أدب

وقود الحرية: بين الزبيري والشابي

لم يلتفت التونسيون إلى قصائد الانسحاب واليأس لدى شاعرهم الشَّابي, وتغنوا بالقصائدِ التي تلهب الحماس للذَّوْدِ عن الحرية كقصيدته ( إرادة الحياة):

إذا الشعب يومًا أراد الحياة 

 فلا بدَّ  أن يستجيبَ القدر 

ولم يخذلوه  فقاوموا الاستعمار ونالوا استقلالهم, وقاوموا الاستبداد الداخلي وأزالوه في ثورتهم الأخيرة, وهاهم ينعمونَ بالحرية؛ فما بال اليمانيين يخذلون شاعرهم الزُّبيري الذي قدَّمَ روحه لينالوا حريتهم؟ وإذا كان الشَّابي قد يأس من شعبه في كثيرٍ من قصائده, فقد كان الزبيري على نقيضه يرى أنَّ الشعب هو القائد الحقيقي للثورة على الطغيان، والحارس المؤتمن على الحريةِ في المستقبل. فلم ييأس من الشَّعب, وتوحَّد به شعرًا, ومعاناة حياة حتى قدَّم روحه رخيصة لينال الشَّعب حريته؛ ولذلك لقبه اليمانيون (أبا الأحرار اليمنيين).

يقول د. المقالح في تقديمه لديوان الزُّبيري: “ليس محمَّد محمود الزبيري شاعرًا فحسب و لا هو مناضل فحسب, بل هو كذلك صحفي وزعيم وطني وروائي وكاتب وشهيد… تقلبت الحياة بالزبيري من شاعرٍ إلى صحفي إلى وزير, إلى مهاجر, إلى زعيم سياسي, وهو في كل موقف منها ذلك الوطني الجسور والثَّائر الزَّاهد, وفي الأخير توج حياته المتنوعة النِّضال بالشَّهادة؛ ليتحقق حلمه الذي أنشده:

بحثت عن هبةٍ أحبوكَ يا وطني

فلم أجد لكَ إلا قلبي الدَّامي

ولقد قال والت وايتمان: “إنَّ دليل شاعرية الشَّاعر أن تتشبع بلاده بحبه تشبعه بحبها”, و أجزمُ أنَّ هذا الوصف لا يصدق على شاعرٍ في اليمن- و لا حتى في الوطن العربي بأسره- كما يصدق على شاعرنا الشَّهيد محمَّد محمود الزبيري, فقد ارتبطت حياة هذا الشاعر المناضل بحياة شعبه المناضل وكونا خلال ثلاثين عامًا (من أواسط الثلاثينات إلى أواسط الستينات) – من القرن الماضي – توأمًا روحيًا وعاطفيًا يتبادل الحب والتَّضحية:

وطني أنت نفحة الله ما تبرح

لا عن قلبي ولا عن لساني

صوّر الله منـك طـيـنة قلبي

وبرى من شذاك روح بياني

شعلة القلب لو أذيعت لقالوا

مرَّ عبـر الأثير نصـلٌ يماني

إنَّ عظمة الزبيري تتمثل في هذا التَّوحد الخلاق, وفي الذوبان الكامل في الوطن, وعظمته كذلك تتمثل في قدرته الفائقة على ربط مشاعره بمشاعر شعبه حتى نال شعره من الذيوع والانتشار ما لم ينله شعر شاعر معاصر”.

إنَّ الزبيري على عكس الشَّابي لم يستسلم للرغبة الجامحة عنده بسلطان الشعر لخلق عالمٍ خيالي يحلقُ فيه بعيدًا عن الواقع وهموم النَّاس. بل أخضع شعره لخدمة القضية الوطنية التي يؤمن بها. وعدَّ هذه المنحة الإلهية- الشعر- هبة ربانية كأي آلة حربية أخرى, تستطيع أن تدك عرش الطغاة دكًا. يقول في مقدمة ديوانه: “كنت أحس إحساسًا أسطوريًا بأني قادر بالأدب وحده على أن أقوض ألف عام من الفساد, والظلم, والطغيان”.

وإن حاولنا تفسير هذا الاختلاف فلعلَّ الشَّابي كان في عنفوان شبابه؛ وبعيدًا عن القضية الوطنية إلى حدٍ ما, ولم يكن مندمجًا بها كالزبيري, أو قائدًا لها؛ فيستشعر عبء المسؤولية. ويظهر رشد الزبيري في تصديره لبعض قصائده بآياتٍ قرآنيةٍ تدلُّ على استشرابه لمعاني القرآن؛ فهو قاضٍ وليس ابنًا لقاضٍ كالشَّابي؛ ولذلك عنونَ إحدى قصائده بـ” كفر وإيمان”: كفر بالطغاة وإن تلبسوا لباس الدِّين, وإيمان بحق الشَّعب في الحرية ليحكم نفسه بنفسه؛ ويدل هذ على روح القاضي الذي يثق بحكمه ولا يخشى سوء الفهم من المتلقي.

وإذا كان الشَّابي يخاطب العقل لدى الطغاة؛ محذرًا إياهم من تداول الأيام, نجد الزُّبيري يحقرهم مستهزئًا بعقولهم:

كفرتُ بعهد الطُّغاة البغاة

وما زخرفوه وما زيَّفوه

وأكبرتُ نفسي عن أن أكون
عبدًا لطاغيةٍ  توَّجوه

وعن أن يراني شعبي الذي

يعذّب عونًا لمن عذَّبوه

أأجثوا على رُكبي خاشعًا

لجثَّةِ طاغيةٍ حنَّطوه

أألعقه خنجرًا…. قاتلًا 

لشعبي و أُكثرُ فيه الوُلُوه

أنا ابنٌ لشعبي أنا حقدُه..

 الرهيبُ  أنا شعره  أنا فوه

أتعنو لطاغية جبهتي؟

فمن هو؟ من أصله؟ من أبوه؟

لقد أقسمَ الزُّبيري في هذه القصيدة أن يلقي بنفسه في المزدحم, ويمحو عن الشَّعب عار الصنم, ويجعله عبرة للأمم, وأشهد أنه برَّ بقسمه.

وإذا كانت بعض قصائد الشَّابي تنفجر غضبًا على شعبه؛ فتراه جثة هامدة, فالزبيري بعد أن كفر بالطغاة آمن بالشعب, وقدرته على الثورة؛ وإن بدا جثة هامة:

revolution وقود الحرية: بين الزبيري والشابي

و آمنتُ بالشعب حتى وقد

رآه الورى جثة هامدة

…………………….

هو الشعب..! حقٌ مشيآته

صوابٌ ورشدٌ خطيآته

له نبضنا وأحاسيسنا

فما نحن إلا نباتاته

…………………….

ولكنه في المجال البعيد 

تعلو على الظلم راياته

  وتقتلع الشر خيراته

وتبتلع الكل خيراته.

وإيمانه في قدرة الشعب على الثورة لا حدودَ له؛ فما أن تتمرد قبيلة يمانية على حكم الأئمة حتى يبادر بالإشادة بها, ومدحها؛ لتكون قدوة لغيرها. انظر قصيدة “بوادر ثورة”.

وإذا كان الشابي يقارن بين البشر والكائنات في الحرية فإنَّ الزبيري يقارن بينهما في العبودية, يقول في قصيدة “لا تحرقونا بناركم” على لسان العبيد:

وفي الحشرات.. لنا أسوةٌ 

 تزهدنا في حياة البشر

وفي عالم الدود عيش هنيء

 هبطنا إلى مستواه الأغر

ولو نستطيع النزول البعيد 

نزلنا لمستويات الحجر

والزبيري مراقب يقظ لحركة الشعب إيجابية كانت أم سلبية؟ ففي قصيدة” نكسة الثورة اليمنية” يتفق مع الشَّابي في حبّ الشعب لطغاته حتى ولو كانوا تحت التراب؛ لما قامت ثورة 1948 في صنعاء وقُتِلَ الإمام يحيى, وأعلنت ثورة الدستور, رأى الزبيري الشَّعب ينتفض للانتقام لمقتل الطَّاغية وينكِّل بالأحرار الذين أرادوا له الحرية:

أنا راقبتُ دفن فرحتنا الكبرى

وشاهدتُ مصرع الابتسامة

ورأيتُ الشعب الذي نزع القيدَ

وأبقى جــذوره في الإمـــامة

وإذا بالطبـول عـــادت طبولًا 

وإذا بالفطيـــم يلغي فطامه

 وإذا بالدستور يصرعه البغي

ويلقى كصانعيه حِمامه

وإذا الشعب بعدما حطّم الأصفاد

عنه لم نلق إلا حطامه

 نحنُ شِئنا قِيــامَه لِفخــار

فأراه الطغاةُ هَولَ القيامة

لا ييأس الزبيري من وعي الشعب, وثورته على الطغاة حتى بعد أن رأى الشعب يلتف حول الطاغية, ويصفق لقطع رؤوس الأحرار, بعد فشل ثورة 1948, ويراه شعبًا متربصًا بالطغاة لا مستسلمًا؛ وجسد هذا التربص في قصيدة “شعبٌ متربص”:

60ee4673c3b76 وقود الحرية: بين الزبيري والشابي

ألمح الشعب قابعا يدرس الثورة 

كيما يأتي بأخرى جديدة

يتحـرى الأخطاء ويغفر للأحرار

 أخطاءهم ليبقـوا جنوده

لا ييأس الزبيري من وعي الشعب, وثورته على الطغاة حتى بعد أن رأى الشعب يلتف حول الطاغية, ويصفق لقطع رؤوس الأحرار, بعد فشل ثورة 1948, ويراه شعبًا متربصًا بالطغاة لا مستسلمًا؛ وجسد هذا التربص في قصيدة “شعبٌ متربص”:ولقد صدق حدسه؛ فقامت ثورة 1955, وفشلت هي الأخرى, ثم جاءت ثورة 1962 لتنهي حكم الأئمة إلى الأبد؛ فرغم استيلاء الحركة الحوثية على صنعاء 2014 لم تجرؤ على إلغاء الحكم الجمهوري, أو إعلان الإمامة من جديد؛ لأنَّ أحفاد الزبيري الأحرار لم يدعوها تتهنأ بانتصارها المزعوم؛ فالشَّعب الذي ثار على حاكمٍ جمهوري منتخَب عام 2011؛ لأنه قرَّر توريث الجمهورية لعائلته يستحيل أن يقبل بعودة الإمامة, التي يحلم بها الحوثي.

يخالف الزبيري الشابي في عدم يأسه من صحوة الشعب في أكثر من قصيدة:

لا يغرنكم سكون من المارد 

 يُبدي الخنوع وهو مصفّد

يومه قــادم… فويل لمن واجه 

 يوم الحســـاب غير مزوّد

ويسخر من القائلين أنَّ الشَّعب جبان في قصيدة  “هل يخاف الشَّعب نفسه“.

ويقول الزبيري في مقدمة لقصيدته “خطبة الموت”: “عندما كان الإمام أحمد حميد غائبًا في روما، اندلعت أحداث ثورية في أنحاءِ اليمن، وانطلق الشَّعب يتحسَّس سواعد نفسه, ويتلمس كرامة محتده, ويخطئ أحيانًا فيمارس التعبير عن آدميته بأساليب تلقائية مرتجلة, لا تنم عن تدبير سديد وإن كانت توحي بسخطٍ عميق. وكان هناك إلى جانب الأحداث تجمعات على مستوى الزعامات القبلية لم يسبق لها نظير.

وتلك كانت تجربة تاريخية قصيرة اكتشف الشعب فيها وجوده فجزع الطغاة الرجعيون واستعادوا الإمام أحمد من روما باعتباره رمز الرَّعب, وباعتباره وسيلة لإلغاء الوجود الشعبي. فما كاد يصل الحديدة, حتى ألقى على الشعب خطابًا متوحشًا هدَّد فيه بقطع الرؤوس, والأيدي, والأرجل, وطالب الشَّعب أن يبارزه إن أراد. وتلك كانت هي التحية على طريقةِ الطُّغاة.

وإذا كان الشعر لا يستطيع إلا أن يهزّ روح الشعب ويحركه إلى الكرامة كما نجده يحاول ذلك في هذ القصيدة, فإن هناك الأبطال الثلاثة: “محمد عبدالله العلفي” و “وعبدالله اللقية” و “محسن الهندوانة” الذين صوبوا مسدساتهم الباسلة إلى صدر الطاغية, وأذلوه, وصرخوا في وجهه:  هذا الفرس وهذا الميدان. ووقف “اللقية” مواقف بطولية ردت العزة إلى كل يمني, وصنعت مثلًا أعلى, وأحدثت انقلابًا روحيًا في الأعماق وغيرت مجرى الحياة النفسية في اليمن تغييرًا عجيبًا”.

إنَّ معركة الزبيري مع طغيان يتلبس بالدين الإسلامي, بينما الشَّابي معركته مع الاستعمار الأجنبي وإن كان هو الآخر يتلبس ثياب الدين المسيحي؛ لكن الشابي لم يفصح عن هذا في شعره فصاحة الزبيري في هذه الأبيات:

ليس في الدين أن نقيم على الضيم 

 ونحني جــباهنا للدنيّة

ليـس في الدِّين أن نؤلّه طـغــيانًا  

 ونعنو للسلطة البربرية

ليس في الدين أن نُقدس جـــلادًا

 ويمنـاه من دمانا رَويّة

لــعــن الله كل ظـلـم وجـــــور 

لعنةً في كتابه سرمدية

الركوع الذَّليـــل في غير وجـــه الله 

رُجعى بــنا إلى الوثنية

ويبين في هذه القصيدة دور الدِّين الإسلامي في استنهاض الأمة لنيْل حريتها, ويحذر الطاغية من الشعب فالشعب أقوى, ويدعوه لمصالحته فذاك أفضل له وأبقى.

يتميز الزبيري عن الشَّابي برصده للطغيان وحاشيته؛ ويرى في تغرير الحاشية للطاغي في التمادي في طغيانه نصر للثورة:

رُبَّ تغرير بطغيانٍ

من الثورة  أجدى

والعجيب أنَّ يثق الزبيري في قدرة الشَّعب على التَّحرر بنفسه دون حاجة لمساعدة خارجية؛ لدرجة أن يتمنى من الله ألا يقبض روح الطاغية بل يمنح الشعب الإيمان بنفسه لتحرير نفسه. انظر مقدمته لقصيدة “الخروج من العزلة”.

وإن كانت القضية اليمنية لها الأولية في شعر الزبيري إلا أنه لا ينسى قضايا الشعوب الأخرى – إسلامية كانت أو عربية – فهو يحيي الشعب العراقي في قصيدة: “من أحرار اليمن إلى أحرار العراق”  كما حيا الشَّعب التونسي من قبل و الشعب العماني .

إلا أنَّ العاطفة لا تلغي عقله وهو يتعاطف مع هذه الثورات, فنراه ينصح ويحذر من طغيان قادم بعد هذه الثورات:

شرَّ ما يقتل العروبة أوثانٌ 

نربي طغيانــها في المهود

   ونغذي فيها  ألوهية الإفك

ونعنو لسُخفها بالسجود

ويجدها فرصة لمخاطبة أحرار العراق من أحرار اليمن؛ لأن الطغيان الهاشمي-زورا- قد باض وأفرخ في كلا البلدين:

حاشا لله أن يكونوا لطه 

بل وحاشا أن ينتموا ليزيد

لو يصح انتسابهم لعلي

كرم الله وجهه في الخلود

لاقشعرت دماؤهم من حياء

 وأبت أن تجري لهم في وريد

فرحوا أنهم قد اعتقلوا الشعب 

وشلوا حياته بالقيود

وأباحوه للأعادي وباعوه 

إليهم بحفنة من نقود

إنَّ الزَّبيري قد منح حياته وشعره لليمن؛ ليخرج من هذا الاندماج أجمل أبيات الشعر في معنى الحرية, وحثّ العبيد على طلبها, والتضحية لنيلها؛ فنيلها حياة, وفقدها موت؛ ولذلك نجد قصيدتين تحملان عنوانًا واحدًا “إلى وطني” في الأولى نجد الثقة العالية في نتائج القول الشعري, وأثره الهائل على الطغاة, والشعب:

وقود الحرية: بين الزبيري والشابي

أصبو إلى أمتي حبًا وأبعــثها

عثا و أبني ذلها بالشعر بنيانا

أصوغ للعمي منه أعينا نزعت

عنهم وأنسجه للصـــمّ آذانا

وما حملت يراعي خالقا بيدي

لا ليصنع أجيالا و أوطـــانا

يخاله الملك الســفاح مقصلة

في عنقه ويراه الشعب ميزانا

فهـــاك يا أمتي روحًا مـدلهة

عصرتها لخطاك الطهر قربانا

كأسا من الشعر لو تُسقى الشموس بها

ترنحت ومشى التاريخ سكرانا

وفي الثانية يرد الجميل في هذا القول الشعري الثائر إلى الشعب:

الشاعرية في روائع سحرها

أنت الذي سويتها وصنعتها

ما لي بها جهد, فأنت سكبتها

بدمي وأنت بمهجتي أودعتها

إنه لا يمنُّ على شعبه بشعره؛ لأنَّ الشاعرية منحها إياه الشعب فإن تغنى بغيره قطع لسانه, إلى هذا الحد يصل التلاحم بين ذات الشاعر والشعب وبينهما القول الشعري فلا ندري من له الفضل على الآخر:

ما قال قومي: آه…. إلا جئتني

فكويتَ أحشائي بها ولسعتها

عذّبتني وصهرتني؛ ليقول عنك

الناس هذي آية أبــــدعتها

إنه لا يمنُّ على شعبه بشعره؛ لأنَّ الشاعرية منحها إياه الشعب فإن تغنى بغيره قطع لسانه, إلى هذا الحد يصل التلاحم بين ذات الشاعر والشعب وبينهما القول الشعري فلا ندري من له الفضل على الآخر:

قوضتُ بالقلم الجبار مملكةً

كانت بأقطابها مشدودة الطنُب

فإن فشلتُ ولم أنهض بدولتنا

الكبرى لشعبي, ولم أظفر بمطّلبي

فسوف أبني له مجدا من الأدب..

العالي يبوّءه في أرفع الرُّتَب

ولن يكون الذي قد كان من حدث

مروّعٍ غير إعلان من الأدب

ويصوغ من قوافي الشعر حياة الشعوب, ويذكي الحروب على الطغاة:

ومنها أصوغ حياة الشعوب

وأذكي على قاتليها الحروبا

ومن عجب العجاب أن نرى الزبيري يرفض قول الشعر الذي لا يرضي ضميره؛ يريد حرية للضمير وللقول الشعري:

حلّوا القيود عن الضمير فلم يكن

مثوى الضمير الحيّ في الأقياد

ولقد نزعتُ من الضمير قصيدة 

هي صوت إيماني, وصكُّ جهادي

تسعى القوافي لي فلا أحني لها

قلما إذا جاءت بدون مرادي

وأكاد أرفضها إذا لم تكن

نزلت إليّ على رويِّ فؤادي

ولذلك عندما عاد إلى اليمن من مصر عام 1941 نصحه الناصحون بالمهادنة للطاغية, والصمت عما يراه من مظالم؛ فجاشت نفسه بقصيدة “مصرع الضمير”:

مُت في ضلوعكَ يا ضمير وادفُن حياتك في الصدور 

إياك والاحساسَ فالدنيا العريضة للصخور

لا تطمئن إلى العدالة, فهي بهتان وزور

لا تُنسبنَّ إلى الثقافة فهي داعية الثبور

حطم دماغك إنه  شرٌّ برأسكَ مستطير

إنَّ الزبيري يغوص في أعماق الطغيان؛ فيرى أنه هو الصانع الحقيقي للثورة عليه:

ألم تخشَ من أمة أصبحت

إليك تُكشّر من نابها؟

وتزأر غضبى زئير الأسود

وأنت الملومُ بإغضــابها

ستلقى مغيّة ما قد صنعت

وتجني المخالب من غابها

ويرى بيت الطاغوت كبيت العنكبوت، فيصرخ في النائمين الذين يجعلون للطغاة حصونا في صدورهم:

نخشى سيوف الظلم وهي كليلة

ونقدس الأصنام وهي حطام

وتذلّ أمتنا لفرد واحد

لا تُستقاد لمثله الأنعام

وفي هذه القصيدة الطويلة التي عنونها بـ”بصرخة إلى النَّائمين” يستنهض اليمنيين أحفاد أقيال حِمير, الذين سادوا الدُّنيا قبل الإسلام، وأحفاد الأنصار  الذين نصروا الإسلام، ويذكر وقائع تاريخهم ليقارن بين ماض مشرق لهم، وحاضر لا يشرفهم وقد تحكمت فيهم طائفة شيعية تنتسب زورا إلى آل البيت، وحاشا لآل البيت أن يكونوا طغاة:

ما كان ضرهم وهم من هاشم

لو أنهم مثل الجدود كرام

يا قوم هبوا للكفاح وناضلوا

إن المنام عن الذمام حرام

تستسلمون إلى قساة ما لهم

خلق، ولا شرع، ولا أحكام

ويعري الزبيري الطغيان المتلبس بالدين الإسلامي، وبالنسب الهاشمي في قصيدة “في محراب الإمام يحيى:

أيها الظالم الذي يتباهى 
أنه ابن الوحي أو سبط طه

تشهد الناسَ يركعون حواليك

دهورا ويخفضون الجباها

تتوخى بأن تكون شريك الله

فيهم أو أن تكون الله 

ولذلك يرى أن الحقوق تنتزع لا تستجدى من الطغاة، ولا يتخلف عن ركب الأحرار إلا العبيد المستحقين للرثاء:

سوف لا نستجدي حقوقًا

لا نشكو سياطًا ولا نداري داء

إننا نأخذ الحقوق ولن نقبلها

منحة، ولا استجداء

سوف لا يشتري الطغاة سوى عبد

نبذناه يستحق الرثاء

ويصور الطغيان في قالب قصصي في قصيدة “العجوز وعسكري الإمام” حين حلّ على هذه العجوز جند الإمام يطلبون حق ضيافة الإمام لحمًا وقاتًا وهي لا تملك شيئًا. ومن معاناة الشعب هذه تطايرت آهة فكان منها هذا الشاعر؛ فصارت سهاما تنهال على المستبد حتى صرعته خيالًا ثم واقعًا:

أنا آهٌ تطايرت من حطام الشعب

واستكبرت على المستبدّ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى