مؤخراً وقع نظري على محاضرتين، الأولى بعنوان: “عودة فرضية الإله” كتفسير للوجود والكون والحياة، والثانية بعنوان: “هل الروح حقيقية؟” استعراض أدلة وشواهد على وجود الروح. كلا المحاضرتين باللغة الإنجليزية وفي جامعات عالمية مرموقة، وكلا المحاضرين علماء متخصصون في مجالهما ويستعرضان أدلّة علميّة تجريبية بحتة لا تشوبها شائبة (اترك لكم رابط المحاضرتين في نهاية المقال). ولأول وهلة ينتصب العلم بكل قدرته على الإقناع ليدافع عن الإيمان في مواجهة التفسيرات المادية الإلحادية، وتأتي آيات القرآن لتعبّر عن المشهد بإحكام بليغ ودقة إعجازية:
{سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق، أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد} فصلت 53.
وإليكم تفاصيل المحاضرتين ودقة القرآن الإعجازية:
المحاضرة الأولى، بعنوان “عودة فرضية الإله” (Return Of The God Hypothesis): يعرض خلالها المحاضر والمتخصص في فلسفة العلم “ستيفن ماير” ثلاثة اكتشافات علميّة تقتضي تغيُّر التفسير المادي السائد للوجود القائل إنّ الكون والحياة عبارة عن تطورات مادية عمياء لا معنى لها في العمق وإن كان يبدو في ظاهرها التصميم والجمال والدقة، وتصرّ على أن الكون خلق من غير خالق والحياة تطورت بفعل الصدفة، وتأتي هذه الاكتشافات العلمية لتقوض هذا التفسير المادي وتعيد التفسير الإلهي إلى الواجهة.
الاكتشافات العلمية الثلاثة باختصار:
- خلق الكون من عدم: وتعدّ مسألة جدليّة منذ الفلسفة اليونانية، ومؤخراً قدمت الاكتشافات العلميّة نظرية الانفجار العظيم “Big Bang” واستعرض ستيفن ماير شواهدها العلمية المتعددة وتغير قناعة كثير من العلماء في مواجهتها. وأهم تلك الشواهد ظاهرة توسع الكون التي رصدت بواسطة تلسكوب هابل، ويعبر عنها القرآن بالآية {والسماء بنيناها بأيدٍ وإنا لموسعون} الذاريات 47، فهذه الظاهرة الطبيعية تثبت أن كل هذا الكون الهائل بدأ من مفردة صغيرة جداً الى حدٍ لا يدركه العقل ولا تستوعبه الرياضيات هي والعدم سواء. ومثل هذا الاكتشاف أول شاهد على أن للكون بداية ولم يخلق نفسه.
- التصميم الدقيق للكون “”Fine Tune:– ومضمون هذا الاكتشاف أن هناك قوانين رياضية غاية في الدقة والضبط، تحكم الكون منذ بداية نشأته ثم تطوره وحركته، وأن أي تغيّر بسيط في قيمها كان سيؤدي الى انهيار الكون وعدم امكانية تخلُّقِهِ بالشكل الذي هو عليه الآن. وتعبر عنها الآية القرآنية {إنا كل شيء خلقناه بقدر} القمر 49، أي بتقدير بالغ. وهذا الاكتشاف الثاني الذي تؤيده شواهد كثيرة جداً، يقرر بأن خلق الكون لا يمكن أن يكون صنيع الصدفة، بل قصّة مرسومة تفاصيلها بإحكام.
- شفرة الحمض النووي “DNA“: وهي عبارة عن قاعدة بيانات رقمية – أو أكواد أشبه بالأكواد البرمجية في الأجهزة الإلكترونية – تتضمن التصميم الدقيق لتركيبة الكائن الحي كاملة بالمواصفات والأبعاد والألوان والخصائص البيولوجية وغيرها. قام مقدم المحاضرة “ماير” بعمل بحث ودراسة معمقة للجواب على سؤال: كيف تكوّنت شفرة الحمض النووي؟ وانتهى الى أنها عبارة عن تصميم مكتوب بإحكام من قبل مصمم ذكي، ومن غير الممكن أن توجدها الطبيعة المادية العمياء، وتعبر عن ذلك الآية الكريمة {وصوّركم فأحسن صوركم} التغابن 3. وهذا الاكتشاف الثالث يقرر حقيقة أن الحضور الإلهي لم يقتصر على وضع القوانين المنظمة للكون وحركة الجسيمات المادية، بل امتد ليصمم أشكال الحياة والكائنات الحيّة.
والمحاضرة الثانية “هل الروح حقيقية؟” (Is The Soul Real?): يلقيها جراح الأعصاب “ميكايل إغنور”، وقد تضمنت قائمة من الأدلة والشواهد العلمية على أن العقل المسؤول عن التفكير التجريدي – كالرياضيات والفكر الفلسفي والديني وغيرها من أعمال العقل العليا – لا يقوم بها الدماغ القابع في الجمجمة، وليست عمليات فيسيولوجية يمكن رصدها، وذلك بخلاف المقولة السائدة أن العقل “الدماغ” يفرز الفكر كما تفرز الكبد الصفراء، وخلص الى أن هذه العمليات العقلية العُليا يقوم بها كيان يختلف عن الدماغ وإن كان متصل به. ثم انتقل الى تقديم أدلّة مستقلة تفيد بوجود كيان عاقل كامل الإدراك يخرج من الإنسان عند التعرض لخطر الموت بسبب الحوادث أو أثناء عملية جراحية أو لأي سبب.
ونسرد بعض شواهد وجود الروح باختصار:
- وجود فئة من الأشخاص ممن تعرضوا لحوادث أو اصابات دماغية أو وراثية منذ الولادة، دماغهم تالف جزئياً بمقدار نصف الدماغ أو بأكثر من النصف، مع هذا تبدو حياتهم مستقرة ولا يواجهون أي صعوبات تتعلق بالجانب الفكري المجرد.
- تحفيز أماكن من الدماغ كهربائياً عند اجراء عملية الدماغ المفتوح أثناء الصحو – دون تخدير المريض – ومراقبة رد فعل الشخص عند التحفيز، وأظهرت النتائج أن الإرادة لا ينتجها الدماغ فيسيولوجياً ووظيفة الدماغ تقتصر على الاستجابة لأمر الإرادة.
- مراقبة نشاط الدماغ عبر جهاز الرنين المغناطيسي أثناء عرض أفكار ومفاهيم مجرّدة على الشخص الخاضع للتصوير. وأظهرت النتائج أن الاستجابة للأفكار المجردة وتحليلها واستيعابها لا يظهر أي نشاط دماغي، ويحدث بينما الدماغ في حالة أقرب إلى السكون، بينما يبدأ نشاط الدماغ مع أول ردة فعل حركية أو حسية من الشخص.
- دراسة حالة الأشخاص الذي أجروا عمليات فصل فُصي الدماغ عن بعضهما (عملية جراحية لمعالجة مرض الصرع) وتظهر النتائج أنه رغم عدم وجود أي موصلات عصبية رابطة بين شقي الدماغ، إلّا أن الأشخاص أظهروا قدرة كاملة على معالجة المعلومات والاختبارات التي لا يمكن القيام بها إلّا بالعمل المشترك والمنسق بين شقي الدماغ معاً، حيث أجريت تجارب مع هؤلاء الأشخاص في معالجة الاستنتاجات التي تحتاج إلى التنسيق المشترك بين فصي الدماغ، فكانت تعرض عليهم صورة أو مشهد معين له دلالة رمزية يتعامل معها شق من الدماغ، إلى جانب ذلك تعرض عليهم كتابة أو أصوات تدل على معنى آخر يختص بفهمه شق الدماغ الآخر، ولا يواجه الشخص أي صعوبة في استنتاج المعنى المشترك بينهما، مع أنه لا توجد روابط عصبية توصل بين شقي الدماغ لدى هذه الفئة من الأشخاص تسمح بالتنسيق والتحليل المشترك. والذي يثبت أن عمليات التحليل والفهم يقوم بها كيان لا ينتمي عضويا إلى أي من شقي الدماغ.
انتقل بعدها جراح الأعصاب “ميكايل اغنور” إلى عرض ما يسمى علمياً بتجربة الاقتراب من الموت، تجربة الخروج من البدن، حيث يجد الإنسان نفسه يطوف خارج البدن وبكامل القدرة على النظر والسماع والمراقبة والحركة، وهي تجربة يخوضها الأشخاص الذين تعرضوا لموت دماغي تمهيداً لمواجهة النهاية المحتومة، لكن الغريب في هذه الحالات النادرة التي تتمكن من النجاة والعودة إلى الحياة بعد الإنعاش، أنها تحكي قصة الخروج من البدن بطريقة مدهشة حقّاً. أورد الدكتور “أغنور” قصص أشخاص ذكروا بدقة تفاصيل وقائع ومشاهد تمت أثناء خضوع الجسد لحالة الموت الدماغي التي يستحيل فيسيولوجياً أن تكون هذه التفاصيل مُدركة عبر الحواس الجسدية أو عبر الدماغ الذي يرقد في حالة صمت مميت، وتكررت هذه الظاهرة لدرجة التواتر العلمي لآلاف الحالات التي رصدها الأطباء حول العالم والتي تؤكد ذات الظاهرة وتتشابه فيما بينها في كثير من المشتركات. (هناك تفاصيل أكثر ادهاشاً حول قصص الأشخاص الذين خاضوا التجربة ومعانيها الدينية، لمن أراد أن يتوسع أكثر يتابع محاضرة للدكتور عدنان ابراهيم بعنوان “الموتى يتكلمون” متاحة على يوتيوب).
وانتهى ميكايل إلى أن العقل المنطقي المسؤول عن الإرادة والتفكير المجرد وتقييم الخيارات ينتمي إلى كيان مختلف عن الدماغ وخارج عنه وأن التفسير الأقرب أن هذه الوظائف يقوم بها ذلك الكيان الذي يخرج من جسد الإنسان عند التعرض لتجربة الاقتراب من الموت.
وعند محاولة فهم هذا الكيان، يتبين أن خصائصه تتشابه تماماً مع خصائص الكيان الروحي في الأدبيات الدينية، من حيث أنه غير مادي ولا يمكن ادراكه أو رصده حسيا وأنه لا يموت ولا يصاب بالأذى ويتلبس بالإنسان حال الحياة ويغادره عند الممات.
وهنا، وعودة الى البداية، فإنني للحظة وقفت متأملاً دلالة هاتين المحاضرتين، من حيث أنهما يعبران عن معاني دينية صريحة وبلغة علمية متينة، فاستحضرت مباشرة الآية الكريمة من سورة فصلّت: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد} وفي لحظة محيرة، يبدو بوضوح أن أعظم آيات الآفاق الكونية (بداية الكون والتصميم الدقيق) وآيات النفس البشرية (شفرة الحمض النووي في الجسد والعقل الكامن في الروح) تأتي في سياق واحد على شكل محاضرتين موجهتين إلى العالم أجمع، فتتلاقى مع دلالة الآية القرآنية بشكل غاية في العمق والدقة، حيث تقابل عظمة الخالق في القرآن وآياته المتلوّة مع عظمة الخالق في الكون والنفْس والآيات المشهودة، في صورة إعجازية معبرة بكل وضوح “حتى يتبين لهم أنّه الحق”.
والعجيب المحير المدهش، أن ستيفن ماير قدم لمحاضرته “عودة فرضية الإله” في جامعة كامبريدج باستحضار شواهد لعلماء عصر النهضة من نيوتن ومن عاصره يفصحوا من خلالها أن الملهم الأول لأعمالهم العلمية هي التفكر في خلق الله، مصرحاً أنها تأثّرت بالأدبيات الشرقية (الإسلامية) كمقولة “أن هناك كتابين: الكتاب المتلو “القرآن” وكتاب الكون المخلوق“، ومقولة أنه لا تناقض بين العقل والكتاب لأن الذي خلق العقل هو الذي انزل الكتاب، في إشارة واضحة الى أن سياق اللحظة المعرفية بذاته يعيدنا إلى القرآن وإلى الخلق مرّة أخرى، فالقرآن هو مصدر إلهام العلماء المسلمين، وعبرهم انتقل إلهامه إلى علماء عصر النهضة (في أوروبا) ووصل ذلك التأثير إلى الشخص الذي يلقي المحاضرة وإلى كاتب هذه الأسطر ليربط بين آيات الخلق المشهود وبين آيات الكتاب المتلو.
وختاماً:
فتلك الاكتشافات العلمية التي تمثل آيات مدركة فيها دلالة صريحة على أن الكون والحياة والنفس البشرية هي صنيع إله حكيم عليم خبير يعبر عنها في أصدق تعبير بقوله {ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالِمِين﴾ الروم 22، صدق الله العظيم.
المصادر:
- محاضرة: عودة فرضية الإله ( (Return Of The God Hypothesis https://youtu.be/K0qbigRMqW8?si=5nV5PKFO1woO-aGn –
- محاضرة: هل الروح حقيقية (Is The Soul Real?) https://youtu.be/41bIJ7hYbLs?si=2U_9SOpdNX_SVXwa