لا تقتصرُ المعاركُ قديمًا وحديثًا على التَّلاحُمِ المَيْدانيِّ، الَّذِي يَبذلُ فيه الأبطالُ نفائسَ المُهَجَ، وهم يَستنشِقُونَ ثَوائِرَ الرَّهَجَ، وتلفحُ وُجوهَهم جَواحِمُ الوَهَجِ، ويُرابِطونُ يَقْظَى على الثُّغورِ حِفاظًا عليها، فكلَّما سمعَ أحدُهُمْ هَيْعَةً طارَ إليها، وكلَّما وَقعتْ غارةٌ جَبانةٌ لم تَطِرْ نفسُهُ شَعاعًا، بل قالَ لها: وَيْحَكِ لَنْ تُراعِي، ولكنَّ هناكَ ظهيرًا أدبيًّا وإعلاميًّا بالغَ الخُطورةِ، فقد كانتِ اللغةُ ولا تزالُ تُسجِّلُ حُضورًا مُهمًّا في الاشتباكِ بالمُفرداتِ مع العَدُوِّ، وهو تلاحُمٌ أدبيٌّ له من الأثرِ في نفوسِ الأعداءِ ما لهُ، ولأجلِهِ دعا النَّبيُّ الشُّعراءَ من أصحابِهِ إلى مُهاجاةِ المُشْرِكينَ، فقد روى الإمامُ مُسلمٌ في صحيحِهِ من حديثِ عَائِشَةَ، رضي الله عنها، أَنَّ رَسُولَ اللهِ قالَ: «اهُجُوا قريشًا؛ فإنَّهُ أشَدُّ عَليهمْ مِنْ رَشْقٍ بِالنَّبْلِ»، فَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ رَوَاحَةَ، فَقَالَ: «اهْجُهُمْ»، فَهَجَاهُمْ، فَلَمْ يُرْضِ، فَأَرْسَلَ إِلَى كَعْبِ بنِ مَالِكٍ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى حَسَّانِ بنِ ثَابِتٍ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ، قَالَ حَسَّانٌ: قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تُرْسِلُوا إِلَى هَذَا الأَسَدِ الضَّارِبِ بِذَنَبِهِ، ثُمَّ أَدْلَعَ لِسَانَهُ، فَجَعَلَ يُحَرِّكُهُ. فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ! لَأَفْرِيَنَّهُمْ بِلِسَانِي فَرْيَ الأَدِيمِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : «لَا تَعْجَلْ؛ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ أَعْلَمُ قُرَيْشٍ بِأَنْسَابِهَا، وَإِنَّ لِي فِيهِمْ نَسَبًا، حَتَّى يُلَخِّصَ لَكَ نَسَبِي»، فَأَتَاهُ حَسَّانٌ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! قَدْ لَخَّصَ لِي نَسَبَكَ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ! لَأَسُلَّنَّكَ مِنْهُمْ كَمَا تُسَلُّ الشَّعْرَةُ مِنَ العَجِينِ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ لِحَسَّانٍ: «إِنَّ رُوحَ القُدُسِ لَا يَزَالُ يُؤَيِّدُكَ، مَا نَافَحْتَ عَنِ اللهِ وَرَسُولِهِ».
ولَسْتُ أتحدَّثُ في هذهِ الخاطرةِ عن دَوْرِ الكلمةِ عامَّةً في المعاركِ، فهذا بابٌ فسيحٌ قُدِّمَتْ فيه عَشراتُ الكُتبِ ومئاتُ المَقالاتِ، وإنَّما أركِّزُ على تَسميةِ المَعاركِ إجمالًا والأسلحةِ تفصيلًا، فالأسماءُ بِدلالاتِها الثريَّةِ، سواءً لِلمُقاتلينَ أو لِلمَعاركِ أو لِلأسلحةِ لها وَقْعُها المؤكَّدُ في تثبيتِ نفوسِ المُقاتلينَ، وترهيبِ الأعداءِ المُجرمينَ، وهو بابٌ من أبوابِ الحربِ النَّفسيَّةِ التي لا يُنْكَرُ أثرُها، فقديمًا سُئِلَ أبو الدُّقَيْشِ الأعرابيُّ: «لِمَ تُسَمُّونَ أبناءكَم بِشَرِّ الأسماءِ، نحو: كلب وذئب، وعبيدَكم بأحسنِها نحو: مَرزوق ورباح؟ فقال: إنَّما نُسَمِّي أبناءَنا لأعدائِنا، وعَبيدَنا لأنفُسِنا». وفي اللِّسانيَّاتِ الحديثةِ تحوَّلَتِ التَّسميةُ إلى علمٍ مُستقلٍّ يُسمِّيهِ الغربيُّونَ (Onomastics)، وقد اصْطُلِحَ عَلَى تَرْجَمَتِهِ في العَربيَّةِ بـ “علم الأسمائيَّة”.
= فأمَّا عن تَسميةِ المَعاركِ، فإنَّ لها أثرًا مُهمًّا في رَسمِ صُورةِ المَشهدِ الحربيِّ، وتوقُّعِ مَآلاتِهِ، كما أنَّها تعكسُ تَصوُّرَ كلِّ طرفٍ للمعركةِ، وأهدافَه منها، وهي ظاهرةٌ مرصودةٌ منذُ العصرِ الجاهليِّ، الذي شَهِدَ ما يُعرَفُ بأيَّامِ العربِ، مثل: يومِ (بُعاث) ويومِ (ذي قار)، ويومِ (أوارة) وغيرِها، وفي الإسلامِ سمَّى اللهُ يومَ بدرٍ بيومِ (الفُرقانِ)؛ لأنَّه فرَّقَ فيه بينَ الحقِّ والباطلِ، كما حَملتِ المَعاركُ الكُبرى في الإسلامِ أسماءً خالدةً، جاءَ أكثرُها نِسبةً إلى المكانِ الذي وقعتْ فيه، مثلَ: اليرموك، والقادسيَّة، والزلَّاقة، وحطِّين، وعين جالوت… وغيرِها.
وفي سياقِ الصِّراعِ المُزمِنِ مع الصُّهيونيَّةِ العُنصريَّةِ البغيضةِ، وبعدما أدارَ العربُ والمسلمونَ ظهورَهم لإخوانِهم في العُروبةِ والدِّينِ، وجَثَوْا على الرُّكَبِ أمامَ الصَّهاينةِ المُجْرمينَ، فلم نَعُدْ نسمعُ عبارةَ: الصِّراعِ العربيِّ الإسرائيليِّ، بلْ تحوَّلتْ إلى الصِّراعِ الفلسطينيِّ الإسرائيليِّ، وقد اضطلعتِ المقاومةُ الباسلةُ بهذا العِبْءِ الكَبيرِ، وبعدَ انسحابِ العَدُوِّ صَاغرًا من غزَّةَ العزَّةِ عام 2005م نشبتْ عدَّةُ جَولاتٍ من الصِّراعِ، استعانتْ فيها المقاومةُ بأسماءٍ ذاتِ دَلالةٍ إسلاميَّةٍ تُوضِّحُ هُويَّتَها، فقابَلَها المُحتلُّ بأسماءٍ ذاتِ دلالةٍ انتقاميَّةٍ إجراميَّةٍ لم تغبْ عنهُ طِيلةَ تاريخِهِ الأسْوَدِ، فقد وقعتْ جولةٌ أواخرَ عامِ 2008م، واستمرَّتْ حتَّى ينايرَ 2009م وقد سمَّتْها المقاومةُ: (حرب الفرقان)، بينما سمَّاها المجرمونَ: (الرَّصاص المصبوب)، ثم جولةٌ عامَ 2012م، التي سمَّاها الأبطالُ: (حجارةُ السِّجِّيل) بينما سمَّاها الأنجاسُ: (عامود السَّحاب)، ثُمَّ جولةٌ عامَ 2014م، التي سمَّاها المجاهدونَ: (العَصْفُ المأكول)، بينما سمَّاها السَّفَّاحونَ: (الجرف الصَّامد)، ثُمَّ جولةٌ عامَ 2019م، التي سمَّاها أولياءُ اللهِ: (صَيْحة الفجرِ)، ولم أقفْ على تَسميةِ أعداءِ اللهِ لها، ثُمَّ جولةٌ عامَ 2021م، التي سمَّاها الصَّناديدُ: (سيف القدس)، بينما سمَّاها المَلاعينُ: (حارس الأسوار)، وأخيرًا الملحمةُ العُظمَى الجاريةُ حاليًا منذُ السَّابعِ من أكتوبر عامَ 2023م حتَّى السَّاعةِ، والتي سمَّاها الأبطالُ: (طوفان الأقصى)، بينما يُسمِّيها القَتَلَةُ: (السُّيوف الحديديَّة).
= وأمَّا عن تَسميةِ الأسلحةِ، فقد كانَ من الإعجازِ الذي حقَّقتْهُ المقاومةُ أنَّها شَرعتْ -على الرَّغمِ من الحِصارِ الخَانقِ، وتخلِّي جُلِّ الظَّهيرِ العربيِّ والإسلاميِّ عنها- في صناعةِ سلاحِها بأيديها، وهو ما تقفُ مُعظمُ الدُّولُ العربيَّةُ والإسلاميَّةُ (المُحتلَّةُ حُكمًا) عاجزةً عنه، فحقَّقتْ بهذا السِّلاحِ المُتواضِعِ من النَّاحيةِ التقنيَّةِ تَوازُنًا في الرُّعبِ؛ وإنْ لم يصلْ بعدُ إلى درجةِ التَّوازُنِ في الرَّدعِ، وهو ما حملَ يومًا بعضَ السُّفهاءِ المُنبَطِحينَ على وصفِ صواريخِ المقاومةِ بأنَّها صَواريخُ عبثيَّةٌ، على نحو ما فَاهَ بهِ الهَالِكُ المَأفونُ مَذموم عبَّاس، المَنزوعُ اللِّباسِ، وإنْ تَعجبْ فَعَجبٌ أنْ تتمكَّنَ -معَ الفارقِ الهائلِ في مَوازينِ القُوى- من الصُّمودِ لأكثرَ من سبعةِ أشهرٍ حتَّى الآنَ، على حينَ لم تَصمدْ دولٌ عربيَّةٌ أمامَ الكيانِ المُجرمِ لأكثرَ من ستَّةِ أيَّامٍ، وكأنَّنا نراهمْ رأيَ العينِ يُطبِّقونَ قولَه تعالَى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ).
والاستعانةُ بأسماءٍ عربيَّةٍ للأسلحةِ أمارةٌ من أماراتِ الاستقلالِ والاعتمادِ على النفسِ، فعندما بدأ استيرادُ الأسلحةِ الحديثةِ سارعَ اللغويُّونَ إلى وضعِ أسماءٍ عربيَّةٍ لها، سواءً بالابتكارِ التَّامِ، أو استدعاءِ اسمٍ قديمٍ لِتنزيلِهِ على الأداةِ الحَديثةِ، أو الترجمةِ، أو التعريبِ، أو النَّحتِ وغيرِها، وكلُّها أعمالٌ تستحقُّ الإشادةَ والتقديرَ، ولولا تلك الجهودُ المشكورةُ ما رأينا هذه الأسماءَ العربيَّةَ: بندقيَّة، مسدَّس، رشَّاش، مِدفع، دبَّابة، مُدرَّعة، فرقاطة، مُدمِّرة، بارجة، طرَّاد، طائرة، صاروخ، قاذفة، مُقاتلة، نفَّاثة، مروحيَّة، حوَّامة، مُسيَّرة… وغيرها، لكنَّ هذا الجهدَ المُباركَ تراجعَ مؤخَّرًا، وتعثَّر وتبعثرَ؛ ممَّا أدَّى إلى فوضَى في المُصطلحِ، فقد تَعِبْتُ أثناءَ التَّحريرِ المُعجميِّ في التفريقِ الاصطلاحيِّ بين دَلالةِ وصفِ الصَّواريخِ بالعابرةِ والموجَّهةِ والجوَّالةِ والمُجنَّحةِ والمُتسكِّعةِ، وكلُّها صفاتٌ تتردَّدُ في سياقاتٍ استعماليَّةٍ اليومَ!
وإن تَكُنِ المُقاومةُ قد جذبتْ أنظارَ العالمِ بتصنيعِها تلكَ الترسانةَ الخارقةَ للعادةِ من الصواريخِ والقذائفِ، فإنَّها جذبتْ أنظارَ اللُّغويّينَ إلى هذا التفنُّنِ في ابتكارِ أسماءٍ عربيَّةٍ مُعبِّرةٍ، ذاتِ دَلالاتٍ رمزيَّةٍ فائقةٍ، حتَّى إنَّه لَيمكنُ وصفُها باللُّغةِ المُقاتِلَةِ، إذْ وقعتْ تلكَ الأسماءُ من عُقولِ المُتلقِّينَ مَوقعَ الماءِ الباردِ من الظمآنِ، كما وقعتْ آثارُها المَيدانيَّةُ موقعَ التقديرِ والامتنانِ. ويمكنُ أن نُصنِّفَ أسماءَ تلكَ الأسلحةِ في ثلاثِ مَجموعاتٍ:
الأولى:
أسماءٌ مأخوذةٌ من القرآنِ الكريمِ نَصًّا أو اشتقاقًا، فالمقاومةُ عملٌ بطوليٌّ، يَتَّكِئُ على أُسسٍ دينيَّةٍ جِهاديَّةٍ راسخةٍ، تَعُدُّ مُجاهدةَ أعداءِ اللهِ ذِروةَ سنامِ الإسلامِ، فلا جرمَ أنْ تكونَ أكثرُ أسلحةِ المقاومةِ ذاتَ خلفيَّةٍ قرآنيَّةٍ، أكتفي بذكرِ خمسةٍ منها:
1. شُواظ: وهي عبوَّةٌ ناسفةٌ مُضادةٌ للآليَّاتِ العسكريَّةِ بأنواعِها، وقد رأيناها تجعلُ دبَّابةَ (المِرْكافاه) -التي طالما فاخرَ بِها المُجرمونَ- هَباءً مَنْثورًا، وهي تسميةٌ قرآنيَّةٌ مأخوذةٌ من قولِه تعالَى: (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ)، والشُّواظُ هو اللَّهبُ الشَّديدُ الذي لا دُخانَ فيه، وختامُ الآيةِ: (فَلا تَنْتَصِرانِ) شديدُ الإيحاءِ بأملِ أولياءِ اللهِ في المعركةِ.
2. سِجِّيل: وهو صَاروخٌ أرضِيٌّ مُتوسِّطُ الَمدى، وقد استخدمَتْهُ المقاومةُ في حربِ (العصفِ المأكولِ)، واسمُه مأخوذٌ من قولِه تعالى: (تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ)، والسِّجِّيلُ هو الطِّينُ المُتحجِّرُ، والتَّناغُم بين اسمِه واسمِ المعركةِ بالغُ الوُضوحِ، وكلاهُما من سورةِ (الفيل) التي تقصُّ نهايةَ أصحابِ الفيلِ، علمًا بأنَّ المقاومة تَستخدمُ مُسيَّرَةً اسمُها (أبابيل).
3. رُجوم: وهي صواريخُ قصيرةُ المَدى، استخدمَتْها المُقاومةُ كثيرًا في الحربِ الحاليَّةِ، واسمُها مأخوذٌ من قولِهِ تعالَى: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُومًا لِلشَّياطِينِ)، والرُّجومُ: جمعُ رَجْمٍ، وهو ما يُرجَمُ به من الحجارةِ ونحوِها، وكأنَّ تلك التسميةَ تسقطُ المشهدَ القرآنيَّ بأسْرِهِ، فتعدلُ اليهودَ بالشَّياطينِ، وتُنذرُهمْ لاحقًا بعذابِ السَّعيرِ.
4. مُتبِّر: وهو صاروخٌ مُضادٌّ للطَّائراتِ، استخدمَتْهُ المقاومةُ في الحربِ الحاليَّةِ، واسمُهُ مُشتقٌّ من فعلِ التَّتبيرِ الذي وردَ في بيانِ عاقبةِ بني إسرائيلَ، في قوله تعالى: (وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا)، والتَّتبيرُ هو التَّدميرُ الشَّديدِ، والكلمةُ من سورةِ الإسراءِ أو بني إسرائيلَ، وقد وَعَدَ فيها الملكُ الجليلُ عبادَه ذوي البأسِ الشَّديدِ بدخولِ المسجدِ الأقصى، وتتبيرِ ما عَلاهُ المجرمونَ، نسألُ اللهَ أنْ يُحْيِيَنا حتَّى تقرَّ أعينُنا بِتحقُّقِ وعدِهِ الذي لا يُخْلَفُ.
5. هُدهُد: وهي مُسيَّرةٌ استطلاعيَّةٌ، استخدمَتْها المقاومةُ في الحربِ الحاليَّةِ، واسمُها مأخوذٌ من قصَّةِ الهُدهدِ مع سليمانَ عليه السَّلامُ، حيثُ قالَ له: (أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ)، والهُدهُدُ يُضربُ به المثلُ في الاهتداءِ وقوَّةِ البَصرِ، فيقال: (أبْصَرُ من هُدهدٍ)، وقد رُوِيَ عن ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أنَّه قَالَ: «كَانَ الهُدْهُدُ يَدُلُّ سُلَيْمَانَ عَلَى المَاءِ»، وهي تسميةٌ بالغةُ الدقَّةِ في وصفِ عملِ تلك المُسيَّرةِ الاستطلاعيَّةِ.
الثانية:
أسماءٌ ذاتُ دلالةٍ وصفيَّةٍ تفاؤليَّةٍ، ترتبطُ بمعاني الفتحِ والنَّصرِ والتَّمكينِ والقوَّةِ والسُّرعةِ… ونحوِها من الصِّفاتِ المُتوخَّاةِ في السِّلاحِ، وهي أسماءٌ عديدةٌ تفنَّنَتْ فيها كُلُّ فصائلِ المقاومةِ، أكتفي بذكرِ خمسةٍ منها:
1. عاصِف: وهو طوربيدٌ بحريٌّ، استخدمَتهُ كتائبُ القسَّامِ في الحربِ الحاليَّةِ، وهو مرتبطٌ بالريحِ العاصفِ، التي ذُكرتْ في القرآنِ الكريمِ أربعَ مرَّاتٍ، وهي الريحُ الشديدةُ الهُبوبِ، البالغةُ التَّدميرِ.
2. بُراق: وهو صاروخٌ، استخدمَتْهُ سرايا القُدس، وهو مرتبطٌ لغةً بالبرقِ الخاطِفِ، فسرعةُ الضَّوءِ تصلُ إلى 300 ألف كليو متر في الثانيةِ الواحدةِ، كما يستدعِي ما جاءَ في وصفِ البُراقِ الذي حمل النبيَّ إلى بيتِ المَقدسِ، والذي جاءَ في وصفِهِ: «يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ”، وارتباطُ التَّسمِيَةِ بالإسراءِ، وحقِّ المسلمينَ في المسجدِ الأقصى لا يخفَى.
3. بَتَّار: وهو قاذفُ صواريخَ مُضادَّةٍ للدُّروعِ، والكلمةُ صيغةُ مبالغةٍ من البَتْرِ، وهو القطعُ والقَصْمُ، وقد انتقلتِ الكلمةُ من الوصفيَّةِ؛ لتكونَ اسمًا من أسماءِ السَّيْفِ القاطعِ.
4. فَجر: وهو صاروخٌ، استخدمَتْهُ سرايا القُدس، وهو مرتبطٌ بوقتِ الفجرِ، الذي يحملُ البِشارةَ دومًا بصباحٍ جديدٍ، وبصلاةِ الفجرِ، التي هي الأثقلُ على المُنافقينَ، كما أنَّ الجهادَ ثقيلٌ عليهم، بل بغيضٌ إليهم.
5. العُبوَّةُ الرَّعديَّةُ: وهي عُبوَّةٌ ناسفةٌ تُشبِهُ الألغامَ الأرضيَّةَ المُضادةَ للأفرادِ، ويتمُّ تفجيرُها عن بعدٍ بصاعقٍ كهربائيٍّ، وتسمِيَتُها تُشِيرُ إلى صَوْتِها الهائلِ، الذي يُشْبِهُ صَوْتَ الرَّعدِ، والذي سُمِّيتْ به إحدى سُورِ القرآنِ الكريمِ، ووردَ في سورةِ البقرةِ في سياقِ الحديثِ عن الصَّواعقِ المُخيفَةِ، قال تعالى: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ). وثمَّةَ عُبوَّاتٌ أخرى مُشابِهةٌ، وإنِ اختلفتْ في الصُّورةِ أو تقنيَّاتِ التفجيرِ، منها: التليفزيونيَّة، والقفازيَّة، والصَّدميَّة، والعملِ الفِدائيِّ.
الثالثة:
أسماءُ بعضِ القادِة، فمن البِرِّ بالقادةِ المجاهدينَ، الذينَ قدَّموا أرواحَهم رَخيصةً في سبيلِ اللهِ، أنْ تحمِلَ بعضُ الأسلحةِ أسماءَهم، وهم الذينَ طالما أوجَعُوا الأعداءَ، وصارتْ أسماؤهمْ تُثيرُ الرُّعبِ في قلوبِهم، وأسماءُ مَنْ مَضَوْا في قوافلِ الشُّهداءِ لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى، وسأكتفي بذكرِ خمسةٍ من الأسلحةِ التي تحملُ أسماءَ بعضِ القادةِ العِظامِ:
1. القسَّام: وهي صواريخُ مُتنوِّعةُ المَدى، سُمِّيتْ باسمِ البطلِ السُّوريِّ الشَّهيدِ: عزِّ الدَّينِ القسَّام، الذي يُعَدُّ الأبَ الروحيَّ للمقاومةِ الفلسطينيةِ عامَّةً، وقد استُشهدِ على يدِ قوَّاتِ الاحتلالِ البريطانيِّ عام 1935م، وتُعدُّ كتائبُ عزِّ الدِّينِ القسَّام، الجناحُ العسكريُّ لحركةِ (حَماس) أقوى فصائلِ المُقاومةِ العاملةِ الآنَ.
2. الياسين: وهي قذيفةٌ ترادفيَّةٌ مُضادَّةٌ للدُّروعِ، أثبتتْ فعاليَّةً مُذهلةً في الحربِ الحاليةِ، وفعلتْ بالميركافاه ما يفعَلُهُ الأسدُ بالفريسةِ، وقد سُمِّيتْ باسمِ شيخِ المُقاومةِ: أحمد ياسين، مؤسِّسِ حركةِ (حماس)، الذي اغتالَتْهُ طائراتُ الاحتلالِ، وهو خارجٌ من صلاةِ الفجرِ عام 2004م، وهو يومئذٍ شيخٌ سبعينيٌّ مُقعدٌ، يتنقَّلُ على كُرسيٍّ مُتحرِّكٍ.
3. عيَّاش: وهو أطولُ صواريخِ المقاومةِ مدًى، حيثُ يبلغُ مَداهُ 250 كم، وقد سُمِّيَ باسمِ البطلِ الشَّهيدِ: يحيى عياش، وهو مُهندسُ المتفجِّراتِ في فلسطينَ، والذي اغتالَتْهُ يدُ الغَدرِ عام 1996م، بعد تلغيمِ هاتفٍ محمولٍ بخيانةٍ دَنيئةٍ من أحدِ أبناءِ وطنِهِ.
4. الزَّواريّ: وهي طائرةٌ مُسيَّرةُ انتحاريَّةٌ سُمِّيتْ باسمِ المهندسِ التُّونسيّ: محمَّد الزَّواريّ، رائدِ صناعةِ الطَّائراتِ المُسيَّرةِ للمقاومةِ، والذي اغتالهُ المُوسادُ الصُّهيونيُّ في مدينةِ (صفاقس) بتونسَ عامَ 2016م، ولدى المقاومةِ غوَّاصَةٌ ذاتيَّةُ القيادةِ تَحملُ اسمَهُ أيضًا.
5. الغُول: وهي بندقيَّةُ قنصٍ عاليةُ الدِّقَّةِ من عيارِ 14.5ملم، سُمِّيتْ باسمِ الشَّهيدِ عدنانِ الغُول، الذي اغتالَتْهُ طائراتُ الغَدرِ عامَ 2004م، ناهيكَ عن كونِ الاسمِ ذِي بُعدٍ مُخيفٍ في المخيِّلةِ الشَّعبيَّةِ.
ومن الجديرِ بالذكرِ أنَّ ثمَّةَ صَواريخَ تحملُ رموزًا أجنبيَّةً، تشيرُ إلى بعضِ أسماءِ القادَةِ، الذين مَضَوْا في قوافلِ الشُّهداءِ، مَتبوعةً برقمٍ يُشيرُ إلى مَدَى الصَّاروخِ، مثلَ الرَّمزِ (M75) تخليدًا لاسمِ الشَّهيدِ الدكتورِ إبراهيم المَقادمة، الذي اغتالَتْهُ طائراتُ الغَدرِ عام 2003م، والرمز (R160) تخليدًا لاسمِ الشَّهيدِ الدكتورِ عبد العزيز الرنتيسيّ، الذي اغتالَتْهُ طائراتُ الغَدرِ عام 2004م، والرمز (J80) تخليدًا لاسم الشَّهيدِ أحمد الجعبريّ، الذي اغتالَتْهُ طائراتُ الغَدرِ عام 2012م، والرمز (SH85) تخليدًا لاسم الشَّهيدِ محمَّد أبو شمَّالة، الذي اغتُيلَ عام 2014م، وقد كانَ من الأجدرِ الاستمرارُ في صياغةِ الأسماءِ العربيَّةِ المعبِّرةِ.
وختامًا، فقد سطَّرَ المُجاهدونَ الأبرارُ أعظمَ مَلحمةٍ من مَلاحمِ الصُّمودِ في وجهِ عدوٍّ نازيٍّ مجرمٍ، ومَحقُوا للأبدِ أسطورةَ الجيشَ الذي زَعمَ أنَّه لا يُقهَرُ، وأعادوا ترتيبَ أوراقِ القضيَّةِ التي تآمرَ الجميعُ على وَأْدِها، بل أعادوا رسمَ المَشهدِ كلِّهِ سِياسيًّا وعسكريًّا وإستراتيجيًّا، وقدَّموا نموذجًا مِثاليًّا في صُمودِ القُوى غير المُتكافئةِ، ويَقيني أنَّ جميعَ الأكاديميَّاتِ العسكريَّةِ سَتقفُ طَويلًا أمامَ هذهِ المَلحمةِ الأسطوريَّةِ، ولعلَّ أهمَّ دُروسِها أنَّ صناعةَ الإنسانِ أهمُّ من حيازةِ السِّلاحِ، وأنَّ أعتى الأسلحةِ لا قيمةَ لها في يدِ جبانٍ خوَّارٍ، وأنَّ أضعفَ الأسلحةِ في يدِ بطلٍ مقدامٍ تصنعُ المعجزاتِ، وصدقَ أبو الطيِّبِ المُتنبِّي (ت354هـ) إذ يقولُ:
إِنَّ السِّلَاحَ جَمِيعُ النَّاسِ تَحْمِلُهُ
وَلَيْسُ كُلُّ ذَوَاتِ المِخْلَبِ السَّبُعُ