آثار

اللغة العربية الجنوبية

نقل أهل المعاجم عن الأصمعي في مادة (حمر) أن زيدَ بن عبد اللَّه بن دارم وفدَ على بعض ملوك حِمْير، فَأَلْفَاه في مُتَصَيَّدٍ له على جبلٍ مُشْرِفٍ، فسلَّم عليه، وانتسب له، فقال له الملك: ثِبْ، أي اجلس، وظنَّ الرجلُ أنه أَمرهَ بالوُثوبِ من الجبل، أي القفز، فقال: ستجدُني أيها الملِكُ مِطْواعًا، ثم وثب من الجبل فهلك. فقال الملك: ما شأنُه؟! فخبَّروه بقصتهِ، وغَلَطِهِ في فهم معنى الكلمة. فقال: أما أنه ليست عندنا عَرِبيَّتْ من دخل ظَفَارِ حَمَّر، أي فليتعلم الحميرية، و(حَمَّر) معناها في معاجم العربية: تَكَلَّمَ بالحِمْيَرِيَّةِ، أي العربية الجنوبية.

اللغةُ العربيةُ الجنوبيةُ في الواقع هي إحدى لهجات العربية الفصحى، وهي إحدى لغات العائلة الجَزَريَّة (نسبة إلى جزيرةِ العرب)، ويقال لها أيضًا اليمنيةُ القديمة، أو القحطانيةُ أو السبئيةُ أو الحميريةُ.

وتَضُمُّ اللغات الجزرية إلى جانبها: اللغة (الآشورية-البابلية) ولهجاتِها في العراق، والكنعانيةَ والآراميةَ ولهجاتِهما في الشَّام، والحبشيةَ ولهجاتِها في بلادِ الحبشة بالإضافة إلى اللغةِ الأم لهذه اللهجات كلها وهي العربية الفصحى التي انتقلت من اليمنِ إلى صحراء العرب وثبتت فيها.

أول من أطلق مصطلح اللغات (الجَزَريَّة) هو عالم الآثار العراقي طه باقر، وتبعه عليه العديدُ من المحققين المعاصرين منهم المؤرخ سامي سعيد الأحمد  واللساني سمير شريف ستيتيت وغيرهما, مفضِّلينَه على مصطلح اللغاتِ السَّامية الذي أطلقه العلامة النمساوي شلوتزر نسبةً إلى سام بن نوح عليه السَّلام، وتبعه عليه بقية المستشرقين، ولكن لا دليل لهم على أن هذه اللغات هي لغات ذُريَّة سام، ولهذا عَدَل المحققونَ عنه إلى اسم اللغات الجَزَريَّة لتضافر الأدلة على أنَّ الشعوب التي تحدثت بهذه اللغات في العراق والشام والحبشة خرجت من شبه الجزيرة العربية، وبالتحديد من الجزء الجنوبي الغربي منها على الأظهر من ترجيحات العلماء مثل: إيراهارد شرادر وفنكلر، وتيله، والأب فنسان، والأثري الفرنسي جاك دي مورجان، والإيطالي كايتاني، وأيدهم العلامة إسرائيل ولفنسون أبو ذؤيب في كتابه تاريخ اللغات السَّامية.

istockphoto 930832892 612x612 1 اللغة العربية الجنوبية

وعلى الأرجح أنَّ أمَّ هذه اللغات هي العربية الفصحى، التي نزل بها القرآن العظيم، وهو ما ذهبَ إليه العلامة الدكتور تقي الدين الهلالي والعلامة الدكتور سمير شريف سِتيتيت.

هاجرت هذه اللغةُ الأمُّ العظيمةُ مع هجرةِ اليمنيين نحو الشّمال، ولكنها لم تحافظ على خصائصها الأصلية وإعرابها إلا في عمقِ الصَّحراء العربية، حيث لا اختلاط بالألسنة الأخرى، وهناك حفظها الله من عاديات التغيير، لأنه سبحانه قد قدَّر أنه سيُنزِّل بها آخر كتبه إلى أهل الأرض (القرآن الكريم).

أهلُ اليمن الذين مكثوا في بلادهم شأنهم شأن أهل الشَّام: الكنعانيين والآراميين وأهل العراق: الآشوريين والبابليين وأهل الحبشة: الأمهريين والأمعزيين حصل التغيُّر على لغتهم العربيةِ المـُعْربةِ مع الزمن، والتغيُّرُ مع الزمن هو سنة الله في اللغات {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم: 22].

ما زال قانون التَّغير بالعربية في اليمن حتى فقدت الإعرابِ والعديدَ من خصائصها الصرفية والنحوية والمعجمية، وقد ساعد على تغيرها موقع اليمن على طرق التجارة ومخالطة اليمنيين للأعاجم، ولكنها مع هذا بقيت أقرب اللغات الجَزَرية إلى اللغة الأم (الفصحى) مقارنة ببقية اللغات التي خرجت إلى خارج الجزيرة.

وبعد نزول القرآن الكريم باللغةِ الأم عاد أهل اليمن إلى لغتهم الأصلية بعد أن عدا الزمان عليها، فاندحرت تدريجيًا التغييراتُ السلبية التي حصلت فيها مع الزمن، وعادت بفضل كتاب الله إلى جمالها وإعرابها، ولكن بقيت لها بقايا لا تزال في لهجات اليمن في هذا الزمان.

لهجات العربية الجنوبية:

العربية الجنوبية لهجات عديدة، أشهرها أربع، حسب المستشرق العلامة إسرائيل ولفنسون أستاذ السَّاميات في جامعة القاهرة في كتابه: “تاريخ اللغات السامية” والدكتور صبحي الصالح، في كتابه: “دراسات في فقه اللغة”، وهي:

  • المعينية: نسبة إلى المعينين وهم قومٌ أسَّسوا مملكةً في جنوبِ اليمن لا يُعرَف على وجه التحديد متى كانت نشأتها، وإن كانت بعض الدلائل تشير إلى تكوُّنِها حوالي القرن الثامن ق. م.
745px Sabaeisch اللغة العربية الجنوبية
كتابة سبئية
  • – السبئية: نسبة إلى السبئيين الذين أقاموا مملكتهم على أنقاض المملكة المعينية، وكانت “مأرب” عاصمةَ مملكتِهم تالي كان لها في التاريخ شأنٌ عظيم، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ: 15].

ظلت السبئية سائدة في بلاد اليمن خلال المدة الطويلة التي قبض فيها السبئيون على زمام الحكم؛ بل لدى العلماء من الآثار والنقوش ما يؤكد بقاء هذه اللهجة حتى أثناء الحكم الحبشي الأول لبلاد اليمن بين سنتي 375-400 بعد الميلاد.

  • الحضرمية: نسبةً إلى حضرموت، التي استمرت أمدًا غير قليل تنازع سبأ الحكم والسلطان، وكانت حضرموت مملكة عظيمة ذات حضارة زاهرة، ولكن سبأَ كانت أقوى منها فغلبتها على أمرها.
  •  القتبانية: نسبةً إلى قتبان، وهي مملكة عظيمة أنشئت في المنطقة الساحلية الواقعة شمال عدن، وكُتِبَ عليها أن تنقرض في أواخر القرن الثاني ق. م. بعد الحروب الكثيرة التي نشبت بينها وبين سبأ.

وبعد تقلب حمير صارت اللغة العربية الجنوبية عند البعض يقال لها اللغة الحميرية، أو لسان حمير، قال أبو عمرو بن العلاء، أحد أقدم اللغويين العرب وأحد القراء السبعة: “ما لسانُ حِمْير وأقاصي اليمن بلساننا، ولا عربيتُهم بعربيتنا”.

كان أهل اليمن أهل حضارة ولهذا كانت لهم كتابة، وكتابتهم تسمى (خط المسند)، وكل رمز منه يعبر عن صوت من أصواتها، وعددها تسعة وعشرون صوتا هي نفس أصوات العربية الصامتة مع تشكل آخر لصوت السين، وأحرف هذا الخط منفصلة، ولا يحتوي على تنقيط، ولا على حركات ولهذا يصعب ضبط حركات نقوشه.

وفي الختام: ننبه على وَهْم يسوِّق له بعض المستشرقين من ذوي الأجندة الاستعمارية التي تسعى إلى تفكيك العالم الإسلامي والعربي وإحياء النزعات الجاهلية، ومنها إثارة القوميات التي كانت سائدة قبل البعثة الشريفة، ومن ضمن أجندتهم قولهم إنَّ لليمن لغة خاصة بهم منفصلة تمامًا عن لغةِ القرآن الكريم، مع أنَّ البحوث العلمية تؤكد أنَّ اللغة الفصحى التي نزل بها القرآن الكريم كانت لغة اليمن قبل أن تتغير إلى اللهجات السَّابق ذكرها كما سبقَ بيانه.

د. عارف الكلدي

أستاذ اللسانيات المشارك/ كلية الآداب جامعة عدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى