت به هدفها وأطفت عليه نوع من القهر الاجتماعي والسياسيّ وسردت محاولات الناس حتى العاديين والبسطاء منهم في الدّفاع عن الأرض فالإنسان يعتزّ بأراضيه وكرومه وجنّاته مثلما يعتزّ بشهاداته وتحصيله العلميّ والأكاديمي ويدافع عنها ويشعل من أجلها الحروب والثّورات لأنّ حبّات التّراب فيها من قطرات دمه وجذور شجرها من أوردته وأوراقها من حنايا روحه، وعندما يسدي إليها الماء كأنّما يسدي السقيا إلى أبناءه .
يشبّ الشجر ويكهل مع صاحبه وكلّما كبر زاد حُبّه وعظم الشوق إليه وتحتّم الرجوع إليه بعد السفر، حراثته دغدغة المحبّ وجني ثماره قُبل الملهوف وتقليم أغصانه لمسات المشتاق، وفي كلّ لقاء معه يمسك الصاحب شيئاً من أديم أرضه ثم يرفع بها ذراعه ليجعلها تنزل كانهمار الشلال فوق النّهر .
مالكه يسمّى صاحباً من طريق الصحبة عريق السلالة وعندما يرحل، يغدو كأنّه ثكلى، تصمت أغصانه، تجفّ ينابيعه، وتذبل أوراقه كأنّه ينكس رايات الوداع، فلا يُثمر سنة رحيل رفيقه، فهو يعرف أنّ من كان يُناجيه، قد غاب، ومن كان يحيا بنبض يده، قد رحل. وإن ضاقت الدنيا على صاحبه، وضجّت في قلبه نيّة الفراق وقام لبيعه مضطرًّا يرقّ له كما ترقّ أمٌّ لطفلها الجائع ويبسط له من صبره هامساً في قلبه دون أن ينبس ببنت شفة: “تمسك بي فأنا وطن والوطن لا يخذل ساكنيه أبداً “.
ولا أظنّ أنّ شجر الأندلس قد اعتاد على فراق مالكيه وسكانه الأصليين وإنّه ليحن شوقاً إليهم وليبكي بدل الدموع زيتاً على من ماتوا وشرّدوا وعذّبوا وقهروا وإنّ دموعه الخضراء مازالت حتى هذه اللحظة تسقي نصف سكان العالم زيتاً مخضباً بالدماء .
انتهت الرواية بتلميح جميل جداً يوحي إلى العجز العربيّ ليس كنقد عدميّ بل كجزء من التّاريخ لتسليط الضوء على ضعف تماسك المماليك في ذلك الوقت وقد أفلت الرواية بتصوير الأندلس على أنّها مريمة الشّخصيّة التي مثلت الصمود اليوميّ ورمزت للتّمسك بالهويّة و العاطفة والوجدان؛ من خلال ما خيّل لعيّ في النهاية أنّ الأرض مريمة وكيف فضّل أن يدفن فيها بدلاً من الرّحيل والهجرة وراح يناشد طائر القطا الذي كان على صدرها وكلّنا يعلم عن ذلك الطائر الحاضر في القصيدة العربيّة والتاريخ العربي فكأنّها رمزت بذلك إلى العرب بشكل عام فكان علي يناشدهم من خلال هذا الطائر كي يعيدوه إلى مريمة وإلى غرناطة كما فعل قس بن ملوح عندما طلب من ذات الطائر أن يحمل رسالته إلى محبوبته فقال :
شَكَوتُ إِلى سِربِ القَطا إِذ مَرَرنَ بي
فَقُلتُ وَمِثلي بِالبُكاءِ جَديرُ
أَسِربَ القَطا هَل مِن مُعيرٍ جَناحَهُ
لَعَلّي إِلى مَن قَد هَوَيتُ أَطيرُ
فَجاوَبنَني مِن فَوقِ غُصنِ أَراكَةٍ
أَلا كُلُّنا يا مُستَعيرُ مُعيرُ
وَأَيُّ قَطاةٍ لَم تُعِركَ جَناحَها
فَعاشَت بِضُرٍّ وَالجَناحُ كَسيرُ
لكن الطائر على لسان علي لا يدخل إلى القبور والعرب تركوا الأندلس ولم يحملوا همّها ورسالتها فعاشوا مذلولين مكسوري الجناح منذ ذاك الحين وإلى الآن حتى فجعوا مرّة آخرى بسقوط القدس في أيدي الصهاينة .
سلام عليك رضوى ورحمة الله وبركاته، هذا ما كان منّي والله أجل وأعلم .