في مذكراته عن فترة مسؤوليته في العراق المحتل؛ حرص الحاكم الأمريكي (بول بريمر) على مشاركة الشيعة بقوة بل وتصدرهم المشهد في النظام الجديد الذي كانت تبنيه واشنطن في العراق ليكون نبراسا ديمقراطيا للعراقيين وللعرب أجمع! وفي سبيل تحقيق هذه الغاية استخدم بريمر تاريخ العلاقات بين السنة والشيعة براوية هؤلاء الأخيرين ليحثهم على المشاركة، ومحذرا من عدم تضييع الفرصة التاريخية التي وفرتها لهم واشنطن (الشيطان الأكبر سابقا!).
وعلى مدار حواراته ولقاءاته مع زعماء الشيعة المدنيين والمرجعيات الدينية الكبرى بدا (بريمر) كأحد ملالي الطائفة الشيعية المعتقين، أو كأنه أحد أولئك المنشدين الشعبيين الشيعة في الحسينيات الذين تعرض القنوات الفضائية برامج عنهم وهم يقودون حفلات الصراخ والبكاء ولطم الصدور وجلد الظهور وهم يقصون رواياتهم عما حدث في التاريخ الإسلامي من صراعات على السلطة بين الأمويين والهاشميين، وبين العباسيين والعلويين، وقصص قتل الحسين في كربلاء وأمثالها مما يستخدمها ملالي الشيعة للتحريض الطائفي والشحن العاطفي وجذب الولاءات لتحقيق مصالح طائفية.. ومالية أيضا!
(بريمر) خلال عام قضاه في العراق كان أمينا لهذه الثقافة الشيعية التاريخية إلا أنه لم يشاهد في إحدى الحسينيات وهو يلطم ويبكي اكتفاء كما يبدو بما يقوم به جيشه من لطم وقتل وتدمير جعل العراقيين على اختلاف دياناتهم وطوائفهم يبكون ويلطمون على أحوالهم وقتلاهم وضحاياهم وحال بلادهم والمصير الذي صارت عليه!
(استبعاد الشيعة وإقصاؤهم من السلطة قديما وحديثا) كانت هي الحجة التي روجها بريمر في لقاءاته مع زعماء ومرجعيات الشيعة ليقنعهم للعدول عن أي موقف لم يكن يتفق مع خطط الإدارة الأمريكية في العراق.. وهذا الجزء سوف يتناول حقيقة إقصاء الشيعة في العصر الحديث، (1920-1958 و1958-2003) وتحديدا في زمن الحكم الملكي (الهاشمي!)، وزمن الحكم الجمهوري الذي كان للبعث العلماني دور كبير في الحكم فيه وخصوصا بعد انقلاب 1968م، وكلاهما – في ميزان الشيعة وعلمانيي الولايات المتحدة الأمريكية- نظامان سنيان احتكرا الحكم للسنة، وأقصوا الشيعة في منفى بعيد!
تتحدد مزاعم الإقصاء والظلم الذي تعرض له الشيعة في قاموس بريمر بالأحكام التالية:
– أقنع العلامة الشيعي/ محمد بحر العلوم بالمشاركة في مجلس الحكم ليكون للشيعة الأغلبية فيه بعشر كلمات:
[ يجب ألا يرتكب الشيعة الأخطاء المأساوية التي ارتكبوها في سنة 1920!) ص130.. كما نبه إبراهيم الجعفري وعبد العزيز الحكيم: (المهم ألا يرتكب الشيعة الخطأ الذي ارتكبوه في العشرينيات!). ص118
– وعندما رفض الشيعي حسين الشهرستاني باتفاق مع السيستاني تولي أي سياسي شيعي رئاسة الوزراء مفضلين سنيا ليتحمل مسؤولية الفشل المؤكد؛ حاججه بريمر قائلا: (هذا ينم عن قصر نظر، ويحمل في طياته مخاطر تكرار الخطأ المأساوي الذي ارتكبه الشيعة في العشرينيات من القرن الماضي عندما فضلوا الابتعاد عن العملية السياسية، وجلبوا على أنفسهم ثمانين عاما من المنفى الداخلي!). ص449 و450.
– وفي مناسبة مشابهة قال للسيستاني مشفقا: [أرجو أن تتذكر دروس العام 1922 فهذا الدستور المؤقت هو الطريقة الوحيدة لكي يحصل العراق على حكومة دستورية منتخبة.. لقد انتظر شعبكم (!!) هذه الفرصة أكثر من ثمانين عاما].. فرد عليه السيستاني: [لقد انتظرنا قرونا يا سعادة السفير!]. ص399
من الواضح أن تحذيرات بريمر لقادة الشيعة من ترك المشهد للسنة ليست مجرد معلومات صحفية اقتنع بها؛ فقد أثبتت دلائل ووقائع عدة أهنا سياسة أمريكية بنيت على دراسات ورؤى ومراكز دراسات وأبحاث أمريكية مما تعتمد عليها مراكز القرار الأمريكي المتعددة (البيت الأبيض- وزارة الخارجية- المخابرات المركزية- الحزبان الديمقراطي والجمهوري اللذان يتداولان السلطة في واشنطن).. أي أنها ليست لوثة أو دروشة أو إيمان مسيحي مفاجيء بحق أهل البيت بالحكم الذي حرمهم السنة منه منذ 1400 سنة!
فذلكة عن مصطلحي السنة والشيعة
يستحسن في البدء أن نشير إلى ظاهرة الاستخدام الجزافي لمصطلحي أو صفتي سني وشيعي اللتين شاع استخدامهما منذ الثمانينات (مع بدء زمن الثورة الإيرانية والحرب الدامية بين عراق صدام حسين والبعث وبين إيران الخميني والمرجعية الشيعية: 1980- 1988).. ففي تلك المرحلة حرص أطراف الصراع ومؤيدو كل طرف فضلا عن مراكز البحوث الدولية على توصيف الصراع بأنه: سني شيعي من تراث الصراعات السلطوية القديمة في التاريخ الإسلامي بين الأمويين والعباسيين والعلويين.. مع استعادة لازمة (لدى الشيعة والغربيين) لما جرى في سقيفة بني ساعدة بعد وفاة النبي الكريم من اختيار أبي بكر الصديق قائدا للدولة الإسلامية، ووصف ما جرى على أنه تعد على حق علي بن أبي طالب ابن عم النبي بوصفه الاحق بالخلافة!
واستخدام مصطلح ما يفرض أولا تحديد مضمونه، وخصوصا عندما يكون للمصطلح دلالات تترتب عليها نتائج خطيرة وتزييف للوعي العام، وتحريف للوقائع والأحداث، وسفك للدماء وقهر الشعوب. ومن الواضح أن استخدام مصطلحي سني وشيعي في الفترة المشار إليها غلب عليه الاستخدام السياسي والتحريضي أكثر مما هو توصيف حقيقي للواقع.. فعلى سبيل المثال فمن الجور وتزييف الوعي وصف نظام البعث العلماني بأنه نظام سني يمثل السنة، أو أن رموزه القيادية كانت سنية، ففضلا عن علمانية حزب البعث وعدائه التاريخي للكيانات الدينية الإسلامية ذات المرجعية السنية فإن البعث ( في سوريا والعراق)كان يضم أفرادا ذوي منشأ مسيحي وشيعي، ولم يعرف عن البعث إلى زمن سيطرة الخميني على إيران أنه حزب حريص على تمثل المرجعية الإسلامية السنية في أدبياته ووثائقه الحزبيةـ واسلمة البلاد وفقا لتعالين الإسلام. ومن ثم فإن القول إن نظام البعث في العراق كان نظاما سنيا هو شبيه القول إن نظام الشاه في طهران كان نظاما شيعيا أو أن الشاه محمد رضا بهلوي ووالده من قبله كانا حاكمين شيعيين!
والأمر أيضا ينسحب على كل الحكام العرب والمسلمين الذين حكموا في مرحلة الاستقلال؛ فمن تزييف وعي الانس اعتماد وصف هذا أو ذاك منهم بأنه سني أو شيعي لمجرد أنه ينتسب لعشيرة شيعية أو سنية سواء بالانتماء الأسري (كالدول التي تنتسب للصفة الهاشمية في العراق الملكي والأردن أو العلوية في المغرب أو المهدية والمرغينية في السودان) أو بالعيش في بيئة ما كما هو معروف لدى البقية.. فبالمعنى الاصطلاحي لا يجوز مثلا القول إن حافظ الأسد وابنه بشار شيعيان ولا اليمني علي عبدالله صالح وأسلافه ممن حكموا في صنعاء الجمهورية كانوا شيعة.. وكذلك لا يجوز القول إن المصريين عبدالناصر والسادات وحكام الخليج كانوا سنة.. وإن كان ذلك لا يمنع أن بعض الحكام وهي حالة نادرة جدا كانوا متدينين فعلا، ويلتزمون مذهبا سنيا أو شيعيا وحكموا استنادا لروحية المذهب كما حدث في المملكة السعودية واليمن الشمالي أو في إيران بعد الثورة الخمينية. والخلاصة في هذه المسألة هو أن الشيعي أو السني هو من التزم قولا وفعلا بأصول مذهبه في حياته الشخصية وفي إدارة مسؤولياته الوطنية إن كان حاكما، ومن ثم يصير هذا الانتماء المذهبي حجة عليه وحاكما على تصرفاته وليس العكس أي يكون الحاكم حجة على المذهب الذي يزعم الانتماء إليه انتماء لفظيا أو إعلاميا!
وفي العراق الحديث الذي تشكل بعد الحرب العالمية الأولى بتخطيط بريطاني وبالقوة العسكرية (والتزييف أيضا)، لا يمكن القول إلا بسوء نية أن النظام الملكي (بقيادة فيصل بن الشريف حسين وورثته 1922- 1958) كان نظاما إسلاميا سنيا ملتزما بالمعنى العقائدي للمصطلح لأسباب عدة:
– فأولا.. لم يكن الملك فيصل الأول من رموز السنة المذهبية الملتزمين إسلاميا، وسيرة الرجل مع السنة مثل سيرة شاه إيران مع التشيع، ولا عرف عنه أنه عندما حكم كان مثالا للحاكم المسلم الحريص على تجسيد الإسلام بمبادئه وتشريعاته وأخلاقياته في واقع العراق دولة وقيادة وشعبا! وعلى العكس من ذلك فقد كان نظاما فاسدا حتى النخاع، وعانى المجتمع العراقي في ذلك العهد من انتشار الظلم والفقر، والجهل بالدين وضعف العلماء وسلبيتهم وانغماسهم في اهتمامات لا علاقة لها بأحوال البلاد لا فرق بين علماء السنة أو مرجعيات الشيعة أو الطرق الصوفية المنحرفة، وكانت المفاسد الأخلاقية خصوصا بعد الاحتلال البريطاني الذي قنن الممارسات الأخلاقية الفاسدة كما حدث في سائر بلاد المسلمين.
– وثانيا فقد كانت معظم النخبة العسكرية من الضباط الذين قاتلوا مع فيصل الأول في ثورة الهاشميين المتحالفين مع بريطانيا، وكانوا معه في سوريا في الفترة القصيرة التي حكم فيها بترتيب الإنجليز قبل أن يزيحه الفرنسيون منها لأن سوريا كانت من نصيبهم في اتفاقية سايس بيكو، وفي الأصل كانوا من المتأثرين بمباديء حزب الاتحاد والترقي التركي العلماني الماسوني بحكم دراستهم في المعاهد التركية، ومعظم هؤلاء هم الذين تولوا أبرز المناصب القيادية في الدولة الجديدة والجيش العراقي الجديد الذي كان لبريطانيا دور القابلة في ظهورهما، وكذلك كانوا من أبرز من شارك في الحكومات المتعاقبة مع نخبة من السياسيين والحقوقيين المدنيين الذين جاءوا مع فيصل بعدما اختاره الإنجليز ليكون ملكا على العراق الجديد مدعومين بكبار الملاك من رؤساء العشائر المرتبطين بالإنجليز والصناعيين المدعومين من بريطانيا.
وهذان المظهران البارزان للدولة العراقية ينسحبان أيضا على معظم الدول العربية التي ظهرت في عهد الاستقلال العسكري في مرحلتيه الجزئية أو الكاملة.. فبأي مقياس يجوز وصف العراق وأشباهه بأنها دول سنية وحكامها سنيون وتجري المحاججة بهذا الوصف على سوء الانتماء للسنة وأهل السنة؟
شيعة العراق والدولة الجديدة
ظل العراق طوال تاريخه الإسلامي ذا أغلبية سنية: ناسا ومذهبا، ولم تبدأ نسبة الشيعة في النمو إلا في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين حتى كادت تتساوى النسبتان بفعل زيادة الهجرة من فارس الاثني عشرية إلى العراق، وكان السبب في ذلك هو تساهل الباب العالي خوفا من تعاطف الشيعة مع نفوذ محمد علي باشا في مصر والذي كان قد بدأ مشروعه التوسعي في الزحف على مناطق الأتراك في الشام والعراق، وكذلك سياسات الدولة العثمانية زمن السلطان عبدالحميد في تشجيع فكرة الوحدة الإسلامية لمواجهة الزحف الأوربي على بلدان المسلمين!
ومع تزايد نسبة الشيعة وخصوصا في جنوب العراق في مدن العتبات الشيعية المقدسة في مذهبهم؛ إلا أنهم كانوا أقل تأثيرا من السنة في تسيير حركة الدولة والمجتمع العراقي المنضوي في إطار الدولة العثمانية، فرفضوا الانخراط في النظم التعليمي المدني الرسمي وحصروا عامتهم في إطار التعليم المذهبي السائد في مناطقهم خشية انعكاس ذلك سلبا على خصوصياتهم المذهبية التي كانت السلسلة التي تربط العامة بسيطرة المرجعيات المذهبية، ولذا كان طبيعيا أن يكون وجودهم الوظيفي وتأثيرهم المجتمعي ضعيفا مقارنة بالسنة وسائر الأقليات القومية والدينية الأخرى.
هذا الوجود الضعيف للشيعة في الدولة هو الذي استمات الأمريكي العلماني بريمر في الطرق عليه لتهييج مشاعر مرجعيات شيعة العراق للسير وفق الأجندة الأمريكية (الشيطان الأكبر سابقا)، بزعم أن ذلك الوجود الضعيف كان بسبب إقصاء السنة لهم، وبسبب انعزال الشيعة عن حركة المجتمع والدولة مما أتاح للسنة الهيمنة على كل شيء في البلاد! وكثيرا ما كان بريمر يذكر مرجعيات الشيعة برفضهم المشاركة في ترتيبات بريطانيا للدولة العراقية الجديدة بعد زوال السيطرة التركية لصالح السيطرة البريطانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، فقد رفض الشيعة استجابة لفتاوى مرجعياتهم المشاركة في الترتيبات السياسية في انتخاب المجلس التأسيسي الذي كان مطلوبا منه إقرار تأسيس المملكة العراقية، وتنصيب فيصل بن الشريف حسين ملكا على العراق، والموافقة على المعاهدة العراقية البريطانية، والموافقة على القانون الأساسي (الدستور الجديد).
[ من المهم التذكير بأن اختيار فيصل ملكا كان عملا محسوبا بدقة فهو سني (بمعايير بريطانيا ولاحقا بريمر) يرضي عامة العراقيين وخصوصا العشائر العراقية، وهو هاشمي (أيضا بمعايير بريطانيا وبريمر) يرضي الشيعة، وهو كذلك من رموز الثورة العربية (الكبرى) ضد الأتراك التي خططت لها وفجرتها وشاركت فيها بقوة بريطانيا العظمى! وكان عقلها المفكر والدينمو المحرك لها هو الضابط البريطاني الشهير (لورانس العرب)، وقد شارك في هذه الثورة قرابة 300 من الضباط العراقيين العاملين في الجيش العثماني، ومن بينهم ظهرت معظم النخبة العسكرية والسياسية التي حكمت العراق خلال العهد الملكي، وكانت تدين بالولاء لفيصل وقاتلت تحت قيادته إلى آخر لحظة قبل قيام الفرنسيين بإسقاط دولة فيصل في سوريا (1918-1920)، وهم الذين روجوا لضرورة استعدائه إلى العراق ليكون ملكا عليه!].
كان الشيعة بقيادة المرجعيات الشيعية إحدى أهم القوى التي شاركت في تفجير ثورة العشرين ضد الاحتلال البريطاني للعراق إلى جانب العشائر وشيوخها والسياسيين والضباط الوطنيين الموالين للهاشميين وفيصل وطبقة الأفندية، وكان للثورة أسباب عديدة؛ فقد استفزت العراقيين تنصل بريطانيا (على طريقة الاستعماريين الشهيرة) من وعودها أيام الحرب بمنح العراقيين الحرية والاستقلال، وممارسات الموظفين البريطانيين العنهجية في محاولتهم فرض الأنظمة الحديثة على العراقيين وإهانة رؤوس العشائر الكبار، وتعاملهم الإذلالي مع القوى المؤثرة وخصوصا العراقيين (الأفندية) من موظفي الإدارة التركية السابقة الذين يشكلون عصب مجتمع المدن، وكذلك بسبب الترتيبات المالية (كالضرائب) والإدارية كفرض أشخاص من العامة شيوخا على المشائخ التقليديين، وقد مست مصالح ونفوذ مشائخ العشائر والمرجعيات الشيعية في العتبات المقدسة في الصميم!
وأيا تكن الدوافع الحقيقية لثورة العشرين (كان من أبرز الرافضين لها المندديين بها شعرا ونثرا شخصيات شهيرة مثل الشاعرين معروف الرصافي وجميل مهدي الزهاوي)، فقد كان من أبرز نتائجها تخلي بريطانيا عن السياسة الاستعمارية المتهورة في حكم العراق التي تبناها البريطانيون في الهند، وتجاوبهم مع أفكار أخرى تدعم تأسيس دولة عراقية وطنية بشرط أن تكون مرتبطة ببريطانيا.. لكن المرجعيات الشيعية واصلت رفضها للمشاركة في الترتيبات السياسية الجديدة، وأفتت بمقاطعة الانتخابات وتحريم التوظف والعمل في دوائر الحكومة وبعض مؤسساتها مثل البنوك والمصارف العامة والمحاكم الشرعية باعتبار أنها دولة غير إسلامية وأموالها محرمة، وحكمت على من يشارك فيها بأشنع التهم التي تمس الدين والولاء والبراء.. وكان من نتائج تلك المقاطعة (وليس إقصاء السنة لهم) عدم مشاركة الشيعة في الترتيبات السياسية كالانتخابات؛ وإن كانت رموز كثيرة منهم شاركت في الحكم كما سنرى بعد قليل.. وعموما فإن تلك المقاطعة فقدت زخمها مع مرور السنين، والتحاق الأجيال الجديدة من أبناء المناطق الشيعية بالمدارس الحكومية العامة وبالتالي التحاقهم بوظائف الدولة المدنية والعسكرية، وشيوع الثقافات الجدية بينهم وخصوصا ثقافات الأحزاب القومية والماركسية.
استند (بريمر) في إبداء تعاطفه مع مظالم الشيعة المزعومة إلى أنهم أقصوا من جهاز الدولة المدني والعسكري، وإلى تفرد السنة في إقرار القانون الأساسي بسبب هيمنتهم على المجلس التشريعي بعد مقاطعة الشيعة للانتخابات.
وأما عن إقصاء الشيعة عن جهاز الدولة فهذه معلومات موثقة بالأسماء والمناصب تدحض هذه الفرية الغربية:
مشاركة الشيعة في العهدين: الملكي والجمهوري الأول! (الفترة 1920-1968)
أولا/ في الجهاز المدني:
– عندما كان الملك فيصل الأول يختار وزراءه من الشيعة الجعفرية كان يختارهم من فقهاء الدين كهبة الدين الشهرستاني والطباطبائي ومحمد رضا الشبيبي، ومن كبار التجار كجعفر أبو التمن وعبد المحسن شلاش، وبقي الأمر كذلك إلى سنة 1930 حتى بدأ شباب الجعفرية يتخرجون من الكليات فأخذ يختارهم من خريجي الكليات.
– ظل منصب وزير المعارف حكرا على الشيعة من 1931- 1943.
– منصب رئيس مجلس الأعيان ظل محجوزا لحساب الشيعة دائما، وفي حالة تعيين سني كان يعطى لهم منصب أحد الوكيلين.
– تعين صالح جبر رئيسا للوزراء سنة 1947، وكان قبلها وزيرا للداخلية 1942، وفي حكومة توفيق السويدي عين صالح بن جبر وزيرا للداخلية إضافة إلى وزيرين شيعين في توليا وزارتي المالية والاقتصاد.
1- أصبح أربعة من الشيعة رؤساء وزراء في العهد الملكي وهم: صالح جبر – محمد حسن الصدر – محمد فاضل الجمالي (الذي شكل الوزارة مرتين) – عبد الوهاب مرجان. وأصبح اثنان من الشيعة في العهد الجمهوري هما: ناجي طالب رئيس وزراء في عهد عبد الرحمن عارف، وسعدون حمادي في عهد البعث.
2- كان السيد محمد الصدر رئيساً مزمناً لمجلس الأعيان، وتقلد الشيخ محمد رضا الشبيبي رئاسة مجلس النواب عدة مرات.
3- تقلد صالح جبر منصب وزير الداخلية ثلاث مرات. وتقلدها سعد صالح في وزارة توفيق السويدي الثانية وتقلدها أيضاً عباس مهدي.
4- تقلد صادق البصام وزارة الدفاع في وزارة مزاحم الباججي، وتقلد اللواء الركن محسن حسين الحبيب وزارة الدفاع في وزارة طاهر يحيى الثالثة في عهد عبد السلام عارف.
– في زمن عبد الكريم قاسم بلغت نسبة توزير الشيعة 21% -31%. وفي زمن عبد الكريم قاسم تشكل مجلس الخدمة الذي كان واجبه تعيين الموظفين في وزارات الدولة، وسحبت هذه الصلاحية من الوزراء وأنيطت بهذا المجلس وكان أول رئيس لمجلس الخدمة ومدته خمسة سنوات هو عبد الجليل برتو، وفي سنة 1963 تعين الدكتور محمد حسين آل ياسين وهو جعفري رئيسا له، ولما أكمل المدة تعين السيد مشكور أبو طبيخ وهو جعفري في محله. وبعده وفي السبعينات تعين خير الله طلفاح وألغى المجلس في عهده.
– في زمن عبدالسلام عارف تم توزير 9 وزراء شيعة من أصل 22 وزيرا في حكومة طاهر يحي 1963 بنسبة 40%.
– وفي وزارة طاهر يحيى الثالثة في عهد عبد السلام التي تشكلت في 14 تشرين الثاني 1964 تقرر اختيار وزراء قوميين مؤمنين بالقيادة السياسية التي تشكلت أخيرا بين العراق ومصر فضمت الوزارة سبعة وزراء شيعة هم:
1) اللواء الركن ناجي طالب.. وزير خارجية.
2) اللواء محسن حسين الحبيب.. وزير الدفاع.
3) الدكتور عبد الحسن زلزلة.. وزير التخطيط.
4) الدكتور عبد العزيز الحافظ.. وزير الاقتصاد.
5) وزير البلديات.. فؤاد الركابي.
6) وزير الوحدة.. عبد الرزاق محي الدين.
7) وزير الإصلاح الزراعي.. عبد الصاحب علوان.
– وفي عهد عبد السلام عارف كان مرافقه وسكرتيره وكاتم أسراره والشخص الذي يعتمد عليه اعتمادا مطلقا هو الرائد عبد الله مجيد وهو جعفري مخلص جدا لعبد السلام، ولما طلب اختيار أحد موظفي وزارة الخارجية ليكون رئيس تشريفات القصر الجمهوري اختير له السيد عبد الجبار الهداوي وهو الجعفري فرحب الرئيس عبد السلام بهذا الاختيار وتعين عبد الجبار في هذا المنصب الهام.
– أواسط 1964 تم ترشيح الشيعي الدكتور مصطفى كامل ياسين (أقدم مدراء العموم في وزارة الخارجية) لمنصب وكيل الوزارة لكنه اعتذر لرغبته في البقاء في منصبه مديرا للدائرة السياسية لتحقيق طموحه في أن يكون عضوا في محكمة العدل الدولية، فتم تعيين التالي له في الأقدمية وهو الشيعي كاظم خلف في 22 حزيران 1964.
– كان معظم قادة الأحزاب القومية من الطائفية الشيعية من أمثال: محمد مهدي كبة، وفؤاد الركابي، وأحمد الحبوبي وناجي طالب. وأضيف إليهم الشيخ محمد رضا الشبيبي وسلام أحمد وعبد الإله نصراوي وهاشم علي محسن والثلاثة الأخرين كانوا في الاتحاد الاشتراكي والحركة الاشتراكية العربية.
شيعة العراق في الجيش العراقي:
يزعم البعض أنه لم يكن في الجيش في العهد الملكي إلا ضابط ركن واحد من الشيعة هو اللواء الركن ناجي طالب، وهذا مجحف للحقيقة فضباط الركن من العرب الشيعة في العهد الملكي يزيد عن 23 ضابطاً ركن تخرج سبعة منهم بدرجة(أ) ونالوا قدم سنتين وشغل كثير منهم منصب معلم في كلية الأركان.
وهذه هي الأسماء: ضباط الركن الدرجة (أ) من الشيعة ومنحوا قدم لمدة سنتين:
1) اللواء الركن جميل عبد المجيد.. دورة الأركان رقم 5.
2) العميد الركن محمود المهدي.. دورة الأركان رقم 5.
3) الرائد الركن محمد حسن الطريحي.. دورة الأركان رقم 6. (اشترك بالحركة التحررية سنة 1941 وأحيل بعدها إلى التقاعد).
4) العقيد الركن محسن محمد علي.. دورة الأركان رقم 7 (وأصبح معلما في كلية الأركان).
5) النقيب الركن عبد الرسول منصور …. دورة الأركان رقم 9 (واستشهد في حادث طائرة).
6) اللواء الركن ناجي طالب.. دورة الأركان 11(ثم تخرج أيضا من كامبرلي وأصبح بعد ذلك معلما في كلية الأركان).
7) المقدم الركن محمد رشيد الجنابي.. دورة الأركان رقي 14.
ضباط الركن الدرجة (ب) ومنحوا سنة واحدة قدم:
8) اللواء الركن محسن حسين الحبيب.. دورة الأركان رقم 12 (وتخرج أيضا من كامبرلي وأصبح معلما في كلية الأركان).
9) اللواء الركن نجم الدين خضر.
10) العقيد الركن ناجي محمد.
11) العقيد الركن سيد صادق إبراهيم.
12) المقدم الركن محمد علي كاظم.
13) العميد الركن جاسم كاظم العزاوي.
14) اللواء الركن حسين صادق.
15) الفريق الركن عبد الجبار رحيم الأسدي.
16) اللواء الركن عبد الطيف عبد الرضا.
17) الرائد الركن جابر علي كاظم.
18) العقيد الركن فيصل شرهان العرس.
19) المقدم الركن عبد العزيز جعفر الصندوق.
20) العقيد الركن فائق مهدي البغدادي.
21) اللواء الركن طالب محمد كاظم.
22) اللواء الركن محمد مجيد الشوك.
23) العقيد الركن عامر الحسك.
24) المقدم الركن غضبان مردان السعد.
وتقلد العميد كاظم عبادي منصب قائد القوة الجوية وهو منصب هام جدا.
[ لم يشغل أحد من الشيعة الجعفرية منصب رئيس أركان الجيش لأن من يشغله يجب أن يكون أقدم الضباط رتبة، والذين شغلوه حتى سنة 1953 كانوا من ضباط الجيش العثماني والشيعة الجعفرية كانوا يستنكفون إرسال أبناءهم إلى المدارس العثمانية، وهم دخلوا إلى الكلية العسكرية العراقية عندما تأسست سنة 1924، وأول رئيس أركان جيش من هذه المدرسة هو رفيق عارف الذي كان أقدم ضابط من خريجيها وتعين رئيسا لأركان الجيش في سنة 1953 وبقي في هذا المنصب حتى نهاية العهد الملكي. وفي عهد صدام تعين الفريق الأول الركن عبد الواحد شنان الرباط رئيسا لأركان الجيش وبقي في هذا المنصب المدة المقررة وهي أربعة سنوات.].
[ سميت أول وحدة عسكرية من الجيش العراقي الجديد 1921م باسم (موسى الكاظم) أحد الأئمة الاثني عشر توددا من الحكومة العراقية الجديدة للشيعة]
والأكراد.. أيضا:
1- اثنان منهم تقلدا منصب رئيس الوزراء وهما نور الدين محمود وأحمد مختار بابان.
2- تقلد محمد أمين زكي وجمال بابان منصب وزيرا لدفاع.
3- كانت وزارة الداخلية مخصصة للأكراد تقريبا منذ الأربعينيات بدءاً بعمر ناظمي وانتهاء بسعيد قزاز.
4- تقلد أربعة من الأكراد منصب رئيس أركان الجيش وهم: الفريق الركن بكر صدقي، والفريق الركن حسين فوزي، والفريق الركن أمين زكي سليمان، والفريق نور الدين محمود.
ولقد تقلدوا جميعا قبل ذلك منصب قائد فرقة. كما تقلد كل من اللواء الركن صالح زكي توفيق واللواء الركن عباس علي غالب منصب قائد فرقة وكان ثالث آمر كلية عسكرية في الجيش المقدم الركن توفيق وهبي، وتقلد العميد الركن حسن علي غالب منصب مدير مدفعية الجيش.
5- شغل عدد كبير من الأكراد مناصب المتصرف(المحافظ) والمدراء العامين والسفراء.
المصادر:
- تاريخ العراق الحديث والمعاصر/ د. محمد سهيل طقوش.
- المشرق العربي المعاصر، د. صلاح العقاد.
- تاريخ العراق الحديث والمعاصر، د. محمد سهيل طقوش.
- لمحات من تاريخ العراق الاجتماعي، د. علي الوردي، الجزان 5 و6.
- الإخوان المسلمون في العراق، د. محسن عبدالحميد.
- الفانون الأساسي العراقي لسنة 1925.
- جهود علماء العراق في الرد على الشيعة، عبدالعزيز بن صالح المحمود.
- حوار جاد مع الأخ جلال الطالباني، صبحي عبدالحميد.
- علاقة حزب البعث بالشيعة في العراق، عبدالهادي علي.
- هل الشيعة مضطهدون حقا؟ وما هي مواقعهم خلال حكم صدام حسين، د. نوري المرادي