هذا المقال هو محاولة للكشف عن منهج للتفكير مضى عليه سلفُنا الأوّلون من الأئمّة الكبار من أهل القرون الأولى المفضّلة. فقد صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم أنّه قال: “خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ” (صحيح البخاري). وما زلتُ منذ أكثر من عَقد شديد الاهتمام بأئمة هذه القرون الأولى ومَن لاصق عهدهم من العلماء المتقدّمين، شديد الدهشة من المناهج العلمية التي كانوا عليها، وبلاغتهم ودقّة تعبيرهم، مع عميق فهمهم للإنسان ولعلاقته بالدين والعالَم.
كنتُ وما زلتُ على يقين بأنّ الوحي الربّاني متمثّلا بالكتاب والسنّة قد صنع أمّة فريدة تمتلك منهجًا فريدًا هو أصحّ مناهج التفكير وأعمقها وأبلغها وأكثرها أُلفةً للإنسان وفطرته، وعلى هدى هذا المنهج سار أئمّة الدين الذين اغتنتْ عقولهم بالقرآن واتّسعتْ ووفرتْ، فأنتجوا من العلوم المؤسَّسة على الكتاب والسنّة ما هو حقيق بالدراسة والبثّ بين النّاس في عصرنا هذا الذي توغّلت فيه المفاهيم اللادينية، وصار الإسلام فيه غريبًا بين أهله كما قال نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم: “بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَما بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ” (صحيح مسلم).
وممّا تميّز به أئمّة أهل السنّة المتقدّمون أنّهم يعبّرون – على طريقة العرب – عن المعاني العميقة بالعبارات الوجيزة المركّزة، تركيزًا لا كتركيز الفلاسفة والمناطقة، ولكنّه تركيز بليغ، لا يشعر المرءُ معه أنّ القائل يحشر المعاني المبسوطة في عبارات ركيكة كالألغاز، كما هو صنيع المتأخّرين ممّن ابتلعوا العلوم الفلسفية والكلامية فشربوا ركاكتها وبُعدها عن البلاغة والتلقائية، بل يشرب رحيق لغتهم بسلاسة، ويبصر في كل مفردة زخمًا من المعاني والدلالات، فيقف عندها وقوف المتدبّر الذي تتكشّف المعاني لعقله وقلبه معًا.
لقد كان لدى القوم منهجهم العلمي والفكري الذي أبانوا عنه في كتبهم وأقاويلهم، وكم أسعد كلّما وقفت على نصّ من تلك النصوص القديمة محاولا الكشف عن خباياه الدفينة وعن جواهره الفكرية التي هي بمنزلة نجوم مضيئة، ليس لعصر أولئك الأئمة فحسب، بل لعصرنا هذا الموبوء بالمفاهيم الجاهلية التي تسرّبت إلى عقول المسلمين مُزيَّنَةً مُبهرَجةً تحت عناوين كاذبة من “العلم” و”العقل” و”الفكر” و”الإنسانية”، وهي في حقيقتها مضادّة لكل هذه المعاني!
وفي هذا المقال، سأعالج نصًّا وجيزًا للإمام عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعيّ (88-157 هـ) إمام أهل الشام. وقد قيل – كما ذكر الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء إنّ مولده في بعلبك، وإنّه سكن بمحلّةٍ اسمها الأوزاع، في ظاهر باب الفراديس بدمشق، ثم انتقل إلى بيروت مرابطًا بها إلى أن مات رحمه الله.
كان الإمام الأوزاعي إمامًا مجتهدًا، كثير العلم والحديث والفقه كما ذكر ابن سعد، أخذ العلم والحديث عن أئمّة التابعين. وكان أحد الأئمّة المتبوعين، له مذهب فقهي أخذ به فقهاء الشام والأندلس زمنًا. ولا أرغب في هذا المقال أن أفصّل في سيرة الإمام الأوزاعي، ولكنّي أردت الكشف عن معانٍ عظيمة مكنوزة في كلام قاله الأوزاعي حين سئل عمّا يقول في الرجلِ يسألُ الرجلَ: أمؤمنٌ أنت؟
وقبل عرض إجابة الإمام الأوزاعي رحمه الله، لا بدّ لنا من الإشارة إلى أنّ هذا السؤال متفرِّعٌ عمّا سُمّي في الكتابات العقائدية الإسلامية بمسألة “الاستثناء في الإيمان”، وخلاصتها أنّه حدث خلاف بين أهل العلم في ذلك العصر حول نسبة الرجل الإيمانَ لنفسه، فهل يقول: “أنا مؤمن” بيقين دون تحرّز؟ أم يقول: أنا مؤمن إنْ شاء الله. كانت وجهة نظر المجيزين أو الموجبين أنّه لا ينبغي للمسلم أن يشكّ في إيمانه، فشرط الإيمان أن يكون بلا شكّ. وكانت وجهة نظر المستثنين، أي الذين يقولون: أنا مؤمن إنْ شاء الله، أنّ الإيمان يشتمل على الأعمال الصالحة، وحين ينسب المسلمُ لنفسه الإيمانَ يكون في ذلك تزكية لنفسه، وحريّ به أن يستثنيَ فيَعْقد الأمر بالمشيئة تنزّهًا عن تزكية النفس، فهو يرجو أن يكون كذلك ولا يجزم تحرّزًا من الاغترار، لا شكّا بيقينه في الإيمان.
والخلاف كما يرى القارئ ناشئ عن اختلاف وجهات النظر، فأهل الرأي الذين منعوا الاستثناء في الإيمان كانوا يُعرّفون الإيمان بأنّه الإقرار والتصديق، فهو عندهم أصل الإيمان أو حدّه الأدنى ولا يشمل الأعمال، ولا يجوز أن يكون ثمّة شكّ في هذا الأصل. أما أهل الحديث فالإيمان عندهم قول وعمل: قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح. فتدخل فيه جميع حقائق الدين كما في أحاديث شُعَب الإيمان، فبعض هذه الحقائق يؤدي بطلانها إلى نقض الإيمان، وبعضها يؤدّي إلى إنقاصه. ولا أودّ التفصيل في هذا الباب، ولكني حاولت توضيح مسألة الاستثناء لفهم إجابة الأوزاعي ودلالاتها، وإلا فإنّ موضوع المقال هو أبعد شيء عن الخوض في هذه المسألة.
إنّ ما أرمي إليه في هذا المقال هو تسليط الضوء على مفاهيم مركزية كانت تمثّل قاعدة للتفكير في مسائل الدين لدى الأئمة المتقدّمين، وهذه المفاهيم المركزية نفسها تحتاج في عصرنا هذا إلى توضيح وبيان لقيمتها؛ لأنّ صورتها في هذا العصر قد شُوِّهتْ، وغدتْ دلالاتها قاصرة منحصرة في فهم ضيّق، ربّما لأنّها كانت في عصر أولئك الأئمّة الكبار من المفاهيم البدهية في الدين، فكان سؤال “لماذا” غير وارد في معظم الأحيان. أمّا في عصرنا هذا، فإنّ سؤال “لماذا” هو الذي يكشف عن قيمة هذا المنهج، وعن دقّة سلفنا من الأئمة في عباراتهم وطريقة تفكيرهم، وحيوية تناولهم لمسائل الفكر والعقل، وعُمق فهمهم للإنسان والحياة، ومدى انتباههم للأغلال والقيود التي تُكبّل العقل وتحجزه عن الفاعلية التي أرادها الله له.
ونعود إلى الإمام الأوزاعي رحمه الله، فقد قال مُجيبًا عن سؤال السائل:
“إنّ المسألة عمّا تسأل عنه بدعة، والشهادة به تَعمُّقٌ لم نُكَلَّفه في ديننا، ولم يَشرعهُ نبيُّنا، ليس لِمَن يسأل عن ذلك فيه إمام، القولُ به جَدَلٌ، والمنازعة فيه حَدَثٌ.
ولعَمري ما شهادتُك لنفسك بذلك بالتي توجب لك تلك الحقيقة إنْ لم يكن كذلك، ولا تركك الشهادة لنفسك بها بالتي تُخرجك من الإيمان إنْ كنت كذلك. وإنّ الذي يسألك عن إيمانك ليس يشُكُّ في ذلك منك، ولكنّه يريد أن ينازعَ الله تعالى عِلمَه في ذلك، حتى يزعُم أنّ علمَه وعِلمَ الله في ذلك سواء. فاصبر نفسكَ على السُّنّة، وقِفْ حيثُ وقفَ القوم، وقلْ فيما قالوا، وكُفَّ عمّا كَفّوا، واسلُك سبيل سلفك الصّالح؛ فإنّه يسعك ما وسعهم.
وقد كان أهلُ الشام في غفلة من هذه البدعة حتى قذفها إليهم بعض أهل العراق ممّن دخل في تلك البدعة بعدما ردَّها عليهم فقهاؤهم وعلماؤهم، فَأشْرِبَتْها قلوبُ طوائف منهم، واسْتَحْلَتْها ألسنتُهم، وأصابهم ما أصاب غيرهم من الاختلاف. ولستُ بآيسٍ أن يدفعَ الله تعالى شرّ هذه البدعة إلى أن يصيروا إخوانًا في دينهم، ولا قوّة إلا بالله.
ثم قال الأوزاعي: ولو كان هذا خيرًا ما خُصّصتم به دون أسلافكم، فإنّه لم يُدَّخَرْ عنهم خيرٌ خُبّئ لكم دونهم لِفَضْلٍ عندَكم، وهم أصحاب نبيّنا الذين اختارهم الله له، وبعثه فيهم، ووصفه بهم، فقال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} (الفتح: 29)”.[1]
***
هذه هي إجابة الإمام الأوزاعي، ولعلّ القارئ لها قد يشعر بأنّها إجابة مختصرة غير وافية، لقلّة سطورها وعدم احتوائها على التفصيل، أو بسبب تصريح الإمام الأوزاعي منذ بداية الإجابة ببدعيّة السؤال ذاته، واعتبار المسألة برمّتها تعمّقًا لم نُكلّفه. ولكنّ الحقيقة أنّ الإمام الأوزاعي كان يُجيب بعقلية شمولية وليست أحادية، أي أنّه لا يتقوقع على المسألة بحدّ ذاتها ويفكّر في إجابة مُرضية، بل هو يفكّر في طبيعة السؤال ومشروعيّته وعلميّته، فهو ينظر إليه نظرةً منهجية كلّية، ولا يتنازل عن الأسس والمفاهيم التي يفكر في الدين من خلالها لأجل إبداء الرأي في هذه المسألة. ولعلّنا نبدأ باستعراض هذه المفاهيم مفهومًا مفهومًا بلغة عصرية من أجل استيعاب قيمتها وأهميّتها، وكونها تشكّل معًا منهجيّة فريدة في التفكير في الدين، لا يستقيم لنا دينُنا ما لم ندرك أهميّتها ودَوْرها في بناء فهمنا الصحيح له.
وسنكتشف معًا خلال هذه القراءة أنّ المقولة الرئيسية في هذا النصّ للأوزاعيّ رحمه الله هي مقولةٌ في “العقل”؛ في بيان مجاله وحدوده ووظيفته، وهي تعبّر عن “منطق” الإسلام في بناء منهج التفكير السليم، الذي يعين الإنسان على مهمّة الاستخلاف في الأرض وتحقيق غاية وجوده.
مصطلحات تأسيسية: البدعة، التعمّق، الإمام، الجَدَل، الحَدَث
يغلبُ على عصرنا هذا أنّ كل ما نُسب إلى جذر “بدع” من ابتداع وإبداع وبديع فهو شيء جيّد مطلوب، فأحد معاني هذا الجذر الإتيان بالجديد الذي لا مثيل له، أو – كما قال ابن فارس في معجم المقاييس: “ابتداء الشيء وصُنعه لا عن مثال”. وفي عصرٍ يُمجّد كل تقدّم وتحديث وتطوير لا بدّ أن يكون “المبدع” محطّ الأنظار، فالجميع يبحث عن الجديد. ولكن في أي باب؟
هنا تمامًا يكمن الخلل المعرفي في قلب هذه الحضارة الغربية التي تُهيمن على العالَم اليوم، فقد صيّرت التحديث والتقدّم مطلوبًا في جميع المجالات، فالقديم مذموم في كلّ حال، والجديد محمود على الدوام، سواء كان في باب العلوم والتقنيات، أو في باب الشرائع والقيم والأخلاقيات.
وكنت قد كتبتُ في الماضي عن هذه النزعة في مقال بعنوان هل يساعدنا التقدّم على فهم أفضل للدين؟ (2017)، فقلت فيه:
“وفكرة التقدم هذه هي أيديولوجية معاصرة صاحبت النهضةَ الحديثةَ في العلوم، حيث كان الملاحَظ في مختلف المجالات العلمية أنّ التقدّم يؤدي إلى التحسين دوما، كما يحدث في الطبّ والهندسة والتكنولوجيا والفيزياء وغيرها من العلوم. ففي الطبّ مثلا، لا يسع أحدًا أن يعود لكتب الإغريق أو ابن سينا ويجعلها مقدَّمة على أحدث الخبرات الطبّية المعاصرة! لكنّ الشيء الذي غفل عنه هؤلاء أنّ طبيعة النصّ الديني والبحث في التراث عموما لا تنطبق عليها قاعدة التقدّم بهذا الاطّراد الذي عمّموه على كل شيء، وتحديدًا في مسائل الدين، فمصدر الدين هو الوحي، والوحي ثابت لا تغيّر فيه ولا تبديل.
ومن ثم فإنّ معرفة مضامين الوحي ومعانيه لدى الطبقة التي نزل بلغتها وفي أحداثٍ عايشتْها، والتي سمعتْ تفسيره من الرسول صلّى الله عليه وسلّم؛ تكون أكثر موثوقية من معرفتها لدى طبقة جاءت بعدها بأكثر من ألف عام، مع افتقادها للملكة اللغوية ولمعايشة نزول الوحي وللتلقّي عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم. ومن هنا تكون المعادلة مختلفة عن معادلة العلوم الطبيعية، بحيث يَلزَم الباحثَ الجادّ الذي يريد معرفة معاني الوحي أن يعود إلى الوراء بحثًا عن أنقى المصادر لمعرفة مضامين الوحي، وأيُّ قفزة تقدّمية إلى الأمام هي في هذا السياق قفزةٌ غير موضوعية ولا تُفضي إلى معرفة أصيلة وجادّة”.[2]
وقد رويَ عن ابن مسعود رضيَ الله عنه كما في جامع معمر بن راشد أنّه قال: “أَصْدَقُ الحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنُ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرُّ الأُمورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ”.
وابن مسعود قد تعلّم هذا الكلام من الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فقد روي عنه أنّه كان يقول إذا خطب: “أَمَّا بَعْدُ؛ فإنَّ خَيْرَ الحَديثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرُ الهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بدْعَةٍ ضَلَالَةٌ” (صحيح مسلم).
وروي عن ابن مسعود نفسه أيضًا كما في الآثار لأبي يوسف القاضي عن أبي حنيفة، عن حمّاد، عن إبراهيم: “أنّ ابن مسعود رضيَ الله عنه قال في غَسْل الدُّبُر والذَّكَرِ: “بِدعةٌ، ولَنِعْمَ البِدعة”.
وقد يبدو هذا تناقضًا من ابن مسعود رضيَ الله عنه، ولكنّه في الواقع ليس كذلك؛ ففي الرواية الأولى يتكلّم عن المحدَثات التي تأتي في مضاهاة ما في كتاب الله سبحانه وهدْي نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، فهي كالزيادة في الدين. وما في الكتاب والسنّة هو إخبار بغيوب وشرائع مفروضة، فأيُّ إنباء بغيبٍ بغير هدى من كتاب أو سنّة أو أيُّ تشريع بغير ما أنزل الله عزّ وجلّ في كتابه أو على لسان نبيّه صلّى الله عليه وسلّم فهو في الواقع: بدعة، وهي مذمومة لأنّها لا تستندُ إلى شيءٍ من الوحي ولا من أدلّة العقل، ذلك أنّ مجال هذه المضامين ليس ممّا يدركه العقل؛ فهو غير قادر على التوصّل إلى الغيب المحجوب من تفاصيل الاعتقاد بغير المصادر المعصومة، وهي الكتاب والسنّة، كما أنّه لا يستطيع التشريع وفرض القيم الصالحة لكل زمان ومكان لقصوره وجهله وابتلائه بالهوى والضعف والمصالح المتضاربة للبشر، ولأجل ذلك كان كلّ ابتداعٍ لعقائد مزعومة أو تشريعات أو قيم واجبة بغير مستنَدٍ من الوحي: بدعة مذمومة.
أما في الرواية الثانية فلئن كان الفعل حديثًا وغير معهود، فهو مبنيٌّ على شريعةٍ ثابتةٍ تدعو إلى التنزّه من البول والبراز، وهو في الوقت نفسه معقول المعنى ليس من العبادات المحضة ولا إخبارًا بعقائد جديدة ولا تشريعًا لقيم واجبة جديدة، ومن هذا الباب كان “بدعة” بالمعنى اللغوي لكونه وسيلة جديدة إلى تحقيق هذه الأحكام والقيم المنقولة في الشريعة، وكانت محمودة لأجل ذلك.
وهذا التفريق هو المدخل إلى فهم خطورة “البدعة”، وإلى فهم سائر المصطلحات التي ذكرها الأوزاعي في إجابته حين قال: “إنّ المسألة عمّا تسأل عنه بدعة، والشهادة به تَعمُّقٌ لم نُكَلَّفه في ديننا، ولم يَشرعهُ نبيُّنا، ليس لِمَن يسأل عن ذلك فيه إمام، القولُ به جَدَلٌ، والمنازعة فيه حَدَثٌ”.
فهي “بدعة”: لأنّها تتعلّق بمفهوم “الإيمان” الذي فصّل الوحيُ كلّ شيء فيه، ولم يفرض الله على المؤمنين أن يسألوا بعضهم بعضًا: أمؤمنٌ أنت؟ فهذا السؤال وما ينتج عنه من إجابة بالنفي أو الإيجاب “تَعَمُّق” ليس من تكاليف الدين، وهنا نجد أنّ الإمام الأوزاعي يبسط مفهوم هذه البدعة ويوضّح مفاصله، فمن خصائصها هنا أنّها تعمّق وزيادة على المُكلَّف به، ولاحقا سيخبرنا الأوزاعي كيف أنّ هذه الزيادة لا تأتي بنفع وخير، بل تؤدّي إلى الخلاف والتناحر والمسّ بمفهوم “الأخوة” الذي هو مفهوم أساسي في الدين.
ثم يأتي مفهوم “الإمام” ليؤكّد أنّ الأصل في الدين الاتّباع، وهو يؤكّد فيه قوله قبل ذلك في الجملة نفسها: “ولَم يَشرعه نبيُّنا”؛ فكما أنّنا نصلّي خلف الإمام ونتّبعه، فكذلك نفعل في تلقّي تكاليف الدين. فلقد جاء الوحي ابتداءً ليصحّح مفاهيم البشر حول الغيب وحقيقة الله والإنسان والآخرة، وتضمّنَ شريعةً حاكمة فاصلة ليتّبعها من يرجو تحقيق غاية الوجود الإنساني والنجاح في الابتلاء الدنيوي والفلاح في الآخرة، فالوحي بجميع تجلّياته من كتاب وسنّة وما دلّ عليهما من إجماع وغيره هو “الإمام” بالنسبة إلى المسلم. ومسألة الإيمان هي في لبّ الدين وجوهره، ولا يمكن أن يخترع لها المسلمون مسائل من عقولهم القاصرة، فهذا يناقض أحد أسس الدين، وهو أنّ مصدر التلقّي لمعرفة معالم الدين والتكاليف فيه هو الوحي وما بُني عليه وليس العقل أو أي مصدر بشري آخر.
بعد ذلك يأتي وصف هذا القول بأنّه “جَدَلٌ”، ويقول ابن فارس في المقاييس عن أصل مادة “جدل”: “الجيمُ وَالدَّالُ وَاللَّامُ أَصْلٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ مِنْ بَابِ اسْتِحْكَامِ الشَّيْءِ فِي اسْتِرْسَالٍ يَكُونُ فِيهِ، وَامْتِدَادِ الْخُصُومَةِ وَمُرَاجَعَةِ الْكَلَامِ”. فصفة الجَدَل أنّ فيه استرسالا وامتدادًا للخصومة، فهذا يقول كذا، والآخر يردّ عليه، ولا ينحسم الأمرُ مع استمرار الخصومة لعدم انبنائه على أسس التفكير السليم كما ذكرنا وكما سيتأكّد خلال المقال.
لقد نشأت هذه المسألة التي تتعلّق بالإيمان مُخالِفةً لأحد الأسس التي قام عليها الدين كما ذكرنا، وهو أساس الاتّباع. وهنا تظهر دقّة هذه المسألة وسبب حساسية السلف لكل مسألة مبتَدَعة لم تكن ممّا جاء به الوحيُ كما تلقّوه من الكتاب والسنّة؛ ذلك أنّهم يدركون بسعة عقولهم أنّ هذا هو أول الأسباب التي تجعلها مسألة غير محسومة، فهي من جهة تتطرّق إلى مفهوم ديني، أيْ مفهوم لا يمكن للعقل أن يصل إليه وحدَه بل يحتاج فيه إلى الوحي، وهي من جهة أخرى بغير “إمام”، أي لم يَرِدْ في بيانها أو القول فيها كتابٌ أو سُنّةٌ أو أَثَرٌ مرتبطٌ بالوحي، ومن هنا تكمن خطورتها، ومن هنا ينشأ “الجدل”، أي أنّها ستظلّ مستمرّة بغير حسم مع الخصومة، فهذا يقول ما يتصوّره حجّة، وذاك يردّ عليه بما يتصوّره ردّا مفحِمًا، وهكذا.. تظلّ الأقوال تنجدل بغير حسم إلى يومنا هذا، ويظل كل فريق متمسّكًا بصحّة رؤيته في المسألة!
وقد ذمّ الله الجَدَل بهذا المعنى في كتابه فقال سبحانه: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا} (الكهف: 54). وقال عزّ وجلّ: {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} (الزخرف: 58).
وهكذا يتحوّل الخوض في هذه المسألة إلى “منازعة” بين المسلمين هي في واقعها “حَدَث”، وهو آخر المصطلحات في الفقرة أعلاه، ومن خلاله يؤكّد الإمام الأوزاعي على أساس المشكلة، وهو أنّها “حادثة” في الدين، والدين قد تمّ واكتمل بنزول القرآن وببيانه من السنّة، ومسألة “الإيمان” هي مسألة من أصل الدين، ولا تنتظر عقولًا قاصرة لتخترع لها قضايا جديدة وتكاليف مُحْدَثَة! وهنا يقدّم لنا الإمام الأوزاعي المعيار الأوّل لمنهجية التفكير في مسائل الدين، وهو أنّ كلَّ ما لم يُبيَّن في عصر النبوة فالخوض فيه مذموم. يقول الإمام محمد بن إبراهيم الوزير (775-840 هـ) موضّحًا هذه القاعدة في كلام نفيس:
“وقد أجمعت الأمة على أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فكلّ ما لم يُبيّن من العقائد في عصر النبوة فلا حاجة إلى اعتقاده، ولا الخوض فيه والجدال والمراء، سواء كان إلى معرفته سبيل أو لا، وسواء كان حقًّا أو لا، وخصوصا متى أدّى الخوض فيه إلى التفرّق المنهيّ عنه، فيكون في إيجابه إيجاب ما لم يُنصّ على وجوبه، وإنْ أدّى إلى المنصوص على تحريمه، وهذا بيّن الفساد”.[3]
وكلام ابن الوزير النفيس هذا يؤكّد الملحَظ المهم الذي أكّد عليه الأوزاعي في مستهلّ إجابته. كما يؤكّد آثار هذا الجدل والخصومة السلبية على مفهوم الأخوّة كما قال الأوزاعي: “ولستُ بآيسٍ أن يدفعَ الله تعالى شرّ هذه البدعة إلى أن يصيروا إخوانًا في دينهم”.
مفاهيم النفع والجدوى والعمل
وبعد أن يؤكّد الإمام الأوزاعي بدعيّة هذه المسألة، أي مخالفتها لأحد الأسس التي بُني عليها الدين وهو أساس الاتّباع؛ يبيّن أيضًا مخالفتها لأساس آخر، وهو أنّها عديمة النفع والجدوى، لا يُبنى عليها عمل مفيد للإنسان في دنياه وآخرته. وقد ألمح في الفقرة السابقة إلى أنّ هذه الشهادة بالإيمان من عدمه “تَعَمُّقٌ لم نُكلّفه في ديننا”، فهل كان هذا التعمّق نافعًا لنا فضلا عن كونه مُحدَثًا ولا ذِكْرَ له في الوحي؟
لقد كانت تكملة كلام الأوزاعي في الواقع إجابة عن هذا السؤال، فقد قال رحمه الله: “ولعَمري ما شهادتُك لنفسك بذلك بالتي توجب لك تلك الحقيقة إنْ لم يكن كذلك، ولا تركك الشهادة لنفسك بها بالتي تُخرجك من الإيمان إنْ كنت كذلك”.
إنّه يقول بكلمات أخرى: الإيمان تكليف، والله عزّ وجلّ هو الذي بيّن لنا حدود هذا التكليف وموجباته وشُعَبه فيما نزل من الوحي وبيّنته السنّة الشريفة، ومن ثمّ فإنّ الله عزّ وجلّ هو الذي يحكم على عباده الذين يشهدون له بالألوهية ولنبيّه صلّى الله عليه وسلّم بالرسالة بصحّة إيمانهم في ذوات أنفسهم، لا هم أنفسهم. إنّ دَورهم هم أنّ يقيموا حقائق الإيمان وتكاليفه في قلوبهم وجوارحهم، ومن هنا يكون خوض الإنسان في الحكم على إيمانه هو ذاته خوضًا خارج دَوْر الإنسان ووظيفته في هذه الحياة.
إنّ الذي يدرك طبيعة هذا الدين، وأنّه في واقعه يجيب – مِن بين ما يجيب عليه – عن غاية وجود الإنسان ومعالم الطريق الواصل إلى تحقيق هذه الغاية، يعلم تمامًا أنّ كلّ خوض في الدين لا يحقّق هذه الغاية ولا يمتّ إليها بصلة هو خوضٌ فيما لا نفع فيه ولا جدوى. وكأنّ الإمام الأوزاعي يقول لنا: هبْ أنّك قلت “أنا مؤمن” وصرت واثقًا من هذا الحكم، فهل تؤدّي ثقتك هذه إلى اتّصافك بالإيمان المُنجي حقيقةً؟ وهل لو تركتَ الشهادة لنفسك ستخرج من الإيمان بتركك هذا؟
إنّ الحقيقة التي يؤكّد عليها الأوزاعي أنّه لا جدوى ولا نفع لكل هذا الخوض، فهو إشغال للعقل في مسائل خارج حدود إمكانياته ووظيفته في هذا العالَم. إنّ وظيفته أن يفكّر في الأشياء التي ينبني على التفكير فيها عملٌ نافع في دنياه أو آخرته، أما بذل الفكر في شيء ينتهي إلى اللاجدوى فهو بذل لا معنى له، يُرهق العقلَ ويعطّله عن التفكير النافع المثمر.
يقول الإمام أبو إسحاق الشاطبي (ت 790 هـ) رحمه الله: “كلّ مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها خوض فيما لم يدلّ على استحسانه دليلٌ شرعي، وأعني بالعمل عمل القلب وعمل الجوارح من حيث هو مطلوب شرعا. والدليل على ذلك استقراء الشريعة: فإنّا رأينا الشارع يُعرض عمّا لا يفيد عملا مكلّفا به”.[4]
حدود العلم الإنساني
يقول الإمام الأوزاعي بعد ذلك: “وإنّ الذي يسألك عن إيمانك ليس يشُكُّ في ذلك منك، ولكنّه يريد أن ينازعَ الله تعالى عِلمَه في ذلك، حتى يزعُم أنّ علمَه وعِلمَ الله في ذلك سواء”.
ونحن نرى هنا كيف كان إدراك الإمام الأوزاعي لحدود العقل ودوره وطبيعته إدراكًا يجعله يتفوّق بمنهجية التفكير التي يحملها على الفلاسفة والمتكلّمين الذين خاضوا بعقولهم القاصرة في مسائل لا يمكنهم الحسم فيها ولا يُبنى عليها عمل، فأنتجوا أطنانًا من الفكر الذي يشغل الضمير الإنساني في متاهات اللاجدوى وسراديب الجدل الذي لا ينتهي. ولهذا نجد الإمام الشافعي (150-204 هـ) رحمه الله يقول: “إنّ للعقل حدَّا ينتهي إليه، كما أنّ للبصر حدًّا ينتهي إليه”.[5]
وحين يخرج العقل عن حدّه هذا، ويخوض فيما لا يمكنه البتّ فيه وحْدَه من مسائل الغيب والشرائع؛ نجده يتخبّط في مسائل كثيرة لا تنفع الإنسان بل تُهدر طاقته الفكرية التي وهبه الله، وهو في ذلك كالمُبصر الذي يعاند حقيقة أنّه لا يرى بغير ضوء، فيغوص في الكهوف المظلمة في أعماق المحيطات بغير مصباح، ثم يرجو أن يصل إلى شيء!
ولقد أدرك الأوزاعي أن منطلق الانحراف عند هؤلاء أنّهم يريدون منازعة الله في علمه، فهم يريدون معرفة كلّ شيء تقريبًا، يريدون الخروج بالتفكير البشري إلى العلم الشامل الذي هو من صفات الله سبحانه، فيعاندون بذلك حقائق العجز والقصور والضعف والجهل التي يتّصف بها العقل الإنساني. وهم في هذا ماضون على طريق الفلاسفة القدماء الذين حاولوا بعقولهم معرفة كُنه الأشياء التي لا سبيل لهم إلى معرفتها بعقولهم القاصرة، فجاؤوا بالمُضحكات كما يعلم أيّ مطالع لتاريخ الفلسفة القديمة وخوضها في مسائل الإلهيات.
ولقد كان منهج التفكير القرآني الذي تربّى عليه الأوزاعي مخالفًا لهذا التناول المنفلت من كل إدراك لطبيعة العقل، فهو مدرك تماما لما يمكن للعقل أن يتداوله من النظر في المحسوسات، وما يحتاج فيه إلى الوحي من أبواب الغيب المجهول والقيم والشرائع لينال المعرفة الحقيقية النافعة. ومن هذا الإدراك الواضح في ذهنه كان يعلم متى يخرج العقل عن وظيفته الملائمة لطبيعته الفطرية، ومتى يحاول أن يشرئبّ بغير جدوى إلى العلم بأشياء هي من اختصاص العلم الإلهي.
قال سبحانه: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا} (الإسراء: 36). وقال عزّ وجلّ في أهل الكتاب: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (آل عمران: 66). ولم تأتِ هذه الآية في كتاب الله لتسرد لنا ما فعل أهلُ الكتاب أو لتُحاججهم فحسب، ولكنها جاءت لتكون إلى جانب ذلك درسًا لنا نحن في ألا نُحاجج بغير علم، وفي أن ندرك بأنّ العلم الإنسانيّ لا يمكن له أن يخترق حدوده ويصل إلى علم الله، فالله سبحانه الذي يعلم ما كان عليه إبراهيم من دين، وهو الإسلام، هو كذلك الذي يعلم ما في قلوب النّاس، ومَن آمن حقّا أو كان إيمانه مجرّد قول، ويعلم كامل الإيمان ممّن دخل السقم والدَّخَن إلى إيمانه، ولا سبيل لكم إلى هذا الباب فهو محظور على عقولهم وليس من اختصاصها.
****
لقد كان الأوزاعي في الواقع يرسم لنا في إجابته الوجيزة هذه حدود العقل بمفهومه القرآني، فهو العقل الذي حين يفكّر في الدين يعرف أنّ دوره الاتّباع والاجتهاد على أساس الوحي لا ابتداع مسائل عقدية جديدة وتكاليف جديدة. وهو العقل الذي ينظر في مآلات الأمور ونتائجها وثمارها، ويبحث عن الفائدة والجدوى والعمل النافع. وهو العقل الذي يدرك حدود وظيفته في هذه الحياة وحدود قدراته فلا يتعدّاها، ولا يطمع بأن يصل إلى العلم الذي هو من اختصاص الله سبحانه وتعالى.
وبهذه القراءة الواعية لإجابة الإمام الأوزاعي رحمه الله ومنطلقاتها نفهم وصاياه التي تبدو تقليدية كقوله بعد ذلك: “فاصبر نفسكَ على السُّنّة، وقِفْ حيثُ وقفَ القوم، وقلْ فيما قالوا، وكُفَّ عمّا كَفّوا، واسلُك سبيل سلفك الصّالح؛ فإنّه يسعك ما وسعهم”. وكقوله: “ولو كان هذا خيرًا ما خُصّصتم به دون أسلافكم، فإنّه لم يُدَّخَرْ عنهم خيرٌ خُبّئ لكم دونهم لِفَضْلٍ عندَكم”. فلم يكن هذا منه انغلاقًا وتحجّرًا على عقول السلف الماضين كما يقول بعض الجهلة في عصرنا هذا، بل كان وعيًا سبّاقًا يدرك قيمته وأسبقيّته مَن طالع رُكام الفلسفات والتصوّرات التي خاضت في هذه المسائل وما شابهها بغير علم أو هدى أو كتاب منير.
الهوامش:
- أبو بكر الآجُرّي، كتاب الشريعة، تحقيق: عبد الله بن عمر الدميجي (الرياض: دار الوطن للنشر، 1418 هـ – 1997 م)، 2: 673-675.
- عن مقال: هل يساعدنا التقدّم على فهم أفضل للدين بتصرّف يسير، نُشر على موقع “السبيل”، بتاريخ 27.10.2017.
- محمد بن إبراهيم الوزير، إيثار الحقّ على الخلق في ردّ الخلافات إلى المذهب الحقّ من أصول التوحيد، تحقيق: عبد الله بن محمد اليمني (الرياض: دار الصميعي، 1437 هـ – 2016 م)، 1: 592.
- أبو إسحاق الشاطبي، كتاب الموافقات، تحقيق: الحسين أيْت سعيد (فاس: منشورات البشير بنعطية، 1438 هـ – 2017 م)، 2: 69-70.
- أحمد بن الحسين البيهقي، مناقب الشافعي، تحقيق: أحمد صقر (القاهرة: دار التراث، 1970)، 2: 187.