هناك جملة ذرائع يسوقها دعاة الحل العلماني لتسويغ دعوتهم لتبني هذا الحل، في المجتمعات الإسلامية، بوصفه حلّاً عالمياً وحتمياً وحاسماً ونهائياً. ومن هذه الذرائع ما يلي:
الذريعة الأولى : إسقاط النموذج الغربي على المجتمعات الإسلامية :
يعتقد دعاة الحلّ العلماني أن سبب الصراعات التي ترتدي ثوباً دينياً مذهبياً، أو طائفياً، أو نحو ذلك وتناميها يوماً بعد آخر يُعزى إلى الدِّين، من حيث ارتباطه بالدولة أو بالسياسة، ولو فصلنا بينهما- في نظرهم- لما حدث ذلك الاحتراب. وهو تصوّر قد يجد له منطقاً للوهلة الأولى، ولكنه منطق قاصر وتعوزه الدّقة والرؤية الكليّة الشاملة للأسباب الحقيقية الكامنة وراء نشوء ذلك الصراع وتناميه، ومدى علاقته بالدين الإسلامي، في وسطيته وشموله المجال السياسي وغيره. وسترى- قارئي العزيز- أن التحقيق في ذلك يقود إلى حقيقة أن لا علاقة عضوية له بالدّين ( الإسلامي) الذي عرفته أمتنا في غالبيتها الوسطية وسوادها الأعظم، عبر أغلب مراحل تاريخها المديد، حيث كان الخلاف العلمي والأدبي والفقهي والفكري الطبيعي بين جماعاته “السلمية” أيّاً ما بلغ، – مجالاً للإثراء الفقهي والفكري، دون أن يؤذن بالاحتراب، كما تؤكّده سلوكات كبار الأئمة والفقهاء، قبل نصوصهم وآثارهم، وهو أمر غير ذلك النوع الآخر من الخلاف الذي جرّ – ولا يزال- إلى عنف وتخاصم وشجار وفساد ذات بيْن، وربما احتراب مسلّح بعد ذلك، حيث الزعم بامتلاك الحقيقة المطلقة والمشروعية الوحيدة، وحرمان الآخرين منها تماماً، وهو ما يعني استغلال الدّين وتوظيفه, كما توظّف أيّة قيمة سامية سماوية أو أرضية أخرى.
وهنا سأحاول أن أورد أبرز سببين – في نظري- قادا إلى العلمانية، في هذا الإطار، وأسعى إلى محاورتك – عزيزي القارئ- فيهما، وذلك على النحو التالي:
السبب الأول: الخلط الدائم بين التاريخين الإسلامي والأوروبي:
إن جوهر الإشكال لدى بعضنا يكمن في عدم تحرير النزاع حول مصطلح الدّين، وإسقاط كل إشكالات الدّين المسيحي، بما في ذلك مذاهبه الكليّة الثلاثة ( الكاثوليكية والأرثوذكسية والبروتستانتية)، وما طرأ عليه من تحريف لنصوصه، وتسلّط لرجالات دينه عليه، على كل الأديان الأخرى، والإسلام أولها، والوقوع من ثمّ في تناقضات المجتمع الغربي في إشكاله مع الكنيسة وسلطتها، إبان عصور الظلام (Dark Ages)الأوروبية، تلك التي امتدت لألف سنة، أي منذ القرن الخامس حتى الخامس عشر الميلادي، وهي ذاتها ما تسمّى بالعصور الوسطى ـ(Middle Ages)، لتبدأ بعدها مرحلة عصور النهضة(Ages Renaissance)، منذ القرن الخامس عشر حتى السابع عشر، ثم عصر التنوير Ages) Enlıghtenment)، منذ القرن السابع عشر حتى بداية التاسع عشر . لك أن تلاحظ الآن كيف أن بداية عصور الظلام الأوروبية كانت سنة (476م)، أي تلك الفترة التي تهيأت فيها عوامل التشكّل والبشارات، التي أرهصت بقدوم الرسول محمد – صلى الله عليه وسلّم- عام(571م)، وتشمل تلك المرحلة: مرحلة العهد النبوي والراشدي ،وكل مراحل الازدهار الإسلامي، في العصر الراشدي، قبل الانحدار الذي غشى العقل الإسلامي، منذ ما عُرف بعصور الانحطاط، التي كان أبرز معلم لها ظاهرة إغلاق باب الاجتهاد، أو تراجعه العملي على نحو بيّن، منذ نهاية القرن الرابع الهجري ومطلع الخامس، بما يعني تراجع ذاتية الأمة الإسلامية وخصوصيتها وكينونتها الحضارية، وهو ما أفضى اليوم إلى مخرجات مرّة، نتجرعها كدواء لمعضلاتنا، على حين أنه أضحى الداء ذاته، نظراً إلى أن توصيف الحالة العربية الإسلامية ليس كتوصيف الحالة الغربية المسيحية، وهنا أصبح الأمر أشبه بطبيب يقدّم وصفة دواء لحالة أخرى غير تلك التي جاءته، بناء على توصيف خاطئ للحالة، والنتيجة ستظهر تلقائياً في الآثار السلبية السريعة على صحة المريض، بدل معافاته .
ولعل من مظاهر الإفراط في تعاطي ذلك الدواء الخطأ، تسويغ استعمال أبرز مصطلح مسيحي يعني القسس والبابوات والمشتغلين بشؤون الكنيسة ( رجال الدِّين)، لوصف علماء الشريعة وفقهائها ومفكري الإسلام وأعلامه، بوصفهم جميعاً (رجال دِين)، مما يؤكّد على مدى تأثير المنهجية الغربية واستحكامها، حتى في تناول بعضنا قضايا الدّين الإسلامي، محكومة بتلك المنهجية، على حين أن كل مكلّف في الإسلام ذكراً كان أم أنثى، معني بدور (رجل الدِّين)! أي أنه مكلّف بتكاليف الإسلام، وينبغي أن يلتزم توجيهاته، في اعتقاده وعبادته وسلوكه العبادي العام والخاص، بوصفه مسلماً، حتى لو لم تكن له علاقة تخصصية ومعرفية بتلك العلوم والمعارف، وفقاً لقول الحق – تعالى-:
{قل إن صلاتي ونُسُكي ومحيايَ ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} (الآية:162-163). وهي آية واضحة صريحة في أنّ شؤون المسلم محكومة بالجملة بمعايير الشرع الحنيف، في غير مغالاة ولا مجافاة، وهو أمر يصعب تصوّره – بطبيعة الحال- على من درج في بحثه ومناقشاته على مسلك التجزئة والثنائيات، وجعل النموذج الغربي حاكماً على فكره ومسلكه .
بناء على كل ذلك؛ فإن طبيعة التاريخ الإسلامي مختلفة عن طبيعة التاريخ المسيحي، وحتى الخلافات المذهبية في الإسلام، لا يمكن مقارنتها بالخلافات في المسيحية، من وجوه عدّة، أبرزها أنها لدى الأول تظل في إطار الإسلام في كليّاته وأصوله، لدى أبرز التيارات الإسلامية الفاعلة، وأعني بها السنّة والشيعة الإمامية الجعفرية- بوجه أخص- وأيّاً بلغ الجموح لدى المذهب الأخير هذا؛ فمن العسير مقارنته بأيّ من المذاهب المسيحية الثلاثة، علاوة على أنه لا أساس في الفكر الإسلامي العام-على المستوى النظري على الأقل- لظاهرة الصراع بين العلم والعقل والدِّين من جانب، أو بين الدّين والسياسة (Politics) – وليس التسييس(Politicization)- من جانب آخر – وذلك أمر مركزي في الحوار، وجدير بالتأكيد عليه بين الفينة والأخرى، إذ هو الإطار المرجعي أو البراديم ( Paradigm) لأي نزاع عملي قد يبدو مشكلاً في ثنايا تطبيق الفكر الإسلامي، وذلك على خلاف الوضع في المسيحية والغرب.
وفق ذلك الإطار المرجعي تؤكد كل المعطيات القرآنية والنبوية، مؤيّدة بالعطاء العلمي والحضاري للأمة الإسلامية في عصور ازدهارها خاصة، تعانق العلم مع الدين، وتآزر التوحيد مع العقل والمعرفة البرهانية. وقد كتب في هذا مفكرون وعلماء وكُتَّاب غير مسلمين من مختلف التخصصات – ناهيك عن المسلمين- ولعل من أبرزهم كريس موريسون صاحب كتاب (العلم يدعو للإيمان)، أو موريس بوكاي في كتابه ( التوراة والإنجيل والقرآن في ضوء المعارف الحديثة)، أو ما ورد في كتاب (الله يتجلى في عصر العلم) لأكثر من 30 عالماً أمريكياً، وغيرهم كثير، حيث تلك عناوين قديمة نسبياً، هذا عدا ما كتبه أو قدّمه مبرّزون عرب ومسلمون في هذا الباب أمثال عبد الرزاق نوفل، أو نديم الجسر، أو وحيد الدّين خان، أو مصطفى محمود، أو صبري الدمرداش.
يتبع…