Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
أشتات

لماذا تقدم الخليج وتأخر اليمن: الدولة الحديثة والدولة الحداثية (ج2)

كان المقال السَّابق الذي يحمل العنوان ذاته ونشر على هذه الِمنصَّة قد وضعَ مجموعة من الأسئلةِ الكُبرى التي لا يُمكن لمقالٍ واحد أن يحتوي إجاباتها المفصلة، فهذا ما كنتُ قد فعلته في الكتاب الذي سبق نشره تحت عنوان “جمهورية بلا جمهور”، ولكني قررت نشر ذلك المقال على عموميته ظنًّا مني أنَّ القارئ في مِنَصَّات كهذه المنصة هو غالبًا قارئ مطلع على أساسيات الأدب السِّياسي التي تسمحُ لكاتبٍ مثلي أن يقوم ببعض التَّجاوزات، ولكن بعد أن وصلتني الكثير من ردود الأفعال تذكرت إلى أي مدى تُسيطر الحالة الرومنسية الثورية على العقل الثَّقافي اليمني، وأنَّ الانفكاك من تلكَ الحالة الثَّقافية تطلب مني شخصيًّا سنوات طويلة من البحث والمراجعات، ولهذا فقد قررت التفصيل في سلسلة من المقالات التي ستحمل العنوان ذاته، وفي هذا المقال نبدأ بنقاش أهم الأُسس الأولية في الأدب السياسي الحديث، وهو “الدولة الحديثة”.

أصبح مصطلح الدَّولة الحديثة من أكثر المصطلحات السياسيَّة تداولًا في القرن العشرين وما بعده، وذلك نتيجة لنشوء ما يُسمَّى بالدُّول الحديثة في مختلف المناطق التي انسحب منها الاستعمار الأوروبي، بما في ذلك الشَّرق الأوسط. والدولة ككيان حاكم لم تكن بالاختراع الأوروبي ولا بالجديد، فالكثير من الأمم شهدت قيام دول قديمة حَكَمَتها، وتوسَّعت حتَّى شملت قارات عديدة، وحكمت شعوبًا مختلفة. لكن ما يميِّز الدَّولة الحديثة التي برزَت وذاع صيتها في القرن العشرين هو كونها دولةً قوميةً أُسِّسَت على حدود جغرافيَّة واضحة ومُعترَف بها من قبل بقية الدول، وَفْقًا للنِّظام الذي رسَّخته أوروبا إبَّان هيمنتها على أغلب أراضي وشعوب المعمورة، وهكذا أصبح لدى كل شعب من الشُّعوب المتشابهة ثقافيًّا إلى حدٍّ ما كيانٌ واحدٌ يحكمها داخليًّا ويُمثِّلها خارجيًّا. وهذا المفهوم الحديث للدَّولة كان قد نشأَ في أوروبا، في القرن السَّابع عشر، حينما وقَّعت الممالك الأوروبيَّة اتفاقًا أسمته اتِّفاق “ويستفليا”، تقرَّر على إثره رسم حدودٍ واضحةٍ بين تلكَ الممالك، ومبدأ سيادة الدَّولة داخل تلك الحدود، وحقِّها الحصريِّ في استخدام العنف، ومنع التَّدخل من قبل الدُّول الأخرى .(1)

طوَّرت الدَّولة الأوروبيَّة الحديثة في أوروبا، مؤسَّسات عديدة، تتناسب مع البنية الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والسِّياسيَّة لشعوب أوروبا، مثل النِّظام الجُمهوريِّ ومبادئه، والدِّيموقراطيَّة، والانتخابات التَّمثيليَّة، وغيرها من التَّنظيمات السياسيَّة التي اتَّخذتها الدُّول الأوروبيَّة الحديثة طرقًا في التَّنظيم الاجتماعي والسِّياسي، ومن المهم الإشارةُ إلى أنَّ جميع هذه الأنظمة تطوَّرت عن أنظمة أوروبا التقليديَّة. وبهذا التَّحديث للدولة الأوروبيَّة التقليديَّة نتج لنا ما يُسمَّى بالدَّولة الحديثة. وهذه التسمية اُجتزئ منها صفة “الأوروبي”، فالتَّحديث لا يكون إلَّا لشيء قديم موجود مسبقًا، وذلك هو الدَّولة الأوروبيَّة التي سبقت عمليَّةَ التَّحديث، وبالتَّالي ما نتج في أوروبا من عمليَّة التحديث هو الدولة الأوروبيَّة الحديثة.

لقد كان من السَّهل على المثقفين العرب تمييز الفرق بين الحديث والحداثيّ في جوانب أخرى كالأدب(2)، فسمَّى البعض المدرسة الشعرية التي تأثرت بالأدب الإنجليزي والفرنسي بالمدرسة الحداثية، وذلك تمييزًا لها عن الشعر العربي الحديث، فإيليا أبو ماضي  عندما يكتب شعرًا لا يكتبُ كما يكتب امرؤ القيس أو المتنبي، فهو يكتب باستخدام أساليب تصوير وكلمات حديثة، ولكن ما يكتبه ما يزال امتدادًا لما كتبه أولئك القدامى من حيث قواعد الشِّعر، في حين عندما تكتب نازك الملائكة فإنها لا تكتب كما يكتب أولئك القدامى بل كما يكتب شعراء الإنجليز والفرنج، وهذا ليس تقليلاً من قدر ذاك الشِّعر أو رفعًا لذاك، فلستُ بناقدٍ أدبي، وإنما لتوضيح الفرق بين ما هو حديث وحداثي.

هذا التمييز للفرق بينما ما هو حديث وحداثي لم يمتد للدولة، فتم انتزاع صفة الأوروبي منها، واجتزاء صفة أوروبية من مصطلح “الدولة الحديثة” جاء نتيجة لاعتقادٍ استعماريٍّ سائد بأنَّ المسار الذي سارت فيه الدَّولة في أوروبا هو المسار الحتميُّ الذي ستسير فيه كلُّ أمم العالم، وأنَّ أوروبا لم تكن إلَّا سابقةً لغيرها في ذلك المسار. وهكذا تم تجاهل حقيقة أنَّ الدول التقليديَّة لدى الشُّعوب غير الأوروبيَّة اختلفت في تركيبتها وتكوينها عن الدول التقليديَّة الأوروبيَّة، فالمسلمون كان لديهم الخلافة مثلًا في حين كان لدى أوروبا النِّظام الإقطاعي. وهكذا فمن المنطقي أن تفضي عملية تحديث الدول غير الأوروبيَّة إلى دول حديثة تختلف في أنظمتها وشكلها وأنماطها عن شكل الدولة الأوروبيَّة الحديثة. ولهذا فنحن هنا نُفرِّق بين مفهوم الدَّولة الحديثة ومفهوم الدَّولة الأوروبيَّة الحديثة أو “الحداثيَّة”، فالدَّولة الحديثة يمكن أن تأتي على مختلف الأشكال، أمَّا الدَّولة الحداثيَّة، فهي الدَّولة الحديثة بشكلها وملامحها الغربيَّة التي نجدها في دول أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية؛ ولهذا فإنَّنا في هذ الكتاب نستغني عن مصطلح الدولة الحديثة ونستبدله بمصطلح “الدولة الحداثية” أو “الدولة الأوروبية الحديثة” في إشارة إلى الدُّول الحديثة التي قامت في الجمهوريات العربية، وفي شمال اليمن وجنوبه على الطِّراز الأوروبي.

السياسة, ميزان العدل

عندما هيمنت أوروبا على بقيَّة قارات العالم، قامت بفرض مفهوم الدَّولة الأوروبيَّة الحديثة بصفتها التَّعبير الوحيد والحصري لمفهوم الدَّولة الحديثة، عِوضًا عن تحديث المؤسَّسات السياسيَّة المحليَّة لتخليق دولاً حديثةً منها، بل والأسوأ من ذلك أنَّ الاستعمار سَحَقَ تلك البنى الدَّاخليَّة في كثير من البلدان التي دَخَلَها بنسب مختلفة بحسب هوية المُستعمر ونوع الاستعمار وأهدافه. وليسَ من الغريب أن تُحَيَّدَ تلك المنظومات السياسيَّة المحليَّة التقليديَّة تمامًا؛ فهي المنظومات التي خسرت أمام جبروت وقوَّة المستعمِر الأوروبيِّ، وهي أيضًا من قادت النِّضال الاستعماريَّ ضدَّه على المستوى الشَّعبي. وقد سارعت الكثير من زعامات الشعوب المنهزمة إلى محاولة استنساخ مفهوم الدَّولة الأوروبيَّة الحديثة، بجميع تفاصيلها، لعلَّها تتمكَّن نهوضًا من الذُّل الذي كانت تعيشه، وقد قاد عمليَّة الاستنساخ تلك مجموعةٌ من النُّخب السياسيَّة والفكريَّة والعسكرية، التي تتلمذت وتشرَّبت الفكر الأوروبي، بروح المُستلب والمهزوم، فأراد أتاتورك تدمير وتفكيك الهُويَّة التركيَّة الإسلاميَّة، وإعادة بناء تركيا أوروبيَّة الهوى والهُويَّة، في محاولته لبناء الدَّولة الحديثة، وأراد مِن قبله محمَّد علي باشا، بناءَ دولة أوروبيَّة حديثة في مصر، فابتعث الطُّلاب إلى أوروبا الذين عادوا منبهرين بما رأوه هناك، وأخذوا في استنساخ التَّجربة الأوروبيَّة، وتحديدًا الفرنسيَّة، التي لأسباب سنذكرها لاحقًا كان لنموذج الدولة لديها التأثير الأسوأ على البلدان العربية، وانقلب السِّحر على السَّاحر، حيث أدَّى ذلك الاستنساخ للنَّموذج الفرنسي في نهاية المطاف للإطاحة بسُلالة محمَّد علي باشا الحاكمة وقيام النِّظام الجُمهوريِّ في مصر. ومن حُسن الحظِّ أنَّ هناك شعوبًا أخرى اختارت مَسارًا مغايرًا، وهو التَّمسُّك بالنُّظم القديمة، والعمل على تحديثها تدريجيًّا لبناء دولتها الحديثة الخاصَّة بطابعها المحليّ، مثل دول الخليج العربي. وثَمَّةَ أممٌ تخبَّطت يمنةً ويسرةً، قبل أن تعود وتستقرَّ أخيرًا على صيغةٍ استلهمتها من عُمقها التَّاريخي والثَّقافي، كما فعل الصِّينيُّون الذين لا يَفتؤون يؤكِّدون أنَّ شيوعيَّتَهم ذاتُ طابعٍ صينيٍّ، ينطلق من عمقهم التَّاريخي والثَّقافي، والماليزيون الذين بنوا نظاماً سياسياً معقداً ومتنوعاً ليستوعب تركيبتهم المحلية.

وهذه المسارات المختلفة للأمم لم تتشكَّل بناءً على قرارات واعية من أبنائها، بل نتيجةً لعوامل جغرافيَّة وتاريخيَّة، أي بمدى تأثر هذه الأمم بالاستعمار الأوروبي ونوع ذلك الاستعمار. فنتيجةً لقرب مصر الجغرافيّ من أوروبا، ووصول التَّأثير الاستعماري إليها في مرحلة مبكِّرة، إثر غزو نابليون لمصر في القرن الثَّامن عشر، كانت وفيرة الحظّ (أو قليلة الحظّ) في التَّأثر بالفكر الأوروبيّ، وهكذا أصبحت رائدة الدَّولة الحديثة على الطَّريقة الأوروبيَّة في الشَّرق الأوسط، وقد ألقت بظلال تأثُّرها على الشَّطر الشَّماليّ من اليمن إبَّان ثورة سبتمبر، أمَّا الجنوب فقد انتقلت إليه تلك المفاهيم في وقت مبكِّر، بدايةً بالاستعمار البريطانيّ، ثمَّ تسارعت وأخذت اتِّجاهًا متطرِّفًا بعد الاستعمار، حين تمكَّن الشُّيوعيُّون من فرض سيطرتهم على البلاد، بعد استقلالها.

ونحن هنا لا نقلِّل من أهمية الدَّولة الحديثة في بناء واستقرار المجتمعات ورخائها في عالم اليوم، لكنَّنا نسعى لتوضيح الآثار المدمِّرة التي خلَّفها اتِّباع النَّماذج الأوروبيَّة للدَّولة الحديثة في بلدنا، سعيًا لتصحيح المسار بإعادة بناء الدَّولة الحديثة بطابع محليٍّ أصيل، ينطلق من العُمق التَّاريخي المتجذِّر لليمن، ويوظف عناصر تكوينها الأساسية، ويعكس خصوصياتها المحلية، ويتصالح مع مكوِّناتها وقواها الاجتماعية. فقد تسبَّب تبني النَّموذج الأوروبيّ للدَّولة الحديثة في اليمن باصطدام الدَّولة الحديثة بالمؤسَّسات المحليَّة كالقبيلة والقانون والعُرف المحليَّيْن، وعجزت تلك الدَّولة عن حلِّ مشاكل العلاقات الاجتماعيَّة العميقة وأسهمت في مواراتها وتأزُمها.

بعد العلمانية لماذا تقدم الخليج وتأخر اليمن: الدولة الحديثة والدولة الحداثية (ج2)

من الواقعيَّة السِّياسيَّة القول بأنَّ نسخ النَّماذج السِّياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة التي تطوَّرت في سياقات تاريخيَّة وجغرافيَّة بعيدة، ونَقْلَها إلى بلداننا دون النظر إلى مشروطيّة أفكار وأُسس تلك النماذج وعواملها لَهُوَ ضربٌ من ضروب الاسترقاق والجنون، ومن ثَم القفز على الواقع، الذي لا يُنتِج سوى اضطرابات سِّياسيَّة ودوامات لا نهائيَّة من الصراع بين الخارجيِّ والمحلي. وما لا يدركه أو يتجاهله دُعاةُ الحداثة والتقدم، أنَّ هذه الأنظمة التي ظهرت في أوروبا، كانت قد تطوَّرت تطورًا طبيعيَّ النَّشأة نَتَجَ عن الصِّراع السِّياسيِّ بين القُوى المحليَّة الأوروبيَّة. حيث تصارعت الكنيسة مع الملوك، فنتجت العلمانيَّة فيما يُسمَّى عصر النهضة، ليتم تحييد سلطة البابا، وإعطاء السُّلطة الكاملة للملوك في ممالكهم، وبعد أن تَمَّ تحييد الكنيسة، تصارع الملوك مع طبقة الأرستقراطيين من أجل الضَّرائب، فنتجت المجالس البرلمانيَّة التي عملت على إحداث توازن قوَّة بين الملك وبين الإقطاعيين(3) ، ثمَّ توسَّع جهاز الدَّولة بشكل غير مسبوق، نتيجة تدفق كنوز المستعمرات من الأمريكيتين إلى أوروبا، فنتج عن ذلك توسع البيروقراطيَّة، ونشوء مؤسَّسات الدَّولة المختلفة؛ لإدارة ذلك التَّدفق الماليِّ وتخليص ضرائبه، ونتيجة لتكدس تلك الأموال ظهرت الرأسماليَّة، فنشأت طبقة مُلَّاك رأس المال البرجوازيَّة وطبقة العُمَّال، وأدَّى الصِّراع بين البرجوازيَّة والطَّبقات الاجتماعيَّة القديمة إلى ظهور الجُمهوريَّات، وأدَّى صراع الطَّبقات الجديدة فيما بينهما (البرجوازيَّة والعُمَّال)  لظهور ما أصبح يُعرَف بالديموقراطيَّة الليبراليَّة المعمول بها في جميع دول الغرب الأوروبيَّة والأمريكيَّة. واستنساخُ إحدى تجارب أوروبا إلى محيطنا الجغرافي هو حكمٌ مسبوقٌ على تلك التَّجرِبة بالفشل، فهو كمن يقوم بنقل دمِ جسمٍ صحيحٍ إلى جسمِ شخص آخر دون مراعاة فصيلة الدَّم، ليُفضِي إلى موت محقَّق لذلك المستقبل. فأين الإقطاعيون لدينا؟ وأين كنيسة البابا؟ وأين أموال المستعمرات؟ لا وجود لكل هذه المكوِّنات الأساسيَّة والظروف التاريخيَّة في بلداننا ليستقيم لنا حكم مثل ذلك الحكم، غير أنَّ لدينا مؤسَّسات موازية مختلفة، لها عمقها التَّاريخي، ولها تعقيداتها الخاصَّة. بيد أنَّ هذه المؤسَّسات تَمَّ تجاهلها تمامًا حينما هُرِعنا إلى نسخ النِّظام الجُمهوري الفرنسي في الشَّمال، والنَّموذج الشُّيوعيّ في الجنوب، تقليدًا واتِّباعًا للموجة اليساريَّة التي تسلَّلت إلينا تحت ضغط القُوى العظمى، أثناء فترة الحرب الباردة.

في الدُّول التي استوطنها المستعمر الأوروبي واستقرَّ فيها ككندا وأستراليا، ونيوزلندا، وجنوب أفريقيا وغيرها من الدُّول، تظهر مشكلة قمع الدَّولة الأوروبيَّة الحديثة للسُّكَّان الأصليين بشكل واضح، حيث مارست الدَّولة الاستيطانيَّة في هذه الدُّول مختلف أنواع القمع والتَّرهيب والاضطهاد ضِدَّ السُّكَّان الأصليِّين، بصورةٍ منظَّمةٍ غير مقصودة في غالبها، ونعني بذلك أنَّ الدَّولة الاستيطانيّة أنتجت ذلك النوع من الضَّغط على السُّكَّان الأصليِّين نتيجة لاختلاف تركيبتها عن تركيبتهم، وكنتيجة لمحاولة فرض الدَّولة سيادتَها على كامل الأرض وإجبار السكان المحليين على تقبل ذلك النوع من الحكم، وما يجهله الكثيرون أنَّ السُّكَّان الأصليِّين في هذه الدُّول ما زالوا حتَّى اللَّحظة يخوضون صراعات قانونيَّة وحُقوقيَّة عديدة في محاولةٍ منهم للضَّغط على الدَّولة لتغيير سلوكها تجاههم، وهذه الإشكاليات تَمَّ استيعابُها والإقرار بوجودها في عديد من الدُّول، فبدأت هذه الدُّول بإجراء تعديلاتٍ دستوريةٍ ومؤسسيةٍ، لتصبح أكثر تصالحًا مع التَّركيبة المحليَّة للسُّكَّان الأصليِّين، خاصَّةً أنَّ الصِّراع يمكن أن يأخذ مناحيَ عنيفةً في بعض الأحيان(4) . ولمعالجة مثل هذه الإشكالات الواضحة قدَّمت الأمم المتَّحدة ما يُسمَّى الإعلان العالميَّ لحقوق السُّكَّان الأصليِّين، الذي يُوفِّر إطارًا عمليًّا وقانونيًّا، يَحُثُّ الدُّول الاستيطانيَّة على التَّعديل من شكلها وسلوكياتها، لتتصالح مع السُّكَّان الأصليِّين وثقافتهم وحقوقهم المحليَّة. وهذه الظاهرة (صراع الدولة الأوروبية مع الشعوب المحلية) تتكرر في البلدان التي انسحب منها الاستعمار رسمياً، لكنَّ المجتمع الدَّولي ليس قادر على تمييز هذه الظَّاهرة في تلك البُلدان نظراً لكون الدولة في تلك البلدان تُدار من قبل السكان المحليين أنفسهم.

انسحب الاستعمار الأوروبيّ من أغلب الدُّول في القرن الماضي تاركاً بذور الدولة الأوروبية الحديثة التي كان أسَّسها أثناء تواجده في تلك الدول من جيوش ومؤسسات أمنية وبيروقراطية وأنظمة ودساتير، ثم عملت الدُّول العظمى المتنافسة في الحرب الباردة على التَّرويج لنماذجها السياسيَّة كنموذج عالميّ يمكن تطبيقه في أيِّ مكان، فقامت بالضغط على الدُّول التي كانت قد استعمرتها سابقًا نحو الاستمرار في تطوير واستيراد المزيد من النُّظُم والتَّشريعات الأوروبيَّة في بلدانها، وهذا شكل من أشكال الهيمنة التلقائيَّة التي لا تحتاج لقوةٍ عسكريةٍ لفرضها، فكما يقول ابن خلدون: “المغلوب مُولَعٌ أبداً تقليد الغالب”، والنفس المغلوبة لا تنفكّ مِن تصوّر الكمال فيمَن غلبها. فقامت دول حداثيّة على النَّمط الاستعماريّ في بلدان ما بعد الاستعمار، تبَّنت هذه الدُّول الكثير من الطُّرق والمؤسَّسات السياسيَّة الأوروبيَّة في محيطها غير الأوروبي، وأخذت تحاول فرض سيطرتها على كل الأراضي وعلى الشُّعوب غير الأوروبية، فأنتجت هذه العمليَّة ذات النوع من الاستبداد والضَّغط الذي تنتجه الدَّولة الاستيطانيَّة في البلدان المُستوطنة ضِدَّ السُّكَّان الأصليِّين، مُعيدة بذلك إعادة تشكيل ما شكّلها من اتجاهاتٍ ترتدّ إلى الخطاب الأوروبي، غير أنَّ النَّتائج مختلفة من حيث المستوى، ومن حيث هُويَّة الفاعل المنفِّذ. أمَّا المستوى، ففي الدول ما بعد الاستعمارية تقف الدَّولة الأوروبيَّة الحديثة في مواجهةٍ ضدَّ شعوب بأكملها وتُوظِّف في معركتها ضدَّ هذه الشُّعوب كلَّ أدواتها الحديثة كالتَّعليم والإعلام والقانون، بل وحتى شرائح من هذه الشعوب، في محاولةٍ لتطويع النَّاس لسيادتها، وكثيرًا ما تنجح الدَّولة في فرض قُوَّتها في المدن الكبرى أو في أبعدَ من ذلك إن كانت جغرافيا البلد تسمح بذلك، ولكنَّها ومن أجل ذلك تحتاج إلى استخدام الكثير من العنف والقُوَّة، بينما لا تحتاج الدَّولة الأوروبية في البلدان المُستوطنة حاليًّا (أمريكا – كندا- نيوزلندا- أمريكا الجنوبية … إلخ) إلى استخدام المقدار نفسه من العنف؛ نتيجةً لانخفاض عدد السُّكَّان الأصليِّين في تلك البلدان، وللفارق الكبير في الاستعداد القتاليّ بين الدَّولة والسُّكان الأصليِّين.

أمَّا من حيث الفاعل، فالدَّولة الأوروبيَّة الحديثة في بلدان ما بعد الاستعمار قائمةٌ على أبناء البلد نفسهم، من النخب الاقتصادية والسياسية التي ورثت هياكل الدَّولة التي بناها المستعمر أو من أبناء الطبقة المثقفة الذين تشرّبوا الثقافة الأوروبية. أما القسم الأول فهم يبذلون كل جهدهم لقمع الشعب وتقويض عملية بناء الدولة على حدٍ سواء وذلك من أجل الإبقاء على الحالة الراهنة المستفيدين منها، فتحرر الشعوب يعني فقدانهم لمكانتهم وإعادة صياغة الدولة بما يتناسب مع أبناء السواد الأعظم من الشعب، أما السماح للدولة الأوروبية الحديثة بالوصول لمنتهاها ونموذجها الأصلي كما يظهر في أوروبا، يعني زوال سلطتهم فنظام الدولة في نموذجه المثالي لا يمنح حكمهم أي شرعية.

لماذا تقدم الخليج وتأخر اليمن: الدولة الحديثة والدولة الحداثية (ج2)

أما القسم الثاني من هؤلاء فهم أولئك المثقفون الذي تشربوا الأفكار الأوروبية وآمنوا بها إيمانا حقيقياً، ويخوض هؤلاء معركة ضِدَّ أبناء جلدتهم يعتقدون أنَّها معركة مقدَّسة لبسط النِّظام والقانون وبناء الدولة، بينما هم في الحقيقة يقومون بدور المستعمر السابق من تحييد للهُويَّة الثقافيَّة والمؤسَّسات السياسيَّة المحليَّة لصالح النخبة الحاكمة، فالدولة الحداثيّة التي يرجون بنائها، لا يمكن أن تستقيم بنفس الطريقة التي استقامت في أوروبا،  ولهذا تجد “مثقفين” ممَّن تلقَّوا تعليمهم في المدن الأجنبية وانغمسوا في بنية الدَّولة الحداثيّة من خلال التَّعليم والإعلام، قد اشرأبَّت أعناقهم وغذَتِ السلبيةُ والانهزاميةُ نظرتهم وسلوكهم تجاه المكوِّنات المحليَّة للبلد والرغبة في التبرؤ منها، كالقبيلة والمشيخية والعادات والتَّقاليد والدِّين وغيرها، بل وتجد إعجابهم بما رأوه يتحوّل إلى تقليدٍ عبودي واغترابٍ عن الذات وجلدها، فيندفعون بسلوكٍ مُعادٍ نحو هدم البنية المحليَّة ومحاربتها، والدعوة إلى فرض تبنِّي قوانين ونُظم تختلف معها طبيعة الشَّعب وروحه، في اجتهادٍ تام وسلطوي لنشر وفرض الأفكار الأجنبية على حساب الجذور واقتلاعها قسرًا وسلبًا، كل ذلك في تناقضٍ صريح مع مفاهيم الديمُقراطية التي يدعون لتبنيها، وعوضًا من الإفادة من الحضارات الأخرى في سياق التقدم وإنتاجه وفق شروط البُنية المحلية والثقافية والتاريخية لبلدانهم، يتم مُحاكاة واستنساخ النماذج الغريبة وإنزالها على واقعٍ مختلف تُسلب هويّته المحلية عند انتحالها، ولم يأتِ هؤلاء عملاً مشكورًا في هذه العملية التغريبية. ويخوض هؤلاء المثقفون معركة على جانبين، فمِن جانبٍ يدافعون عن القيم والمفاهيم الغربية كالحرية والديمُقراطية والرقابة المؤسسية والتعددية الحزبية ويلوحون بها ضد النُخبة الحاكمة ويطالبون الدولة بتطبيقها، وفي الجهة الأخرى يخوضون معركة بقاء ضد المفاهيم والقِيم والقوى المحلية، ولأن بناء الدولة الأوروبية الحديثة على الطريقة الغربية في الدول العربية من المستحيلات، يقف هؤلاء المثقفون أمام معضلة أخلاقية كُلَّما قدَّم لهم التاريخ فرصة للتغيير، كتلك التي قدمها الربيع العربي، يجد هؤلاء المثقفون أنفسهم في مفترق طريقين يجب عليهم أن يختاروا إحداهما إما هدم الدولة الأوروبية الحديثة المُشوهة وبناء دولة على أسس وطنية محلية على يد القوى الوطنية المحلية متمثلةً بذلك في نظامٍ سياسي عضوي جامع تتعرّف فيه الهوية الثقافية والحضارية، وإما البقاء تحت رَبْقة استبداد النُخبة الليبرالية ونموذجها الاستلابي. ونظراً لاختلال البوصلة السياسية والأخلاقية عندهم نتيجة التعاطي المفرط للفكر الأوروبي، يختار هؤلاء المثقفون دعم الدولة الأوروبية ولو كانت استبدادية على أن يدعموا القوى والقيم المحلية، في عمليةٍ ألحقت مسألة التطور والتقدم بالشرط التاريخي للغرب، فإذا بالهيمنة تنبع من ذات موقع التبعية الإرادية، وإذا بالحُماة قد صاروا غُزاة!

ولأنَّ المسؤولين الحُكوميين في الدولة الحداثيّة ليسوا محتلِّين أجانب، بل من أبناء المجتمع ذاته، يشاركونهم ذات السحنة واللسان، يصعب على الناس رؤيةُ أجنبيَّةِ الدولة وغرابتِها وغُربتها في هذه البلدان، فالرَّئيس وجميع المسؤولين الحُكوميين يشبهون أيَّ فرد من أفراد المجتمع في اللَّون واللُّغة والشَّكل، بخلاف الحال في الدُّول المُستوطنة، حيث يختلف فيها القائمون على الدَّولة عن أبناء البلد الأصليِّين، فيسهل تمييز أجنبيَّة الدَّولة. ولكن هذا التَّشابه تشابه شخصي فقط، والمشكلة ليست مشكلة شخصية بين الحاكم وبين الشَّعب، بل بين الدَّولة كمؤسَّسة أجنبيَّة وبين الشَّعب.

كان الإسلام السِّياسي مُحِقًّا في تشخيصه للأنظمة السياسيَّة الحاليَّة بأنَّها أنظمة صَنَعها الاستعمار، تقوم بدوره بعد انسحابه، بإبقاء الشُّعوب ذليلة وخاضعة، لكن الإسلام السِّياسي أخطأ ثلاثة أخطاء:

الخطأ الأوَّل في قوله بأنَّ الغرب فَعَلَ ذلك عمدًا مدفوعًا بنوايا سيِّئة. وهذا ليس صحيحًا بالضَّرورة، حيث يبدو في الغالب أنَّ المسألة تمَّت بطريقة عفويَّة أكثر من قِبَلِ الطَّرفين؛ إذ يعتقد الغرب أنَّه يساعد الآخر حينما يحمله على اتِّباع الطُّرق الغربيَّة في التَّنظيم السِّياسي، والآخر يتبنَّى الأفكار والأنظمة الغربيَّة طوعًا مدفوعًا باعتقاده أنَّها ستُمكِّنه من اللَّحاق بالتَّقدُّم الغربيّ، وأوضح ما تجلى هذا حين اخترقَ موكبٌ مهيب شوارع لندن عام 1897 يحمل أعلام كندا وأستراليا والهند وقبرص وجنوب أفريقيا وترينداد، مع جنود المشاة والمدفعية بالزي العسكري لبلدان جامايكا وبورنيو ونيجيريا والملايو وهونغ كونغ، كان موكب اليوبيل الماسي للملكة فكتوريا الذي يرمز إلى انتصار حضارة غربية عالمية، وقد شجّع هذا الغرب فيما بعد على النظر إلى نفسه كمبشِّرٍ ومخلّصٍ ينتظره العالم، وما كان لهذا إلا أن يكرس لنظرية “عبء الرجُل الأبيض”، وساعد زعم الحضارة الغربية ريادتها الأخلاقية الوصاية على الشعوب، ومن جهة أخرى القبول الضمني من قبل هذه الشعوب وتقديمها الولاء الطوعي للحضارة التي رأوا فيها الخَلاص.

الإسلامية من الصلاحية إلى الضرورة ج4 لماذا تقدم الخليج وتأخر اليمن: الدولة الحديثة والدولة الحداثية (ج2)

أمَّا الخطأ الثَّاني فهو في النَّتيجة، حيث رفع روَّاد الإسلام السِّياسي شعار “الإسلام هو الحلّ” قاصدين بذلك إمَّا جعل الشَّريعة الإسلاميَّة مصدرَ التَّقنين الأساسيّ أو أنَّ نظام الخلافة هو الحل، وهو كلام غير صائب وغير دقيق في الحالتين، أمَّا الخطأ في الحالة الأولى فوجهه أنَّ القانون ليس سوى أداة واحدة من أدوات الدَّولة وتبني الشريعة قانوناً لن يقدم ولن يؤخر، وأمَّا الخطأ في الحالة الثَّانية، فوجهه أن لا وجود لنظام سياسيّ واحد يناسب كلَّ البلدان، سواء كانت عربيَّة أو أجنبيَّة، هذا ما سنراه ونناقشه في السِّياق اليمني، من خلال هذا الكتاب.

أمَّا الخطأ الثَّالث فهو أنَّ الإسلام السِّياسي ركَّز على الشخصيَّات والأفراد أو القوانين في أحسن الأحوال لا على المؤسَّسات. بينما المشكلة ليست في شخوص الحُكَّام بل في المؤسَّسات والهياكل التَّنظيميَّة المستوردة، فبغضِّ النَّظر عن شخصيَّة الفرد داخل المؤسَّسة، ستكون النَّتيجة واحدة، وهي التَّصادم والقمع، فحتَّى لو نَجَحَ الإسلام السِّياسي أو أي جهة معارِضة في مكان ما في الوصول للسُّلطة مع إبقائه على ذات المؤسَّسات الاستعماريَّة، سيجد هؤلاء أنفسهم أمام خيارين لا ثالث لهما، إمَّا أن يستخدموا القمع والعنف لإحكام السَّيطرة على الدَّولة، أو السَّماح بتفلُّت الدَّولة وانزلاق البلاد في الفوضى، في محاولة لتجنُّب استخدام العنف، وقد رأينا هذين النَّموذجين في كلٍّ من الحالتين السُّودانيَّة والتونسيَّة على التَّرتيب. وإذا ما نظرنا إلى المسألة من خلال المؤسسات لا الأفراد فسيختلف تقييمنا تمامًا لتصنيف الأنظمة العربيَّة على خطِّ القمع والدكتاتوريَّة، فتصبح الدُّول الأقلَّ تأثرًا بالنِّظام الاستعماريِّ الأكثر استقرارًا وتصالحًا مع الشُّعوب، بينما الأكثر تأثرًا بالأنظمة السِّياسية الاستعماريَّة هي الأكثر ارتهانًا للخارج والأكثر تصادمًا مع الشُّعوب، بغضِّ النَّظر عن شخص الحاكم. فدول الخليج بالرَّغم من كونها دولًا قامت برعايةٍ وحمايةٍ مباشرةٍ من قبل المستعمر السَّابق، إلَّا أنَّها مؤسَّسيًّا أكثر استقلاليَّة ووطنيَّة من تلك الدُّول الجُمهوريَّة التي قامت من خلال مقاومة المستعمر، لكنَّها انتهت بتبنِّي أنظمة المُستعمِر الأجنبيَّة.

ويمكن بسهولة تمييز أجنبيَّة الدَّولة إذا ما ركَّزنا على مؤسَّساتها لا على القائمين على تلك المؤسَّسات، ونظرة فاحصة على الكثير من المسميَّات الملحقة بالدَّولة الحديثة ستكشف لك عن أجنبيِّتها، فمن أين ظهرت لدينا مصطلحاتٌ كالعلمانيَّة والليبراليَّة والدِّيمُقراطيَّة والجُمهوريَّة والاشتراكيَّة والشُّيوعيَّة(5)؟ كلها مصطلحات دخيلة وغريبة على المكوِّنات المحليَّة، وفي المقال القادم من هذه السلسلة سوف نتناول كلًّا من موضوعي الديمُقراطيَّة والجُمهوريَّة على حِدَةٍ، لارتباطهما الوثيق بالنَّموذج الأوروبيّ للدَّولة الحديثة الذي ما زال اليمنيُّون يتبنَّونه حتَّى اللَّحظة، وذلك في محاولة لوضع هذين المصطلحين في سياقاتهما التَّاريخيَّة.

الهوامش:

  1. Peace of Westphalia | Definition, Map, Results, & Significance”. Encyclopedia Britannica. Archived from the original on 6 August 2015. Retrieved 2 November 2020. 
  2. رضا عامر، الحداثة الغربية وتجلياتها على الشعر العربي المعاصر، مجلة المعيار، عدد 15، صفحة 143 ، 2016. 
  3. الإقطاع: هو نظام حكم ساد في أوروبا في القرون الوسطى وحيث حكم الناس مجموعة من الأسر النبيلة المالكة للأراضي بينما كان على بقية الناس الواقعين ضم أراضي تلك الأسرة النبيلة الخضوع لها وفلاحة الأرض من أجلها. 
  4. في كندا مثلاً، قدم رئيس الوزراء الكندي السابق ستيفن هاربر في العام 2008 اعتذاراً رسمياً لأبناء السكان الأصليين في كندا الناجين من المدارس الداخلية التي أسستها الدولة الكندية خلال القرن التاسع عشر بغرض مسح الهوية الثقافية للسكان الأصليين وإحلال الهوية المسيحية الأوروبية بديلاً عنها، والذي راح ضحيتها نسبة كبيرة من هؤلاء الأطفال الذي ماتوا في المدارس الداخلية نتيجة الممارسات الوحشية التي قام بها المدرسون المشرفون عليهم.  وكذلك تم تأسيس لجنة الحقيقة والمُصالحة في كندا، في محاولة لفتح حوار مفتوح حول طبيعة علاقة الدولة الكندية بالسكان المحليين والعمل على تعديلها وتحسينها. للمزيد انظر كتاب 21 Things You May Not Know About the Indian Act. 
  5. الاشتراكية نظام اقتصادي قائم على فكرة تدخل الدولة في إدارة الاقتصاد وإعادة توزيع الثورة بشكل جُزئي، أما الشيوعية فهي الصورة المتطرفة من الاشتراكية والقائمة على منع الملكية الخاصة، وتحكم الدولة المُطلق بكامل الاقتصاد وتوزيع الثروة.

ضياء خالد

باحث في السياسات الدولية جامعة أوتاوا _كندا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى