ثالثاً: استغلال المذاهب والأحزاب الدينية للإسلام
إن تأكيدنا المرّة بعد الأخرى على أن الدِّين الذي نعنيه هو المعتمد على مصدرية القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، والتطبيقات الفعلية في عهد الراشدين وسواهم، أمّا استغلال الدين لأغراض مختلفة فهذا يحدث مع الدّين وغير الدين كما سأوضح لك ذلك بالشواهد والأمثلة، ولكنني أود هنا الإشارة الحقيقتين التاليتين:
1- استغلال القيم الإنسانية السامية:
إن استغلال الدّين ومصادره المقدّسة لأغراض سياسية أو طائفية أو حزبية أو جهوية أو حتى شخصية؛ ليس حالة خاصة بالدّين وحده، بل ظاهرة عامّة لا تقف عند مسألة الدّين، فعدد من لمثل والمبادئ والقيم الإنسانية السامية الكبرى كالعدالة والحرّية والمساواة – على سبيل المثال-؛ يطالها الاستغلال كذلك، كما كل شيء نفيس، فيسعى البعض تحت شعار الحرّية والمساواة -مثلاً – ليسيء إلى الآخرين ويقهرهم وقد يحتل بلدانهم، بدعوى تخليصهم من موروثات اجتماعية بالية، تحول دون حصولهم على حرياتهم، وتحقيق المساواة بين أفراد مجتمعاتهم ومكوناتها، ولا سيما المرأة أو الأقليات، التي يصفها عادة بالمضطهدة، أو بدعوى تطوير بلدانهم وتعميرها تنموياً واجتماعياً، ومنحهم الحرية والعدالة والمساواة الكاملة في مختلف جوانب الحياة، وكل ذلك من أجل تحقيق مصالحه وأهوائه ورغباته، أو حزبه، أو مذهبه، أو طائفته، أو أدواته وعملائه.
ولكل ذلك لذلك رُفِع مبدأ: تقف حريتك عند حدود الإضرار بغيرك، أو عند تعارضها مع حريّة الآخرين.
والسؤال هنا مرّة أخرى: هل يؤذن كل ذلك الاستغلال لتلك القيم الكليّة الكبرى برفضها جميعا؟
بالتأكيد لم يخطر ببال أيّ منا الخلوص إلى مثل هذه النتيجة التي يُطالبنا العلمانيون بمثلها حين يتحدثون عن استغلال بعض المنتسبين إلى الدين أو المشتغلين بالسياسة أو الحكم في مجتمعاتنا -أو بعضهم- الدِّين في أغراض خاصة مذهبية أو حزبية أو جهوية أو شخصية، أو سواها، بدعوى تجنيبنا الصراع والتعصّب باسم الدين. ولذلك فإن السؤال الذي يفرض نفسه هنا: لماذا الدين وحده هو من يراد تطبيق تلك الفرضية واللوازم عليه، دون غيره، إذ لو طبقنا مسلكية الاستغلال للدين وتوظيفه في غير مقصده لَلَزِمنا أن نطرد القاعدة على كل قيمة ومبدأ يتم استغلاله وتوظيفه لهدف غير الهدف الذي من أجله شُرع.
2- استغلال العلوم والمعارف:
من المعلوم أنه يمكن استغلال عدد من العلوم الطبيعية والاجتماعية لأغراض غير علميةـ وتتنافى مع أخلاق العلم، ومن ذلك -على سبيل المثال- الشركات الطبية وشركات صناعة الأدوية، تلك التي تتحدث الأرقام والإحصاءات الموثقة عن ثراء بعضها بالمليارات من وراء استغلالها للأدوية الفاسدة والعقاقير الخطيرة المضرّة . وفي تقرير- قديم نسبياً- كانت نشرته مجلة فورين أفيرز الأميركية أن تجارة الأدوية المزيفة في مختلف أنحاء العالم تتزايد، وإنها بلغت سنة 2010 م نحو 75 مليار دولار بزيادة 90 % عما كانت عليه سنة 2005م. ويضيف التقرير ” أن هناك أدوية باهظة الثمن ويزداد الطلب عليها، وهو ما يجعلها هدفا مربحا يسيل له لعاب شبكات تزوير الأدوية عبر العالم، مؤكدا أن مما يعقد الأمر عدم وجود إجماع دولي على مفهوم التزوير، وعدم وجود قوانين فعالة لمكافحته”(1).
وحسب المصدر نفسه ” فقد تم اكتشاف زيادة في كمية الأدوية المغشوشة بنسبة 246% في آسيا و131% في أوروبا، أما في الشرق الأدنى فكانت بنسبة 105% وفي أميركا الشمالية بنسبة 77%، وذلك في ما بين 2005 و2010م”(2).
وينقل التقرير عن منظمة الصحة العالمية قولها : ” إن نحو 15% من الأدوية المتداولة في العالم مزورة وغير فعالة، مذكرا بأن المنظمة لا تستطيع فعل شيء لمواجهة هذه الظاهرة ، لأنه ليست لها قدرة على تطبيق القانون”(3). والشاهد من وراء إيراد كل ما سبق في شأن الادوية؛ وضع سؤال كبير يشير إلى سذاجة الاعتراض في شأن الاستغلال للعلوم المعارف، كما قد تُستغل الأحزاب الدينية والمذاهب في الإسلام، دون أن يؤذن الاستغلال الأول بترك التطبّب والعلاج واستخدام العقاقير والأدوية، لمجرّد أن الاستغلال طالها، على ذلك النحو الفظيع، لكنه يوجد – مع الأسف- من ينادي يُترك الاحتكام إلى الدّين، بذريعة أن هناك مذاهب أو أحزاباً استغلته، في جانب أو بعض جوانب ، فكيف تستقيم المناداة في شأن استغلال الدّين، ولا تستقيم في شأن استغلال الأدوية والتطبّب بها، مع أن العلّة هي الاستغلال الذي طال كلا المجالين؟!
أمّا من العلوم الاجتماعية فهاك واحداً منها فقط هو علم القانون الدولي، فهذا العلم يُستغل في حالات عديدة، حين توجّه بعض الجهات – على مستوى دول او منظمات – بعض نصوصه وفقراته لصالحها، أو جهات تدعمها، وقد رأينا – على سبيل المثال- حين احتلت العراق الكويت عام 1411هـ-1990م، في عهد الرئيس العراقي السابق صدّام حسين، بحجج وذرائع عدة. وحين قامت الأطراف الأخرى بالاحتجاج بنصوص القانون الدولي لتجريم عملية احتلال العراق للكويت، حشد الرئيس العراقي السابق صدام حسين كل ما يعتقده من مؤيدات قانونية وتاريخية واقتصادية وسياسية وعسكرية وسواها، شافعاً لذلك بالاستعانة بعلماء القانون الدولي وخبرائه العراقيين تحديداً، وكان لهم مؤيدون عديدون، بمن فيهم فئة من أساتذة القانون الدولي وخبرائه في الوطن العربي بالخصوص، كي يؤكّدوا أحقية العراق في ضم الكويت إلى أراضيه. ولهذا الغرض انعقدت ندوة كبرى في 30 كانون الأول (ديسمبر) 1991م دعا إليها قسم القانون بجامعة بغداد لدراسة بعض الجوانب القانونية لأزمة الخليج من قبل مختصين في الشئون القانونية وكذلك في السياسة الدولية، وقدمت في هذه الندوة أبحاث من بعض أساتذة القانون الدولي بجامعة بغداد وقد جاء في بعضها ما نصه: «… ولكن القانون الذي سيرتكز عليه النظام الدولي الجديد والذي سيكون أداته لن يختلف في تقديرنا عن القانون الدولي القائم ولكن الذي سيختلف هو توظيف هذا القانون لخدمة النظام المطلوب من خلال تفسير قواعده، وتسخير هيئاته لتحقيق هذا النظام، وفعلاً تم تطبيق ذلك على ما أطلق عليه «أزمة الخليج» من خلال إعطاء تفسير خاص لقواعد القانون الدولي»(4)، في مقابل جمهرة كبيرة من أساتذة القانون الدولي ذاته، من شتى أنحاء العالم اجتمعت في وقت متقارب جداً في القاهرة بتاريخ 5 كانون الثاني /يناير 1991م ولمدة ثلاثة أيام، فخرجت بقراءة مغايرة لقراءة أساتذة القانون الدولي المجتمعين بجامعة بغداد(5).
وقد وصف السيد محمود الرياض وزير الخارجية المصري السابق والأمين العام لجامعة الدول العربية سابقاً ذلك التجمع الدولي في القاهرة بأنه يعد «أكبر تجمع من خبراء القانون الدولي من مختلف الأقطار العربية والأوربية والأمريكية للنظر في العدوان العراقي على الكويت» (6).
ونقل السيد رياض تأكيد «رجال القانون أنه لا يجوز الركون إلى أي مبرر أياً كانت طبيعته سياسية أو اقتصادية أو غير ذلك لتبرير ارتكاب العدوان، وإن الحرب العدوانية ترتب المسؤولية الدولية باعتبارها جرعة ضد الإنسانية، وترتب على هذه القاعدة مطالبة رجال القانون بضرورة إجراء محاكمات للقيادة العراقية على غرار محاكمات (نورمنبرغ) التي عقدت بعد الحرب العالمية الثانية» (7).
والآن: أرأيتم كيف يعمد كل فريق إلى قراءة نصوص القانون الدولي بطريقته الخاصة؟ فإذا صح أن مجرد الاستغلال لنصوصه من طرف؛ يُصبح ذريعة للتنصل منه؛ فليس ثمة ما يمنع محتلا أن يغتصب بلد غيره وأن يحشد قراءات مسوغة لجرمه من خلال تفسيراته لنصوص القانون الدولي القاضية بتجريم ما أقدم عليه، زاعماً أن تجريمه لا يعدو أن يكون قراءة من قراءات عدة لذلك النص أو مجموعة النصوص، أما قراءته -وقد يكون معه علماء ومختصون وخبراء حقاً- فغير ذلك بل على العكس منها تستخلص تجويزاً أو إيجاباً لما أقدم عليه.فهل يُترك كل فريق وقراءته؟ ومن ثم فلا فرق بين غاز ومغزو، وظالم ومظلوم، وقاتل ومقتول، ومعتد ومعتدى عليه؟ إذ لكل قراءته التي تعفيه من أية مساءلة قانونية أو سواها؟ أم أن الحل يكمن في إلغاء القانون الدولي من أساسه، ما دام أنه -وقت النزاع- لم يحقق الهدف في فض النزاع بين طرفين دوليين، حتى على المستوى النظري بين مختصيه وخبرائه؟ أم سيقال -وهذا هو المنطق الذي يعني ما سواه حلول الدمار وخراب الديار-: إن ثمة قواعد وأسساً ومبادئ لقراءة مواثيق القانون الدولي بفقراته ومواده وجميع نصوصه ـ شأنه في ذلك شأن أي علم محترم -يجمع عليها جمهور أهل هذا العلم ولا عبرة -بعد ذلك- بمن شذ أو سعى لتوظيف تلك النصوص لخدمة أغراض ذاتية: حزبية أو قطرية أو مصلحية على أي مستوى؟
وإذا كان هذا هو منطق العلم والعقل والواقع فليس ذلك شأناً خاصاً بالقانون الدولي، بل هي قاعدة عامة مطّردة لا تستثني علماً إنسانياً أو اجتماعياً ناهيك عن شرعي.
أما إذا أصر بعض من أعمى الله بصيرته على استثناء علوم الشريعة وحدها فهي مكابرة صريحة، أو جهل فاضح بالأصول والقواعد التي تضبط منهج الاستدلال فيها، وتغييب مقصود أو غباء لا يحسد صاحبه عليه برأي الجمهور في أي مسألة تأتي غالباً بالحل الوسطي المحقق لمقاصد الشريعة، وفي حال حصول استثناء في ذلك فإنه لا يأتي اعتباطاً أو مسايرة لهوى زعيم أو وضع بيئي بل ثمة قاعدة «تبدل الأحكام بتغير الأزمان» أو «تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد»(14) تسد تلك الثغرة وتحقق مراد الشارع . والمقصود أن ذريعة القراءات المتعددة ستفضي إلى تعطيل جميع العلوم وإلغاء فاعليتها ،إذا تم تناولها على ذلك النحو العدمي التفكيكي الهادف إلى إقصاء مرجعية الدين وإبقاء ما عداه، رغم أن ما ظنوه قصوراً في مرجعيته يطال بقية المراجع من باب أولى.
والحق نقول -تأكيداً -لا يوجد علم على الإطلاق أياً بلغت مكانته أو سما مصدره وحياً سماوياً، أم فكراً بشرياً، إنسانياً واجتماعياً كان، أم طبيعياً وتطبيقياً يسلم من الانحراف في التأويل، أو الوقوع في دائرة التحيز. أو الاستغلال من أيّ طرف، لكن ذلك لايؤذن بالاستغناء عنه، لذاك السبب.
وليس هذا مقام التدليل التفصيلي على حقيقة هذا التقرير، إذ ما سبق يغني عن البيان فيما يتصل بالعلوم الإنسانية والاجتماعية، أما الطبيعية والتطبيقية فمن رام تفاصيلها وغيرها فليراجع جملة الأبحاث المقدمة من ثلة من العلماء والباحثين من مختلف التخصصات والميادين -بما فيها الطبيعية والتطبيقية- لدراسة إشكال التحيز في العلوم المختلفة، وأثبت جميع أولئك الدارسين حقيقة ذلك الإشكال وقيام الأيديولوجيا بتأثيراتها في صياغة العديد من القوانين والنظريات العلمية بلا استثناء، هذا فضلاً عن التطبيقات والممارسات لها(8).
والحق نقول -تأكيداً -لا يوجد علم على الإطلاق أياً بلغت مكانته أو سما مصدره وحياً سماوياً، أم فكراً بشرياً، إنسانياً واجتماعياً كان، أم طبيعياً وتطبيقياً؛ يسلم من الانحراف في التأويل، أو في الوقوع في دائرة التحيز، أو الاستغلال من أيّ طرف، لكن ذلك لايؤذن بالاستغناء عنه، لذاك
الهوامش:
- الجزيرة نت https://aja.me/gpy8e3،تجارة الأدوية المزيفة في تزايد، 16/5/2012م (شوهد في 26/5/2024م).
- الجزيرة نت، تجارة الأدوية المزيفة في تزايد، المرجع السابق.
- الجزيرة نت، الأدوية المزيفة في تزايد، المرجع نفسه.
- راجع. محمد عبدالله الدوري (محرر) ندوة القانون الدولي وأزمة الخليج، د.ت، د.ط، د.م: دار الحكمة للطباعة والنشر، ص9.
- راجع. محمود رياض، القانون الدولي والعدوان العراقي، (صحيفة الحياة، العدد (10208)، كانون الثاني/ يناير، 1991م، ص5، 9.
- محمود رياض، المرجع السابق، ص5، 9.
- محمود رياض، المرجع نفسه، ص5، 9.
- راجع: عبدالوهاب المسيري، إشكالية التحيز (سبعة أجزاء) 1418هــ- 1998، ط.الثالثة، هيرندن -فيرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي.