في مقابلة حديثة مع الدكتور برهان غليون على مِنصَّة سوريا بودكاست مع الصحفي محمد طاهر، أُثيرت العديد من النقاط التي تتعلق بالدين والتدين والسياسة والمجتمع والأفكار في العالم العربي والإسلامي. والحقيقة أنَّ الدكتور برهان غليون، شخصية لها حضورها السياسي وامتدادها الأكاديمي، وله إسهامات جادة في الحوار الفكري والسياسي في العالم العربي. وهو، من خلال أفكاره ونقاشاته مع ثلّة من المفكرين والأكاديميين من شتى الخلفيات الأيديولوجية والفكرية، يدفعنا إلى التفكير والتساؤل حول العديد من المفاهيم والقضايا المرتبطة بالدين والسياسة والمجتمع، لذلك هناك فرصة لتعزيز الحوار البناء وتوسيع دائرة الفهم المتبادل، بما يخدم مصلحة مجتمعنا وأمتنا من خلال مطارحة الأفكار ونقاشها. فبلادنا بحاجة ملحة إلى تعزيز الحوارات الفكرية والنقاشات البناءة في ظل التحولات الراهنة والتحديات التي تواجه المنطقة. الهدف من سلسلة المقالات هذه ليس الاختلاف من أجل الاختلاف، بل السعي لتوسيع دوائر الحوار والفهم ومُدافعة الأفكار، وإثراء بيئتنا المعرفية بما يخدم مصلحة أمّتنا، ويسهم في بناء مجتمع متماسك ومستقبل أفضل للجميع. وإنّي على اقتناع شديد بأنّ الحوار الفكري ليس مجرد ترف أكاديمي أو نقاش نظري، بل هو ضرورة أساسية لبناء مجتمعات واعية. إذ إنه في ظل الأزمات الفكرية والسياسية التي تعانيها الأمة العربية والإسلامية، يصبح الحوار وسيلةً لفهم المشكلات وتفكيك المصطلحات وتحليل السياقات ومناقشة المغالطات بطريقة منهجية للوصول إلى حلول مشتركة. وإنّي على يقين أيضاً أنّ الحوار يمكن أن يكون جسرًا يربط بين مختلف الأطياف الفكرية والثقافية، ويساهم في تقليص الفجوات وسوء الفهم المتبادل. ولكن على هذا الحوار أن يفتح الأبواب أمام التحليل النقدي وأن يشجع على التفكير المستقل والمستنير، لا أن يُكرّر ذاته في دوامة من النظريات يجترّ بعضها بعضاً. ينبغي أن يتناول الحوار القضايا الشائكة بعمق وشفافية، بعيدًا عن التحيزات والأحكام المسبقة. إنّ التفكيك الفكري وتحليل المصطلحات وطرح الأفكار ومناقشتها يساعد على تفهم السياقات التاريخية والثقافية والسياسية التي تشكل الأفكار والمواقف، مما يمكننا من تجاوز السطحية والولوج إلى جوهر الأمور. في هذا السياق، تأتي هذه السلسلة لتكون إسهامًا في هذا الحوار البناء، لتقديم رؤية متوازنة ومعمقة لمختلف القضايا، والمساهمة في بناء مستقبل أفضل لوطننا وأمتنا، ونقاشاً جاداً لهذه الإطلاقات والنقاط المثيرة للجدل التي طرحها الدكتور برهان غليون في حديثه والذي جاء ضمن سياق لقاء إذاعي (بودكاست).
والحقيقة أنّ من أكثر النقاط التي استوقفتني مطولاً في حديث الدكتور برهان غليون ضمن الحلقة، سواء تصريحاً أو تلميحاً، هي نظرته إلى علاقة المسلم بالإسلام واعتبارها علاقة فردية بحتة، محصورة بين العبد وربه فقط، وبهذه الطريقة يُصبح الإنسان مرجعًا لنفسه، يستمدّ ويتلقّى ويُمارس ويُوجّه ويسلك ويتمثّل بناءً على النموذج الديني الخاص به، بمعزل عن المرجعية والقواعد والمنظومة. وهنا ينبغي أن نشير إلى أنّ المنطلق الأساسي لتحرك المسلم في إطار العلاقة بينه وبين ربه هو منطلق ذاتي بدافع داخلي، لكن هذه المحفزات الداخلية لا تقتصر على المفاهيم المرتبطة بالعبادات الفردية كالصوم والذكر والصلاة وغيرها، بل إن هذه المحفزات تجعله متحركًا وفاعلًا في بناء محيطه، وإصلاح وطنه، والسعي لرد المظالم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفقًا لضوابط وقيم راعى فيها الإسلام العديد من الثوابت المتعلقة بالفرد والمجتمع. فالإسلام إذن، في جوهره، دينٌ يعتني بالجماعة كما يعتني بالفرد، أي يُعنى بتنظيم شؤون الفرد والمجتمع على حد سواء، ويقدم نموذجًا متوازنًا في العلاقات. يسعى هذا النموذج إلى الحفاظ على الهوية الفردية وكرامة الشخص، مع ضمان اندماجه الفعال في النسيج الاجتماعي الأوسع، ويؤكد على أهمية الحفاظ على شخصية الفرد وعدم ذوبانها في الجماعة، مع السعي في الوقت ذاته إلى تحقيق توازن دقيق بين حقوق الفرد ومصالح المجتمع.
كما أنَّ تعاليم الإسلام لا تقتصر على الجوانب الروحية أو العبادية الفردية فحسب، كما يحاول البعض تصويره، فالإسلام ليس مجرد قضية عقدية مجردة، ولا يتمحور الفرد في الإسلام حول ذاته ومصالحه وأهوائه كما كان عليه الإنسان قبل الإسلام، وكما هو إنسان ما بعد الحداثة اليوم، بل هي علاقة تمتد لتشمل كل مناحي الحياة. وسيجد القارئ في ثنايا التشريع الكثير من الأدلة على هذا الكلام، وللإشارة إلى بعض هذه الجوانب، يمكن للمهتم البحث عن ركن أساسي من أركان الإسلام الأصيلة، وهو الزكاة، التي تُبرز الجانب الاجتماعي في الإسلام، حيث يلتزم المسلم بدفع جزء من ماله لمساعدة الفقراء والمحتاجين، مما يعزز روح التكافل الاجتماعي، أو ليطالع فضل صلاة الجماعة في الإسلام التي توضح أهمية الوحدة والاتحاد بين المسلمين. وكذلك ما يتعلق بمفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي تعرض للتشويه من قِبَل البعض سلوكًا ومن قِبَل آخرين هجومًا، غير أن هذا لا ينفي كونه قيمة أصيلة وفضيلة من فضائل هذا الدين، إذ تُظهر دور المسلم في المجتمع بصفته ناصحًا ومصلحًا، كما في قوله تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ [آل عمران: 110]. إذن، يُربّي القرآن المسلم على الشعور نحو غيره، ليتجاوز ذاته واهتماماته، وينضم إلى ركب المجتمع نهوضًا وإصلاحًا، كلٌّ قدر استطاعته ودوائر التأثير من حوله، وقد شبّه الرسول محمد ﷺ هذه الدوائر بالجسد، فقال في الحديث المشهور: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» [رواه البخاري ومسلم].
والحقيقة الأخرى التي ينبغي الإشارة إليها، أن هذه النداءات المتكررة من بعض المفكرين العلمانيين العرب للاتجاه نحو فردنة التَّدين، وحصره في إطار الروحانية والعلاقة الفردية مع الله بغض النظر عن الأفعال والسلوك، تأتي في سياق إفرازات المنظومة القيمية والرمزية الغربية التي تصيح الآن بأعلى صوتها معلنةً أن هذه المنظومات أوشكت أن تخفت، وأطلقت تحذيرات وعناوين شديدة الخطر من قبيل ‘موت الغرب’ و’نهاية الغرب’ و’انتحار الغرب’ أو كما كتب الفيلسوف الألماني المعروف أوزفالد شبنغلر ‘انحطاط الغرب’. والمقصود من هذا كله ليس موتًا حقيقيًا بمعنى الموت، ولكنه اندحار للأفكار وضمور للمنظومات الفلسفية وأمراض مزمنة في البنية المعرفية القائمة على المادية والعدمية والعنف والنزعة الفردانية المفرطة والاستهلاكية، ومما يدهشني دائمًا أن يسارع المفكرون العلمانيون العرب إلى تبني هذه الأفكار ومحاولة نشرها وضرب النماذج القيمية في المنطقة بها، بينما يحذر منها عدد لا بأس به من المفكرين والفلاسفة في الغرب، ويذهب بعضهم إلى حد اعتبارها أحد أسباب التعاسة التي أصابت المنظومة الغربية نفسها، بل إن بعضهم ذهب، في تفسير واقع التناقض بين ما يدعو إليه الغرب من حريات وديمقراطية ومبادئ الليبرالية الجديدة وبين ما يطبقه في العالم الثالث من دعم للاستبداد والفساد والقمع والظلم، إلى أن الغرب في الحقيقة غير مستعد لتقليص الفجوات الثقافية والأخلاقية وحتى المادية التي تفصله عن باقي العالم، بل إن هوية الإمبراطورية الغربية اليوم قائمة على هذه الثنائيات بين ‘نحن’ و’هم’. ويستطيع المتابع الفطن أن يلاحظ كيف سعى الغرب إلى رفض قيمه الديمقراطية والليبرالية وأدبياته المتعلقة بالحرية والمساواة في بعض المجتمعات العربية والإسلامية عندما كانت النتائج النهائية لا توافق هواه، لأن ذلك سيعزز الرفاه والحريات، وحينئذٍ ستتقلص المسافة بين المركز والأطراف، وهذا يعني تلاشي مزايا هذا التمايز وهذه الثنائية ‘نحن وهم’. ولست هنا بصدد تفكيك النزعة الفردانية في الغرب، فهذه تحتاج إلى ورشات عمل وندوات أكثر تركيزًا. لكن من المفيد ربما التعريج سريعًا على نشأة هذا المفهوم الذي يرجعه العديد من الباحثين إلى مارتن لوثر والإصلاحات البروتستانتية في الكنيسة، وكذلك إلى أفكار هيغل، الذي ساهم في إثارة إشكاليات جوهرية، فبينما أسس لمفاهيم الحقوق والحريات الفردية في الغرب، فقد ساهم أيضًا في تفكيك الروابط الاجتماعية التقليدية، وفي تأجيج الصراعات باسم الحقوق الفردية. ومثل ذلك إسهامات روسو وكانط، التي رغم أهميتها في النهضة الغربية، عمقت النزعة الفردية على حساب المسؤولية الاجتماعية. هذا التطور دعا العديد من أهل الفكر والنظر إلى طرح العديد من التساؤلات الحرجة اليوم: هل أدى التركيز المتزايد على الفردانية إلى إضعاف النسيج الاجتماعي والقيم المشتركة في المجتمعات الغربية؟ وكيف يمكن تحقيق توازن بين حقوق الفرد ومسؤولياته الاجتماعية في ضوء هذا الإرث الفكري؟
بناءً على ما سبق؛ يطرح لويس دومون إشكالية جوهرية في التحول نحو الفردانية المفرطة في المجتمعات الحديثة. يشير فيها إلى أن غالبية الأفراد لا يتوافقون مع نموذج نيتشه للفرد المستقل تماماً، بل يميلون إلى الانخراط في علاقات إنسانية تلبي احتياجاتهم العاطفية والاجتماعية الأساسية. يحذر دومون من أنّ غياب أفق أخلاقي مشترك واختزال المحيط الاجتماعي إلى آلية قمعية قد يؤدي إلى نتائج عكسية، حيث يرجح أن تعاني الغالبية في نهاية المطاف من مشاعر القلق والعزلة بدلاً من الشعور بالحرية. وفي ذات السياق يقدم المؤرخ الأمريكي كريستوفر لاش نقدًا جوهريًا لظاهرة تقدير الذات في المجتمع الغربي المعاصر. يرى لاش أن الترويج المفرط لتقدير الذات، بدلًا من تمكين القدرات الإنسانية، أدى إلى انتشار نرجسية مدمرة في المجتمع الأمريكي والغربي. وفقًا لتحليله، لم يؤدِ هذا التوجه إلى تحرير الأفراد لتحقيق إمكاناتهم، بل أوقعهم في فخ التبعية العاطفية، حيث أصبحوا بحاجة مستمرة إلى تقدير الآخرين وإعجابهم. ثم يحذر لاش من العواقب الاجتماعية السلبية لهذه النرجسية، مشيرًا إلى أنها قد تؤدي إلى نزع الطابع السياسي عن المجتمع، وتحويل النضالات من أجل العدالة والحقوق والفضيلة إلى مجرد مشكلات نفسية شخصية.
في هذه اللحظة الفارقة، ستجد -عزيزي القارئ- أنّ الإسلام يُشكّل هويةً جماعيةً واجتماعيةً تقوم على الإيمان بالله، وتنقل الناس من مساحة التنافس والصراع إلى مساحات التعاون والتعارف، ومن مفاهيم العزلة والأنانية والهروب من تكاليف الحياة نحو التجمّع والألفة والتضامن، والقدرة على التوفيق بين المصالح الذاتية الفردية وبين مصالح الأمّة والمصالح العامّة. لأنّ الإسلام يتعامل مع المجتمع باعتباره المحضن الذي تزدهر فيه مبادئ الإسلام الأصيلة ونماذجه المختلفة، ويُقدّم تصورًا متميزًا للجماعة وعلاقتها بالأفراد أو بالسلطة الحاكمة. في هذا التصور، لا تتمتع الجماعة، أو السلطة بصفة التعالي، أو الاستبداد أو الحق المطلق في التصرف. بدلًا من ذلك، يؤسس الإسلام مبدأ الطاعة المشتركة لله ورسوله، وفقًا للتعاليم الإسلامية، كإطار مرجعي للجميع. كما هو الحال مع حالات النزاع أو الاختلاف على سبيل المثال، إذ لا يقر الإسلام بسلطة مطلقة للجماعة أو الحاكم لا تخضع للنقاش أو المراجعة. بدلًا من ذلك، يتم الاحتكام إلى المصادر الأساسية للشريعة الإسلامية، وهي القرآن الكريم والسنة النبوية. وهنا يقدم القرآن الكريم رؤية فريدة للتنوع البشري، كما يتضح في الآية 13 من سورة الحجرات: ﴿يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا﴾. ووفقًا لهذه الرؤية، فإن الاختلافات بين البشر، سواء كانت جنسية أو عرقية أو قبلية، ليست أساسًا للتمييز أو الصراع، بل هي وسيلة للتعارف والترابط الاجتماعي.
ختامًا لهذه النقطة وتلخيصًا لما تمّ ذكره آنفًا، يتبيّن أنّ الإيمان بالله تعالى والتصديق برسالة النبي محمد ﷺ يُشكّلان الأساس الرابط للمجتمع الإسلامي، وهذا يعزز الولاء المتبادل بين أفراده ويُقوّي الصلة بينهم، ويُساهم في الحفاظ على قوة الجماعة وتميّز هويتها. والإسلام دين فاعل ومُتحرك، لا يُمكن حصره وتطويقه بمجموعة من الشعائر الروحية والمشاعر الفردية، أو فصله عن واقع الناس وتفاصيل معيشتهم. أمّا العامل النفسي والروحي فهو يُعتبر حجر الزاوية في حياة الفرد والمجتمع، حيث إن ضعف أو تلاشي هذا العامل قد يؤدي إلى تفكك المجتمع وضعفه. في السياق الإسلامي، يُعرَّف الولاء كشعور روحي يقوم على التعاطف والتآلف والإخلاص، ولكنّه يتجلى في الجماعة على شكل مظاهر من الحب والإيثار والابتعاد عن كل ما من شأنه أن يضر بالمجتمع أو يفسده، بل ويحثّ على تماسك المجتمع الإسلامي وقوته، مع التأكيد على أن هذا التماسك ينبغي أن ينبع من دافع ذاتي وشعور وجداني. الهدف من هذا في النهاية هو تعزيز الشخصية الفريدة للأمة الإسلامية وخصائصها المميزة، تماشيًا مع وصفها القرآني كـ “خير أمة أخرجت للناس”.