المدونة

داعية الإيمان

كلما وقفت على قوله تعالى: ( رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ۚ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ) آل عمران: ‎﴿١٩٣﴾‏ يتراءى لي منظر الشيخ المهيب، عمامته البيضاء، جبته الأنيقة، وقوامه الفارع، وصوته الشجي، وسحنته المشرقة، وابتسامته العذبة، وتنثال في ذاكرتي، آيات الإيمان وهو يتلوها علينا كمفتاح لكل خير: فالنصر شرطه الإيمان، قال تعالى: (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ)محمد :8. والعزة أساسها الإيمان، قال تعالى: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) المنافقون:8. والحياة الطيبة منبعها الإيمان، قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) النحل:97. وهكذا كان يرسم  لنا شيخنا خريطة الحياة من خلال خيوط الإيمان، ويربط منطلقها  ومآلها بالحقيقة الكبرى في الوجود، الإيمان بالله عز وجل.

أتذكر هذه المسيرة الإيمانية اليوم، ونحن نودع شيخ الإيمان وداعية الإسلام شيخنا العلامة: عبد المجيد الزنداني، ذلك الذي ظللت أتامل في الخيط الناظم لحياته، والرسالة التي ظل يدأب لها سني عمره، فوجدت مفتاح ذلك في الإيمان.

الإيمان الذي ظل مشروعه الأسمى، حيث نشأ في البقية الباقية من الموروث الإيماني اليماني، الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (الإِيمانُ يَمانٍ) صحيح البخاري.

أدركت ذلك منذ التحقت بجامعة الإيمان، حيث شرح لنا فيها الشيخ كتابه (الإيمان)، فوعيت من وقت مبكر منهجية الإحياء الإيماني عند الشيخ، وهي منهجية تنطلق من القرآن لتصحيح التصور العقدي، وتؤسس للعبودية الخالصة لله، وتثمر ذلك في سلوك حضاري، يحرر طاقات الإنسان، ويسخّره في إعمار الأرض، ومقاومة الفساد.

الإيمان كتب الشيخ عبدالمجيد الزنداني داعية الإيمان

هكذا فهمنا العقيدة من شيخنا، روح تتغلغل في الوجدان، ومنطق علمي وعقلي يستقي قواطعه من القرآن وحقائق الكون الساطعة، وسلوك عملي ينهض بالأوطان، ونُفرة من الجدل الكلامي العقيم، والنصوص اليابسة التي يروجون لها باسم العقيدة.

هذه المنهجية الثلاثية التي تلامس العقل والوجدان وتحفز الفعل البشري السوي، لم تكن مجرد دروس يلقيها الشيخ ثم ينصرف لا يلوي على شيء، بل تجسدت قبل ذلك في مسيرته، فهو أحد مؤسسي الحركة الإسلامية اليمانية في العام 1961م، لتمثل الخط البديل لنسخة الدين الكهنوتي الذي كانت تحكم باسمه الإمامة اليمن آنذاك، وتقدم البديل الحضاري للشباب اليمني حين أغرتهم رايات اليسار والعلمانية المنتفشة في ذلك الزمن.

وقد انتدبه أبو الأحرار الزبيري ليكون رفيقه في ترشيد ثورة 26 سبتمبر 1962م، فعرفه الناس في طليعة المدافعين عن الجمهورية، المحافظين على خطها الإيماني الأصيل، وكانت إذاعة صنعاء تبث له برنامجاً بعنوان: ” الدين والثورة”؛ داعياً الجماهير إلى التمسك بالجمهورية والإيمان، والتمييز بين الكهنوت الإمامي وبين دين الله، وقد أنشد شاعر شعبي  قصيدة آنذاك بمناسبة تأسيس الزبيري والزنداني لحزب الله جاء فيها:

حزبنا حزب الله

لا نبا شيوعي ولا حكم الطغاة

فهي إذاً إسلامية وسطية تنفر من حكم الأئمة الطغاة، وتقاوم من وقت مبكر المشروع الماركسي، لأن كلا الطريقين استعباد للإنسان، باسم آل البيت أو باسم آل ماركس.

الإيمان الشيخ عبدالمجيد الزنداني داعية الإيمان

انخرط في سلك التعليم مبكراً، فألف كتاب (التوحيد) لطلبة التعليم العام، وفيه قدم عقيدة الإيمان من خلال خطاب عقلي وعلمي ينطلق من القرآن وحقائق العلم الحديث لتقرير كبرى اليقينيات، بأسلوب عذب قريب للناشئة، وقد تربت على الكتاب الأجيال اليمنية لثلث قرن، فكان نواة لتوحيد الذهنية اليمنية.

ثم أتاحت له الفرصة يوم أن كان مندوب اليمن في رابطة العالم الإسلامي لتأسيس هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، ليحاور علماء العالم بحقائق القرآن، ويدعوهم إلى رحاب الإيمان، منطلقاً من عدم مصادمة القرآن لأي حقيقة علمية، ليمثل حالة فريدة نجت من الفصام النكد الذي يعانيه العلم والدين في الغرب، وقد أثمرت جهوده في الإعجاز انعطافه إيمانية من الشباب المسلم آنذاك تجاه القرآن، وطوق نجاة من طوفان الإبهار الغربي.

وعند عودته إلى اليمن، توّج رسالة الإيمان بتأسيس “جامعة الإيمان”، لتكون المعمل الرئيس لإنتاج العالم بدينه، العارف بعصره. وقد أثمر الزرع المبارك، وانتشر طلابه في مختلف القارات دعاة وعلماء، ينشرون رسالة الإيمان في الأرض.

الحديث عن شيخ الإيمان، حديث عن أمة في رجل، غير أني اخترت مفتاح شخصية هذا الداعية الكبير، لفهم مشروعه، وقد رحل اليوم عنّا، وكان من أواخر أمنياته رؤية البسمة تعود إلى شعبه المنكوب بالإمامة من جديد، وكان من أواخر مشاريعه التي عرضها علينا – قبل سنوات- الدخول في حقل السينما لإنتاج فيلم سينمائي يحكي توافق حقائق العلم الحديث مع آيات القرآن، حيث يكون الفيلم رسالة إيمانية فنية موجهة للعالمين.  لعل الله أن يحقق أماني الشيخ في تلاميذه ومحبيه، مثلما حقق له العديد من المشاريع والمنجزات الوطنية والعالمية في حياته وعلى يده المباركة.

اللهم يا أرحم الراحمين: أنزل شآبيب رحمتك على داعية الإيمان، والرهط الذي صدقك من الدعاة المعلمين وأساتذة التربية الإيمانية، واغفر لهم، وارفع مكانهم عندك ، وأدخلهم الجنان العالية ، إنك رؤوف رحيم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى