تمهيد:
تمثِّل أحاديث النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- مصدرًا مِن مصادر تلقِّي الدين، إذ يقوم الدين الإسلامي على الوحي، بصيغتيه القرآن والسنَّة؛ كما أنَّها رافد مِن روافد العقيدة والشريعة والمعرفة. وقد ظلَّت أحاديث الفتن وأخبار آخر الزمان، الواردة في كتب السُّنن والآثار، محلَّ عناية واهتمام وإثارة عبر التاريخ الإسلامي، حيث باتت الأجيال التالية لجيل الصحابة والتابعين تراقب وقوع هذه الفتن والأخبار مصداقًا لقول الرسول الكريم، وتتحيَّن تحقُّقها. وانشغلت بها فرق وطوائف تالية حتَّى تكلَّفت حدوثها وإيقاعها، واتَّخذ بعض الكذَّابين مِنها ميدانًا للكذب على رسول الله ودسِّ الفخاخ فيها بصناعة شخصيَّات وأحداث وأفكار تهدم الإسلام وتحارب الأمَّة، غير أنَّ هذا لم يمنع مِن تدوينها وحفظها وتناقلها والعناية بها تحقيقًا وتدقيقًا. وفي حين أنزلها بعض العلماء منزلة أحاديث العقائد والإيمان والعبادات والحلال والحرام، حتَّى شدَّدوا فيها، تساهل فيها فريق آخر نظرًا لخصوصيَّتها.
هذه الورقة توضِّح مسار التعامل مع أحاديث الفتن وأخبار آخر الزمان بين الرواية والكتمان والتشدُّد والتساهل، في سبيل تقديم منظور معتدل ومتزن في التعامل معها، نظرًا لحاجة الأمَّة إليها مِن ناحية، واعتبارًا بالإسقاطات الخاطئة والتوظيفات المنحرفة التي جرت عليه.
هل كلُّ ما نطق به الرسول وحي ودين؟
تفاوت اعتناء الصحابة -رضي الله عنهم- بأحاديث الرسول حفظًا ورواية بحسب مراتب هذه الأحاديث ومواضيعها، وأهمِّيتها ووظيفتها. بمعنى أنَّ الله تعالى لم يكلِّف الأمَّة بحفظ كامل أحاديث الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- كيفما كانت، كما كلَّف الأمَّة بحفظ القرآن الكريم كاملًا. ذلك أنَّ مِن تلك الأحاديث ما يخرج عن الأهمِّية الدينية، بمعنى آخر، ليس كلُّ ما تكلَّم به رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- هو وحيٌ ربَّاني، ومصدرٌ لعقيدة أو شريعة أو أيٍّ مِن جوانب الدين الأخرى، وهنا يمكن الاستشهاد بأربعة نصوص حديثية في هذا الشأن:
– مِن ذلك ما صدر مِنه -صلَّى الله عليه وسلَّم، عندما رأى أهل المدينة يؤبِّرون النخل، أي يلقِّحون أشجار النخل، فقال لهم: (لو لَم تَفعَلُوا لَصَلُحَ)، فخَرَجَ شِيصًا، أي غير صالح، فَمَرَّ بهم فَقال: (ما لِنَخلِكُم؟!)، قالوا: قُلْتَ كَذَا وَكَذَا، قال: (أَنْتُم أَعلَمُ بأَمرِ دُنيَاكُم)(1) . فما خرج مِنه كان اجتهادًا في أمر دنيوي لا صلة للوحي به، ولم يكن في شأن عقدي أو تعبُّدي أو ذي صلة بالحلال والحرام أو التشريع، لهذا أبدى -عليه الصلاة والسلام- تأكيده على أنَّ مُهمَّته هي تبليغ الدين، وأنَّ ما وراء ذلك مِن أمور الدنيا الناس أعلم بها مِنه، باعتبار اهتمامهم وانشغالهم بها، كلٌّ في اختصاصه وفنِّه.
وهذا الحديث نصٌّ واضح في أنَّ العلوم الدنيوية المحضة، التي مدارها على الحسِّ والتجربة والخبرة والمنطق الحسابي أو الرياضي، كعلوم الرياضيات والفيزياء والكيمياء والجيولوجيا والأحياء والفلك وغيرها، أهل الدنيا أعلم بها، وليس للأنبياء فيها مِن العلم إلَّا بقدر ما عرفوه مِن خبرتهم الشخصية أو بقدر ما أوحي إليهم فيها؛ وبالتالي فمردُّها العقل البشري.
– ومِن ذلك خطبة رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم: (أيُّما رجل مِن أمَّتي سببته سُبَّة، أو لعنته لعنة، في غضبي، فإنَّما أنا مِن ولد آدم، أغضب كما يغضبون، وإنَّما بعثني رحمة للعالمين، فاجعلها عليهم صلاة يوم القيامة). ومناسبة الحديث أنَّ حذيفةُ بن اليمان -رضي الله عنه- كان بالمدائنِ، فكان يَذكُر أشياءَ قالها رسولُ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- لأُناسٍ مِن أصحابه في الغَضبِ، فيَنطلقُ ناسٌ ممَّن سمِع ذلك مِن حذيفةَ فيأتون سلمان -رضي الله عنه- فيَذكُرون له قولَ حُذيفة، فيقول سلمان: حُذيفة أعلمُ بما يقول. فيرجِعون إلى حُذيفة فيقولون له: قد ذَكَرنا قولك لسَلمان فما صدَّقَك ولا كذَّبَك. فأتَى حُذيفة سلمانَ، وهو في مَبقلةٍ، فقال: يا سلمان.. ما يَمنعُك أن تُصدِّقَني بما سمعتُ مِن رسولِ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم؟! فقال سلمان: إنَّ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- كان يَغضَبُ فيقولُ في الغَضبِ لناسٍ مِن أصحابِه، ويَرضَى فيقولُ في الرِّضا لناسٍ مِن أصحابِه، أمَا تَنتهي حتى تُورثَ رجالًا حُبَّ رِجالٍ ورِجالًا بُغضَ رِجالٍ، وحتى تُوقِعَ اختلافًا وفُرقة؟ ولقد عَلمِتَ أنَّ رسولَ اللهِ خطَب فقال: وذكره(2). ولمعنى الحديث شواهد صحيحة. فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: (اللَّهُمَّ فأيُّما مُؤمِنٍ سَبَبتُه فاجعل ذلك له قُربَة إليك يوم القيامة)(3). وعن جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما- أنَّ النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: (إِنَّما أنا بَشَرٌ، وإنِّي اشتَرَطتُ على رَبِّي -عزَّ وجلَّ- أيُّ عبد مِن المسلمين سَبَبتُه أو شَتَمتُه أن يكون ذلك له زَكَاةً وأجرًا)(4). إذن فما خرج في صيغة الانفعالات الشخصيَّة والاحتياجات البشرية لا يلحق بالوحي، ولا يشكِّل مصدرًا للدِّين، وإنَّما هو مِن الكلام البشري الاعتيادي. ومثل هذا غيرُه مِن الكلام الاعتيادي الذي يحتاجه الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- في حياته، مع أهله وخادمه وجيرانه وأصحابه ومجتمعه عمومًا.
ولعلَّ شخصًا أن يستشهد بقول الله تعالى: ((وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَىٰ * إِن هُوَ إِلَّا وَحيٌ يُوحَىٰ))(5)، وبما ورد في حديث عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أنَّه كان يكتبُ كلَّ شيءٍ يسمعُه مِن رسول اللَّه -صلَّى اللَّه عليه وسلَّم، يريدُ حفظَهُ، فنَهَته قُريش عن ذلك، وقالوا: تَكتُبُ ورسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّه عليه وسلَّم- يقول في الغضب والرِّضا؟! فأمسَك عن الكتابة حتَّى ذكر ذلك لرسول اللَّه فقال له: (اكتُب فوالَّذي نَفسِي بيدِهِ ما خرَجَ مِنه إلَّا حقٌّ)(6).
والجواب: أنَّ الآية والحديث يعودان إلى ما يتَّصل بالوحي تلاوة وتبليغًا، وتفسيرًا وتأويلًا، وحكمًا وقضاء، وفتوى واجتهادًا، فهو معصوم في هذا كلِّه، وإن اجتهد فأخطأ سُدِّد في خطئه حتَّى لا يُتابع عليه. وهو ما يتَّفق مع النصوص التي سبق ذكرها، ومع منطق العقل والشرع، إذ لو جُعِلَ كلُّ ما نطق به الرسول وحيًا ودينًا لكان في ذلك مخاطرة بالدين، ونفيًا لبشريَّته.
– ومِن ذلك، ما رواه البخاري عن أبي هُرَيرَة -رضي الله عنه- قال: “حَفِظتُ مِن رَسُولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّه عليه وسلَّم- وِعَاءَينِ: فأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثتُه، وأَمَّا الآخَرُ فَلَو بَثَثتُهُ قُطِعَ هَذَا البُلعُومُ”(7). وهذا الحديث دليل واضح على إدراك كبار الصحابة أنَّ ما بثَّه رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قسمان، قسم مِن الدين واجب البلاغ، وقسم مِن العلم الإضافي الذي أوحاه الله له فيما يقع مِن المبشِّرات والفتن. فالقسم الثاني ليس فيه تكليف، ولا عقيدة يختلُّ دين المرء بجهلها أو يحاسب على ترك العلم بها، أمَّا القسم الأوَّل، والذي يضمُّ العقيدة والشريعة والإيمان والأخلاق، فهذا حقُّه البلاغ والعلم والعمل به.
أحاديث الفتن بين الرواية والكتمان:
قال ابن حجر -رحمه الله، معلِّقًا على حديث أبي هريرة السابق: “حَمَلَ العُلَمَاء الوِعَاء الَّذِي لَم يَبُثَّهُ على الأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا تَبيِين أَسَامِي أُمَرَاء السُّوء وأَحوَالهم وَزَمَنهم”، وأضاف: “قال ابن المنِير: وَيُؤَيِّد ذلك أنَّ الأحاديث المكتُوبة لو كانت مِن الأحكام الشَّرعيَّة ما وسِعَه كِتمَانها. وقال غيره: يَحتَمِل أن يكون أراد مع الصِّنف المذكُور ما يَتَعَلَّق بأشراطِ السَّاعَة وتغيُّر الأحوال والملاحم في آخر الزَّمان، فيُنكر ذلك مَن لم يألفه، ويعترِض عليه مَن لا شُعُور له بِه”(8).
وقال العيني -رحمه الله: “أراد به نوعين مِن العلم، وأراد بالأوَّل: الذي حفظه مِن السُّنن المذاعة، لو كُتِبت لاحتمل أن يملأ مِنها وعاء، وبالثاني: ما كتمه مِن أخبار الفتن كذلك؛ ويُقال: حُمِل الوعاء الثاني على الأحاديث التي فيها تبيين أسامي أمراء الجور وأحوالهم وذمِّهم”(9). وقال القرطبي -رحمه الله: “حُمل على ما يتعلَّق بالفتن مِن أسماء المنافقين ونحوه، أمَّا كتمه عن غير أهله فمطلوب بل واجب”(10).
وقال ابن بطَّال -رحمه الله: “قال المهلَّب وأبو الزناد: يعنى أنَّها كانت أحاديث أشراط الساعة، وما عُرِّف به صلَّى الله عليه وسلم مِن فساد الدين وتغيُّر الأحوال، والتضييع لحقوق الله تعالى”، وأضاف: “ولو كانت الأحاديث التي لم يحدِّث بها مِن الحلال والحرام ما وَسِعَهُ تركها، لأنَّه قال: لولا آيتان في كتاب الله ما حدَّثتكم، ثمَّ يتلو: ((إِنَّ الَّذِينَ يَكتُمُونَ مَا أَنزَلنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالهُدَى..))، الآية (11) (12).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله: “ولقائل أن يقول: كيف استجاز كتم الحديث عن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم، وقد قال: (بلِّغوا عنِّي..)؟! وكيف يقول رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- ما إذا ذكر قُتِل راويه؟! وكيف يستجيز المسلمون مِن الصحابة الأخيار والتابعين قتل مَن يروي عن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم؟ فالجواب: أنَّ هذا الذي كتمه ليس مِن أمر الشريعة، فإنَّه لا يجوز كتمانها، وقد كان أبو هريرة يقول: لولا آية في كتاب الله ما حدَّثتكم، وهي قوله ((إنَّ الذِينَ يَكتُمُونَ مَا أَنزَلنَا مِن البَيِّنَاتِ والهدى..))، فكيف يُظنُّ به أن يكتم شيئًا مِن الشريعة بعد هذه الآية، وبعد أمر رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- أن يبلِّغ عنه؟ وقد كان يقول لهم: (ليبلِّغ الشاهد مِنكم الغائب)، وإنَّما هذا المكتوم مثل أن يقول: فلان منافق، وستقتلون عثمان، وهلاك أمَّتي على يدي أغيلمة مِن قريش.. بنو فلان، فلو صرَّح بأسمائهم لكذَّبوه وقتلوه”(13).
ويأتي في هذا السياق ذاته حديث حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه، والذي جاء فيه أنَّ عُمر بن الخطاب -رضي الله عنه- دُعِي لجنازة، فخرَجَ فيها أو يُريدُها، فتعلَّقتُ به فقلتُ: اجلس يا أميرَ المؤمنين فإنَّهُ مِن أولئِكَ. فقال: نشدتُكَ باللهِ.. أنا مِنهم؟ فقال: لا، ولا أبرِّئُ أحدًا بعدَكَ(14). فقد ذكر رسول الله لحذيفة أسماء المنافقين فلم يتحدَّث بذلك.
ويتبيَّن مِن هذه الأحاديث أنَّ الصحابة -رضي الله عنهم- تركوا نشر بعض ما ورد عن الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم، وإذاعته بين عموم الناس، ممَّا لا يتعلَّق بالدين، في عقيدة أو شريعة أو أخلاق أو حلال وحرام، ولا يترتَّب عليه عمل أو تكليف، كمرويَّات الفتن وأحوال الأمَّة وحكَّامها في قادم عهدها.
وقد ذكر حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله خطبهم يوما خُطبَة “ما تَرَكَ فيها شيئًا إلى قِيَام السَّاعة إلَّا ذَكَرَه، عَلِمَه مَن عَلِمَه، وجَهِلَه مَن جَهِلَه، إن كُنتُ لأرَى الشَّيءَ قد نَسِيتُ فأعرِفُ ما يَعرِفُ الرَّجُلُ إذا غَابَ عنه فَرَآهُ فعَرَفَه”(15). وفي رواية: “قام فينا رسول الله -صلَّى اللَّه عليه وسلَّم- مَقَامًا، ما تَرَكَ شيئًا يكون في مَقَامِه ذلك إلى قِيَامِ السَّاعة إلَّا حدَّث به، حَفِظَه مَن حَفِظَه ونَسِيَه مَن نَسِيَه، قد عَلِمَه أَصحَابِي هؤلاء، وإنَّه ليَكونُ مِنه الشَّيءُ قد نَسِيتُه فأرَاهُ فأذكُرُه كما يَذكُرُ الرَّجُلُ وجهَ الرَّجُلِ إذا غاب عنه ثمَّ إذا رَآهُ عَرَفَه”(16).
وعن عمرو بن أخطب قال: صلَّى بِنا رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- الفجر، وصعد المنبر فخَطَبنا حتَّى حَضَرَت الظُّهر، فنزَل فصَلَّى، ثمَّ صعد المنبر فخطَبَنا حتَّى حَضَرَت العَصر، فنزَل فصَلَّى، ثُمَّ صعد المنبر فخطَبَنا حتَّى غَرَبَت الشَّمس، فأخبَرنا بما كان وبما هو كائن، فأَعلمُنا أَحفَظُنَا”(17).
وهذه أحاديث استُعمل فيها ألفاظ عموم غير مرادة قطعًا، وهي مِن العام الذي أريد به الخصوص، ذلك أنَّ تفاصيل أحداث ما كان وما هو كائن لا يعلمه إلَّا الله وحده، وإنَّما المقصود به الأمور العظيمة والأحداث الجسيمة وأشراط الساعة وأصناف الفتن التي ستقع للأمَّة. وقد نصَّ على ذلك جماعة مِن أهل العلم. فقد قال القرطبي: “وعلى كلِّ تقدير فعمومات هذه الأحاديث يراد بها الخصوص، إذ لا يمكن أن يحدِّث في يوم واحد، بل ولا في أيَّام، ولا في أعوام، بجميع ما يحدث بعد النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم تفصيلًا، وإنَّما مقصود هذه العمومات الإخبار عن رؤوس الفتن والمحن ورؤسائها”، ثمَّ قال: “وأنَّه [أي: الرسول] بثَّ الكثير مِن ذلك عند مَن يصلح لذلك مِن أصحابه، كحذيفة -رضي الله عنه- قال: ما ترك رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- مِن قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا يبلغ مَن معه ثلاثمائة فصاعدًا، إلَّا قد سمَّاه لنا باسمه، واسم أبيه، وقبيلته؛… وبهذا يُعلم أنَّ أصحابه كان عندهم مِن علم الكوائن الحادثة إلى يوم القيامة العلم الكثير والحظَّ الوافر، لكن لم يشيعوها، إذ ليست مِن أحاديث الأحكام، وما كان فيها شيء مِن ذلك حدَّثوا به، ونقضوا عن عهدته”(18).
وقال ابن رسلان: “وعلى كلِّ تقدير، فعمومات هذِه الأحاديث يُريد بها الخصوص، إذ لا يمكن أن يحدِّث في يوم ولا أيَّام، بل ولا في أعوام، بجميع ما يحدث بعد النبي -صلَّى اللَّه عليه وسلَّم- تفصيلًا، وإنَّما مقصود هذه العمومات الإخبار عن رؤوس الفتن والمحن ورؤسائها”(19).
وقال محمد أنور الكشميري: “اعلم أنَّ العموم قد يكون مدلولًا ولا يكون مقصودًا، وهذا هو عموم غيرُ مقصودٍ، فاعلمه فإنَّه قد زلَّت فيه الأقدام، وتحيَّرت مِنه الأحلام. أَلَا ترى إلى قوله تعالى: ((وَأُوتِيَت مِن كُلِّ شَيءٍ))(20)، كيف العمومُ فيه؟ فإذا دَرَيتَ أنَّ العموم قد لا يكون مقصودًا، فلا تتعلَّق بالألفاظ”(21).
وقال محمَّد صديِّق خان: “وهذه الأحاديث كلُّها مَحمُولَة على ما ثبت فِي الصَّحِيحين مِن أحادِيث الفتن والأشراط لا غير، لأنَّه المعهُود مِن الشَّارِع -صلَّى الله عليه وسلَّم- في أمثال هذه العمومات”(22).
وعليه، فإنَّ هناك أمورًا في الفتن والأخبار المستقبلية أخبر به رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم، فسمعها مِنه أصحابه -رضي الله عنهم- فلم يحفظوها كونها مِن فضول العلم، وربَّما حفظها بعضهم لكنَّهم لم يحدِّثوا بها، أو حدَّثوا بها لكن في إطار ضيِّق ممَّن يثقون فيهم، خشية الفتنة عليهم أو الضرر على أنفسهم. وهذا يعني أنَّ هذه الأخبار قد يتمُّ تناقلها في الخفاء، وربَّما تسرَّبت فخرجت إلى العامَّة، فإنَّ كلَّ خفي مطلوب.
الأمور المانعة مِن بثِّ أحاديث الفتن وآخر الزمان:
القارئ للقرآن الكريم وللسنَّة النبوية يدرك أنَّ مِن العلوم التي اختصَّ الله بها أنبياءه -عليهم الصلاة والسلام- أخبار ما سيأتي مِن الأحداث، والأحوال، والأشخاص، والأمم، لأهداف تتَّصل بالوعي والبُنية المعرفية، وأخرى تتَّصل بالجوانب الإيمانية الإضافية. فالأخبار بالمغيَّبات أمور محسوبة على المعجزات، إذ أنَّ كشف الغيب ممَّا لا يدركه العقل البشري، خصوصًا على سبيل التفصيل والترتيب والتزمين والتعيين. وإيرادها ضمن ثقافة الأمَّة المسلمة في أيِّ زمان هو مِن قبيل تربيتها على الامتداد الروحي والمعرفي بالقديم والقادم، كي لا تشعر بالغربة واليأس، وهي تواجه في كلِّ انبعاثة جديدة موجة استنكار وجحود وعداء. كما أنَّها تتضمَّن مِن التنبيه والتحذير، أو الإرشاد والبشرى، ما يساعد الأمَّة في مستقبل أحوالها مِن أخذ الحيطة والحذر، أو المواقف الراشدة إزاء ما يواجهها.
ومع ذلك فهناك أمور عدَّة منعت مِن بثِّ أحاديث الفتن وأخبار آخر الزمان، مِنها:
– إشكالها على كثير مِن الناس، وافتتانهم بها:
فإنَّ البعض إذا ما سمع بأخبار غريبة وأحداث مفجعة ربَّما أيس وانتكس، ودخلت عليه شبه وظنون؛ وقد أُثِر عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قوله: “حَدِّثُوا النَّاسَ بما يَعرِفُون، أتُحِبُّون أن يُكَذَّب اللَّهُ ورسولُه؟!”(23)، كما أُثِر عن عبدالله بن مَسعُود قوله: “ما أنت بمُحَدِّثٍ قَومًا حَدِيثًا لا تَبلُغُه عُقُولُهم إلَّا كانَ لِبَعضِهم فِتنَة”(24).
وفي الحديث، أنَّ معاذ بن جبل -رضي الله عنه- كان رديف النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- على حمار، يُقال له عُفَير، فقال له رسول الله: (يا مُعاذُ.. هل تَدرِي ما حقُّ اللَّه على عباده، وما حقُّ العبادِ على اللَّه؟). قُلت: اللَّهُ ورسولُه أعلم. قال: (فإنَّ حقَّ اللَّه على العباد أن يَعبُدُوهُ ولا يُشرِكُوا به شيئًا، وحقَّ العباد على اللَّه ألَّا يُعَذِّب مَن لا يُشرِك به شيئًا). فقُلت: يا رسول اللَّه.. أفَلَا أُبَشِّرُ به النَّاس؟ قال: (لا تُبَشِّرهُم فيَتَّكِلُوا)(25).
وقد نصح عبدالرحمن بن عوف -رضي الله عنه، عندما جاء رجل إلى عمر بن الخطَّاب -رضي الله عنه، بمنى في مكَّة، أيَّام الحجِّ، وقال له: يا أمير المؤمنين.. هل لك في فُلان؟ يقول: لو قد مَاتَ عُمَر لقد بايعت فُلانًا، فواللَّه ما كانت بَيعَة أبي بَكرٍ إلَّا فَلتَة فتَمَّت. فغَضِب عمر، ثمَّ قال: إنِّي -إن شاء اللَّه- لقائم العَشِيَّة في النَّاس، فمُحذِّرهم هؤلاء الَّذين يُريدُون أن يغصِبوهم أُمُورهم. قال عبدالرَّحمن: فَقُلتُ.. “يا أمير المؤمنين.. لا تَفعَل، فإنَّ الموسِم يجمع رَعَاعَ النَّاس وغَوغَاءَهم، فإنَّهم هم الَّذين يَغلِبُون على قُربِك حين تَقُوم في النَّاس، وأنا أخشَى أن تَقُوم فتَقُول مَقَالَة يُطَيِّرُها عنك كُلُّ مُطَيِّرٍ، وأن لا يَعُوها، وأن لا يَضَعُوها على مَوَاضِعِها، فأمهل حتَّى تقدم المدِينة، فإنَّها دار الهجرة والسُّنَّة، فتَخلُص بأهل الفقه وأَشرَاف النَّاس، فتَقُول ما قُلتَ مُتَمَكِّنًا، فيَعِي أهل العلم مَقَالَتَك، ويَضَعُونها على مَوَاضِعِها”(26).
وهذه الأحاديث والآثار وإن وردت في قضايا دينية، فأخبار الفتن وأحداث آخر الزمان أولى بأن يُفتن الناس بها، وهو ما دفع بعضهم لإنكارها أو تأويلها تأويلًا فاسدًا، وذلك لعدم قبول عقله الشخصي بها؛ فهناك مَن أوَّل أخبار نزول عيسى، وظهور الدجَّال، وخروج يأجوج ومأجوج، وغيرها، وصرفها عن ظاهرها.
– وجود مَن يغترَّ بها أو يوظِّفها في غير ما سيقت لأجله:
فإنَّ كثيرًا مِن أخبار آخر الزمان التي وردت في كتب الأحاديث، بغض النظر عن صحَّتها أو ضعفها، اغترَّ بها كثير مِن الناس، حتَّى ظهر عبر التاريخ الإسلامي، قديمًا وحديثًا، مَن يدَّعي أنَّه “المهدي” (27)، أو أنَّه “القحطاني”(28)، أو أنَّه “السفياني”(29)، أو أنَّ فئته هم أصحاب “الرايات السود”، أو أنَّهم المقصودون بالاثنا عشر ألفًا الذين يخرجون مِن عدن- أبين(30)، وربَّما وظَّف النصوص لنصرته أو لمحاربة خصمه.
وبعضهم ارتكب ذلك عن حسن نيَّة، وخطأ في التقدير والاجتهاد والتنزيل، وبعضهم ارتكب ذلك سعيًا في اكتساب شرعيَّة وتحقيق نصرة وجمهور يتبعه، لتحقيق أغراض سياسية سلطوية. ومِنهم مَن نجح في ذلك، ومِنهم مَن فشل، لكن بعد خسائر في الأرواح والمقدَّرات.
وما يقع مِن أخطاء في فهم وتنزيل هذه الأحاديث، وتكييف وقوعها نظريًّا أو عمليًّا، محسوب على صاحبها، ومردود عليه، دون الحاجة إلى التكلُّف في نفي ما ثبت، وتضعيف ما صحَّ، ونقض ما أجمع عليه. وتوظيف النصوص الدينية لأغراض شخصية ومآرب فئوية ومقاصد دنيوية أمر شائع بين عموم الناس، فإنكار النصوص لوجود ظواهر كهذه منهجية باطلة في معالجة الأخطاء والانحرافات.
– الاستغلال المنحرف لهذه الأحاديث خارج سياقها الديني كما يقع مِن أهل البدع:
إنَّ استغلال الدين لأغراض منحرفة وغايات باطلة ممَّا اعتاده بعض أهل البدع والضلال، بما في ذلك حكَّام الجور الذين يسعون لتطويع الناس مِن خلال استغلالهم نصوصًا دينيَّة في غير ما أرادها الشارع.
فأمَّا أهل البدع فإنَّهم يوجِّهون الأحاديث لتزيين باطلهم وتضليل الناس عن الحقِّ، كونهم ممَّن قال الله تعالى فيهم: ((هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيكَ الكِتَابَ مِنهُ آيَاتٌ مُّحكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم زَيغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنهُ ابتِغَاءَ الفِتنَةِ وَابتِغَاءَ تَأوِيلِهِ ومَا يَعلَمُ تَأوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ والرَّاسِخُونَ فِي العِلمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّن عِندِ رَبِّنَا ومَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الأَلبَابِ))(31).
وأمَّا أهل السلطان فإنَّهم يوجِّهون الأحاديث لأغراضهم ومصالحهم، بما يستحلُّون به الدماء أو الأعراض أو الأموال، كي يدفعوا بها في وجوه مَن يعترضهم مِن العلماء أو العامَّة. وعندما قال الحجَّاج بن يوسف الثقفي لأنس بن مالك -رضي الله عنه: حدِّثنِي بأشَدِّ عقاب عاقبه النبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم؟ فحدَّثه بحديث العُرنيِّين؛ فبَلَغَ ذلك الحسن البصري، فقال: “ودِدتُ أنَّه لم يُحدِّثه بهذا”(32). وقد نُقِل عن أنس بن مالك أنَّه قال: “ما ندمت على شيءٍ ما ندمت على حديث حدَّثته الحجَّاج”. وإنَّما ذلك لأنَّ الحجَّاج كان مسرفًا في العقوبة، وكان يتعلَّق بأدنى شبهة.(33)
– ردَّات فعل البعض إزاء المتكلِّم بها، والتي قد تصل إلى تكذيبه ونبذه وربَّما حدَّ الفتك به:
فهذه الأحاديث التي كان يخصُّ بها الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- بعض أصحابه، أو هم يسألونه عنها ابتداء عناية بها، كما هو حال حذيفة بن اليمان، لم تكن مبثوثة ومنشورة، وإنَّما يذكرها رسول الله في خاصَّة أصحابه. ولهذا فإنَّ ذكرها لعموم الناس، ممَّن يجهلها ويرى فيها تناقضًا مع بعض ما يعلمه، فيما يظنُّ، يدفعهم لاستنكارها ونفيها، وربَّما تخطئة قائلها أو تكذيبه، وفي أحوال معيَّنة إذا مسَّت أمورًا خاصَّة قتله.
فقد حدَّث محمَّد بن جبير بن مطعم أنَّه بلغ معاوية -رضي الله عنه، وهو عنده في وفدٍ مِن قريش، أنَّ عبدالله بن عمرو -رضي الله عنهما- يُحدِّث أنَّه سيكون مَلِكٌ مِن قحطان، فغضِبَ فقامَ فأثنى على الله بما هو أهله، ثمَّ قال: أمَّا بعد فإنَّه بلغني أنَّ رجالًا مِنكم يُحدِّثون أحاديث ليست في كتاب الله، ولا تؤثر عن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم، وأولئك جُهَّالكم، فإيَّاكم والأماني التي تضلُّ أهلها، فإنِّي سمعتُ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- يقول: (إنَّ هذا الأمر في قُريش، لا يُعاديهم أحدٌ إلَّا كبَّه اللَّه في النَّار على وجهه، ما أقَامُوا الدِّين).(34)
وقد حدَّث المستَورِد بن شدَّاد -رضي الله عنه، وهو في حضرة عمرو بن العاص، أنَّ النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: (تَقُومُ السَّاعة والرُّومُ أكثَر النَّاس). فقال له عمرو: ما هذه الأحاديث الَّتي تُذكَرُ عنك أنَّك تقولها عن رسول الله؟ وفي رواية: أبصر ما تقول! فقال المستَورِد: قُلتُ الذي سَمِعتُ مِن رسول الله. فقال عمرو: (لئِن قُلتَ ذلك، إنَّ فيهم لخصالًا أربعًا..) الحديث.(35)
لهذا كان أبو هريرة -رضي الله عنه- يقول: “حَفِظت مِن رسول اللَّه -صلَّى الله عليه وسلَّم- وعاءين، فأمَّا أحدهما فبَثَثتُه في النَّاس، وأمَّا الآخر فلو بَثَثتُه لَقُطِعَ هَذَا البُلعُوم”(36)، ويقول: “لو أَنبَأتُكم بكُلِّ ما أعلَم لرمَانِي النَّاس بالخَرقِ، وقالوا: أبو هرَيرَة مَجنُون”، وفي رواية: “لو حدَّثتُكم بكلِّ ما في جوفي لرَمَيتُموني بالبعرِ”، وقال الحسن البصري، رَاوِي الأثر عنه: “صَدَقَ واللَّه.. لو أَخبَرَنا أنَّ بَيتَ اللَّه يُهدَمُ ويُحرَقُ ما صدَّقَه النَّاس”(37)، وفي رواية قال: “يقولون أكْثرتَ يا أبا هُريرة. والَّذي نفسي بِيَدِه أن لو حدَّثتُكم بكلِّ شيءٍ سمعتُه مِن رسول اللَّه لرَمَيتُموني بالقشعِ [يعني بالمزَابِلِ]، ثمَّ ما ناظرتُمُوني” .(38)
وأغلب الظنِّ أنَّ أبا هريرة -رضي الله عنه- لم يحدِّث بحديث: (هَلاكُ أُمَّتي علَى يَدَي غِلمَةٍ مِن قُرَيشٍ)، وقد قال له مَروان [بن الحَكَم بن أبي العَاص بن أُمَيَّة]: غِلمَة؟ قالَ أبو هريرة: إن شِئتَ أن أُسَمِّيَهم.. بنِي فُلانٍ وبنِي فُلانٍ(39)؛ خوفًا على نفسه أن يُقتل.
أحاديث الفتن.. بين الإفراط والتفريط:
اهتمَّ النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- بإبلاغ وبيان وتوضيح الأحاديث المتَّصلة بالدين، والمتعلِّقة بالعقيدة والشريعة والأخلاق، كأحاديث الغيب والإيمان والعبادات والحلال والحرام والأحكام والمعاملات وأخلاق المسلم، وكلِّ ما يتعلَّق بدين العباد الذي لا تصلح أحوالهم الدينية والدنيوية إلَّا به، ويحاسبون عليه في آخرتهم.
كما اهتمَّ الصحابة -رضي الله عنهم- بالمسائل والقضايا المتعلِّقة بالدين، عقيدة وشريعة وأخلاقًا، لأنَّ عباداتهم ومعاملاتهم وفلاحهم في الدنيا ونجاتهم في الآخرة مرهونة بها، وقليل مِنهم مَن اهتمَّ بأحاديث الفتن وأخبار آخر الزمان، وكان حذيفة بن اليمان مِن هؤلاء، فقد ورد عنه قوله: (كان النَّاس يسألون رسول اللَّه -صلَّى الله عليه وسلَّم- عن الخير، وكنت أسأله عن الشَّرِّ مخافَة أن يُدرِكَني)(40)، كما أنَّ ما علمه أبو هريرة -رضي الله عنه- لم يبُثَّه كلَّه، كما سبق معنا.
ومع وقوع الفتنة زمن الصحابة -رضي الله عنهم، وتوسُّع النزاع والصراع بين فئات الأمَّة، وظهور التوظيف السياسي للنصوص الدينية في وقت مبكِّر انتصارًا للذات أو الآراء الخاصَّة، زاد التحفُّظ على إيراد أحاديث الفتن. وقد ثبت أنَّ أبا هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم: (هَلَكَةُ أُمَّتي علَى يَدَي غِلمَةٍ مِن قُرَيشٍ). فقال مَروان بن الحكم (وكان والي المدينة لمعاوية -رضي الله عنه): لَعنَةُ اللَّه عليهم غِلمَة. فقال أبو هريرة: “لو شِئتُ أن أقُول: بَنِي فُلانٍ وبَنِي فُلانٍ لَفَعَلت”. فقال عَمرُو بن يَحيَى بن سعيد بن عَمرِو بن سعيد بن العاصي بن أُمَيَّة: “فَكُنتُ أخرُجُ مع جَدِّي إلى بَنِي مَروان حِين ملكوا بالشَّام، فإذا رَآهم غِلمانًا أحداثًا، قال لنا: عسى هؤُلاءِ أن يكونوا مِنهم؟ قُلنا: أنت أعلمُ”(41).
ومِن المعلوم، مِن الخبرة البشرية، أنَّ الأخبار التي يُستسرُّ بها ويخفى شأنها تصبح عرضة للزيادة والنقص، والتعديل والتبديل، خلافًا للأخبار المتواترة المشهورة التي تتلقَّاها الأجيال بشكل ظاهر ومعلن ومنتشر. ولهذا، فإنَّ معظم أحاديث الفتن وهي أحاديث آحاد دخل عليها الكثير مِن التحريف، والاصطناع الوضعي. ورغم هذا اهتمَّ علماء الحديث بجمع كلِّ ما نسب للرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- مِن أحاديث وآثار، ما كان في أبواب الدين وما كان خارجها. وكانت أحاديث الفتن ممَّا اهتمَّ به العلماء مِن نصوص السنَّة النبوية؛ وأفردت لها الأبواب وربَّما الكتب.
وإذا ثبت أنَّ علماء الأحاديث تساهلوا في رواية الأحاديث في أبواب الفضائل والترغيب والترهيب والرقاق والزهد، وفق منهجيَّة تلتزم عدم مخالفتها لأصل عقدي، أو نقضها لقاعدة أو حكم فقهي، أو تضادَّها مع مقرَّرات العقل والحسِّ والسُّنن الكونية، وألَّا يثبت كذبها ووضعها على صاحب الرسالة، باعتبارها ممَّا لا يتشدَّد فيه، حتَّى ألَّف البخاري -رحمه الله- كتبًا في الأدب والرقاق ولم يلتزم فيها بشرط كتابه الصحيح، بل روى فيها بما لا يُلائم شرطه في الصحيح، وتساهل في أسانيدها، ما لم يتساهل فيه، بل وروى في بعض أبوابها ما أشار له بالضعف، فإنَّ أحاديث الفتن أولى بهذا النهج.
فأحاديث الفتن بحاجة إلى قواعد خاصَّة في الجمع والتدقيق والتحقيق والنقد، للاعتبارات التي سبق الإشارة لها. وهي أولى بالرواية، حتَّى يثبت تحقُّقها، مِن نصوص أهل الكتاب، التي أجاز رسول الله روايتها، كما جاء عن عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما، أنَّ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم: (وحَدِّثُوا عن بَنِي إِسرَائِيلَ ولَا حَرَجَ)(42)، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ أهلَ الكِتاب كانوا يَقرَؤُون التَّورَاةَ بالعِبرَانِيَّة ويُفَسِّرُونها بالعربِيَّة لأهل الإسلام، فقال رسول اللَّه -صلَّى الله عليه وسلَّم: (لا تُصَدِّقُوا أهلَ الكِتَابِ ولا تُكَذِّبُوهُم، وقُولوا: ((آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَينَا… الآية)) البقرة: 136)(43) ، هذا برغم تحريفهم لكتبهم، ودسِّهم فيها الكثير مِن الكذب.
وروايتها حتَّى يقع تأويلها، دون تكلُّف لإيقاعها، وتوظيف لها في النزاعات والصراعات وترجيح موازين القوى، شيء، وتنزيلها تكلُّفًا على الوقائع أو توظيفها شيء آخر. فكما أنَّ أحاديث العقيدة والشريعة لا يضعفها التطبيق السيء أو التوظيف الخاطئ إذا ثبتت فكذلك أحاديث الفتن وآخر الزمان. كما أنَّ تحريف أهل الكتاب لصفة نبي آخر الزمان، وعبثهم بنصوصه، لا ينفي ولا يلغي ورودها في كتبهم، التوراة والإنجيل.
الخلاصة:
نخلص مِن هذه الورقة إلى أنَّ أخبار الفتن لم تُعامل مِن قبل الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- معاملة العقيدة والشريعة وما يتَّصل بقضايا الدين، ولم تكلَّف بها الأمَّة حفظًا ونشرًا بصيغة ملزمة؛ وظلَّ الصحابة -رضي الله عنهم- يتعاملون معها في دائرة ضيِّقة، لأنَّه لا يبنى عليها إيمان وكفر، وطاعة وعصيان؛ وأنَّ بعضها حلَّ عليه النسيان نتيجة لذلك، وقليل مَن واظب على حفظ ما بلغه مِنها.
كما نخلص إلى أنَّ هناك عوامل مختلفة ساهمت على كتمانها أو إخفائها، خوفًا مِن حاكم جائر، أو مِن فهم أعوج للعامَّة والغوغاء، أو مِن توظيف فئوي لصالح نوايا ومطامع خاصَّة؛ وأنَّ هذه العوامل التي عملت على إخفاء أو كتمان أحاديث الفتن تستدعي تعاملًا مغايرًا معها، يختلف عن التعامل المتَّبع مع أحاديث العقيدة والشريعة وأمور الدين التي كلِّف بها الفرد والمجتمع المسلم.
وأشبه ما تكون هذه الأخبار بنصوص أهل الكتاب، التي لها أصل صحيح، لكن غلب عليها التحريف بزيادة أو نقصان أو تبديل وتغيير، لظروف ذاتية وموضوعية وظرفية. لهذا، لم يأمر الشرع بإنكارها كلًّا، ولا بقبولها كلًّا، وإنَّما وزنها بميزان التدقيق والتحقيق والقياس، نازعًا عنها أن تكون هي المرجع والحكم، بل جعل نصوص الدين الإسلامي هي المرجع والحاكم عليها جميعًا. كما أنَّها تشبه أحاديث الفضائل والآداب والترغيب والترهيب والرقاق التي لم يشدِّد علماء الأمَّة بشأنها، كونها تخدم قيم ومبادئ الدين، ولا يقوم عليها اعتقاد أو شرع، وكذلك أخبار المغازي التي دخل فيها ما دخل مِن المرويَّات، ثمَّ جاء مَن وضع لها منهجيَّة علمية موضوعية للتعامل معها، مِن خلال معايير لا تتوقَّف على الإسناد، بل مِن خلال المقارنة والفحص واعتبار السياقات والظروف المصاحبة وغيرها مِن اعتبارات.
الهوامش:
- رواه مسلم، عن أنس بن مالك، رقم: 2363؛ وعند ابن ماجه، عن عائشة أمِّ المؤمنين، أنَّه قال لهم: (إن كانَ شيئًا مِن أمرِ دُنياكم فشأنُكُم بهِ، وإن كانَ مِن أمرِ دينِكُم فإليَّ)، رقم: 2019.
- رواه أبو داود، عن عمرو بن أبي قرة، رقم: 4659، وأخرجه الطبراني (6/ 259) (6156) باختلاف يسير، وأحمد (23721) بنحوه.
- رواه البخاري، رقم: (6361) واللفظ له، ومسلم، رقم: (2601)، وروى نحوه أحمد في مسنده (3/33)، مِن حديث أبي سعيد الخدري، وفي المسند أيضًا (5/294)، مِن حديث أبي السوار عن خاله.
- رواه مسلم، رقم: (2602).
- النجم: 4.
- رواه أحمد في المسند، رقم: 6802، وأبو داود في سننه، رقم: 3646، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح.
- رقم: (120).
- فتح الباري شرح صحيح البخاري: (1/216).
- عمدة القاري: (3/364).
- التيسير بشرح الجامع الصغير: (2/852).
- البقرة: 159.
- شرح صحيح البخاري: (1/195).
- كشف المشكل مِن حديث الصحيحين: ص1014.
- أخرجه البزار في مسنده (2885)، والهيثمي في المجمع (3/42)، وحكم الوادعي بصحَّته في كتابه الصحيح المسند، رقم: (294).
- رواه البخاري، رقم: (6604).
- رواه مسلم، رقم: (2891).
- رواه مسلم، رقم: (2892).
- المفهم: (7/221).
- شرح سنن أبي داود: (16/648).
- النمل: 23.
- فيض الباري على صحيح البخاري: (6/298).
- لقطة العجلان: ص63.
- رواه البخاري، رقم: (127).
- رواه مسلم، رقم: (5).
- متَّفق عليه، البخاري، رقم: (2856)، ومسلم، رقم: (30).
- رواه البخاري، رقم: (6830).
- خرَّج أحاديث المهدي جماعة مِن أئمَّة الحديث، مِنهم: أبو داود والترمذي وابن ماجة والبزَّار والحاكم والطبراني وأبو يعلى الموصلي؛ وأسندوها إلى جماعة مِن الصحابة منهم: علي وابن عبَّاس وابن عمر وطلحة وعبدالله بن مسعود وأبي هريرة وأنس وأبي سعيد الخدري وأمِّ حبيبة وأمِّ سلمة وثوبان وقرَّة بن إياس وعلي الهلالي وعبدالله بن الحارث، رضي الله عنهم جميعًا. وقد اختلف علماء أهل السنة والجماعة حول أحاديث المهدي ما بين مصحِّح لها ومضعِّف. وقد ذكر ابن تيمية -رحمه الله، في كتابه (منهاج السنة النبوية)، أنَّ “الأحاديث التي يحتجُّ بها على خروج المهدي أحاديث صحيحة، رواها أبو داود والترمذي وأحمد وغيرهم، مِن حديث ابن مسعود وغيره”؛ وقال في (الفتاوى المصرية)، قوله: “وأمَّا الأحاديث المأثورة في المهدي فمِنها ما هو صحيح ومِنها ما هو حسن”؛ وقال ابن القيِّم -رحمه الله، في كتابه (إغاثة اللهفان): “والمسلمون ينتظرون نـزول عيسى بن مريم مِن السماء، لكسر الصليب وقتل الخنـزير، وقتل أعدائه مِن اليهود وعُبَّادِه مِن النصارى، وينتظرون خروج المهدي مِن أهل بيت النبوَّة، يملأ الأرض عدلًا كما ملئت جورًا”، وقال، في (المنار المنيف)، بعد أن ساق بعض أحاديث المهدي:” وهذه بعض الأحاديث، وإن كان في إسنادها بعض الضعف والغرابة، فهي ممَّا يُقوِّي بعضها بعضًا ويشدُّ بعضها ببعض..”؛ وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله، في (تهذيب التهذيب)، و(فتح الباري): “وقد تواترت الأخبار واستفاضت عن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- بذكر المهدي، وأنَّه مِن أهل بيته، وأنَّه يملك سبع سنين، وأنَّه يملأ الأرض عدلًا، وأنَّ عيسى -عليه السلام- يخرج فيساعده على قتل الدجَّال، وأنَّه يؤمُّ هذه الأمَّة ويصلِّي عيسى خلفه”. وقال الإمام الشوكاني -رحمه الله، في رسالته (التوضيح في تواتر ما جاء في الأحاديث في المهدي والدجَّال والمسيح): “الأحاديث الواردة في المهدي التي أمكن الوقوف عليها، مِنها خمسون حديثًا، فيها الصحيح والحسن والضعيف الـمنجبر، وهي متواترة بلا شكٍّ ولا شبهة، بل يصدق وصف التواتر على ما دونها على جميع الاصطلاحات المحرَّرة في الأصول، وأمَّا الآثار عن الصحابة المصرِّحة بالمهدي، فهي كثيرة أيضًا لها حكم الرفع، إذ لا مجال للاجتهاد في مثل ذلك”.
- حديث القحطاني ثابت في الصحيحين، عن أبي هريرة -رضي الله عنه، أنَّ النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى يَخْرُجَ رَجُلٌ مِن قَحْطَانَ، يَسُوقُ النَّاسَ بعَصَاهُ). انظر: البخاري، رقم: (3517)، ومسلم، رقم: (2910).
- أحاديث السفياني أغلب العلماء على تضعيفها، فلم يثبت مِنها شيء.
- يروى عن عبدالله بن عبَّاس، رضي الله عنهما، أنَّ رسول الله قال: (يخرجُ مِن عدنِ أَبيَنَ اثنا عشرَ ألفًا ينصرون الله ورسوله، هم خيرُ مَن بيني وبينهم)؛ رواه أحمد في مسنده، انظره بتحقيق أحمد شاكر: ج5/33؛ وقال أحمد شاكر في تحقيقه للمسند: إسناده صحيح. وصحَّحه الألباني في السلسلة الصحيحة. وضعَّف الحديث، الشيخ خالد بن محمود الحايك. انظر: السَّنن الأَبين في حكم حديث: (يَخرُج مِن عَدَنِ أَبيَن)، على الرابط التالي: https://addyaiya.com/content.php?page-id=388&v=01f7743c
- آل عمران: 7.
- انظر: البخاري، رقم: (5685).
- انظر: فتح الباري: ج10/149.
- رواه البخاري، رقم: (7139).
- رواه مسلم، رقم: (2898).
- فتح الباري، لابن حجر: ج1/227، وسير أعلام النبلاء، للذهبي: ج1/430.
- الطبقات، لابن سعد: القسم (2)، ج4/57 وج2/119.
- رواه أحمد في مسنده: ج16/563.
- رواه البخاري، رقم: (3605).
- رواه البخاري، رقم: (7084)؛ ومسلم، رقم: (1847).
- انظر: البخاري، رقم: (7058)؛ ومسلم، رقم: (2917).
- رواه البخاري، رقم: (3461).
- رواه البخاري، رقم: (4485).