الــــحــــــرية:
الحرية المطلقة بمعناها الحرفي(1) لا وجود لها في هذا الكون على اتساعه اللامتناهي، فخالقه – تقدست أسماؤه- هو وحده الذي إرادته تكوين، وصفاته مطلقة، وحريته كذلك وما دونها من حريات- كحرية الإنسان التي تعنينا هنا- هي ولا شك نسبية، ومحدودة، ومقيدة بحدود قدرته التي منحه إياها خالقه. ومع ذلك قد تكون حرية الإنسان منفلتة، ولعلها التسمية الأدق لما يطلق عليه فلاسفة العقد الاجتماعي بحرية الإنسان المطلقة في مرحلته الطبيعية قبل نشأة الدولة، إذ أن وصفهم للحرية بالمطلقة يعود –على الأرجح- إلى تعريفهم للحرية ذاتها، فهوبز مثلاً يرى أن عجز الإنسان عن تحقيق رغباته لا يعني فقدانه للحرية، أي أن القيد الداخلي ليس قيداً منافياً الحرية فـ”إذا كان عائق الحركة هو تكوين الشيء بذاته لن يقال أنه يفتقد إلى الحرية، بل إلى القدرة على التحرك)(2) وحسب روسو يجب أن تمتاز الحرية الطبيعية، التي لا حدود لها غير قوي الشخص، من الحرية المقيدة، بالإرادة العامة(3) غير أن صفة المطلقة بمعناها الحرفي تعني انتفاء جميع العوائق وكل الحدود – دون استثناء- بما فيها العوائق والحدود الداخلية وإلا لما كانت مطلقة، وأكثر من هذا فهوبز نفسه يعتبر الحرية المطلقة – حسب تسميته- غير مجدية لأنها وإن ضمنت للفرد الحق في ممارسته الحرية بشكل مطلق، إلا أنها بالقدر نفسه تمنح للآخرين الحق في التعدي على هذه الحرية وتقييدها وفي هذا تناقض منطقي؛ إذ كيف تكون الحرية مطلقة ومقيدة في آن؟ بل أن هذا النوع من الحرية المنفلتة أنتج الفوضى وصراع الكل ضد الكل، مما حتم إقامة الدولة واستلزم وجود العقد الاجتماعي لتحل الحرية المدنية المحمية بالقانون محل الحرية الطبيعية عند هوبز ولوك وروسو.(4)
وقريباً من هذا نجد جدلاً في الفكر الإسلامي بين المعتزلة الذين يقولون بأن الإنسان خالق أفعاله حقيقة لا مجازا، وبالتالي فهو حرّ مختار فاعل؛ ولهذا وجد الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة.. في مقابل الجبرية التي تذهب إلى “نفي الفعل حقيقة عن العبد وإضافته إلى الرب” (5) .. وعليه فالإنسان مسير لا مخير، لا قدرة له ولا إرادة، وأفعاله كلها إنما هي قضاء وقدر، إلا أن مذهب المعتزلة لا يعني القول بالحرية المطلقة للإنسان، فمثلا ليس من صلاحيات حرية الفرد أن يركز الثروة ويحتكرها لنفسه، وهذا يذكرنا بالمبدأ الإسلامي القائل: بأن حرية الفرد موجودة ما لم تضر بمصلحة الجماعة، ورفض المعتزلة حرية الفرد المطلقة التي تتيح له أن يتصرف في ملكه كما يشاء، وانتفاء الحرية الاقتصادية المطلقة، يعني انتفاء الحرية المطلقة بمعناها الحرفي بالمجمل.(6)
ومع هذا تظل الحرية من أكثر المصطلحات مرونة واتساعا وتشعباً، وحسب منتسكيو “لا تجد كالحرية كلمة دلّت على معانٍ مختلفة”(7).
– فمن حيث دلالة المصطلح نجد الحرية كمقابل للعبودية (الرقّ) ففي تاج العروس الحرية في اللغة هي: اسم حُر من حرَ، يحرو إذا سار حراً، وحرره: اعتقه.(8)، وفي كتابه (المفردات في غريب القرآن) يقول الراغب الأصفهاني حرّرت القوم إذا أطلقتهم، وأعتقتهم من أسر الحبس، والتحرّر جعل الإنسان حراً والحرّ خلاف العبد(9).
– كما نجد الحرية عند هوبز بمعنى انتفاء العوائق الخارجية المقيدة للحرية فـ “الرجل الحرّ هو الذي لا يعيقه شيء عن القيام بما يشاء القيام به، وذلك بالنسبة إلى الأمور التي يستطيع أن يقوم بها وفقاً لقدرته وذكائه” وعليه فهوبز يسخر من مصطلحات الإرادة حرّة، فكر حرّ، لأن الحرّية ليست إلا للأجسام المادية التي تتحرك.(10)
– والحرّية بالمعنى التكويني هي: إباحة واختيار أو هي فطرة.
– “أما بالمعنى الأخلاقي أو التشريعي فهي (تكيّف) وحسب عبارات الأصوليين، الحرية: أن نمارس مسؤوليتنا ممارسة إيجابية، أن نفعل الواجب طوعاً بإتيان الأمر واجتناب النهي”. (11)
– أما من حيث الموضع: فهناك حرية الذات والحرية الدينية، والفكرية، والاقتصادية والسياسية…الخ.
– ومن حيث انتسابها نجد حرية الإنسان، حرية المرأة، حرية الأقليات، …الخ بيْد أن الذي يهم الباحث هنا هي الحرية بمدلولاتها وموضوعاتها التي أهتم بها الإسلام وشريعته من قرآن وسنة، ومثلت تالياً منطلقاً للفكر السياسي الإسلامي، ومنها:
أ. حرية الذات البشرية وهي نوعان:
1- حق التكريم الإلهي للذات البشرية: ولعل أظهر مظاهر هذا التكريم تلك الحقيقة التي تبين أنه مخلوق (فوق طبيعي) قال تعالى ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾(12) فهذه النفخة الروحية الإلهية هي السر الأعظم في الذات الإنسانية، حيث انطوت بالضرورة على عظمة الإدراك، وعظمة القوة، وعظمة الإرادة، الأمر الذي يقودها إلى النضج القوي، ثم أن سجود الملائكة هو تكريم في أعلى صورة للجنس البشري، وقد نص القرآن بوضوح على هذا التكريم قال تعالى ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾(13) وهي كرامة في الشكل ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾(14) كما هي كرامة في الوظيفة ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ﴾(15) فخلافة الله إذاً هي المهمة الوجودية للإنسان وليست حصراً للمسلم، فالكافر أيضاً مستخلف في الأرض و(عليه كفره) فهي أمانة أولاً وأخيراً اصطفى الله الإنسان لحملها دون سائر المخلوقات ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ﴾(16) وبهذا فالإنسان موضع اهتمام وتكريم في الإسلام.
ومن هنا فرسالة الإسلام التحررية كانت ثورة تحررية شاملة على الطواغيت والظلمة؛ تحريراً لإرادة الإنسان من كل عبودية لغير الله .(17) وهذه الرؤية ليست حكراً على الفكر الإسلامي المعاصر، بل لعلها ماثلة في العقل المسلم منذ ظهور الإسلام ومن هنا كانت إجابة ربعي بن عامر لرستم: جئنا لنُخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد(18) .. بل ثمة من ينظر إلى حرية الذات باعتبارها أساس صحة الشهادتين “فقبل أن يؤكد المؤمن إقراره بوجود الله وصدق رسالة محمد ﷺ يؤكد ذاته ككائن عاقل حرّ موجود، أن (الأنا) في لحظة وعي وحرية تقرر: اشهد (أنا) أنّ لا إله إلا الله، وأشهد “أنا” أنّ محمدا رسول الله” (19).
وبناء عليه نستطيع القول بأن التكريم الإلهي للذات البشرية مثل الأصل الذي تفرعت منه بقية الحريات التي كفلها الإسلام للإنسان.
1- حرية الانعتاق من الرق: وهذه هي حرية الذات بالمعنى المباشر ومعها كان الإسلام متدرجاً كعادته في التعامل مع الظواهر الاجتماعية المتجذرة في مجتمع ما قبل الإسلام (الجاهلية) حيث كانت النخاسة سوقاً رائجة، وكان العبيد يُباعون ويُشترون شأنهم شأن الأمتعة الأخرى، وعليه لم يحرّم الإسلام العبودية بشكل قاطع ونهائي، بل سعى إلى تضييق نطاقها والحدّ من آثارها السلبية وصولاً للقضاء عليه، وكل هذا بتدرج قسمه محمد قطب إلى مرحلتين:(20)
الأولى: مرحلة التحرر الروحي للرقيق بردّهم إلى الإنسانية ومعاملتهم على أنهم بشر كريم لا يختلفون عن السادة من حيث الأصل، فالتكريم الإلهي هو للجنس البشري عموماً (سادة وعبيد) وبالتالي لا فضل لسيدٍ على عبد وإنما الفضل للتقوى، وقد فصَل الإسلام في حسن المعاملة ورد الاعتبار الإنساني للرقيق إلى درجة أن الرسول ﷺ آخى بين بعض الموالي وبعض الأحرار من سادة العرب، فآخى بين مولاه زيد وعمه حمزة، وبين خارجه بن زيد وأبو بكر، وكذا بين بلال بن رباح وخالد بن رويحة الخشعمي، وهي مؤآخاة حقيقة تعدل رابطة الدم، كما زوّج ﷺ بنت عمته زينب بنت جحش من مولاه زيد بن حارثة ﴿ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا﴾ (21) وللآية دلالة أخرى إذ أن القرآن لم ينص على شخص باسمه من المسلمين باستثناء زيد بن حارثة وهو من الموالي، كما ساوى بين السادة والعبيد أمام القانون (من قتل عبده قتلناه ومن جدع عبده جدعناه، ومن أخصى عبده أخصيناه) صحيح مسلم.. كما أمر السادة أن يخاطبوا عبيدهم بما يشعرهم بمودّة الأهل وينفي عنهم صفة العبودية، وفي معرض هذا التوجيه النبوي (أن الله ملّككم إياهم ولو شاء لملّكهم إياكم)(22).. فهي إذاً مجرد عارضة حصلت هؤلاء رقيقاً، وكان من الممكن أن تجعل السادة مكانهم، بل أن مجرد لطم العبد في غير تأنيب بما يؤدب الأب أبنائه، هو في الإسلام مبرر شرعي لتحرير الرقيق.
الثانية: مرحلة التحرير الواقعي؛ وفي هذا سلك الإسلام مسلكين، الأول: بتجفيف منابع الرق، فليس في الإسلام استرقاق أمّة لأمة، ولا جنس لجنس، ولا استرقاق للفقر، ولا استرقاق طبيعي بالوراثة، ولا استرقاق بسبب العمل في الأرض…الخ، فقد منع الإسلام كل هذه المنابع المتأصلة في التاريخ البشري، كما كان الحال عند اليونان والرومان وغيرهم.
ولم يبقَ سوى منبع وحيد لم يكن ممكناً أن يجففه الإسلام، وهو رقّ الحرب، أسرى الحرب ذلك إنهم إنْ تُركوا أحراراً عادوا لمحاربة الإسلام، ومثّلوا خطراً عليه، ومع هذا فإن الآية التي تعرّضت لأسرى الحرب ﴿ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا﴾(23) لم تذكر الاسترقاق للأسرى، وإنما نصت على إطلاق السراح، إما منّاً بدون مقابل، أو فداء بمقابل، حتى لا يكون الاسترقاق تشريعاً دائماً، إنما للجيش الإسلامي المحارب أنْ يلجا إليه بحكم الضرورة، ومن هنا فقد أطلق ﷺ بعض أسرى بدر منّاً وبعضهم بفدية، وأخذ من نصارى نجران الجزية وردّ إليهم أسراهم.. أما المسلك الثاني: فقد عمل الإسلام على تحرير العبيد بوسيلتين هامتين هما: العتق والمكاتبة، فأما العتق: فهو تطوّع السيد بتحرير عبده، وقد شجع الإسلام على هذا بل جعل كفارة بعض الخطايا عتق رقبة، وعلى سبيل المثال: كفارة القتل الخطأ، وفي هذا دلالة هامة؛ فكأنّ تحرير الرقيق هو إحياء لنفس إنسانية تعويضاً عن النفس التي أزهقت بالقتل الخطأ، وكأنّ الرق في نظر الإسلام هو موت أو شبيه بالموت، يقول محمد عمارة: “لقد أدرك علماؤنا السرّ في جعل (تحرير الرقبة) كفارة عن (القتل الخطأ) فنبّهوا على ما في الرقّ والعبودية من معنى (الموت)، وما في العتق والحرية من معنى (الحياة)، فمن أخرج من الحياة نفسا، بقتلها خطأ، فعليه أن يُدخل في الحياة نفسا أخرى، بتحريرها من موت الاسترقاق(24).
وحسب محمد قطب فإن التاريخ يؤكد أنّ الإسلام حرّر بطريقة العتق عدد ضخم لا مثيل له في تاريخ الأمم الأخرى، لا قبل الإسلام ولا بعده بقرون حتى مطلع العصر الحديث.. ولم ينتظر الإسلام أن يتطوع السيد بتحرير عبده لصحوة ضمير قد تحدث وقد لا تحدث، بل شَرع المكاتبة: التي هي منح الحرية للعبد متى طلبها الأخير مقابل مبلغ من المال يتفق عليه الطرفان، والتحرير هنا إجباري لا يمكن للسيد رفضه وإلا تدخلت الدولة (القاضي أو الحاكم) لتنفيذ العتق بالقوة، ومنذ اللحظة الأولى لتوقيع عقد المكاتبة يصبح العبد أجيراً عند سيده، بل له أن يعمل عند غيره إن رغب لتجميع ثمن المكاتبة، وأكثر من هذا؛ على الدولة المساهمة في تكاليف عقود المكاتبة خصوصاً العاجزين، ومن مورد بيت المال الأساسي المتمثل في الزكاة بنص آية مصارف الزكاة ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ﴾(25) .
وهكذا تعامل الإسلام مع الرق بمعالجة بلغت من الكفاءة والفعالية والإحكام إلى الدرجة التي كانت معها مسألة استئصال ظاهرة الرق المتجذرة آنذاك مسالة وقت ليس إلا، وبخطوات كانت من التدرج والمرونة إلى الحدّ الذي يصعب معه حتى على أقدر الباحثين أن يؤرخ لتلك اللحظة الزمنية التي سجلت خلوّ الأمة الإسلامية تماماً من الرقيق والقضاء المبرم على وصمة العبودية إلى غير رجعة.
ب. الحرية الدينية:
1. حرية المعتقد: وتعني حق الفرد في اختيار عقيدته بعيداً عن كل إكراه، والإسلام لم يأتِ لإجبار الناس على اعتناقه، فالأمر ليس مبنياً على الإجبار والقسر، وإنما التمكن والاختيار؛ لأنّ في القهر والإكراه على الدين كما يرى -الرازي- بطلان معنى الابتلاء والامتحان وهذا قوله تعالى ﴿ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾(26) وكتب التفسير والفقه تكاد تُجمع على “اعتبار آية (لا إكراه في الدين) تمثل قاعدة كبرى من قواعد الإسلام، وركناً عظيماً من أركان سماحته، فهو لا يُجيز إكراه أحد على الدخول فيه، ولا يسمح لأحد أن يُكره أهله على الخروج منه”(27)
2. حرية ممارسة الشعائر الدينية: وهي من الحريات التي كفلها الإسلام للأقليات غير المسلمة من أتباع الديانات السماوية الأخرى الذين يعيشون في كنف الدولة الإسلامية كما كفل حقهم في إقامة معابدهم الخاصة قال تعالى: ﴿وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ﴾(28) .. ففي هذه الآية نصٌ على معابد غير المسلمين، بل قدّمها على المساجد في معرض ذمّه لهدم دُور العبادة الخاصة بالديانات السماوية، وفي المدينة المنورة أقرّ الرسول ﷺ يهود يثرب على دياناتهم، وعلى ممارسة شعائرهم دون إكراه ولا تضييق كما تضمنتها بنود (صحيفة المدينة) طالما التزموا بعهودهم التي قطعوها للمسلمين، وظل هذا المبدأ راسخاً في التاريخ الإسلامي برمته؛ فلم يُعرف أن دولة إسلامية منعت ممارسة الشعائر الدينية وحق بناء دور العبادة الخاصة بالأقليات من الديانة الأخرى.
ج. الحرية الفكرية:
وهي “حق الإنسان في أن يفكر تفكيراً مستقلاً في جميع ما يكتنفه، وأن يأخذ بما يهديه إليه رأيه، وأن يعبّر عن فكرة بأيّة طريق، ذلك التعبير الذي قد يقترن بالجدل والمناقشة أو تبادل الآراء”.(29)
وهذا النوع من الحرية وثيق الارتباط بتكريم الإسلام للذات البشرية؛ فالله حين كرّم الإنسان، واستخلفه إنما ميّزه عن الكائنات الأخرى بالعقل الذي هو أجلّ نعمة أنعم الله بها على الإنسان، وعليه كان من الطبيعي لدين أهِّل الإنسان لمنزلة خليفة الله في الأرض بما وهبه من عقل وإرادة وحرية أن لا يُكبِّل هذه الطاقات، بل أن يُطلقها ويحرّرها مكتفياً بالتوجيه السديد، ومن هنا نجد القرآن الكريم عندما يخاطب الناس في أكثر من موضع إنما يخاطب عقولهم ويستحثّ ملَكَة التفكير فيهم؛ لتقليب النظر في شتى الأمور بما فيها أمور العقيدة فنجد من التعابير القرآنية أفلا يتفكّرون، أفلا يتدبّرون، أفلا يعقلون، قل سيروا في الأرض فانظروا، أم على قلوبِ أقفالها…الخ؛ وبهذا فالحرية الفكرية والإعلاء من شأن العقل في الإسلام مثلت منطلقاً ليس للفكر السياسي الإسلامي فحسب بل للفكر الإسلامي بشتى ميادينه.
د. الحرّية السياسية:
وتعرَف الحرية السياسية بأنها: “جملة الحقوق الإلزامية المعترف بها من الدولة للمواطنين، في حق المساهمة في الحكم بالضغط عليه والتأثير فيه عن طريق الانتخاب المباشر أو غير المباشر، والحق في الإعلام والاجتماع والتحزب والتنقب”(30)، كما تضمن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حق الفرد في إدارة الشؤون العامة لبلاده إما مباشرة أو عبر ممثلين ويختارهم اختياراً حراً وكذا حقه في تولّي الوظائف العامة في بلاده.
والإسلام بإقراره لمبدأ الشورى السياسية – تحديداً- ولآلية البيعة بمرحلتيها الخاصة والعامة، كما فهمها وطبقها المسلمون بعد وفاة النبي ﷺ وقبل تحوّل النظام السياسي الإسلامي إلى وراثي كما في الدولة الأموية وما تلاها، يكون الإسلام بهذا قد ضمن “حق كل فرد في الأمة أن يعلم بما يجري في حياتها من شؤون تتصل بالمصلحة العامة، وعليه أن يُسهم فيها بقدر ما تتيح له قدراته ومواهبه… وكل فرد في الأمة أهلٌ لتولي المناصب، والوظائف العامة، متى توافرت فيها شرائطها “المسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يدٌ على من سواهم، يسعى بذمتهم أدناهم” (31) وقد سبق للباحث تفصيل موضوعي الشورى والبيعة باعتبارهما من منطلقات الفكر السياسي الإسلامي، كما تتضمن الحرية السياسية حرية الرقابة الشعبية على السلطة؛ لمنع جورها والحيلولة دون استبدادها السياسي وهي مهمة في الدولة الإسلامية، لأنها إذا فعلت ذلك فهي تفعله باسم الإسلام فيكون الشعب معرّض لدكتاتورية دينية هي شر ما ابتليت به البشرية(32) .. ولأهميتها هذه نعدّها منطلقاً قائماً بذاته للفكر السياسي الإسلامي، ومبداءً أصيلا تنبني عليه الدولة المدنية الحديثة، ولذى سنتناوله تفصيلا في سياق حديثنا عن المسؤولية والرقابة والمحاسبة كمبداء من مبادئ الدولة المدنية.
هـ. الحرية الاقتصادية:
وتعني “أن يكون للفرد حريته في بذل أقصى ما يمكن من جهد ونشاط في المجال الاقتصادي، عملاً وسعياً وكسباً، وانتفاعاً بثمرة كسبه وعمله وسعيه”(33) وهذا المفهوم للحرية الاقتصادية يندرج تحته العديد من الحريات منها:
1- حرية التملُّك: وهي حق الإنسان في امتلاك الثروة والتصرف بها كيفما يشاء، وحرية التملك في الإسلام هي نتيجة وثمرة استخلافه في الأرض، ومن مقتضيات تحقيق الغاية من هذا الاستخلاف المتمثلة في عمارة الأرض وتطويرها فضلاً عن غاية الإنسان الإنسانية والأولى المتمثلة في تحقيق عبودية الإنسان للخالق سبحانه، وبهذا فحرية التملك ليست مطلقة في الإسلام لأن المالك الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى والإنسان إنما هو مستخلف وملكيته هي ملكية انتفاع يحصل عليها بالوسائل المشروعة دون غش أو رباً أو احتكار كما أن في ثروته حقٌ معلوم للفقراء والمساكين وهي ليست منّة منه لأن المال مال الله، أولاً وأخيراً. (34)
2- حرية العمل وتقاضي الأجر العادل نظيره: فقد حث الإسلام على العمل والإنتاج برفعه شعار (وقل اعملوا)(35) وإذا كان حق العمل هو الاتقان (إن الله يُحبّ إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه) فإن للعامل حقوق في المقابل عدّد منها الغزالي:
• تقاضي الأجر المكافئ دون حيف أو مماطلة، لحديث “أُعطوا الأجير أجره قبل أن يجفّ عرقه”
• توفير الحياة الكريمة التي تتناسب مع عمله.
• تكريم المجتمع له،﴿وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾. (36)
3- حرية السوق (وفق معيار العرض والطلب): ومن أجلها أقرّ الإسلام تشريعات تفصيلية تُلزم المسلم بالوفاء بالعقود والديَن، وتحريم الغش والربا والاحتكار والنصوص التشريعية الدالة على هذا كثيرة ومتعددة في الكتاب والسنة.
4- حق الفرد في كفايته من مقومات الحياة: من إطعام وشراب وملبس ومسكن ومما يلزم لصحة بدنه وعقله في نطاق ما تسمح به موارد الأمة “ويمتدّ واجب الأمة في هذا ليشمل ما لا يستطيع الفرد أن يستقل بتوفيره لنفسه من ذلك ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾(37) ولتحقيق هذا الواجب تكرر الحضّ الإلهي والنبوي على الإنفاق ورعاية المحتاجين والمعوزين والعاجزين بل حدّد الإسلام نصاباً ثابتاً لنظام التكافل الاجتماعي في موارد سيادية كالزكاة والغنائم والفي.
وبناءً على ما سبق يخلص الباحث إلى أن الحرية الاقتصادية بعموم تفريعاتها في الإسلام تؤدي إلى توزيع الثروة على أكبر عدد ممكن وعدم تركيزها بيد فئة معينة من الناس قد تحتكر السلطة وتجيّرها تالياً إلى استبداد سياسي، وعليه فالحرية الاقتصادية وثيقة الصلة بالحرية السياسية كما هو شأن العلاقة الطردية بين الاقتصاد والسياسة في الإسلام وبهذا تأخذ الحرية الاقتصادية أهمية مضافة.
وهكذا تتضافر هذه الحريات- التي أكد عليها الإسلام، وتنبثق من أصل واحد هو تكريم الذات البشرية- لتُشكّل مفهوماً جامعاً للحرية في الإسلام التي تقر بوظيفة العقل المتمثلة في عملية التفكير المولدة للفكر، كما تمثل أساساً للعقل المسلم يبني عليه فكره العام ومنه السياسي، وبالنتيجة فالحرية التي نظمها وأصل لها وقننها وضمنها الإسلام من أهم مبادئ الدولة المدنية التي نظّر لها الفكر السياسي الحديث والمعاصر.
مع التأكيد على أن الحرية لا تعني الانفلات من الضوابط الأخلاقية والإنسانية، وإنما تعني امتلاك القدرة على التعرف والاختيار وفقاً لقواعد عقلية أو ضوابط شرعية، فهي تتجه إلى الكمال وليس إلى التخريب، وإلى الانسجام مع قوانين وقيم المجتمع، وليس إلى الخروج عنهما.
والحرية التي يدعو لها الغرب تحمل ثقافة الغرب وتاريخه، وتختلف عن ديننا وهويتنا وخصوصية مجتمعاتنا، ولكنها تتقاطع في بعض مجالاتها كحرية التعبير وحرية التدين وحرية الاختيار… .الخ، تلك المجالات التي تروم تحرير الإنسان من ربقة الاستبداد والاستعباد.
وللحديث بقية…
الهوامش:
- نقصد بالحرية المطلقة بمعناها الحرفي: القدرة الكاملة دون انتقاص للمتصف بالحرية (الكائن الحر) على التحقيق الكلي لا النسبي لجميع رغباته بلا استثناء ودون أن يعوق إرادته النافذة أي قيد داخلي أو خارجي.
- هوبز، توماس، الليفاثان.. الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة، ترجمة ديانا حرب وبشرى صعب، ط1، أبو ظبي، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، كلمة، 2011 كما ينظر ص221.
- روسو، جان جاك، العقد الاجتماعي، ص43.
- هوبز، توماس، الليفاثان، الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة، مرجع سابقن ص135- 141، وروسو، جان جاك، العقد الاجتماعي، مرجع سابق، ص25، 35.
- الشهرستاني، أبو الفتح محمد عبد الكريم، الملك والنحل، ط بدون، القاهرة، مؤسسة الحلبي، 1955م، ج1، ص85.
- عمارة ، محمد، المعتزلة ومشكلة الحرية،ط2، دار الشروق، 1988م، ص188.
- مونتسيكو، روح الشرائع، ترجمة: عادل زعيتر، ط، القاهرةن مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2000، ص292
- الزبيدي، محمد بن محمد الحسيني، تاج العروس من جوهر القاموس، ط بدو، دار الهداية، بيروت، ج10، ص853.
- الأصفهاني أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب، المفردات في غريب القرآن، تحقيق صفوان الروادي، ط1، دمشق، دار القلم، 1412هـ، ص224.
- هوبز، توماس، الليفاثان الأصول الطبيعية والسياسية للسلطة، مرجع سابق، ص216-217.
- الغنوشي، راشد، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، ط1، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1993م، ص37، 38.
- سورة الحج، آية 29.
- سورة الإسراء آية 70.
- سورة التين، آية 4.
- سورة فاطر، آية39.
- سورة الأحزاب آية 72.
- الغنوشي، راشد، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، مرجع سابق، ص37.
- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الرسل والملوك، مرجع سابق، (3/518)
- الغنوشي، راشد، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، مرجع سابق، ص319.
- قطب، محمد شبهات حول الإسلام، ط ، القاهرة، دار الشروع ، وقد افرد فصلاً في كتابه لمناقشة مسألة الرق.
- سورة الأحزاب، الآية 37.
- الغزالي، أبو حامد محمد، إحياء علوم الدين، (3/148)
- سورة محمد، آية 34.
- عمارة، محمد، العطاء الحضاري للإسلام، ط1، دار الشروق،2004م ص15.
- سورة التوبة، آية 60.
- الرازي، أبو عبد الله محمد بن عمر الحسين، مفاتيح الغيب (التفسير الكبير)، ط3، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 140هـ، ج7، ص15.
- الغنوشي، راشد، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، مرجع سابق، ص
- سورة الحج، آية 40.
- عودة، عبد الملك، وعاصم عجيلة وآخرون، الثقافة الإسلامية، ط2، صنعاء، مكتبة الإرشاد 2009م، ص243.
- أبو طالب، عبد الهادي، المرجع في القانون الدستوري والمؤسسات السياسية، ط بدون، الدار البيضاء، دار الكتاب، 1980م، ج2، ص146.
- الغزالي، محمد الغزالي، حقوق الإنسان بين الإسلام وإعلان الأمم المتحدة، ط5، الإسكندرية، 2002، ص178.
- الغنوشي، راشد، الحريات العام في الدولة، الإسلامية، مرجع سابق، ص219.
- عودة، عبد الملك، وآخرون، الثقافة الإسلامية، صنعاء، مكتبة الإرشاد، 2010م، ص88-89.
- الغنوشي، راشد، مرجع سابق ص.
- سورة التوبة، آية 105.
- الغزالي، محمد الغزالي، حقوق الإنسان في الإسلام، مرجع سابق، ص181.
- الغزالي، محمد، مرجع سابق، ص182.
رائع سلمت أناملك، رفع الله قدركم وزاد ذهنكم صفاءً وقوة، أبدعتم أيما إبداع