مدخل:
في كتابه «الجماعات المتخيَّلة Imagined Communities» كتب بندكْت أندرست Benedict Anderson – الكتاب الذي ترجمه المركز العربي واحتفى به مؤسسه في مقدمته – مبحث معنون بــ (إدراك الزمن)(1)، تحدث فيه عن أثر الزمن في صناعة التحولات، اللافت هو استدماج الإدراك للزمان كعدسة نظر للفهم، والمثير أكثر هو تضمين هذا المبحث تحت فصل بعنوان: جذور ثقافية؛ ويكأن إدراك اللحظة يتوفر لمن يتصل وينافح بعمق عن جذوره.
التجذر في الأصول يمدنا بمورد للتذكر دائم، والتذكر ركيزة اليقظة الفاعلة، والذي لا يعرف جذوره، ولا يتذكر تعريفاته ولا يتيقظ لزمانه ولا يدركه ولا يعمل فيه لن يحسن التعامل معه، وهذا مدعاة لربط إدراك الزمان بالفعل النوعي الراشد فيه، واستقامة الطريقة.
إن بناء الفعل المقاوم المغيّر للواقع السائد متصل تمام الاتصال بمعرفة الزمان.
وحديثنا هنا عن اللحظات الفارقة، اللحظات التي يغمر البشرية فيها طوفان معانقة الآمال، والإمساك بالمصير والمرابطة على البديهيات والتعريفات الأساسية الأولى.
السابع من أكتوبر.. ما الذي حدث وكيف حدث؟
“يوم الرب كلِّص في الليل هكذا يجي” بولس الرسول (2) .
السابع من أكتوبر لحظة فارقة في عمر هذه الأمة المسلمة، واللحظات الفارقة في عمر الأمم كلص في الليل هكذا تجيء وتحدث، بل وأثبت الطوفان بأنها هكذا تصنع، تصنع على خفاء، وفي زمن طويل، تصنع في ليل الأمم وفي ثنايا الظلمات التي تغشاها وفي الأنفاق. خذ هذه العدسة التفسيرية وسلطها على يوم الطوفان يوم السابع من أكتوبر تراها مشبعة بالحمولة الدلالية لكونها لحظة فارقة، من حيث الإعداد والتنفيذ، هو يوم من أيام الله.
اللحظات الفارقة تصنع في ليل الأمم، والأمة المسلمة عاشت ترنحات في الهوية، وانخفاض مهول في سقف الفعل والإمكان، بل وحتى التطلع والتفكير بعد الثورات المضادة، وقُوِّضت بعض القوى الفاعلة، وتوهم كثير من الناس أننا دخلنا في متاهة مسدودة الأفق، لا نعرف من نحن لشدة الاضطراب والظلام ولا أين نحن ولا إلى أين؟ وجاء الطوفان كلحظة كاشفة لنا عن موقعنا وعن مسيرنا ومصيرنا.
القدر يرفق بمن يؤمن به. واللحظات الفارقة لتفردها لا تدرك بالحسابات الاستراتيجية الأرضية، بل – والنص لأورباخ – “العناية الإلهية [هي] التي يمكن لها وحدها أن تبتدع مثل هذا التخطيط التاريخي وتوفر المفتاح لفهمه” (3).
بهذا المعنى يغدو النص الديني هو الملاذ التفسيري للأمم المرتبكة في اللحظات الفارقة إذ نماذجنا التفسيرية المعتادة أيام الرخاء يصيبها الكساح إذا غمرتنا اللحظات الفارقة. فعندما غمرنا الطوفان كانت مرجعية الوحي المتجاوز هي ما لذنا به لتسمية الأشياء وتفسيرها، فكانت آية في الأنفال ذات قدرة تفسيرية هائلة أكثف من محاضرات هيجل في التاريخ، وفهمنا النفس المؤمنة المتصلة بالسماء عبر التشريح القرآني أكثر من التهويمات الحداثية والمبتورة من عمقها الديني. فصار الوحي يحمل طاقة تفسيرية هائلة لأنه يصل بين العوالم، الواقعي والمطلق، وعالم الشهادة والغيب، والمرئي واللامرئي، فالربط الزماني لا يملكه غير النص الديني، فأصبح نص الوحي يتألق ويحلق في وصف الحال، ويكسونا بدروع وسابغات في وجه العجز والتكالب والمحال، متشربين ليقين واضح بمآل دنيوي وآخروي مأمول. فالطوفان أعاد كل شيء لينطق باسم الله!
اللحظات الفارقة هي قريبة مما أطلق عليها والتر بنيامين Walter Benjamin بـ«الزمن الخلاصي»(4)، أي تلك اللحظة التي ينصهر فيها الماضي والمستقبلي في الحاضر والمباشر.
اللحظات الفارقة هي لحظات بيّنة وانكشاف وتآكل للزائف وبروز للأصيل، هي لحظة بينة بما تحدثه من تمايز بين الأمور الملتبسة، وبهذا يظهر الحق وتقام الحجة ويغلق باب الإعذار في الآخرة والعاقبة، وفي ذلك قال الله في كتابه:
﴿ إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [سورة الأنفال: 42]
وقال شيخ أهل التفسير وإمامهم محمد بن جرير الطبري: “ليموت من مات من خلقه، عن حجة لله قد أثبتت له وقطعت عذره، وعبرة قد عاينها ورآها = «ويحيا من حي عن بينة»، يقول: وليعيش من عاش منهم عن حجة لله قد أثبتت له وظهرت لعينه فعلمها”(5)، وهذا من تهيئة الله في علاه للحظات الفارقة إذ تأتي بميعاد وعلى قدر، ولا تحيط بها ولا بأثرها الخبرة البشرية، وهذا حصل مع طوفان الأقصى، فبالرغم من أنه بني على تقديرات أولية عند صناع القرار كما تم تداوله، من دخول للمحور الإيراني وتفاعله بشكل حقيقي وكثيف، مع تحديد مدد زمنية للحرب، وتحديد نطاق للتوغل معلوم لمن عبر يوم العبور ولكن تفاجأ المجاهدون بحالة الفراغ والهشاشة الصهيونية فتمددوا فيها، وكذلك أمر الله إذا أتى فلا معقب لحكمه، “وإذا أراد الله أمراً هيأ له أسباباً، ويسّره وقدَّره”(6).
اللحظات الفارقة تختبر فهمنا للخصم الحضاري الذي نتدافع معه، الكل يسعى لتوجيه اللحظة لخدمة مشروعه، والحفاظ على مكتسباته واحتواء خصمه أو اجتثاثه، بل وإبادته متى ما تطلب الأمر، ولذلك قبل اللحظة الفارقة كل فاعل في المنظومة القائمة يعد ويستعد بكل أسباب القوة المخضعة للآخر إلا بعض العرب يستعد للتدافعات الكبرى ببيانات الإدانة.
في 2012م قام سليمان عبد المنعم يشق جيبه ويلطم خده في كتابه «الدولة المأزومة والمجتمع الحائر» بسبب عدم استفادة العرب من مناطق القوة عند الخصم الحضاري الإسرائيلي، وكتب مبحث بعنوان: هل نحن نتعلم من إسرائيل؟
وقال مقرّعاً: “كيف أننا لم نتعلم من إسرائيل يوماً ولو درسًا واحداً”(7)
لكن هل فعلاً لم تتعلم الأمة المسلمة ومشاريعها المقاومة ولو درساً واحداً من عدوها؟!
ذكر المؤلف في مقالته المذكورة سلفاً مركزية القوة والإعداد الخشن عند المشروع الصهيوني، وأن “إسرائيل أدركت كما يدرك كل قارئ للتاريخ أن مظاهر القوة هي التي تصنع الحقائق على الأرض”(8). ننزل بالسؤال والخلاصة التاريخية إلى الأنفاق المقاومة وننصت لها بوقار، ففي اليوم الرابع والعشرين بعد المائتين يوم 17 آيار / مايو 2024م خرج الصوت الصادح الرسمي باسم كتائب عز الدين القسام يقول عن الجيش الإسرائيلي الغاصب:
“في حي الزيتون يقطف مجاهدونا رؤوس ضباطه وجنوده، ويسقطون بينهم أعلى رتبة عسكرية معلنة منذ بداية الحرب”(9).
بعد سبعة أشهر من لحظة الطوفان الهادر مازالت قوى المقاومة صامدة في مواجهة العدو المتجبر وتكلفه خسائر هائلة ونوعية، ولم يكن لها أن تصمد إلا بتمام يقينها بأن المحتل يفرض الحقائق ويرسخها بالقوة لا بالحوار في المؤتمرات الدولية، ورحم الله المسيري الذي أدرك باكراً حقيقة المحتل، إذ قال بنَفَس المؤمن المجاهد: أنا لست متعطشاً للدماء، ولكن ليدلني أحد على محتل انسحب من الأرض التي احتلها بسبب المفاوضات أو محاولات الإقناع!”(10).
السابع من أكتوبر..بين منظورين:
في مزرعة في إحدى القرى الأمريكية القصيّة، تصارع الإيمان والكفر في مزرعة، خرج مزارع ملحد أزعجه توكُّل جاره المزارع المؤمن على الله في الحرث والبذر والحصاد، فقصده ذلك اليوم وقال له: “لنزرع سوياً وأنت ادع الله وأنا سأسبه، ونرى ومن يكون محصوله أكثر!”
فلما حل أكتوبر – شهر الحصاد – وجد الملحد محصولاً وافراً عظيماً، فأخذ يستهزئ بصديقه المؤمن، قائلاً:”أرأيت أيها الأحمق.. ما الذي لديك لتقوله عن الله الآن؟! فكان رد المؤمن:
“إن الله لا يصفي حساباته في أكتوبر…!” (11).
” God does not settle His accounts in October”
المؤمن ينظر للواقع بغير العدسة التي ينظر لها غيره، فالمؤمن المنطلق من جذور عقدية صاحب أفق رحيب في تقييم الأمور ووزن الأشياء، وعنده بصيرة نافذة تحدد له تعريفات النصر والخسارة، البذل، والعطاء، والتضحية وجدواها. للدين قدرة على التعريف المتجدد لمعاركنا وسعينا وابتلاءاتنا، الدين يبعث الجدوى بما يمد به المؤمن من معنى متصل باليوم الآخر والمآل الأبدي، وأن الدنيا هي مرحلة ضئيلة بما هو عند الله، الذي هو خير وأبقى. وما يوفره الإسلام كنموذج إحيائي لتعريف رحلة السعي ومكابداته لا يوفرها أي منظور آخر، فالإسلام يمد أصحابه بأفق للفعل والتصور فسيح، فيجعل نومك عبادة، وشهادتك وفناء نفسك غاية ترجو وتهفو إليها الأرواح، ولا يتمنى أحد العودة إلى الدنيا بعد الوفاة إلا الشهيد لما يراه من جزيل فضل الشهادة كما في نص السنة، فقد أخرج مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك خادم النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما مِن أحَدٍ يَدْخُلُ الجَنَّةَ يُحِبُّ أنْ يَرْجِعَ إلى الدُّنْيا، وأنَّ له ما علَى الأرْضِ مِن شيءٍ، غَيْرُ الشَّهِيدِ، فإنَّه يَتَمَنَّى أنْ يَرْجِعَ، فيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ، لِما يَرَى مِنَ الكَرامَة» (12).
والنموذج الحداثي يعيش في حومة الافتقار إلى صوت يأتيه من العالم الآخر بعد القطيعة التي عملها في الزمان والمكان، فقطع كل حباله المتصلة بالسماء، بينما النص النبوي في هذا السياق ينقلنا إلى صورة آسرة مما يلاقيه الشهيد بعد وفاته، وهذا النص وغيره يجدد أشواق المؤمن للفعل المتصل بهذه الجزاءات التي لا تنفد، وكل يسعى ليرى عند الله من الكرامة!
المؤمن بالله واليوم الآخر والقدر خيره وشره لا يهزم، حبسه خلوة ونفيه سياحة وقتله شهادة، أي طاقة بعثية حركية يقذفها الإسلام في أتباعه، طاقة لا تكبلها ترسبات المادية، ولا أدران الحداثة، طاقة تتجدد ذاتياً، طاقة تخرج من بين دفتي كتاب، يقبل المؤمن على قرآنه مستودع الهداية والبصيرة، يتشرب هداياته وتعريفاته ويخوض بها غمار ترشيد مسيرة السعي البشري بصورة دائمة.
ولذلك من يجعل أفقه هذه المرجعية الحية لا يرضى بالقهر ولا الذل، ولا ينسى ولايهزم، ذاكرته المؤمنة تتصل من طوفان نوح إلى طوفان أكتوبر آلاف السنوات وهو يعبره بنور من الهداية، لا قطيعة ولا انفصام، هذا المؤمن الذي يخوض غمار التاريخ ماسك بزمام فرسه متوشحاً رداء دينه يقيه ويتقي به، هو من لحظة ميلاده إلى استشهاد في رباط، رباط على ثغور دينه ودنياه، رباط على تعريفاته ومقولاته، في ظل الهزائم التي منيت بها أمته في انكسارة الثورات المضادة هو يحفر الأنفاق ليعبر الطوفان، ولا يحفر النفق إلا من أيقن الوصول.
الفرد الذي صنع الطوفان.. ما الذي بعثه وحركه؟
الحفر والتنقيب عن البواعث يجعل المقاربات تواجه عسر شديد في التفسير، ولكن نحاول أن نقدم محاولة إحيائية للبواعث التي حركت الفرد الذي صنع الطوفان.
الفرد الذي يصنع الطوفان والتحولات الكبرى؛ تحركه التعريفات الواضحة لذاته ودوره وقضيته ومآله، يقينه بالعافية وأن النهاية ستكون نصراً لامتداده ونسبه العقدي والإيماني، أولئك الذين ساروا من بعده على ذات المعتقد واليقين، يتحرك المؤمن ولا يستعجل التدابير الإلهية، ولا يستكره النصوص لتصف الواقع الذي يريد، بل هو في رحلة إعداد واستعداد دائم، من محبرته إلى مقبرته.
نحن كائنات تعيش على الإيمان أكثر مما تعيش على غيره، لم نرتوي من الفلسفة ولا المنطق، ولا شيء يضفي المعنى على مسيرتنا البشرية مثل الإيمان، وقد تفطن باومان في كتابه Of God and Man وبعد أن أرهقته السوائل، حاول أن يلجأ إلى شيء صلب يفسر الوجود، فلما ترسى سفينته إلا على الإيمان، فقال:
«أن أغلبنا سيجد حياة بلا إيمان حياة يصعب احتمالها» (13).
لهثت الحداثة والعلمنة إلى إحالة الدين – كمحرك للفعل ومفسراً له – إلى التقاعد ولكنها عجزت عن ذلك، فهذا كين ويلبر Wilber Ken – الذي يعده البعض أحد مفكري القرن الحالي – يصور هذا العجز ويؤكد على قوة البعث الديني وتأبّي الدين على الاستئصال في بنية الفعل البشري. حيث يقول: “لقد توقع علماء الاجتماع منذ فترة طويلة أن الحداثة ستجرف بسهولة جميع الفصائل الدينية، جيث أن تلك الأخيرة إنما هي معتمدة على خرافات بديهية وقبل حداثية لاغير. بيد أن العالم الحديث ما يزال مكتظاً بالعديد من الحركات الدينية التي ترفض ببساطة أنها تنصرف”(14).
هذه المركزية التي يحتلها الدين كمعامل نوعي في بعث وتحريك الفعل عند الأفراد ليس خاصاً بالأمة المسلمة، بل هو حاضر وبكثافة عند خصم الأمة الحضاري وفي مقدمته المشروع الصهيوني، حيث جعل وعده وميعاده مبني على نصوص دينية تلمودية. فهذا العجوز الحائر بنيامين نتنياهو المستروح مع ميوله العلمانية في خياراته السياسية والحزبية، ولكنه عندما جرفه الطوفان وزلزل أركان استقراره ومعتقداته الزائفة، هرع لائذاً بنصوص قومه الدينية التي لايؤمن بها، ولم يكتف بالاستدعاء للنصوص الدينية وإنما غرف منها غرفاً، ولكثافة الحشد النصي الذي عمله نتنياهو، اتكأت جنوب إفريقيا (15) في الدعوى التي قدمتها أمام محكمة العدل الدولية في إدانة الكيان الصهيوني على النصوص الدينية التي لهث بها المقامر نتنياهو.
في أوقات التدافعات الكبرى واللحظات الفارقة تلوذ الأمم بأصولها، وتُرابِط على بديهياتها، تعود إلى الجذور العقدية التأسيسية، يُعرِّف الأفراد الأفذاذ الحدث بعدسة قضيتهم حتى يدفعوه ويتدافعوا معه، فالحرب بين حق وباطل، وهناك ثلة تسعى لإقامة مراد ربها فإما تقيمه بحقه أو تنفرد سالفتها ولها الجنة، وليس ذلك إلا للمؤمن.
هذه الأيام أيام الله، مضت أيام الاهتزاز وترنح الهوية وتآكل المعنى وضبابية الرؤية، والتشكيك في الأصول، هذه الحمولة الشعورية المنكسرة التي ورثتها الثورات المضادة طليعة 2013م، مضى عهدها بعدما غمرنا طوفان الأقصى ورأب صدعنا وجبر كسرنا، وبدأنا نردد ونصدح بماقاله الجواهري في لحظات أفوله نقوله في لحظات انبعاثنا:
أرح ركابكَ من أينٍ ومن عثَرِ
كفاك جيلانِ محمولاً على خطر ِ
كفى الأمة وقواها الفاعلة ماعاشته من عثر وأين وأنين، فاقت الأرواح المؤمنة إما باستنقاذ الله المباشر لها بما يسره له من أسباب الهداية المباشرة، أو بتثبيت الله ثلة مرابطة على المحكمات في سنين الالتباس فخرج بها ومعها جيل صاعد مستبصر للحظته ماسك بزمام فرسه كلما سمع هيعة في ثغور دينه هرع ليسدها، جاء وقت أصحاب العزائم، حملة المشاعل في أزمنة اليأس، العابرين الأسوار على جسور اليقين، الذين صبروا وصابروا ورابطوا ففتح الله بهم الأسوار المغلقة.
الأفراد الأفذاذ الذين يصنعون اللحظات الفارقة كيف نصنعهم؟
في رواية التائهون كتب أمين معلوف على لسان أحد أبطاله التائهين: “المناضلون يأتون دوماً في الوقت المحدد”(16)، وكذلك الأنبياء يأتون في أوقات محددة معلومة، أو بتعبير الوحي المشرق: يأتون على قدر، قال الله: {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه:٤٠]
لا تجيد السير كل قدم، والأقدام التي تسير في كل اتجاه لا تصل، والفعل في الواقع يقتضي نمط من الخليقة صنعوا على معالم معينة، إذ الحركة والفعل لها تكاليف وتوجب مكابدات للنفس والطريق وتحدياته، قادة اللحظات الفارقة هم من يُشكلِّها ويتشكّلُ بها، هم أبطالها وقد يكونوا ضحاياها في نفس الوقت، أي أنها يجودون بأرواحهم في سبيل إتمام المسير، ولكن ما سمات هؤلاء الأفراد الأفذاذ؟ كيف تكونوا وصنعوا؟ ما مدخلات تكوينهم؟
للأفراد الأفذاذ حزمة من السمات التكوينية لبنيتهم الشخصية، تم رصدها ومعاينتها ممن قرأ في أدبيات التغيير الاجتماعي والسياسي أو السير الذاتية لبعض هؤلاء الأفراد، أو عايش أحد هؤلاء الذين قلما يجود بهم الزمان، ومن يدرك صفاتهم من معايشتهم ليس كمن قرأ عنهم إذ الخبر ليس كالمعاينة. وهنا أدلف لذكر هذه السمات بشيء من التفصيل:
1. الصبغة المهيمنة: الأفراد الأفذاذ منقوعين في طينة جذورهم العقدية، مستمدين منها هويتهم وبوصلة مسيرتهم ويافطات شعاراتهم التحريكية الصادقة، واخترت الصبغة ولم أختر الفكرة ولا القضية، لأن الصبغة تصهر الفكرة والطريق وتنقع صاحبها فيهما، وقلما يجالس المرء من اصطبغ بهذه الصبغة إلا أصابه شرره وخطفه بريقها الهادر من عين صاحبها، والصبغة تجمع الفكرة الواضحة الهادية، مع يقين فوار فائض بها، واليقين في الإسلام يورث بصيرة ونور فيعبر بهما الأفراد الأفذاذ لحظات الالتباس وهذا ما يرفع منسوب تأثيرهم في واقعهم، وقد يصبغ المرء بصبغات كثيرة ولكن من أحسن من الله صبغة؟
2. صلابة في المنافحة: الفكرة الهادية تحتاج إلى منافحة وطول زمن لتحققها في الواقع، وتتعرض الفكرة وحملتها لأهوال وآلام، فينتكس من لم يخالط اليقين بشاشة قلبه أو تغلغل في صدره الشك، ولا يثبت إلا هؤلاء الأفراد الأفذاذ الذي نحتوا في صدورهم صبغة ربهم، ويظهروا جلد وإصرار وكأن النصر بين أعينهم وكل من حولهم يشك في كل شيء حتى في وجوده الذاتي، وهو يحدث الناس بما وراء الخندق، وهو يعاينه بنور البصيرة والسنن الإلهية والتحقق الحتمي للمراد الإلهى متى ما أقيمت الشروط وانتفت الموانع.
3. قناصي الفرص: اللحظات الفارقة ليست لحظات عادية في عمر الأمم، وتُحدِث من التحولات ما يحار فيها الحليم أحياناً أو يحجم وإن لم يسقط في الحيرة، ولكن هؤلاء الأفراد الأفذاذ يتمتعوا بالقدرة على الحركة في المساحات الضبابية بجدارة، الناس يرون الخطر وهم يرون الفرصة، الناس ترتعب من التحديات والمفاسد وهم يرون الفتح وأضواء البوارق، وربما هذه الصفة ما يجعلهم يتمايزون فيما بينهم، أي إقدامهم في مواطن إحجام غيرهم. وما يستحق الانصات الوقور، أن القرآن الكريم فرق بين المسارعة والعجلة، فحث على الأولى وليس على الثانية، إذ المسارعة قيام على اللحظة بما تستحقه، والعجلة تعلق مغري بالنتيجة، ولذلك تمدح المسارعة ولا تمدح العجلة في نص الوحي، لأن العجلة تُقعِد لتعلق الفرد بالثمرة.
4. مرابطون على البديهيات: حين تمور بالشعوب الاضطرابات ويقوض سقف الممكن، وتتآكل الآمال والوعود المشرقة، يتساءل الناس عن الطريق، وعن ذواتهم وجدوى ما كانوا يعتقدوه، حتى يصل بالبعض أن يتساءل عن جذورهم العقدية، أو يتوهم الحل في التخفف من هذه الجذور العقدية، فيتركها ويتولى صوب الدولة المرفهة آمالاً أن يجد فيها ملاذه ومرساه، ويجد فيها كل شيء ما عدا سكينة قلبه، في ظل هذه الحومة، يدرك الأفراد الأفذاذ الإشكالات المعمقة التي أدت بالقوى الفاعلة في الأمة إلى الانتكاسة، ويمسكوا بصلابة بحائط الصد الأخير، وهو التعريفات الأساسية، فيرابطوا بالتعريف بها والمنافحة عنها، وتذكير الناس بأنها هي مورد النهضة والتحرر وليس سبب الهزيمة، ويحشدوا الدلائل والبراهين النظرية والعملية على صحة هذه الأصول، فيثيب الناس بعد زمن إلى أصولهم، وإلى جذورهم العقدية، بفضل رباط هذه الثلة المؤمنة في وقت الالتباس.
5. الإجابة على أسئلة الواقع: يلتقط هؤلاء الأفراد الأفذاذ الأسئلة القائدة في لحظتهم الفارقة، ويدركون أن “لكل مرحلة زمنية أسئلتها الكبرى الموضِّحة لأهم مشكلاتها والكاشفة عن أبرز تحدياتها”(17)، وبناء على هذا الإدراك يبنون مشاريعهم وأنماط تفاعلهم مع الواقع، بينما هناك من يعمل ويقدم إجابات على أسئلة ومشكلات غيره، والبعض يستنفد الأعمار في أسئلة جزئية بدلاً عن الأسئلة الكبرى، بينما الفرد الفذ ببصيرة ويقين يقتنص أهم الأسئلة، ويوجِّه إليها الطاقات ويحشد لها الجهود، وأهم فارق بينهم وبين غيرهم أنهم يقدمون إجابات عملية على أسئلة الواقع، لأن هناك من قد يوفق إلى تقديم تصور متكامل لأسئلة اللحظة الفارقة لكن تستهويه الإجابة فيدور في فلكها ولا ينزلها إلى واقع الأمة ليختبر صحتها وصلابتها.
6. مركزية العمل: الأفراد الأفذاذ منغمسون في العمل، تصاغ أرواحهم وضمائرهم وتصبغ بمركزية العمل، وعدم الاتكال على نحيب التجارب السابقة، والانشغال المتشفي بتقييمها بل ما يهمهم هو ارتشاف العبرة واستخلاص الدرس والدعاء بالقبول والمغفرة لمن سبق، ويمضي لإتمام المجال. أدركوا بأن العمل هو بوابة التأثير النوعي، وأن اللحظات الفارقة قد تترنح فيها الجدوى في مقامات معينة، ويعقبها جلوس وغرق في النقد والتنظير الفائض من دون أي فعل إصلاحي في الواقع، بينما هم يُعرِّفون العمل كسبب لاستجلاب العون والمدد الإلهي، وأنه من أهم أسباب جرف اليأس والإحباط الذي يصنعه القعود، وهو الذي ينضج خميرة المشروع ويرشد المسيرة، ويزن الأفكار التأسيسية ويعدلها، ولن يخلو مشروع أو سعي من قصور، ومناقشة القصور في الغرف والفنادق لا يضمن عدم وقوعه في أخطاء وخطايا في لحظات التنزيل إذ للواقع إكراهاته، وللعناية مددها. يسير وهو موقن بأن “كل مسألة لا يترتب عليها عمل لا فائدة منها ولا حاجة للبحث فيها، بل يقضي بأن كل كلام ليس تحته عمل يجب تركه”(18)
7. طول النَفَس: سئل الخبير في الحركات الإسلامية حسن أبوهنية، في حلقة بودكاست (19) عن سبب انتصار طالبان، فقال: جنرال زمان كما يقول الأفغان!
أي أن الزمن لعب دوراً فاعلاً في دحر المحتل، الأفراد الأفذاذ رهانهم دائماً على المستقبل، مع نَفَس صبور ومكابد، وهذا كان بارزًا عند مؤسس حركة المقاومة الإسلامية حماس الشيخ الشهيد أحمد ياسين، فقد ذكر مرة، في تعريفه لجذر المعركة مع المحتل فقال: “نحن والآخرون على صراع مع الجيل، من ينتصر في معركة الجيل ينتصر في معركة المستقبل”(20) . وهؤلاء الأفراد الأفذاذ بمزيج سماتهم من الصبغة المهيمنة مع صلابتهم ورباطهم على سرديتهم وبصيرتهم في اقتناص الفرص ومركزية السعي والعمل عندهم، يراهنون كثيراً على الزمان وعلى دورته، ويوقنون بأن الأقرب للنصر هو الأكثر تحملاً.
8. دوام طلب المدد الإلهي: الأفراد الأفذاذ بقدر صلابتهم واستعلائهم لكنهم شديدي الافتقار بين يدي خالقهم، لا يفترون عن اللجوء إليه في كل حال، يقينهم بكون الله هو المدبر للكون الذي يسعون فيه يجعلهم دائمي الرجوع إليه والانطلاق من كتابه وسنة نبيه، مدركين أن هذا عصر لن نعبره إلا باليقين والتوكل ودوام الانطراح بين يدي الله، لأن الحسابات البشرية مهما بلغت تظل قاصرة عن تقرير المصير بإحكام، فهم في جوف الخناق موقنين بما عرفه هرقل في حديثه عند البخاري في ثنايا حديثه مع أبي سفيان عندما قال: وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة..ثم تكون لهم العاقبة..ثم تكون لهم العاقبة!
في الختام نكثف ما طُرِحَ:
يمثل الطوفان في ذاته لحظة نماذجية لتجسد العمل المتراكم لمئات أو آلاف الأفراد طوال سنوات ممتدة، ومن الأهمية بمكان موضعة الروح الإحيائية والدينية التي يخلقها الطوفان باعتباره لحظة فارقة، مع استقصاء للتحولات الغائرة التي تحدثها اللحظات الفارقة في الأفراد والأمم، مع استصحاب المكون المصاحب للحظات الفارقة، وإعادة الاعتبار والتنبيه له في هذه العملية ألا وهو (الفرد الفذ). الفرد الذي صنع هذا المسير كله، وكان مرتكزه الأساس في العمل هو (الدين). في هذه المقالة حاولت اجتراح مسار لسبر أثر الدين على الأفراد الذين يصنعون الفارق بالتراكم، ثم يظهر هذا الأثر في المعارك المصيرية، واللحظات الفارقة، وأثر الدين في تربيتهم للكوادر التي يُحركها الدين وتصنع هي بدورها التغيير اللازم.
كما يعرج المقال على نفسية وبناء هؤلاء الأفراد وموارد استمدادهم الديني، ويشير إلى العلاقة الجدلية بين اللحظات الفارقة والأفراد الأفذاذ المحتاج إليهم سلفاَ، مع مرور طفيف على حالة التدين الفرد الذي تشكّل في ثنايا انتكاسة الثورات المضادة، ثم ما لبث أن تلاشى عند الشدائد الحقة الفارقة. وغاية المقالة إبراز قَسَمات اللحظات الفارقة، والأفراد الأفذاذ الذي يشكلونها ويتشكلون بها، وأهم المقومات النوعية لهؤلاء الأفراد، مما يرشِّد حالات السعي عند القوى الفاعلة في بناء الفرد الذي تحتاجه لحظة الطوفان، وكيفيات عبور الأفراد الأفذاذ اللحظات الفارقة لصناعة الطوفان.
المراجع:
- بندكْت أندرسون، «الجماعات المتخيَّلة»، ترجمة ثائر ديب، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، تقديم عزمي بشارة، الطبعة الثانية، (2017م): (مبحث جذور ثقافية صـ67 – محور إدراك الزمن صـ82).
- بندكْت أندرسون، «الجماعات المتخيَّلة»، ترجمة ثائر ديب، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، تقديم عزمي بشارة، الطبعة الثانية، (2017م): صـ 84
- Auerbach, Erich. Mimesis. The Representation of Reality in Western Literature. Translated by Willard Trask. Garden City, N.Y: Doubleday Anchor, 1957, p. 64
- Benjamin, Walter. Illumination. (London: Fontana. 1973), p.265
- الطبري، «جامع البيان القرآن، حققه وخرج أحاديثه محمود شاكر وراجع الأحاديث أخيه أحمد شاكر قبل أن يتوفاه الله ويرثيه أخوه محمود في مقدمتي المجلد 13 و 14، مكتبة ابن تيمية القاهرة، الطبعة الثانية، صـ 568
- ابن كثير، «تفسير القرآن العظيم»، حققه وخرّج أحاديثه وشرح غريبه يوسف بديوي وحسن سويدان، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، (2013م)، صـ 898
- سليمام عبد المنعم، «الدولة المأزومة والمجتمع الحائر»، دار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة الأولى، (2012م)، صـ 189
- المرجع السابق، صـ 194
- كلمة الناطق الرسمي باسم كتائب عز الدين القسام، قناة الجزيرة، يوم 17 آيار / مايو 2024م، الساعة السابعة. من هذا الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=dyN_b1wYK2Y
- عبد الوهاب المسيري، «الهوية والحركية الإسلامية»، تحرير سوزان حرفي، دار الفكر، الطبعة السادسة، (2017م)، صـ 170
- عبدالله الشهري، «المخرج الوحيد..ملحمة الخلاص بين قلق السعي ومدد الوحي»، تكوين للدراسات والأبحاث، الطبعة الأولى، (2020م)، صـ 475 – 476
- البخاري، «صحيح البخاري»، مركز الرسالة ناشرون، الطبعة الثالثة، (2020م)، صـ 760
- Bauman, Z. and Obirek, S. (2015) Of God and Man. Polity Press, p.94
- Wilber, K. (2000) A Theory of Everything: An Integral Vision for Business, Politics, Science and Spirituality, Gateway, p.133
- https://asharq.com/politics/87716/حرب-غزة-خطابات-نتنياهو-السياسة-الدين/
- أمين معلوف، «التائهون»، دار الفارابي، الطبعة الأولى، (2013م)، صـ542
- أحمد السيد، «بوصلة المصلح.. أسئلة المرحلة وخارطة العمل»، دار منار الفكر، الطبعة الثانية، (2023م)، صـ 13
- طه عبد الرحمن، «سؤال ما العمل»، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية، (2012م)، ص14
- حلقة بودكاست مع أسامة غاوجي فاصلة منقوطة/ الدقيقة الثانية بعد الساعة الأولى: https://www.youtube.com/watch?v=Alp2Wnd58bM&list=PLjWvMb3zipr_0eO3oekbNC_obqmS8VCgN
- حلقة المقابلة مع إسماعيل هنية | الجزء الثاني | الدقيقة 16: https://youtu.be/AIKV5yzrsHE?t=1000