حفريات معرفية

الخلفاء الراشدون وخُمس آل البيت

لا تزال غواشي الأهواء تتسور نصوص الوحي لتلقي عليه أطماعها، وتزاحم الدين المنزّل بشهواتها المعوجّة، ومن أظهر المعارك مع طغمة التفسير العائلي للإسلام [1]  معركة الخُمس، الذي يزعم دعاة السلالة أن لهم الخمس من أموال الغنيمة والفيء والركاز، حق سرمدي إلى قيام الساعة!

إذ المال عصب الحياة، ومن أهم استراتيجيات القوم: سلب أموال الناس باسم الدين، وتوفير مصدر تمويل مُستدام لمشروع العُلو السلالي في الأرض بحجة فريضة الخُمس المُدّعاة، بل زعم أحد رموز هذا التيار أن حق بني هاشم في الخُمس محل اتفاق المذاهب الثمانية ! [2]

وقبل أن نبيّن بطلان هذا الإجماع الذي اخترعه السُلالي عليل اللسان، سنحاول في هذه المقالة الموجزة العودة إلى النبع الصافي من كتاب الله وسنة رسوله، والوقوف أمام التجربة التطبيقية للخلفاء الراشدين وموقفهم من خٌمس آل البيت، الذين أُمرنا باقتفاء سنتهم، لننظر هل طبقوا فكرة الخُمس كما تُصوِرها لنا طغمة التفسير العائلي للإسلام، أم أن للخُمس سياق نبوي وتطبيق مصطفوي تتجلى فيه الخصوصية النبوية بكل معانيها.

 

حرمان آل البيت من الصدقة:

فقد قدم النبي ﷺ تجربة متفردة في إدارة المال العام للدولة الإسلامية، حيث حرّم على نفسه أموال الصدقة، وجعلها محرّمة على أهله، فقال: (أَمَا عَلِمْتَ أَنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ) [3]. تطهيراً لجناب النبوة من أن يمسسها ذرة من شبهة الأجر على الرسالة، وجرياً مع سنة الأنبياء عليهم السلام في تجنبهم للأجر الدنيوي بأي صورة كان، فقد ورد قوله تعالى: (لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا) 16 مرة في القرآن الكريم، على لسان النبي وبقية الأنبياء، لتؤكد الآيات أن أجر الرسول على الله، قال تعالى: (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ)سبأ:47. وقد خيّره الله بين أن يكون ملِكاً نبياً أو عبداً رسولاً فقال صلوت ربي عليه وسلامه: (بل عَبْدًا رسولًا) [4] .

 

هل خُصص الخُمس لآل البيت؟

ولأنه قائد أمة له حاجات، فقد جعل الله له في خُمس الغنيمة ما يغطي حاجاته، قال تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) الأنفال:41. وكذلك في خمس الفيئ، وهو ما يؤخذ من المشركين دونما حرب، قال تعالى: ( مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ) الحشر:7.  فكان يأخذ من خُمس الغنيمة/الفيء  بقدر الكفاف لزوجاته، وهو حد لم يشبعه من طعام البر، فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ قَدِمَ المَدِينَةَ، مِنْ طَعَامِ البُرِّ ثَلاَثَ لَيَالٍ تِبَاعًا، حَتَّى قُبِضَ»[5] . حتى أن نساء النبي اشتكين إليه شظف العيش فنزلت آية التخيير قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا  وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّـهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا) الأحزاب:28-29. فاخترن البقاء معه على زهد في الدنيا.

 

مصارف الخُمس الثلاثة:

أما فضل الخُمس [6]  فقد جعله في مصالح المسلمين، لاستقبال الوفود وإكرامهم، وتجهيز المجاهدين، فعن عبادة بن الصامت قال: أخذَ رسولُ اللهِ ﷺ يومَ حُنَيْنٍ وَبْرَةً مِن جَنْبِ بَعيرٍ، فقال: (يا أيُّها الناسُ، إنه لا يَحِلُّ لي مما أفاءَ الله عليكم قدرُ هذه، إلا الخمسَ، والخمسُ مردودٌ عليكم) [7]. وفي صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب قال: (وكانَ يُنْفِقُ على أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِ، ثُمَّ يَجْعَلُ ما بَقِيَ في السِّلاحِ والكُراعِ عُدَّةً في سَبيلِ اللَّهِ) [8]. وكان يواسي أقرباءه الذين ناصروه في دعوته من الخُمس في حالات معدودة، انسجاماً مع منعهم من أموال الصدقة، حتى لا تتهمه العرب أنه فرض الزكاة عليهم من أجل أن يحتازها له ولأقربائه -حاشاه ربي – بل كان يرد أقرباءه في مرات عديدة  كما رد ابنته فاطمة -رضي الله عنها- حين سألته خادماً، فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ( أنَّ فاطِمَةَ عليهما السَّلامُ شَكَتْ ما تَلْقى في يَدِها مِنَ الرَّحى، فأتَتِ النبيَّ ﷺ تَسْأَلُهُ خادِمًا فَلَمْ تَجِدْهُ، فَذَكَرَتْ ذلكَ لِعائِشَةَ، فَلَمّا جاءَ أخْبَرَتْهُ، قالَ: فَجاءَنا وقدْ أخَذْنا مَضاجِعَنا، فَذَهَبْتُ أقُومُ، فقالَ: مَكانَكِ فَجَلَسَ بيْنَنا حتّى وجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ على صَدْرِي، فقالَ: ألا أدُلُّكُما على ما هو خَيْرٌ لَكُما مِن خادِمٍ؟ إذا أوَيْتُما إلى فِراشِكُما، أوْ أخَذْتُما مَضاجِعَكُما، فَكَبِّرا ثَلاثًا وثَلاثِينَ، وسَبِّحا ثَلاثًا وثَلاثِينَ، واحْمَدا ثَلاثًا وثَلاثِينَ، فَهذا خَيْرٌ لَكُما مِن خادِمٍ) [9]. وفي رواية الإمام أحمد(فقال رسولُ اللهِ ﷺ: واللهِ لا أُعطيكما وأدعَ أهلَ الصُّفَّةِ تُطْوى بطونهم لا أجدُ ما أُنفقُ عليهم) . **[10]**ولو كان الخُمس حقاً لآل البيت لما منعها النبي صلى الله عليه وسلم حقاً هو لها. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يعط ابنتيه (زينب وأم كلثوم) أي شيء من الخُمس [11]، ففهم الصحابة أن الخُمس طُعمة من الله لرسوله، لسد ضروراته، وميزانية له كرئيس دولة – إذا جازت التسمية – لاستقبال الوفود وإكرام الدافة، ورعاية أهل الصُفة من فقراء المهاجرين.

 

هل فٌرض الخٌمس لبني هاشم؟

ولو كان الخُمس فريضة لبني هاشم لما منعهم الخمس في غزوة حنين التي غنم فيها المسلمون غنائم هائلة، فقد اتفق أهل السير (أن النبي – صلى الله عليه وسلم – نقل الخمس بهوازن ولم يدفع منه إلى هاشمي شيئاً ولو كان حقًا لهم لم يجز أن يسقط حقهم) [11]. (وكذلك لم يقسم في خيبر للحصين بن الحارث بن المطلب ولا لأخت الطفيل بن الحارث وقد شهد معه بدرًا وسائر المشاهد) [13].

وعندما انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، جعل ما تبقى من أمواله في مصالح المسلمين فقال صلى الله عليه وسلم: (لا نُورَثُ ما تَرَكْنَا صَدَقَةٌ) [14]. فصارت الأمة هي الوارث الشرعي للنبي ﷺ، لماله وعلمه وهديه وعصمته، وليست السلالة كما يدّعي أصحاب التفسير العائلي للإسلام.

وهكذا قدم النبي صلى الله عليه وسلم صفحة نقية زاهية في البعد عن المال العام، والتورّع فيه، جعلت عمر بن الخطاب يبكي قائلاً : (فَرَأَيْتُ أثَرَ الحَصِيرِ في جَنْبِهِ فَبَكَيْتُ، فَقالَ: ما يُبْكِيكَ؟ فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّ كِسْرَى وقَيْصَرَ فِيما هُما فِيهِ، وأَنْتَ رَسولُ اللَّهِ! فَقالَ: أَمَا تَرْضَى أنْ تَكُونَ لهمُ الدُّنْيَا ولَنَا الآخِرَةُ) [15].

 

مسجد به أسماء الخلفاء الراشدين

 

موقف الصديق والفاروق وذو النورين من الخٌمس:

وقد فهم الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم  هذا المسلك المصطفوي، فسار الخلفاء الراشدون على هديه في المال العام، وجعلوا سهم الرسول وسهم ذي القربى في مصالح المسلمين، وكان أول من باشر تنفيذ هذه الخطة النبوية، أبو بكر الصديق – رضي الله عنه-  فقد رفض أن يعطي للسيدة فاطمة أي شيء من ميراث النبي، كما لم يعط بني هاشم الخُمس، مستدلاً بحديث : (لا نُورَثُ ما تَرَكْنَا صَدَقَةٌ)، فعن ابن عباس قال: (لما قبض الله رسوله ﷺ ردّ أبو بكر رضي الله عنه نصيبَ القرابة في المسلمين، فجعل يحمل به في سبيل الله، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث، ما تركنا صدقة) [16].

 

موقف الصديق من الخٌمس:

وموقف أبي بكر الصديق من الخُمس مشهور معلوم، فعن قيس بن مسلم قال: (سألتُ الحسنَ بنَ محمدٍ عن قولِه عز وجل: واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه قال: اختلفوا في هذين السهمين، بعد وفاةِ رسولِ اللهِ؛ سهمُ الرسولِ، وسهمُ ذي القُرْبى، فقال قائلٌ: سهمُ الرسولِ للخليفةِ مِن بعدِه، وقال قائلٌ: سهمُ ذي القُرْبى لقرابةِ رسولِ اللهِ، وقال قائلٌ: سهمُ ذي القُرْبى لقرابةِ الخليفةِ. فاجتمعَ رأيهم على أَنْ جعلوا هذين السهمين في الخّيْلِ، والعُدةِ في سبيلِ اللهِ، فكانا في ذلك خلافةُ أبي بكرٍ وعمرُ) [17].

وقال ابن عباس عن سهم ذي القربى: (إنّا كُنّا نَرى أنَّ قَرابَةَ رَسولِ اللهِ ﷺ هُمْ نَحْنُ، فأبى ذلكَ عَلَيْنا قَوْمُنا) [18].

 

موقف الفاروق من الخٌمس:

وكذلك فعل الفاروق عمر رضي الله عنه، فقد أخرج عبد الرزاق الصنعاني في مصنفه عن ابن عباس أنه سُئل عن سهم ذي القربى فقال: (كَانَ لَنَا فَمَنَعْنَاهُ قَوْمَنَا، فَدَعَانَا عُمَرُ فَقَالَ: يُنْكَحُ فِيهِ أَيَامَاكُمْ، وَيُعْطَى فِيهِ غَارِمُكُمْ فَأَبَيْنَا فَأَبَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) [19]. وقد استدل عليهم عمر بن الخطاب بتطبيق النبي صلى الله عليه وسلم في أموال بني النظير، فقال: (كانت أموالُ بني النَّضيرِ مما أفاءَ اللهُ على رسولِه، مما لم يُوجِفِ المسلمون عليه بخيلٍ ولا ركابٍ، فكان يُنْفِقُ على نفسِه منها قوتَ سنةٍ، وما بَقِيَ جعلَه في الكُراعِ، والسلاحُ عدةٌ في سبيلِ اللهِ) [20]. وعن ابن عباس قال: (ثُمَّ قَسَّمَهُ [أي الخمس] أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ عَلَى ثَلاثَةِ أَسْهُمٍ، وَسَقَطَ سَهْمُ الرَّسُول وَسَهْم ذِي القربي وَقسم على الثَّلَاثَة الْبَاقِيَة، ثُمَّ قَسَّمَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مَا قَسَّمَهُ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ.) [21].

ورُوِىَ عن الحسَنِ، وقَتادَةَ، في سَهْمِ ذَوِى القُرْبَى قولهم: (كانتْ طُعْمَةً لرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في حياتِه، فلما تُوُفِّىَ حَمَل عليه أبو بكرٍ وعُمَرُ في سبيلِ اللَّه) [22].

 

بن أبي طالب على خطى الشيخين الخلفاء الراشدون وخُمس آل البيت

علي بن أبي طالب على خطى الشيخين:

وعلى خطى الشيخين مضى علي -رضي الله عنه- فقد أخرج عبد الرزاق الصنعاني عن أَبِي جَعْفَرٍ محمد الباقر – رحمه الله – قَالَ: «سَلَكَ عَلِيٌّ بِالْخُمْسِ طَرِيقَهُمَا» أي طريق أبي بكر وعمر [23].

وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ، فَقُلْتُ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ حَيْثُ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ مَا وَلِيَ، كَيْفَ صَنَعَ فِي سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى؟ قَالَ: «سَلَكَ بِهِ سَبِيلَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» ، قُلْتُ: وَكَيْفَ: وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ مَا تَقُولُونَ؟ فَقَالَ: «مَا كَانَ أَهْلُهُ يَصْدُرُونَ إِلَّا عَنْ رَأْيِهِ» ، قُلْتُ: فَمَا مَنَعَهُ؟ قَالَ: «كَرِهَ وَاللَّهِ أَنْ يُدْعَى عَلَيْهِ خِلَافَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» [24].

هذه هي تجربة الخلفاء الراشدين الذين أُمرنا باقتفاء سنتهم فقد قال ﷺ: (فعليه بسنَّتي وسنةِ الخلفاءِ الراشدِين)[25] . وقال ﷺ : (اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر) [26].

وقد علق الإمام الكاساني الحنفي على سنة الراشدين في الخمس بقوله : (وَلَنَا مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ السِّيَرِ أَنَّ سَيِّدَنَا أَبَا بَكْرٍ، وَسَيِّدَنَا عُمَرَ، وَسَيِّدَنَا عُثْمَانَ، وَسَيِّدَنَا عَلِيًّا – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ – قَسَمُوا الْغَنَائِمَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لِلْيَتَامَى، وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ، وَسَهْمٌ لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى قَرَابَةَ الرَّسُولِ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – إذْ لَا يُظَنُّ بِهِمْ مُخَالَفَةُ كِتَابِ اللَّهِ – تَعَالَى – وَمُخَالَفَةُ رَسُولِهِ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – فِي فِعْلِهِ وَمَنْعُ الْحَقِّ عَنْ الْمُسْتَحِقِّ، وَكَذَا لَا يُظَنُّ بِمَنْ حَضَرَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ – رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ – السُّكُوتُ عَمَّا لَا يَحِلُّ مَعَ مَا وَصَفَهُمْ اللَّهُ – تَعَالَى – بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ) [27].

هذا هو فهم الخلفاء الراشدين لأموال الخمس التي تغنم من الكفار، وهذا هو تطبيقهم العملي، حيث جعلوا المال بين المسلمين، ولم يتورطوا في منح السلالات امتيازات مالية سرمدية إلى يوم الدين، كما يزعم أصحاب التفسير العائلي للإسلام، الذين جعلوا من الدين مطية لأطماعهم، ومن النبي ﷺ شيخ قبيلة يورث السيادة والمال لقبيلته من بعده، حاشاه ربي.

 

هل اتفقت المذاهب الثمانية على وجوب الخٌمس لآل البيت؟

هذه المقالة ليست من مظان البحث الفقهي المعمق، وإنما هي إلماحة لموقف الراشدين رضوان الله عليهم من مسألة الخُمس، ففي تطبيقهم كفاية للفهم، ولكن لأصحاب التفسير العائلي للإسلام جلادٌ آخر حول الخمس، فقد زعم أحد دعاة التيار السلالي**[28]** : أن المذاهب الثمانية قد أجمعت على تخصيص الخمس لآل البيت، وقد تعجبت من جسارة الرجل وقلت: سبحانك هذا بهتان مبين. فجمهور السلف وأهل المذاهب لا يؤمنون بخمس آل البيت، فقد أخذ بتطبيق الخلفاء الراشدين أئمة الحنفية والمالكية وعامة السلف وخالفهم الشافعي رحمه الله وفرض خُمس الخُمس لبني هاشم وبني المطلب، وأحمد في إحدى قوليه**[29]** .

قال ابن تيمية: (وَأَمَّا الْخُمُسُ فَقَدِ اخْتَلَفَ اجْتِهَادُ الْعُلَمَاءِ فِيهِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: سَقَطَ بِمَوْتِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ شَيْئًا بِالْخُمُسِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ يَتِيمٌ أَوْ مِسْكِينٌ، فَيُعْطَى لِكَوْنِهِ يَتِيمًا أَوْ مِسْكِينًا، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ هُوَ لِذِي قُرْبَى وَلِيِّ الْأَمْرِ بَعْدَهُ، فَكُلُّ وَلِيِّ أَمْرٍ يُعْطِي أَقَارَبَهُ، وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ، مِنْهُمْ الْحَسَنُ وأَبُو ثَوْرٍ فِيمَا أَظُنُّ. وَقَدْ نُقِلَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عُثْمَانَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلِ الْخُمُسُ يُقَسَّمُ خَمْسَةَ أَقْسَامِ التَّسْوِيَةِ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلِ الْخُمُسُ إِلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ يُقَسِّمُهُ بِنَفْسِهِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا يُقَسَّمُ الْفَيْءُ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ السَّلَفِ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ؛ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ) [30]. فمن أين اختراع داعية السلالة أسطورة المذاهب الثمانية التي تمنح الخٌمس لبني هاشم؟!

والخمس الخلفاء الراشدون وخُمس آل البيت

الهادوية والخمس:

اتسعت دائرة الخمس عند الزيدية الهادوية، فبدلاً من كونها خمس الغنائم/الفيئ من الكفار، جعلها الزيدي في كل فيئ البر والبحر، حتى في الأسماك التي يصيدها الصيادون، فقال: (يجب على كل غانم في ثلاثة الأول صيد البر والبحر وما استخرج منهما أو اخذ من ظاهرهما كمعدن وكنز ليس لقطة ودرة وعنبر ومسك ونحل وحطب وحشيش لم يغرسا ولو من ملكه أو ملك الغير وعسل مباح)[31] .وحاصل مذهب الزيدية أن كل الأموال التي يكتسبها العباد باستثناء التجارة والزراعة ففيه الخُمس لآل البيت، وهنا قُدم النبي ﷺ في أبشع صورة، إذ تحول وفقاً لهذا المنظور إلى زعيم قبيلة، ورّث قبيلته امتيازات مالية لا يحلم بها حكام أوروبا في القرون الوسطى، حاشاه ربي ونزهه عن قول الخرّاصين، الذين افتروا على الله ورسوله، وساحوا في جبال اليمن يجبون أموال الناس بكل وجه، منطوين على هذا الإفك العظيم، وقد رد عليهم العلامة الشوكاني بقوله: ( اعلم أن هذه الشريعة المطهرة وردت بعصمة أموال العباد وأنه لا يحل شيء منها إلا بطيبة من أنفسهم وأن خلاف ذلك من أكل أموال الناس بالباطل وقد ثبت في الكتاب والسنة أن الله سبحانه أحل لعباده صيد البر والبحر فما صادوه منهما فهو حلال لهم داخل في أملاكهم كسائر ما أحل الله لهم فمن زعم أن عليهم في هذا الصيد الحلال خمسة أو أقل أو أكثر لم يقبل منه ذلك إلا بدليل يصلح لتخصيص الادلة القاضية بعصمة أموال الناس وينقل عن الاصل المعلوم بالضرورة الشرعية ولم يكن ها هنا دليل قط)[32] .

بل ذهب صاحب متن الأزهار إلى الاستحواذ على بقية الأسهم في قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) الأنفال: 41. فزعم أن نصيب اليتامى والمساكين وابن السبيل هم يتامى ومساكين آل البيت! فصار الخمس كله في آل البيت! قال في متن الأزهار: (وبقية الأصناف منهم )[33] . وقد شنع عليه الشوكاني هذا الافتراء قائلاً: (هذه دعوى مجردة وتقييد القرآن الكريم بمجرد الرأي الذي لا دليل عليه والحق ان لليتامى على العموم سهم من الخمس وكذلك للمساكين وابناء السبيل فالقول بأن هذه الثلاثة الأسهم تصرف في سهم ذوي القربى بعيد من الحق بعدا شديدا ومخالف للنصوص القرآنية مخالفة بينة) [34].

واليوم وقد تغيّـر شكل المالية العامة للدول، فمن المعيب في حق ديننا أولاً [الذي يقدمه هؤلاء كدين سلالي]، ومن المستحيل ثانياً أن نستجرّ مثل هذه المسائل الغريبة، خاصة إذا كان سوق الغزو قد توقف منذ زمن بعيد، فصارت ديار الإسلام تُغزى ولا تغزو، وصرنا في منظومة عالمية جديدة، وصارت النظم الاقتصادية تختلف اختلافاً جذرياً يستلزم معه اجتهاداً جديداً.

ولسائل أن يسأل هل نخصص وزارة لآل البيت -في حالة سلّمنا بهذا القول- وهل سنعتمد الفحص الجيني لإثبات النسب بعد كثرة الدعاوى والانتساب الذي أوصلهم إلى عشرات الملايين، وبعد ذلك أين غنائم الغزو التي ستوزع عليهم، وإن قلنا بالمذهب الزيدي فقد سلمنا أكثر من 20% من ثروة الشعب (البترول [وهو الذي يغطي الجزء الأكبر من ميزانية الدولة] والمعادن والأسماك وغيرها) لـ 1% من السكان**[35]** ، فأي اختلال في توزيع الثروة، وأي دُولة للمال تحتكرها سلالة من الناس؟! إنه الجشع المتسلق على تأويلات باطلة، بل هو التحريف للكلم عن مواضعه.\

 

الهوامش:

  1. التفسير العائلي للإسلام: مصطلح يراد به من يعتقدون أن هناك امتيازات دينية وسياسية ومالية سرمدية لبني هاشم نزل بها الوحي.
  2. علي الجفري في مقابلة مع قناة اليمن اليوم بتاريخ 28/09/2022م.
  3. صحيح البخاري، حديث رقم: ١٤٩١.
  4. مسند أحمد، حديث رقم: 7160، وصححه الألباني.
  5. صحيح البخاري، حديث رقم: 5423.
  6. ما زاد عن حاجة النبي e .
  7. سنن النسائي، حديث رقم: 4138، وصححه الألباني.
  8. صحيح البخاري، حديث رقم: 2904.
  9. صحيح البخاري، حديث رقم: 3618.
  10. مسند أحمد، حديث رقم : 838، وصححه شاكر والعيني والمقدسي، وحسنه الأرنؤوط.
  11. التجريد، القدوري، 3170/8.
  12. التجريد 3169/8.
  13. التجريد 3170/8.
  14. صحيح البخاري، حديث رقم: 6725.
  15. صحيح البخاري، حديث رقم: 4913.
  16. تفسير الطبري (13/ 558).
  17. سنن النسائي، حديث رقم: 4154، وصححه العيني والألباني.
  18. صحيح مسلم، حديث رقم: 1812.
  19. مصنف عبد الرزاق، 237/5.
  20. صحيح البخاري، حديث رقم: 2904.
  21. الخراج، أبو يوسف، 30/1.
  22. تفسير الطبري 559/13.
  23. مصنف عبد الرزاق 237 /5.
  24. الأموال، أبوعبيد(ص:416).
  25. سنن الترمذي، حديث رقم: 2676، وقال: حسن صحيح.
  26. سنن الترمذي، حديث رقم: 3662. صححه الألباني.
  27. بدائع الصنائع (7/ 125).
  28. سبقت الإشارة له أول المقال.
  29. حاشية ابن عابدين، 149/4.  الذخيرة، القرافي 431/3. البيان، العمراني 229/12. المغني لابن قدامة (288/9).
  30. منهاج السنة، ابن تيمية 104/6.
  31. متن الأزهار، المرتضى(ص:61).
  32. السيل الجرار، الشوكاني (ص: 270).
  33. متن الأزهار، المرتضى(ص:61).
  34. السيل الجرار (ص: 272).
  35. مع تحفظي على هذه النسب إذ لا تعتمد على إحصاءات دقيقة، وإنما نقرب بها صورة للواقع فقط.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. مقال عظيم ورائع،، يسقط الادعاء السلالي بأموال اليمنين.. ويحتاج هذا المقال لتوسع واستقصاء أكبر. ويخرج كبحث محكم شامل..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى