ثمة فرضية تُساق في المنظور العلماني مفادها أن الدِّين – والمقصود به الإسلام هنا- لا يمتلك منظومة حكم متكاملة تقوى على مواجهة المشكلات والتحديات في مختلف المجالات، أو أنه يمكن له تقديم نموذج لدولة حديثة؟
وغني عن القول لدى فقهاء الإسلام وأصولييه وعلمائه ومفكريه في القديم والحديث : إنَّ الإسلام – من حيث المبدأ- يمتلك نظامًا كليًّا شاملًا في مختلف المجالات الحياتية الفكرية والسلوكية، لكن ليس معنى ذلك أنه يمتلك جوابًا جاهزًا وتفصيليًا عن كل مسألة تطرأ، أو حدث ينشأ، أو مشكلة تستجد، في أي مجتمع، وأي زمان، ولا يلزمه ذلك ابتداء، أو يقلّل من شأنه، بل يمنحه ذلك تجسيد حقيقة سمات الواقعية والمرونة والخلود والصلاحية الزمنية والمكانية، التي يمتاز بها في جانب المتغيرات والمستجدات. والمقصود أن لديه قواعد كلية عامة حاكمة، كما أن لديه نصوصاً تشريعية عامة جزئية وتفصيلية أحياناً، ولكنها – أي النصوص الجزئية والتفصيلية- قد لا تغطّي كل الأحداث والنوازل أو المستجدات، نظراً لتلك السمات ذاتها، فيلجأ أهل كل تخصص إلى إعمال تلك الكليات والقواعد العامة في تخصصاتهم، وفق منهجية علمية مؤصّلة، ليبرز النظام الإسلامي بعد ذلك، سواء بالنص عليه، أم بإعمال الاجتهاد في نصوصه ظنيّة الدلالة، أم بإعمال القواعد الكليّة، والقيم الحاكمة، والمقاصد العليا للشريعة، ومن ثم يصدق عليه في هذه الحالة وصف “النظام”، حيث كل شيء تم – سواء في الكليات أم الجزئيات- وفق نظامه العام، وفي ضوء منظوره المستقل ومنهجيته الخاصة، لا أن ذلك النظام خارج عنه، أو متمرّد عليه، أو أنه يتدخل في كل جزئية وتفصيل بنصّ مباشر .
وفي هذا يقول الدكتور يوسف القرضاوي في سياق تأكيده على حقيقة شمول النظام الإسلامي للجوانب المختلفة :” وأود هنا أن أبرز ملاحظتين هامتين:
الأولى: أن النظام الذي يشمل العقيدة والشريعة والأخلاق والآداب، والتشريع والمعاملات، والنظم والحضارة…إلخ لا يعني أن الإسلام جاء بتفصيلات شاملة لجزئياتها، وفصّل كل شيء فيها تفصيلاً، فهذا غير صحيح، وهو ليس من الدّين، ولا من الواقع في شيء .
إن عناية الإسلام هي بالكليات والمقاصد، والقواعد الأساسية والأحكام الضابطة للأمور التي من شأنها الثبات، ولو اختلفت الأزمان والبيئات والأحوال. وفيما عدا ذلك يتخذ الإسلام أحد طريقين:
1- إما أن يترك الأمر للناس، ويصمت عن الحكم فيه، رحمة بهم، وتوسيعاً عليهم، من غير نسيان ولا إهمال، وهذه هي المنطقة التي سمّيناها منطقة العفو… وهنا تختلف اجتهادات الفقهاء، لملء هذه المنطقة بما لديهم من أدوات الاجتهاد، إما عن طريق القياس على المنصوص عليه بشروطه، أو بطريق الاستصلاح، أو الاستحسان، أو الاستصحاب، أو غير ذلك من الأدلة التبعية، التي أخذ بها من أخذ، ورفضها من رفض، وتوسّع فيها قوم، وضيّق آخرون.
2- وإما أن ينصّ عليها نصّاً إجمالياً، على معنى أنّه لايتعرّض للجزئيات والتفصيلات الكثيرة المتنوعة، والمختلفة باختلاف الزمان والمكان والعرف والحال، ولهذا عُرِف باستقراء أحكام الشريعة ونصوصها، أنها تفصّل فيما شأنه الثبات، وتُجمل فيما شأنه التغيير. ولهذا نجد موضوعاً مثل شؤون الأسرة من زواج وطلاق ومواريث ونحوها، فيه كثير من التفصيل في أحكامه، في القرآن والسنة، لأن شأن الأسرة هو الثبات وعدم الخضوع للتقلبات والتغيّرات، على حين نجد موضوعاً مثل نظام الحكم وما يتعلّق بتكوين الحكومة وشكلها، وكيفية الشورى…جاء في الإسلام مجملاً غير مفصّل، لأن مثل هذا الموضوع قابل للتطور والتغير ، بتغيّر الزمان والمكان، وأحوال الإنسان، فالإلزام بصوّر أو أحكام مفصّلة فيه، يعوق انطلاق المجتمع، ويجمِّد حركته، ويقيّد حريته.
والملاحظة الثانية أن شمول الإسلام للعقائد والعبادات والأخلاق والآداب، والمعاملات والنظم الاجتماعية المختلفة، لا يعني أن هذه الأمور كلها في مرتبة واحدة، بل هي متفاوتة بيقين في منزلتها من الدّين، كما أن في داخل كل منها ما يعدّ من الأصول وما يعدّ من الفروع، ماهو من الأركان، وما هو من المكمِّلات، ماهو من الفرائض ، وما هو من النوافل، ماهو قطعي، وما هو ظني، ماهو متفق عليه، وما هو مختلف فيه، ماهو في مرتبة الضروريات، وما هو في مرتبة الحاجيات، وما هو في مرتبة التحسينات، على حدّ تقسيم الأصوليين”(1).
رغم هذا البيان فمن المحزن أن تظل قناعة أغلبية العلمانيين بعناوينهم المختلفة- حتى كثير ممن يوصفون بالاعتدال منهم- تتواطأ على خلو الفكر الإسلامي من امتلاكه نظاماً شاملاً متكاملاً يحوي السياسة والاقتصاد والتربية والاجتماع…إلخ، إذ ليس ثمّة – عندهم- أكثر من نظامين (عالميين)، كان يسمّى أحدهما يوماً: النظام الاشتراكي الشيوعي برعاية دولة الاتحاد السوفيتي، وكان يمتلك أكثر من نصف العالم المعاصر، وظل يبشر أتباعه بثورة البروليتاريا (العمال) القادمة للقضاء على البرجوازية، وقيام دولتهم من ثم، تلك التي ستحقق لهم جنة الفردوس في الدنيا، فيما تقتسم معه النفوذ والهيمنة على العالم نظيرته: الولايات المتحدة الأمريكية، تلك التي تمثّل بدورها القسيم الآخر للنظام العالمي، أي النظام الرأسمالي الليبرالي، ومن ورائها الدول الأوروبية الغربية. ولايزال ذلك النظام قائمًا متحكمًا وحده إلى حدّ كبير بمصير العالم إلى اليوم. وغالبًا ما دارت جلّ أنظمة المجتمعات العربية والإسلامية، أو ما كانت تعرف بمجتمعات العالم الثالث بالأمس بصورة عامة في عجلة أحد المحورين، و إن وجدت دول محدودة عربية وإسلامية مثّلت مركباً هجيناً بين النظامين، حيث تتداخل جملة من التعاليم الإسلامية التقليدية، ولاسيما نظام الأسرة، وبعض الأنماط التربوية والاجتماعية وقدر أقل من السياسية مع النظام الرأسمالي.
ومن الخلط المعيب هنا أن يسارع بعض من يُصنّف على دائرة الفكر- بمن فيهم جمهور الاتجاه اليساري القديم- حالة الضعف التي تعاني منها الأمة، وواقع التراجع الذي يحيط بالمشهد الإسلامي دليلاً على أن الإسلام لا يمتلك نظاماً شاملاً، ويدعو – من ثمّ- لتبني دولنا النظام الرأسمالي الغربي “الإمبريالي”، واصفًا له بنظام “الدولة الحديثة”، أي أنه النموذج القياسي الكلي الحاكم على بقية النماذج، بما فيها النِّظام السياسي والثقافي والاجتماعي والتربوي والاقتصادي الإسلامي! وذلك خطل في الفهم والوعي بأسس مشكلات الضعف والتراجع المحيق بالعالم الإسلامي، ولئن وُجِدت أسباب ذاتية لذلك الواقع البئيس – وهي أساسية وجوهرية- فكأنه يعفي الغرب من الأسباب الخارجية المؤثرة إلى حدّ كبير، تلك التي يسعى – هذا الغرب وفي مقدّمته الولايات المتحدة الأمريكية- بسببها إلى إجهاض أيّ نموذج يحاول تحقيق قدر من مشروعه الحضاري الإسلامي، بعيداً عن هيمنته ووصايته، فيما يبقي على الأنظمة المستبدة الفاشلة التابعة لتوجهاته، ونماذج ذلك كثيرة متضافرة في الجزائر وفلسطين ومصر وحتى اليمن وليبيا وغيرها . ولم يعد مفاجئاً أن تجد الغرب وأتباعه لدينا يعلنون هلعهم مما يسمونه “الإسلام السياسي” أي النموذج الإسلامي السلمي، ويحُولون دون وصوله إلى السلطة بأساليب ” ديمقراطية”، ثم يأتي بعض من يصنّفون على دائرة الفكر والسياسة فيتهمون الفكر الإسلامي بالعجز والضعف عن إيجاد البديل، أي النظام الإسلامي، والزعم أن ذلك إنما يرجع إلى عجز الإسلام ذاته، حيث لا يمتلك مشروعاً شاملاً، أو أن ذلك ليس من شأنه!
تساؤلات كبرى لإحياء فريضة التفكير:
لم يخطر ببال أيّ من قادة تلك الدول العربية والإسلامية ، أو نخبها المتصلة بصناعة القرار، أو المؤيدة لذلك المسار، أو حتى تلك المصنّفة على المعارضة السياسية العلمانية ونخبها اليسارية والليبرالية؛ أن يقفوا مع أنفسهم ولو مرّة واحدة: ليضعوا السؤال الكلّي التالي-:
تُرى أين موقعنا الفلسفي أو الحضاري بين ذينك النظامين العالميين؟ بل أين كنا قبلهما؟ مع ما يُعرف عن الحضارة الإسلامية من قدرات باهرة، وتفوق حضاري استمرّ مزدهراً لردح غير قليل من الزمان؟! في وقت كان الغرب والشرق يرزحان تحت نير جهالات عصور الظلام، وصراع الكنيسة والعلم والسياسة ؟!
وهنا يبرز مكمن تزييف الوعي بل تغييبه التام تقريباً، إذ إننا قد جهلنا ذواتنا، ثم رحنا نصدّق اتهامات قوى الاستعمار العسكري والفكري، ونأخذ مزاعمهم مأخذ التسليم – كما سبق القول آنفاً- بدعوى أنه لا يوجد -ابتداء- ما يسمّى بـ(النظام الإسلامي) في السياسة، أو الاقتصاد، أو التربية، أو الاجتماع، أو أيّ من النظم المتعارف عليها، وأن حتمية النهوض المجتمعي لأيّ من مجتمعاتنا تكمن في التبعية للنموذج الغربي وحده، بعد سقوط المعسكر الاشتراكي الشيوعي. فمنذ متى في عالم الأسوياء صارت الضحيّة تصدّق جلادها؟!
كيف صدّقت نخبنا الفكرية والسياسية تلك الفرية الكبرى، وراحت تسبتسل ضدّ شعوبها في سبيل فرض ذلك عليهم؟ ومع ذلك لا تنفك تشبعنا حديثاً عن الديمقراطية، بل بعضها راحت تضع ذلك العنوان في الاسم الرسمي للدولة، وهي مضرب مثل في الطغيان والقهر بكل ألوانه! أيعقل أننا لا نمتلك نظاماً ثالثاً يمثّلنا اليوم يسمّى: النظام الإسلامي – مثلاً- ؟ أليس لنا نموذج كلّي مستقل، يجسِّد هويتنا القيمية، وذاتنا الحضارية؟ ثمّ يبحث عن المشتركات مع الآخر البعيد؟
ثمّة مَن سرى الرعب في داخله حتى من بعض المصنّفين على الاتجاه الإسلامي، حتى إنه ليعتقد بلسان حاله أن الغرب أضحى ” على كل شيء قدير”، وأنه صار ” أكبر” مما نتصوّر، ومن ثمّ فلن يسمح بتشكّل أي نظام قُطري إسلامي جاد، يعمل على تقديم نموذجه بقدر الاستطاعة، ناهيك عن أيّة صيغة أكبر، أي أنه لا مكان للعالم الإسلامي بين القوى العالمية الكبرى اليوم، إلا أن يحذو حذوهم تماماً؟ أو أن يسعى ليصل إلى مستواهم، على المدى البعيد مهما طال الزمن، ولا خيار وسط بين الأمرين، كأن تعمل بما هو متاح اليوم، وتسعى في الوقت ذاته إلى أن تبلغ ذلك المستوى المنشود، حين تتوافر أسبابه. وهنا تغيب بعض القواعد الفقهية الكلية والمقاصدية الكبرى مثل ” المشقة تجلب التيسير” و”الميسور لا يسقط بالمعسور”، بل يعوّد من يتبنى تلك الوجهة المثالية ليتمثل في الوعي أو اللاوعي، قاعدة
” خذوا الإسلام جملة أو دعوه”، تلك القاعدة التي كان دعا إليها الأستاذ سيّد قطب (ت:1966م)، وهي التي يعبّر عنها البعض بقوله:” الإسلام كل لا يتجزّأ، فإما أن يؤخذ جملة أو يُترك جملة”، أي إما أن نبلغ مستوى المثال المطلق في تطبيقه، أو فلندع ذلك، ولنسعَ إلى أن نصل إليه، على ذلك النحو، حتى إن لم يتحقق أصلاً، فلسنا ملزمين به، إلا على تلك الكيفية المثالية!
وإذا كان بعضهم منطقياً مع نفسه- أيّاً كانت درجة الخطيئة في تفكيره- حين لا يتردّد في تمثله لقاعدة ” حذو الإسلام جملة أو دعوه”، فينزع الشرعية عن كل الأنظمة القائمة، حتى لو كان بعضها قريباً من النظام الإسلامي في بعض مجالاته، ويتعامل معها تعامل المضطر المقهور؛ فإن البعض الآخر يُشعرك بالإحباط أكثر، حين يسعى لإقناعك بان ليس امامنا إلا الانحناء للعاصفة القادمة من الغرب، ولكنه- عملياً- انحناء أقرب إلى الركوع، إذ يقبل بتبني بعض أطاريح الوافد الغربي، وذلك أمر مفهوم عند هذا المدى، لكنه يغدو مستغرباً حين يرفض تطبيق ما هو متاح في الجوانب السياسية والاقتصادية بالخصوص، بوصفه جزءاً من النظام الإسلامي، ويعود ليكرّر مقولة : إن الغرب لن يسمح بإقامة نظام إسلامي أبداً، ومن ثمّ فلا ينفع مايصفونه بـ” الترقيع”، فإما نظام إسلامي شامل مستقل، يكاد يكون نظام خلافة حقيقة أو حكماً، وإما قبول بالصيغة الغربية، حتى نصل إلى الصيغة المثالية المطلقة، مهما طال الزمن، وتلك مقارنة جدّ متطرفة!
سقط النظام الاشتراكي تمامًا في 1990م، ومات موتة أبدية لا حياة له تذكر بعدها، فيما ظلّ النظام الرأسمالي يتغطرس بمصير العالم المعاصر وحده في إطار ما يسمّى بتفرّد القطب الأمريكي الأوحد، ومن ثمّ ظهر من المفكّرين الغربيين من يبشرنا بـ (نهاية التاريخ) ( The end of History) كفرانسيس فوكو ياما، و(صراع الحضارات) Civilizations) of The Clash)كصامويل هنتنجتون؛ أفلا يكون ذلك مدعاة لإعادة التفكير في دعوى الثنائية الحتمية المزعومة يوماً للاختيار بين النظامين، ولا خيار ثالث بينهما، خاصة بعد أن فشل أحدهما على ذلك النحو المدوّي؟
لقد كان المفترض منطقياً في ظل كل تلك التطورات أن يدفع ذلك من صدّق من نخبنا وتلامذتهم أتباع النموذج الاشتراكي المنهار، وأتباع النموذج الرأسمالي معاً محرِّك التفكير لديهم ليتساءلوا: ما الذي يضمن استمرار النظام الرأسمالي الليبرالي دون أن يلحقه السقوط كذلك، طال الزمن أم قصر؟ وكيف صدّقنا بالأمس حتمية النموذجين وحدهما، في حين أن الواقع أمامنا يكذبه في شطره الأول؟ أيعقل أن يظل مصيرنا رهناً بهما أو بأحدهما؟ أين نحن ؟ أين هويتنا؟ وأين ذاتنا الحضارية من كل ذلك؟
ألم تظل الدولة العثمانية كياناً عالمياً محورياً لستة قرون، وهي واحدة من تلك النماذج المشرقة بالجملة للأمة الإسلامية في سوادها الأعظم، في حقب كثيرة؟ خاصة في تمثيل الأمة وتجسيد وحدتها العضوية، وكينونتها السياسية، مهما حاول أعداؤها الحضاريون في الغرب وضحاياهم لدينا أن يصوّروا الأمر عكس ذلك، لمجرّد وجود أخطاء مهما كبرت في بعض الحقب؟ كيف حكمتْ ؟ وأين ذلك من خطايا الآخر المدمّرة؟ وماذا كان نظامها السياسي والاجتماعي والتربوي والاقتصادي السائد؟ وهل كان يمكن لها أن تستمر تلك الحقبة الطويلة جدا في عمر الحضارات والأمم، وأن تبني نموذجها الفريد لو لم تمتلك نظاما فريداً قوياً خاصاً بها؟ وهاهي ذي حتى وهي في آخر مراحلها، وفي أضعف حالاتها السياسية في عهد السلطان عبد الحميد الثاني (ت:1918م) ظلت تتميز ببنية تحتية، تمثل واحدة من أرقى ماشهده العالم تعليمياً واقتصادياً وصناعياً وعسكرياً وقضائياً وزراعياً. على سبيل المثال فقط لقد بنت الدولة في عهده سكة حديدية بطول (5883 ميلو متر) بين 1907-1908م فقط، لتربط أجزاء الدولة المترامية ببعضها، حيث ربطت أوربا ببعضها وبتركيا بدءاً من فينا حتى أستانبول. وفي العالم الإسلامي بنى سكة حديد بدءاً من عام 1900م، انطلقت من دمشق في الشام حتى المدينة المنورة في الحجاز. كل ذلك في أجواء المؤامرات الداخلية والخارجية التي آلت إلى الإطاحة بالخليفة بل بالدولة كلها في نهاية المطاف . كي يأتينا الغرب بنموذجهم الدخيل على تركيا، وعلى العالم الإسلامي، من ورائها، بعد أن صنعوا له في مركز الخلافة العثمانية رموزاً ومؤسسات، فحدثت الانعطافة الحضارية بل الانكسارة الكبرى في التاريخ المعاصر للمسلمين.
ومنذ ذلك التاريخ تبدلت المواقع، وتراجعت أمتنا إلى الخلف بعيداً، فبدلاً من أن الدولة العثمانية كانت رائدة، تحتل موقع الصدارة في صناعة الأحداث في عالمها الإسلامي وعلى مستوى العالم، من موقع المؤثر الإيجابي الفاعل، لا المتأثر السلبي المنفعل، وفي أضعف حالاتها غدت ندّا مؤثّراً، يُحسب له حسابه، لكنها بعد قيام ما يسمى هناك بـ(تركيا الحديثة) في 1923م أصبحت تابعة ذليلة، وحين حاولت التوسّل للقبول بها في النادي الأوروبي، لعلها تجد موضعاً ولو بين اصغر الكبار، فقد رُفضت في كل مرة، بذرائع لانهاية لها، أبرزها أن ذلك ناد مسيحي مغلق عليهم. ولم تفت دوائر الاستعمار الغربية التي أجهزت على حكم الخلافة العثمانية، عبر جمعية الاتحاد والترقي أن تعمل على ترتيب خاص للمؤسسة العسكرية الجديدة هناك، من فئات اجتماعية معيّنة ،يغلب عليها الولاء للمستعمر الأجنبي، لتضمن الولاء المطلق المستمر لها، فتحول دون أيّ عودة محتملة للذات التركية الإسلامية الأصيلة، ومجدها الذي أذاق الغرب الاستعماري المرارة عبر الدولة العثمانية العظمى.
وقبل صعود حزب العدالة والتنمية إلى الحكم ومضيه في إصلاحاته هادئاً، بدءاً من المجالس البلدية، قبل تولي الحكومة، كانت سمعة تركيا قد انحدرت إلى الحضيض من مختلف النواحي فساداً سياسياً، وانحطاطاً اقتصادياً وأخلاقياً، وبنية تحتية مدمرة منهارة، وكوارث كونية أتت على ما تبقى، فتحوّل كل ذلك إلى العكس في ظرف سنوات معدودة، وأهمها إنجازاته الاقتصادية الكبرى على الأرض، تلك التي تحدثت عن نفسها، صاحب ذلك شهود السياسة الخارجية في العلاقة مع الكيان الصهيوني خاصة تحولاً مفصلياً منذ 2009م، وتغير ملحوظ في منهج التعامل مع التبعية العمياء لإملاءات الغرب، حيث صارت مصالح تركيا تملى من داخلها إلى حدّ غير قليل، وهو ما لفت النظر إلى مدى قدرة الذات التركية الأصيلة على أن تحقق النهوض المجتمعي، وأن تتحرر شيئاً فشيئاً عن هيمنة الآخر المطلقة. هنا بدأت المعادلة الغربية الأمريكية تختلف، ومن ثم عاد التآمر على إسقاط النموذج التركي (الأصيل) مرة جديدة.
الهوامش:
1- يوسف القرضاوي، شمول الإسلام، مرجع سابق، ص 107-109.