آثار

مخاض ثورة 26 سبتمبر العسير

كيف تحقق وعد القائد جمال جميل الذي قال في وجه قاتليه: «حَبّلناها وستلد»؟

وُلدت ثورة 26 سبتمبر 1962م بعد مخاضات عسيرة، وأحداث كبيرة، وكانت بحق أعظم إنجاز في تاريخ اليمن القديم، والحديث، والمعاصر، ولولاها ما كان لمسار حياتنا المُتحجر المُنغلق أنْ يتغير نحو مزيد من التحرر، والتحول، والانطلاق. هي تاريخ مُشبع بروح المقاومة الوطنية، في سبيلها قُدمت التضحيات تلو التضحيات، وبها انقشع ظلام الإمامة المُخيف، وسلبنا الدُجى فجرنا المُختبي، وسبقنا – كما قال الشاعر عبدالله البردوني – الربيع، نُبشر بالموسم الطيب.

 

معارك ومؤامرات:

استغل ولي العهد أحمد يحيى حميد الدين حادثة مقتل أبيه 17 فبراير 1948م، وحشد الحشود لدخول صنعاء، المدينة الآثمة حد وصفه، والقضاء على الثورة الدستورية، وتأديب الأحرار العصريين، ولم يكد يصل مدينة حجة حتى ظهر – كما قيل – إمام آخر، يُدعى علي بن حمود شرف الدين، أحد رجالات دولة الإمام المقتول، إلا أنَّ الأخير سريعًا ما أذعن وأعلن ولاءه للسيف أحمد، وكان من أبرز رجالاته في سحق الثورة الدستورية، وكوفئ بتعينه أميرًا للواء الحديدة.

أرسل السيف أحمد رسالته الشهيرة لابن الوزير، وخاطبه فيها قائلًا: «وإني زاحف إليك بأنصار الله الذين سترى نفسك تحت ضرباتهم مُعفرًا»، ودخلت جحافله المُتوحشة صنعاء صباح يوم 3 جمادى الأولى 1367هـ / 13مارس 1948م، وعاثت فيها نهبًا وخرابًا؛ فانتهت بذلك إمامة ابن الوزير التي استمرت لـ 26 يومـًا فقط.

 

نهج الإمام أحمد في الحكم:

وفي اليوم التالي لسقوط صنعاء أعلن السيف أحمد نفسه إمامًا، وتلقب بـ (الناصر) [1]، وكان عهده أسوأ من حكم أبيه، أباح نهب صنعاء، وشبام، والعدين، وأسرف في سفك الدماء، وقتل شقيقه إبراهيم بالسم، بعد نصيحة مُستشار السوء حسين الحلالي، كما أعدم الإمام عبدالله الوزير و36 ثائرًا بدون مُحاكمة، وزج بمن تبقى من الثوار في سجون حجة المُوحشة، ووصلت به الجرأة إلى أنْ يقتل أحد أعوانه ويدعى حمود السياغي بدون سبب؛ فقط لأنَّه لا يستلطفه، وأنَّه – حد وصفه – دمه ثقيل، وكان دائمًا ما يردد: «والله لأخضبن يدي بدماء العصريين حتى ألقى الله وهو راض عني».

كان الأمير يحيى بن يحيى حميد الدين شريكًا بارزًا في انتصار أخيه غير الشقيق، فقد نجح – كما تشير بعض الروايات – في إسقاط صنعاء من الداخل، وذلك بإقناع قوات المدفعية المُرابطة في قصر السلاح بقصف منزل الإمام عبدالله الوزير، وحظي باحترام سُكان تلك المدينة المنكوبة؛ لأنَّه قَام بحماية بعض مَنازلهم العتيقة من النهب؛ وكانت نهايته بعد مرور ثلاث سنوات قتيلًا بالسم، وهي النهاية التي وضعت حدًا لطموحه، ولا يستبعد أنْ يكون أخوه الإمام الطاغية هو من رسم تفاصيلها، كما رسم تفاصيل حبس أخويه علي والعباس.

عاش الإمام أحمد السنوات السبع الأولى من حُكمه مُطاعًا مُهابًا؛ كيف لا؟ وقد خرج مُنتصرًا على أعداءه العصريين، ثائرًا لدم أبيه منهم، ماضيًا على نهج ذلك الإمام الصريع، فزادت تبعًا لذلك شعبيته عند أنصار الإمامة وغيرهم، وبدأ يهيئ الأمر لولده الأمير محمد البدر ليكون وليًا للعهد – سنتحدث عن ذلك تفصيلًا في موضوعنا التالي – وإمامًا من بعده، وهي التهيئة التي ولَّدت صراعًا عاصفًا داخل أفراد الأسرة الإمامية الحاكمة، وكانت كالقشة التي قصمت ظهر البعير.

وكرد فعل أولي على تلك التهيئة، انقلب الأمير الطامح عبدالله بن يحيى حميدالدين على أخيه الإمام يوم الخميس 7 شعبان 1374هـ / 31 مارس 1955م، بمُعاضدة من بعض ضباط الجيش النظامي، بقيادة صديقه المقدم أحمد يحيى الثلايا، وقد أجبر الأخير الطاغية أحمد أنْ يتنازل بالإمامة لأخيه غير الشقيق، وجاء في وثيقة التنازل الماكرة ما نصه: «حملنا الأخ سيف الإسلام عبدالله الحجة، وكان التنازل على أنْ يقوم بالأمر، ويجريها على شريعة الله سبحانه، ولم يبق ما يوجب الأخذ والرد، وقد كان هذا بحضور جماعة من العلماء، فليعد كل واحد إلى محله، والأخ سيف الاسلام حفظه الله يخرج إلى محله بالعرضي للقيام بأعمال الناس، وعليكم جميعًا اعتماد أوامره، ومن خالف هذا فعليه حجة الله».

وحين التجأ الأمير محمد البدر إلى القبائل الشمالية، آثر الإمام الجديد (عبدالله) الذي تلقب بــ (المُتوكل) الاعتزال، حَقنًا للدماء، وصارح الطاغية أحمد بذلك، إلا أنَّ الأخير أوهمه أنَّه معه، وأنَّ أمر تنازله محسومٌ محسوم؛ بل وكتب لولده في حجة برسالة يدعوه فيها للرضوخ لأوامر عمه، وختمها بقوله: «وإني أحب أنْ ألقاك عند الله وأنت شهيد، على أنْ ألقاك وأنت قائد فتنة»!

انطلت الخُدعة (التقية) على الإمام عبدالله، وحين نصحه البعض بإعدام أخيه الإمام المعزول، لأنَّه مُخادع، وغير مأمون الجانب، زجرهم، وصدَّق أنَّه أصبح الإمام الفعلي، ولم يفق من حلمه القصير إلا بعد مرور خمسة أيام (5 أبريل 1955م)، وإذا بمن عفا عنه بالأمس يأمر بفصل رأسه عن جسده، وفصل رؤوس 16 آخرين، منهم أخاه الشقيق العباس، رئيس الوزراء المـُكلف، وصديقه المقدم الثلايا، وهكذا وكما أدى مقتل الإمام يحيى إلى فشل ثورة 1948م، أدى عدم مقتل الإمام أحمد إلى فشل حركة 1955م.

 

الإمام أحمد يستنجد المملكة العربية السعودية لإيقاف الإنقلاب:

وما يجدر ذكره أنَّ الإمام أحمد بعث في اليوم الأول للانقلاب ببرقية للملك سعود بن عبدالعزيز طالبه فيها بالتدخل الفوري، وقصف المُتمردين بالطائرات، في حين أرسل ولده الأمير محمد البدر فور وصوله مدينة حجة بالأستاذ أحمد محمد نعمان، وأحمد محمد الشامي إلى الرياض، لحث المملكة على التدخل، إلا أنَّ إخماد تلك الحركة بسرعة حال دون ذلك.

وفي الوقت الذي تَوزع فيه الأحرار الأوائل المُناهضين لذلك الحكم بين السجون والمنافي، كان هناك ثمة مُحاولة ثالثة لإعادة تفعيل نشاطهم السابق من مدينة عدن، وذلك قبل ثلاث سنوات من حركة المقدم أحمد الثلايا السابق ذكر فشلها، وبلافتة ثقافية واجتماعية عريضة، مُجاراة للوضع القائم، وخوفًا من أنْ تقوم سلطات الاحتلال الانجليزي بوأد تلك المحاولة في مَهدها، إنْ هي جازفت ورفعت أية شعارات سياسية.

 

تأسيس الاتحاد اليمني:

تبنى تلك المُحاولة عدد من الشخصيات الاعتبارية، أمثال علي محمد الأحمدي، ومحمد أحمد شعلان، وغيرهم، وبعد أخذ ورد ومشاورات عديدة أشهروا باجتماع تأسيسي عام ميلاد الاتحاد اليمني 7 رمضان 1371هـ / 31 مايو 1952م، وقدموه كهيئة تجمع في إطارها كل النوادي والجمعيات القروية، وتجمعات المُهاجرين، واهتموا بصورة أساسية بالنشاط التنويري، فشيدوا مدرسة، وفتحوا صفوفًا مَسائية، وأرسلوا المتفوقين للدراسة في القاهرة.

وفي القاهرة، تولى القاضي محمد محمود الزبيري رئاسة فرع ذلك الاتحاد، ولم يبتعد هو الآخر عن ذلك النهج الإصلاحي المهادن، وما أنْ لحق به رفيق دربه الأستاذ أحمد النعمان 20 ذو الحجة 1374هـ / 8 أغسطس 1955م، وذلك بعد مرور سبع سنوات من فراقهما القسري، حتى تحول ذلك الكيان من إطار جامد إلى جهاز عامل صحفيًا، وإذاعيًا، وسياسيًا، وطلابيًا، وانتقل مركزه القيادي إلى تلك المدينة الحية.

وبعد مرور ستة أيام فقط من وصول الأستاذ النعمان إلى القاهرة، عاودت صحيفة (صوت اليمن) الصدور، وفتحت إذاعة (صوت العرب) أبوابها له ولرفيق دربه، ولم يمض من الوقت الكثير، حتى أغلقت السلطات المصرية مقر الاتحاد اليمني، وسحبت تصريح الصحيفة، بعد صدور عشرة أعداد منها، وأغلقت الإذاعة أبوابها؛ بفعل التقارب الذي حدث حينها بين الرئيس جمال عبدالناصر والإمام أحمد أبريل 1956م.

ارتفعت بعد ذلك وتيرة الخلافات البينية بين أعضاء الاتحاد اليمني، سواء في عدن أو في القاهرة، وقد نشط جواسيس الإمام أحمد في صب الزيت على النار، وكثر تَهكم المُغرضين والمُغرر بهم على القاضي الزبيري والأستاذ النعمان، فما كان من المناضل محسن العيني إلا أنْ أصدر كتاب (معارك ومُؤامرات ضد اليمن)، دافع فيه عن الزعيمين، وقال: «لولا هذان الاسمان ما عرفنا الوطن والوطنية».

وفي شوارع القاهرة المزدحمة، شوهد الرجلان وهما يعيشان مع الشعب، ويأكلان الفول، والطعمية؛ ويركبان الأوتوبيس، وحين مرَّ من جانبهم صديقهم القديم أحمد محمد الشامي (سفير الإمام أحمد)، أنزل زجاج سيارته الفارهة، وخاطبهم بلكنة دارجة ساخرة: «عيشوا مع الشعب يا أبطال»!

القاضي الزبيري، والأستاذ النعمان

القاضي الزبيري والأستاذ النعمان

 

إنشاء وتأسيس كلية بلقيس في عدن:

لم يستسلم الثائران العظيمان (القاضي الزبيري، والأستاذ النعمان) لليأس والإحباط، فقد توجه الأول مع نهاية العام 1959م من القاهرة إلى عدد من دول المهجر بغرض التعرف على أحوال المهاجرين فيها، وجمع تبرعات لإنشاء (كلية بلقيس) في مدينة عدن، كصرح تعليمي يلم شتاتهم، ويربط أولادهم بوطنهم الأم، وهو ما كان.

وقد حُددت فلسفة الكلية وسياستها في كُتيب خاص أصدره (الاتحاد اليمني) حينها عنها، جاء فيه: «أن محاولات اليمنيين للتغيير قبل أنْ يتعلموا لن تنجح، ولهم عبرة في العثرات التي صاحبت المحاولات السابقة؛ لأنَّهم ضحوا لصنع الجديد، فارتطموا بواقع يُخيم عليه الجهل، وانهار كل شيء، ولذلك تلاشت جهودهم كالأحلام.. العلم هو لعنة الله، والضمير، والعقل، والإنسانية على الظلم، وعلى الظالمين، وعلى كل من يُخالف العقل».

فيما نشط رفيق دربه القاضي الزبيري في فضح وتعرية نظام الحكم الإمامي، وتفرغ لتأليف عدد من الكتب، والكتيبات، كان كتابه (الإمامة وخطرها على وحدة اليمن) أشهرها على الإطلاق، وتنبأ في ذات الكتاب بأنَّ مَعارك المُستقبل وأحداثه ستدور حول هذه الكارثة المُسماة الإمامة، وأنَّ مَشاكل كثيرة ستنبعث منها، وستستغلها القـوى العربية والدولية شئنا ذلك أم أبينا، وأنَّ اليمن ستتعرض بسببها لأخطـارٍ لا نهاية لها.

الإمام أحمد يذهب إلى روما للعلاج ومحاولة إنقلاب فاشلة:

وبالعودة إلى أخبار الإمام الطاغية (أحمد ياجناه)، فلم تعد صورته بعد إخماده لحركة مارس 1955م كما كانت، تحول في نظر كثير من المفتونين به من بطل اسطوري إلى سفاح سادي، وعصفت به تبعًا لذلك الأمراض النفسية والجسدية، وما أنْ غَادر إلى روما للعلاج 8 شوال 1378هـ / 16 أبريل 1959م، ومعه حاشيته وحشد كبير من الرهائن؛ حتى قام بعض الضباط والجنود المُتحمسين في صنعاء وتعز بإحراق ومُحاصرة مَنازل بَعض المسؤولين، واغتيال اثنين منهم – سنتحدث عن ذلك تَفصيلًا في موضوعنا التالي – بإيعاز وتحريض – كما تشير مُعظم المصادر – من قبل أخيه الأمير الحسن، المُبعد حينها في نيويورك، والغاضب من حِرمانه من ولاية العهد.

استنجد الأمير محمد البدر بمشايخ قبيلتي حاشد وبكيل، وتداعوا ومعهم الآلاف من رعاياهم لنصرته، واستغل معظمهم ضعفه الشديد، وطلبوا الأموال الطائلة نظير مُساندتهم له، وقيل أنَّهم وفي ذروة حماسهم، وأثناء دخولهم مدينة صنعاء، رددوا هذا الزامل [2]:

ســــلام يــــا حاشد ويا صُبة بكيل

مــن بعــد هـــذا تسمعون أخبارها

إمامنا النــــــاصر ومن بعده حميد

سبـــحان مـــــن رد العوايد لأهلها

وحميد هنا، هو الشيخ الثائر حميد بن حسين بن ناصر بن مبخوت الأحمر، وقد كان له أثناء مكوثه في مدينة صنعاء تواصلات مع عدد من المشايخ والأعيان، وقام بالفعل بإقناعهم بضرورة التغيير، واستغلال غياب الإمام أحمد لهذا الغرض، وحين سمع الأخير بذلك، وبصورة مُبالغ فيها، آثر العودة من فَوره، وما أنْ وصل إلى ميناء الحديدة 6 صفر 1379هـ / 10 أغسطس 1959م، حتى أطلق خطاب مُجلجل بثته الإذاعة، أسماه (الصرخة الكبرى)، قال فيه: «لن يخيفني أخضر ولا أحمر، وهذا الفرس وهذا الميدان، ومن كذَّب جَرَّب»، واستشهد ببيت شعري نُسب له، مضمونه:

مـــــاذا يـــريدونها لا درَّ درُّهمُ

إنَّ الإمامة لا يطوى لها علمُ

تقهقر وإستسلام القبائل بعد الإنقلاب الفاشل:

هَرب أبناء القبائل من صنعاء مَفزوعين، مَذعورين، وسلموا مُعظم ما أخذوه من الأمير محمد البدر، وفوقها رهائن جديدة لتأكيد الطاعة، وذلك بعد أنْ مَارس الإمام أحمد في حَقهم جَرائم حرب شنيعة، وقد نال قبيلة حاشد من تلك الجرائم النصيب الأكبر، وكم من مَنازل دُمرت، ومَزارع أتلفت، ولولا عدم إيفاء مَشايخ حاشد وبكيل وبعض ضباط الجيش بالتزاماتهم، وخُذلان أبناء حَاشد لشيخهم، ما تقدمت القوات الإمامية صوب مَضارب قبيلتهم قيد أنملة، وما سَلَّم الشيخ حسين الأحمر بداية ديسمبر من العام 1959م نفسه.

أمام ذلك الوضع المُربك، قرر الشيخ حميد بن حسين الأحمر اللحاق بالمشايخ الذين توجهوا صوب بيحان، ثم عدن، أمثال الشيخ سنان أبولحوم، والشيخ علي بن ناجي الغادر، والشيخ أحمد بن علي الزايدي، وغيرهم، إلا أنَّ أبناء القبائل المُجاورة حالوا بينه وبين هدفه، تَقطعوا له، وسَلموه قبل أنْ ينتهي ذلك العام لقوات الإمام أحمد، وذلك بعد أنْ نَهبوا أمواله، وجنبيته، وكان مصيره الإعدام بحد السيف 13 رجب 1379هـ / 12 يناير 1960م، وكان عمره عامذاك لا يتجاوز الـ 30 عامًا [3].

وحين اطمئن الإمام الطاغية لعدم وجود أي ردة فعل انتقامية؛ ألحق بالشيخ حميد والده (حسين الأحمر)، وذلك قبل أنْ ينتهي ذلك الشهر (يناير) بيوم واحد. كما قام بإعدام الشيخ صالح سرعان البعجري، وفيصل صالح عوفان، والشيخ عبداللطيف بن قائد بن راجح، والأخير اُعتقل بالقرب من الضالع، وذلك أثناء محاولته اللحاق بالمشايخ السابق ذكرهم. وقبلهم جميعًا تم اغتيال الشيخ قاسم أبو راس بالسم 22 مايو 1959م، وذلك بعد أنْ افتضح أمر خطة كان قد أعدها وثوار آخرين لاغتيال الإمام أحمد في قصره بمدينة تعز.

وما يَجدر ذِكره أنَّه وقبل إعدام الشيخ حميد الأحمر بأيام مَعدودة، قام المُناضل سعيد حسن فارع الذبحاني الشهير بـ (إبليس) بِمُحاولة اغتيال الإمام أحمد في مَنطقة السُخنة، وفق خُطة مُستعجلة شَارك في رسم فصولها عدد من أصدقاء وأقارب شيخ حاشد وولده، وكان الغَرض منها إنقاذ الشيخين المذكورين من سيف الطاغية، إلا أنَّ عملاء وجواسيس الأخير أنقذوا سيدهم، وأفشلوا تلك الخطة في مَهدها.

وإيضاحًا لتفاصيل تلك الانتفاضة المنسية، تحدث المناضل الرئيس عبدالله السلال في إحدى مُدخلاته عن وجود فصيل من القوى الوطنية تصدره بعض مشايخ حاشد وبكيل، بقيادة الشيخ حميد بن حسين الأحمر، وأفاد أنَّه تم الاتفاق حينها على القيام بانتفاضة قبلية تشارك فيها جميع القبائل، وذلك بعد أنْ اتفق الشيخ حميد مع الضباط الوطنيين بأنْ لا يعتدي الجيش على القبائل، ولا تعتدي القبائل على الجيش.

وأكد المناضل ورئيس الجمهورية الأول عبدالله السلال أنَّه قام حينها بتعبئة طلاب الكلية الحربية، والشرطة، والطيران بأنْ يكونوا سندًا لتلك الحركة، وأضاف: «ولكن تخاذل بعض القبائل، وتردد بعض الإخوان – يقصد زملائه في الجيش – قد أفشل هذه الخطة.. حيث ذهب ضحيتها الشهيد حميد الأحمر ووالده.. والشيخ عبداللطيف بن راجح.. ثم أعقب ذلك سجن مجموعة كبيرة من المشايخ».

 

دبابة بعد ثورة 26 سبتمبر

 

أسلحة حديثة

لم تَكن ثَورة 23 يوليو 1952م المصرية حَدثًا عَابرًا مَحدود التأثير؛ بل كانت نقطة تحول فارقة في مَسار النضال الوطني الشَامل، جذبت إليها الأحرار العرب من المُحيط إلى الخليج، وأحيت إذاعتها إذاعة (صوت العرب) الروح القومية لديهم، وألهبت شعاراتها حماسهم، لتنتعش على وقعها ووقع خطابات الزعيم جمال عبدالناصر رغبات التحرر من الأنظمة الرجعية، والاحتلال الأجنبي، وهو ما كان.

حينما رأى الإمام أحمد ذلك المد الثوري الجارف يَتسلل إلى صُفوف الشباب اليمنيين المُؤمنين بالحرية والتغيير، حاول أنْ يتماهى معه، وأنْ يُقدم نفسه كَعُروبي أصيل، وشارك – تبعًا لذلك – الزعيم جمال عبدالناصر، والملك سعود لحظات إشهار مِيلاد تَحالف عربي ثلاثي مُناوئ لحلف بغداد، من مدينة جدة 11 رمضان 1375هـ / 21 أبريل 1956م، وحصل من المملكة العربية السعودية – كما أفاد أوبلانس – على 5,000,000 جنيه استرليني.

أراد الإمام أحمد بِمَوقفه ذاك أنْ يَضرب عُصفورين بحجر واحد، فقد أراد أولًا أنْ يخرس صوت القاضي الزبيري والأستاذ النعمان اللذان عاودا – كما سبق أنْ ذكرنا – نشاطها من القاهرة. وأراد ثانيًا أنْ يُثَبِت ولاية العهد لولده الأمير محمد البدر، على حساب أخيه الأمير الحسن، المُنافس القوي، وصَاحب الأنصار الكُثر، الذي سبق أنْ تخلص منه وعينه مَندوبًا في الأمم المتحدة، وأناب الأمير العباس عنه في حكم صنعاء، وقد حَاول – أي الإمام – أثناء زيارته تلك أنْ يُقنع الملك سعود بذلك، ولكن دون جدوى؛ فقد تَحول مَوقف الأخير لصالح الأمير المُبعد، بعد أنَّ كان من أنصار الأمير البدر [4]، لأسباب ستتبدى تباعًا.

 

خلاف في الأسرة الحاكمة يمهد نهايتها:

الجدير ذِكره أنَّ الدعوة لولاية العهد كانت قد بدأت قبل تلك الأحداث بعامين، وقد تحدث القاضي عبدالرحمن الإرياني في مُذكراته عن ذلك بإسهاب، وقال أنَّ المناضل إبراهيم الحضراني أخبره أنَّ الأحرار اتفقوا أنْ لا سبيل للعمل الوطني إلا من خلال الأمير محمد البدر، ومن خلال بَذر الخلاف بين الأسرة الحاكمة نفسها، وأنَّه على ضوء ذلك وبتكليف من ذات الأمير سارع في كتابة صيغة البيعة 10 مايو 1954م، ودعمها بالأدلة المُبررة للخروج عن المذهب الزيدي الذي لا يجيز ذلك، وأتبع ذلك بأخذ توقيعات عدد من العلماء.

سارع الأمير الحسن – حاكم صنعاء حينها – بإرسال رسالة اعتراض لأخيه الإمام أحمد، فما كان من الأخير إلا أنْ أوقف العمل بِصيغة البيعة، وظل يَعمل على تثبيت الأمر لولده، مُمهدًا لذلك – كما سبق أنْ ذكرنا – بالتخلص من مُنافسه؛ الأمر الذي جعل خلاف الأسرة الحاكمة يظهر إلى السطح، وبإعدام الأمير عبدالله وشقيقه الأمير العباس إثر فشل حركتهم الانقلابية أبريل 1955م، تعمق ذلك الخلاف أكثر فأكثر.

وهكذا بدأ النظام الإمامي – كما خطط الأحرار – ينهي نفسه بنفسه، وفي الوقت الذي قام فيه بعض أمراء بيت حميد الدين – مثلًا – في عزل الأمير محمد البدر أسريًا، من خلال تركيز الأضواء على الأمير الحسن، بدأ أنصار الأخير في إثارة المشاكل، وإعلان التمردات؛ وهو الأمر الذي خَدم مُعارضي ذلك النظام بشقيهم المُستتر والظاهر.

وعلى الرغم من إيقاف الإمام أحمد العمل بصيغة البيعة، وتعمد الأخير ذكر اسم ولده الأمير محمد البدر مُجردًا من صفة ولي العهد، إلا أنَّ الإعلام الرسمي الإمامي ظل يُطلق تلك الصفة على ذات الأمير [5]، وكذلك فعل عدد من رجالات ذلك العهد وأدبائه، الذين كان بعضهم من الأحرار الأوائل.

 

ولي العهد يظهر كمُتحرر محب للتغير ويشتري الأسلحة الحديثة:

أتقن الأمير محمد البدر الدور المرسوم له من قبل والده بعناية فائقة، قدم نفسه كشاب مُتحرر، محب للتغيير، وتقرب من الأحرار الأوائل، والضباط الشباب، ومشايخ القبايل، وزار الاتحاد السوفيتي، وتشيكوسلوفاكيا، وألمانيا الشرقية، والصين، ووقع اتفاقيات تعاون وتبادل تجاري مع تلك الدول، وعمل – وهو الأهم – على شراء أسلحة حديثة، وهو أمرٌ كان له ما بعده.

وهكذا، وبسبب تقاربه مع المعسكر الشرقي؛ أطلق حُكام السعودية على الأمير محمد البدر تسمية (الأمير الأحمر)، ونصح الأمير فيصل بن عبدالعزيز – ولي العهد حينها – القاضي عبدالرحمن الإرياني قائلًا: «ونحن ننصح أنْ يعمل المُخلصون لسيف الإسلام الحسن، أما البدر فهو مصري شيوعي، ونحن نخاف على اليمن من اشتراكية مصر التي نعتبرها لا تختلف عن الشيوعية، فكلاهما حرب على الدين».

استغل الأمير الحسن ذلك، وسارع من مقر عمله في نيويورك – وبمعنى أصح مَنفاه الإجباري – بالاتصال بحكام السعودية، ونجح في كسبهم أكثر إلى صفه؛ وهو الأمر الذي أدى إلى توتر جزئي في العلاقات اليمنية السعودية، وجعل الإمام ينظم إلى اتحاد مصر – سوريا الفيدرالي 16 شعبان 1377هـ / 8 مارس 1958، بعد مُرور أسبوعين من إعلانه، وبعد أنْ راسل الزعيم جمال عبدالناصر قائلًا له: إنَّ النجوم أخبرته أنَّ نجمه صاعدًا! وقد ظل ذلك الاتحاد الذي عُرف باسم (اتحاد الدول العربية) حبرًا على ورق، ولم يُعمر طويلًا.

وما يجدر ذكره أنَّ العلاقات بين مصر والسعودية كانت قد توترت قبل ذلك، حيث قامت الأخيرة بترحيل العُمال المصريين من أراضيها أبريل 1957م؛ بحجة تآمر الأولى في مُحاولة اغتيال الملك سعود بن عبدالعزيز، ولم يكد يحول الحول حتى اتهمت سوريا المملكة بأنَّها قامت بتمويل مُحاولة فاشلة لاغتيال جمال عبدالناصر، والوقوف ضد الاندماج الوحدوي بينها ومصر.

كانت الأمراض المُزمنة قد أنهكت حينها جسد الإمام أحمد؛ وقد اتسمت سياسته تبعًا لذلك بالانتهازية والتردد، أجاد استغلال تلك التوترات، وظل خلال تلك الحقبة يلعب على الحبلين، وحين شُنَّ العدوان الثلاثي على مصر – مثلًا – أكتوبر 1956م؛ ظنَّ أنَّ نهاية الرئيس جمال عبدالناصر قد حانت، ونُقل عنه تشفيه بالأخير، ولم يتغير مَوقفه إلا بعد أنْ تدخل السوفيت لصالح الجانب المصري، وسارع بعد أقل من عامين، وكما سبق أنْ أشرنا بطلب الوحدة مع مصر!

وبالعودة إلى موضوعنا، فقد توالى وصول الأسلحة السوفيتية إلى ميناء الصليف، ووصل عددها حتى 4 أغسطس 1957م حوالي ثماني شحنات، وهي الأسلحة التي سبق أنْ اشتراها الأمير محمد البدر بموجب المبلغ الذي حصل عليه والده منتصف العام الفائت من السعودية، وكانت تتكون من 30 دبابة من طراز (T.34)، و50 مدفع من طراز (RCA.100)، و100 مدفع ميدان، و100 مدفع مضاد للطائرات، و70 مُدرعة وعربة مصفحة، و20 طائرة، وكميات لا بأس بها من الأسلحة الخفيفة، والقنابل اليدوية، والذخائر، وبِذلك أصبحت اليمن ثالث دولة عربية كسرت طوق الأسلحة الغربية بعد مصر وسوريا.

وقد ظلت معظم تلك الأسلحة مُهملة حتى تَوالى وصول الخبراء الروس والمصريين، وفي الوقت الذي سارع فيه الاتحاد السوفيتي بإرسال فريق تدريب مُكون من 35 مُدربًا، و50 فنيًا، سارع جمال عبدالناصر بإرسال بعثة عسكرية مُكونة من 12 ضابطًا مايو 1957م، ثم عززها بعد مرور عامين ببعثة أخرى، وكانت مهمة هؤلاء جميعًا تدريب القوات المُسلحة اليمنية على الأسلحة الحديثة. وذكر المقدم عبدالله قائد جزيلان أنَّ البعثة المصرية أتت بطلب من الأمير محمد البدر، وأنَّ الإمام أحمد لم يكن راضيًا عنها، وأضاف مُتحدثًا عن الأول: «كان البدر يبدو أمام الرأي العام رجلًا يدعو إلى الإصلاح، ولكنه كان في الحقيقة رجعيًا مُمعنًا في رجعيته»!

 

إعادة افتتاح الكلية الحربية في صنعاء, بعد إغلاقها في أحداث ثورة 1948

 

إعادة افتتاح الكلية الحربية في صنعاء, بعد إغلاقها في أحداث ثورة 1948:

جاء بعد ذلك الحدث الأبرز المُتمثل بإعادة افتتاح الكلية الحربية في العاصمة صنعاء برئاسة العقيد حمود الجائفي، ثم المقدم عبدالله جزيلان، وهي الكلية التي كانت قد أغلقت بعد أحداث الثورة الدستورية فبراير 1948م. تلى ذلك إعادة افتتاح كلية الشرطة، وافتتاح مدرسة الأسلحة، ومدرسة ضباط الصف، وكلية الطيران، ومدرسة الإشارة، وهي التحولات التي مَهدت للقوات المسلحة اليمنية أنْ تخطوا خطوات جبارة نحو التطور التحديث، والأهم من ذلك تسلل الأفكار القومية التحررية إلى صفوف طلابها، الذين كان الضابط علي عبدالمغني أحدهم.

رافق تلك التغيرات تكوين وحدات عسكرية خاصة أسميت بـ (فوج البدر)، تم اختيار أفراده من أبناء القبائل التي حول صنعاء (بلاد الروس، وبني الحارث، والحيمتين، وهمدان، وبني مطر، وبني حشيش، وبني بهلول، وسنحان)، ومن القبائل الشديدة الولاء للإمامة كقبيلة الأهنوم، وتم جعل قادة سراياه من أبناء هذه القبائل، بعد أنْ تم منحهم رتبًا عسكرية دون خضوعهم لأي دورات متصلة، ناهيك عن عدم معرفتهم بأبجديات القراءة والكتابة، وقد تولت البعثة المصرية أيضًا مهمة تدريب أفراده، فيما تمثلت مهمته الرئيسية في وأد أي تحرك يقوم به الضباط الآخرين، طلاب الكليات العسكرية.

بدأت مع مطلع العام 1959م بعض المنشورات والمعلومات السرية تتسرب، وقد أشارت بمجملها إلى وجود حركة في صفوف العسكريين تسعى إلى قلب نظام الحكم، وقد أفاد المُؤرخ أوبلانس – مصدر هذه المعلومة – أنَّ السلطات الإمامية قامت بعد ذلك بإلقاء القبض على عدد من الضباط اليمنيين، وطرد الضباط المصريين.

 

الإمام أحمد يحتجز الضباط المصريين وينتقد ثورة يوليو الإقتصادية:

وعلى خِلاف أوبلانس، ذكر عدد من المُؤرخين اليمنيين أنَّ الإمام أحمد قام بعد أنْ توترت علاقته مع جمال عبدالناصر باحتجاز الضباط المصريين في قصر الضيافة، وحَرَّم عليهم الاتصالات، ثم أرسلهم إلى القاهرة. وأفاد وجيه أبو ذكرى أنَّ هؤلاء الضباط المطرودين هم من كونوا فكرة صائبة عن اليمن لدى القيادة المصرية، وأنَّ الأخيرين استفادوا من معلوماتهم في التمهيد للثورة أيما استفادة.

قام الإمام أحمد بإرسال ولده محمد البدر إلى السعودية 17 ربيع ثاني 1381هـ / 27 سبتمبر 1961م، وقام لأجل إرضاء الأخيرة بكتابة أرجوزته الشهيرة، وهي الأرجوزة التي أذاعتها إذاعة صنعاء، وانتقد فيها توجهات ثورة يوليو الاقتصادية، وهو ما اعتبرته القاهرة تدخلاً سافرًا في شئونها الداخلية، وأعلن جمال عبدالناصر على إثرها، وبشكل انفرادي عن إلغاء الوحدة بين مصر والمملكة المتوكلية 27 ديسمبر 1961م، وذلك بعد ثلاثة اشهر من انفصال سوريا عن ذلك الاتحاد الفيدرالي، وقد هنأ الإمام قادة الأخيرة (الانفصاليين) على تصرفهم ذاك!

كما عمل الإمام أحمد على إعادة ترميم البيت الإمامي المُتداعي، وأعاد خلال ذات الشهر ممتلكات بيت الوزير المصادرة منذ فشل الثورة الدستورية، واستدعى قبل ذلك أخيه الحسن من نيويورك، وذلك لحسم مسألة ولاية العهد، وقد حصل الأخير على أموال من ممثلي الاحتكارات النفطية الأمريكية ورجال الأعمال، وقدمها كرشوة لكبار الإقطاع والموظفين، ولكن دون جدوى.

وقف الإمام أحمد بقضه وقضيضه مع ولده الأمير محمد البدر، وكلفه بتشكيل حكومة جديدة لم يكن فيها سوى شخص من واحد الأسرة الحاكمة، هو الأمير الحسن بن علي، والأخير شاب طامح، استطاع خلال تلك الحقبة أنْ يكسب إلى جانبه كثير من الأنصار، كان بعضهم من الأحرار الأوائل، وأعضاء الاتحاد اليمني.

والأكثر أهمية أنَّه – أي الإمام أحمد – استغل فشل محاولة اغتياله في مستشفى الحديدة مارس 1961م، وأقر بخطاب رسمي بثته الإذاعة ولاية العهد لولده الأمير محمد البدر، حيث قال: «شعبي العزيز: قد علمتم ما كان بعد مؤامرة الاغتيال من قلق وخوف وتحرك ذوي الأطماع ومحبي الفتنة.. وبَعُدَ ذلك على أكثر العلماء وذووا الفضل والعقال والمشايخ، وجدوا علينا جدًا عظيمًا، وحملونا حجة الله إذا تساهلنا في أمرهم.. وقيامًا بما يجب علينا لأمتنا وشعبنا، استخرنا الله سبحانه، وأخذنا على الولد البدر محمد بن أمير المؤمنين حجة الله العظيمة، وعهده الشديد في استقامته، وقيامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..».

الإمام أحمد وبعض أفراد السلالة

 

أفكار جديدة

تعود البدايات الأولى لتأسيس تنظيم الضباط الأحرار إلى ما بعد فشل الثورة الدستورية ببضعة سنوات، وعن ذلك قال المُناضل أحمد حسين المروني في مُقابلة صحفية أنَّ أحد ضباط الكلية الحربية – كانت مُغلقة في ذلك التاريخ – زاره ورفاقه الأحرار في سجن حجة 1951م، ونقل إليهم خبر مَفاده بأنَّ هناك تحضير لعمل وطني يتبناه الضباط الأحرار، وأضاف المروني: «وقد استبشرنا خَيرًا، بالرغم من التشاؤم المخيم علينا، فقد كنا على يقين من أنَّ اليمن ستواجه مُتغيرات لصالح الحركة الوطنية».

من جِهته أرجع المُناضل عبدالقادر محمد الخطري بدء تبلور الوعي الوطني في صُفوف ضباط الجيش اليمني إلى أوائل عام 1951م، وقسَّم مَراحل النضال العسكري إلى مَرحلتين مُتتابعتين، الأولى استمرت لأربع سنوات، وأسماها بـ (مرحلة الإعداد الثقافي)، وفيها بدأ هؤلاء الضباط ومَعهم عدد من المدنيين القيام بجلسات تعرفية تعارفية في مدينة صنعاء، وتعز، والحديدة، وإب، تبادلوا خلالها الأفكار التنويرية، وعكفوا على قراءة عدد من الكتب المُهمة.

وقال المناضل الخطري في تقديمه لهذه المرحلة: «إنَّ الأرواح الطاهرة والنفوس الزكية التي أزهقها الطاغية الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين ظلمًا وعدوانًا عام 1948م لم تذهب سدًا، فقد أنبتت دماؤها أرواحًا شابة جديدة فياضة بالشعور نحو هذا البلد العظيم الذي مسخه وشوه بماضيه وحَاضره الحكم الإمامي الفردي المُتعاقب».

أما المرحلة الثانية فقد بدأت كما أفاد المُناضل الخطري من أواخر عام 1954م، وفيها بدأ هؤلاء الضباط وغيرهم يُفكرون جديًا بقيام ثورة شاملة تَطوي صفحة الإمامة الكهنوتية وإلى الأبد، ومهما كَلفهم ذلك من ثمن؛ ومن أجل الوصول إلى ذلك، احتكوا بالمواطنين، ونشروا الوعي الوطني في صُفوفهم، وجَمعتهم في العام التالي والأعوام التي تليه لقاءات مع عدد من الأحرار الأوائل المُفرج عنهم من سُجون حجة، وكانت مُعظم نقاشاتهم تَتركز حول ذلك الهدف الثوري النبيل.

تعددت خِلال تلك الفترة التنظيمات السِرية وغير السرية الداعية للقيام بثورة جِذرية شاملة، ثورة ترتكز أول ما ترتكز على إلغاء الحُكم الإمامي، وإقامة نظام جمهوري عَادل، وفي مدينتي صنعاء وعدن، كما في مدينتي تعز والحديدة، كان العمل يمضي على قدمٍ وساق من أجل تحقيق ذلك، وقد بدأت إحدى تلك الكيانات التحررية، من عُرفت بـ (مجلس التحرير) بتوزيع المنشورات الناقدة والناقمة على الوضع في مدن اليمن الرئيسية 3 مارس 1956م [6].

وقد كُللت تلك الجهود بتبني مُعظم قادة وأعضاء الاتحاد اليمني لخيار الثورة والجمهورية أكتوبر 1957م، وضجت بعض الصحف العدنية بنشر المقالات المُساندة لهكذا دعوة، في حين عملت بعض الأقلام الإمامية وغير الإمامية على تشويهها وتشويه مُتبنيها.

 

(لكي يحكم الشعب: فيساع.. فيساع.. الإمام مريض):

كان الأستاذ محمد أحمد نعمان المُتبني الرئيس لتلك الدعوة، وأحد أبرز مُنضريها، واستبق إعلانها بنشر مقال عنوانه: (لكي يحكم الشعب: فيساع.. فيساع.. الإمام مريض)، قال فيه: «إنَّ مهمة المناضلين الأحرار ليست السمسرة للأمير فلان أو فلان، وليس واجب المُناضلين الأحرار عندما يفقد الشعب الأصنام أنْ يصنعوا له أصنامًا من فلول الطغيان المُندثر.. نعم إنني أريد الجمهورية في بلادي.. أريد أنْ ينتهي عهد التوارث للبشر في بلادي.. أريد تغيير نظم لا تغيير أشخاص».

تلى ذلك قيام بعض الانتفاضات القبلية والعسكرية في عددٍ من المناطق، ففي أواخر ذات العام (ديسمبر 1957م) شهدت مناطق عمران، وخولان، وصرواح، وقبلها المفاليس، انتفاضات ضد السلطات الإمامية الغاشمة؛ بفعل الجبايات التعسفية التي أرهقت كاهل المُواطنين، فأرسل الإمام أحمد بِحملات عَسكرية لإخمادها، وقد تم لتلك الحملات ذلك بعد مُواجهات شرسة لم يتوسع المُؤرخون في نقل تفاصيلها.

فإلى المفاليس أرسل بقوات تحت قيادة ابن أخيه الأمير يحيى بن الحسين، وإلى عمران أرسل الإمام أحمد بقواتٍ كثيرة تحت قِيادة ولده الأمير محمد البدر، وإلى خَولان وصرواح أرسل بحملات أخرى تحت قيادة قادة آخرين، ولم يصلنا من نتائج تلك الحملات سوى أنَّ قائد حملة عمران خسر أثناء المُواجهات حوالي 50 فردًا من مُقاتليه، وجَرَّد أبناء تلك المنطقة من سلاحهم، واقتاد معه عدد منهم أسرى ورهائن.

وفي مُنتصف عام 1959م شَهدت مُدن البيضاء، ثم صنعاء، ثم تعز، ثم الحديدة، تمردات عسكرية قام بها عدد من أفراد الجيش النظامي، حيث قاموا بإحراق ومُحاصرة مَنازل بعض المسؤولين الإماميين، وقد كان للأمير الحسن الغاضب من حرمانه من ولاية العهد، والمُستغل لذهاب أخيه الإمام أحمد للعلاج في روما يد فيها، وبتوصيف أدق في بعضها.

وفي مدينة البيضاء خرج الجنود عن طاعة حاكم اللواء مايو 1959م؛ بسبب عجز الأخير عن دفع مُرتباتهم، وقاموا بإطلاق النار على مَباني الحكومة، وأشاعوا الفوضى في المدينة الصغيرة؛ الأمر الذي جعل الأمير محمد البدر يتدخل، ويُسارع باعتقال ذلك النائب، ويرسل للجنود المُتمردين مَبلغًا من المال، كحل مُؤقت.

وفي بداية الشهر التالي التهمت الحرائق مَخازن الحبوب في عُرضي صنعاء، فسارع ضباط الجيش بتوجيه الاتهام للقاضي يحيى أحمد حسين العمري، الغاضب لحظة ذاك من قرار عَزله من عَمالة تلك المدينة، والذي أراد – حسب اعتقادهم – إثبات فشلهم وفشل خَلفه؛ فقاموا من فَورهم بإحراق مَنزله ومنزلين لـمَسؤولين آخرين، وبالتجائه إلى الحدا، قام أفراد من تلك القبيلة – بتحشيد منه – باحتلال مَرافق حكومية في مدينة زراجة، الأمر الذي زاد الطين بلة.

سارع الأمير محمد البدر بِحظر التجوال في مدينة صنعاء، واعتقال عددًا من الضباط والجنود، وإعلان بعض الإصلاحات، وتعيين القاضي محمد حسين العمري عُضوًا في المجلس النيابي الذي استحدثه حينها، إرضاءً للأسرة الغاضبة، وحين شَعر أنَّ الموقف سيخرج عن سيطرته، راسل عددًا من مشايخ حاشد وبكيل طالبًا حضورهم لنصرته، ومعهم مجاميع من قبائلهم، وبالفعل تَوافد الأخيرون، وبفترات مُتفاوتة، وقد قدرتهم إحدى الإحصائيات إجمالًا بـ 20,000 مُقاتل؛ الأمر الذي صَعَّبَ الموقف، وولَّد أحداثًا ثورية سبق أنْ تحدثنا عنها تفصيلًا في مَوضوعنا السابق.

وبعد أيام مَعدودة من حَادثة حرق منازل المسؤولين في مدينة صنعاء، أراد جنود غاضبين في مدينة تعز اقتحام منزل القاضي أحمد محسن الجبري بالقوة 12 يونيو 1959م، والقبض على أخيه القاضي علي الذي تشاجر صبيحة ذلك اليوم مع أحد الجنود، وذلك بعد أنْ اتهمه الأخير بإجازة زواج زوجته من شخص آخر، قبل أنْ يُطلقها! وقد أسفرت تلك المُواجهات عن قتل ستة جنود، وقتل القاضي أحمد بعد أنْ أعلن استسلامه، وقتل أخيه علي المُتسبب بتلك المشكلة.

وبما أنَّ الأخوين القتيلين ينتميان لخولان البكيلية، فقد تَداعى أبناء تلك القبيلة للثأر، وطالبوا الأمير محمد البدر بتسريح الجيش، ووعدوه بدعمه بـ 10,000 مُقاتل إنْ هو فعل، وقد عمل الأخير على إرضائهم، وإعطائهم بعد أنْ توافدوا إلى مقر إقامته في مدينة صنعاء المزيد من الأموال، وأجبروه وأقرانهم من القبائل الأخرى على الاستدانة من التجار، بعد أنْ استنفدوا خزينته.

ورغم السِلبيات الكثيرة التي رَافقت تلك الأحداث، إلا أنَّ هناك جزئية إيجابية ما كانت لتحدث لو لم يَتوافد مُعظم مَشايخ حَاشد وبكيل ورعاياهم إلى صنعاء، فقد شهدت تلك المدينة لقاءات سرية وغير سرية جمعت عدد منهم بثوار آخرين، مدنيين وعسكريين، وبدأ بعضهم يُفكر بصوتٍ عالٍ، ويعلنها صراحة بأنَّ لا حل إلا بإقامة النظام الجمهوري، إلا أنَّ جواسيس الإمامة تابعوا تحركاتهم، ورفعوا تقاريرهم الكيدية إلى الإمام أحمد، وبصورة مبالغ فيها، وبعودة الأخير من رحلته العلاجية في روما انتهى – كما سبق أنْ ذكرنا – كل شيء.

 

محاولة اغتيال الإمام أحمد في مستشفى الحديدة:

أدت ردة الفعل الانتقامية الإمامية تجاه قادة تلك التحركات الثورية إلى تنامي الغضب الشعبي، وفي ذروة ذلك الغضب قام الملازمان عبد الله اللقية ومحمد العلفي بِمُحاولة اغتيال الإمام أحمد في مُستشفى الحديدة 26 مارس 1961م، بمساعدة زميلهما الملازم مُحسن الهندوانة الذي قادته الأقدار إلى مكان الحادث. صحيح أنَّ العملية فشلت، إلا أن تأثيراتها هدّت البيت الإمامي الحاكم، وأشعرته بالرهبة، وقُرب النهاية.

طلاب المدارس كان لهم أيضًا حضورهم الفاعل والمناهض لحكم الإمامة، وذلك من خلال قيامهم بعدد من المظاهرات المُنظمة، التي ضجت بها شوارع مدينتي صنعاء وتعز، وكان خُروجهم الأول أثناء الحصار الثلاثي لمصر أكتوبر 1956م، حيث رفعوا صورًا للزعيم جمال عبدالناصر، ورددوا بعض الشعارات القومية. وبعد مرور ثلاث سنوات خرج طلاب مدارس صنعاء إلى الشوارع مغاضبين، وأجبروا الإمام أحمد على الغاء قرار صدر حينها بفصل 200 طالب من زملائهم.

وفي بداية عام 1961م شهدت مدينتي صنعاء وتعز مظاهرات طلابية عارمة، طالبت بتحديث البرامج التعليمية، وتكرر الأمر في أغسطس من العام التالي، وتجاوزت المظاهرات الأخيرة إطارها المطلبي إلى رفع شعارات سياسية؛ الأمر الذي أثار غضب السلطات الإمامية، فألقت القبض على بعض الطلاب، وأودعتهم سجونها، فيما فرَّ من نجا من الاعتقال إلى القُرى ومدينة عدن.

بعد مُحاولة اغتيال الإمام أحمد في مستشفى الحديدة، أغلقت السلطات الإمامية الكليات والمدارس العسكرية، وهو الأمر الذي حَفَّز عدد كبير من الضباط ذوي الرتب الصغيرة في الجيش والأمن على إيجاد تنظيم جامع يحتويهم، وبدأوا يفكرون بعمل مُنظم بدلًا من العمل الفردي غير المجدي، وعقدوا لأجل ذلك عدة اجتماعات تمهيدية، ثم أشهروا باجتماع تأسيسي مُوسع ميلاد ذلك التنظيم 10 ديسمبر 1961م، وقد تركز نشاهم في المدن الثلاث الرئيسية (صنعاء، وتعز، والحديدة).

ومن ديسمبر 1961م وحتى سبتمبر 1962م تولى قيادة التنظيم أربع لجان، انتخبت الأولى فور التأسيس، وانتخبت الأخيرة قبل قيام الثورة بـ 22 يومًا [7]، برئاسة الملازم علي عبدالمغني، والأخير لعب دورًا رئيسيًا وبارزًا في تأسيس ذلك التنظيم وقيادته، وهو من خريجي مدرسة الأيتام، والكلية الحربية، وكان همزة الوصل وقناة الاتصال بين زملائه الضباط والقيادة المصرية، كما أنَّه وبشهادة كثيرين كان ذكيًا مُتقدًا، ووطنيًا مُتحمسًا، واسع الاطلاع، ممتلئًا بالشعور القومي، ذا قدرة جبارة في اجتذاب المُتعاونين.

 

أهمية السرية في تحركات الثوار:

اعتمد الضباط الأحرار على السرية التامة في تحركاتهم، وكان من الصعب أنْ يعرف أي عضو في أي خلية عن أعضاء الخلايا الأخرى، وحددوا في نُظمهم الداخلية إباحة دم كل من يفشى منهم سرًا، وأنْ يدفع كل عضو اشتراك شهري مقداره ريـال واحد، ورددوا هذا القسم: «أقسم بالله العظيم وبالإسلام الذي أدين به، وبكل المقدسات الوطنية، أن أكون جنديًا مُخلصًا في جيش العروبة، وأنْ أبذل نفسي وما أملك فداء لقيادتي، ووطني، وأن أكون مُنقادًا لما تصدر إلي من أوامر، مُنفذًا لها، ما دمت أعلم أنها في المصلحة العامة التي جاء من أجلها الدين، وأنْ لا أخون ولا أفشي سرًا للمنظمة، ولو أدى ذلك إلى استشهادي، والله على ما أقول وكيل».

ارتبط تنظيم الضباط الأحرار برموز وطنية في القطاع المدني، ونشطت تبعًا لذلك حركة التعبئة في أوساط فئات المجتمع، وفي تعز كان المُناضل عبدالغني مُطهر رجلهم الأمين في القيام بهذا الدور، وقال في مُذكراته أنَّ الملازم علي عبدالمغني زاره إلى منزله في تلك المدينة أبريل 1962م، وأخبره أنَّ التجمعات الوطنية – بما فيهم الضباط الأحرار – يُريدون حضوره إلى صنعاء للتفاهم معه حول سفره إلى القاهرة، خاصة وأنَّ السلطات المصرية طلبت منهم جميعًا إرسال شخص يكون محل ثقة للتشاور.

وبالفعل توجه المناضل عبدالغني مطهر إلى صنعاء، ومنها إلى عدن، ثم إلى القاهرة، والتقى هناك بأنور السادات، ونقل له صورة شاملة عن الوضع في اليمن، وخلص مطهر إلى القول: «وقد انتهت لقاءاتنا مع المسئولين في القاهرة بقبولهم التعاون مع الحركة الثورية في اليمن خلال فترة الإعداد للثورة، وحمايتها بعد تفجيرها».

وأضاف: «وحين وصلت إلى تعز وجدت في استقبالي الأخ علي عبدالمغني الذي كان قد وصل إليها قبل وصولي بيومين، فسلمته تقريرًا شَاملًا بما أسفرت عنه رحلتي إلى القاهرة، كي يحمله إلى الإخوة الأحرار في صنعاء، وقد تضمن هذا التقرير فيما تضمنه من موضوعات وخطط ما تم الاتفاق عليه في القاهرة بشأن الأسلحة التي سوف تُرسل إلى صنعاء وتعز بالحقائب، وغيرها من الوسائل».

وفي صنعاء كان المناضل عبدالسلام صبرة هَمزة الوصل بين قيادة التنظيم والحركة الوطنية المدنية، والأخير تجمعه علاقة مُصاهرة مع الملازم صالح الأشول أحد أبرز قادة ذلك التنظيم، وفي منزله كان الاجتماع المُوسع الذي تم به تحديد ساعة الصفر.

بعد عدة مُحاولات فاشلة لاغتياله، توفي الإمام أحمد في مدينة تعز 20 ربيع ثاني 1382هـ / 19سبتمبر 1962م، فخلفه ولده محمد البدر، ذو الـ 33 عامًا، تلقب الأخير بـ (المنصور)، وأعلن بعد يومين من الجامع الكبير بصنعاء خريطة طريق حكمه، وأنَّه لن يحيد قيد أنملة عن نهج والده، قائلًا: أنه سيتبع الطريق المُستقيم؛ الأمر الذي جعل الضباط الأحرار يُسارعون بالتغدي به قبل أنْ يتعشى بهم.

في كتابه (التاريخ العسكري لليمن) استند المُؤرخ سلطان ناجي إلى روايات بعض الكتاب الأجانب، ورجح أنَّه قبل قيام الثورة كانت هناك أربع مجموعات مُختلفة تعمل على الإطاحة الفعلية بالعرش الإمامي، اثنتان منها تخصان قبيلتي حاشد وبكيل، والأخريتان تخصان الجيش وتنظيم الضباط الأحرار، وخلص إلى القول أنَّ الأخيرين هم من قاموا بالثورة فعلًا، بقيادة الضابط الشاب علي عبدالمغني.

كان من المُقرر أنْ تكون تعز مُنطلق الثورة الشاملة، وفي 23 يوليو 1962م تحديدًا، إلا أنْ مَرض الإمام أحمد جعل الضباط الأحرار يؤجلون ذلك، وحين تحقق موت الإمام الطاغية – كما سبق أن ذكرنا – لفظت تعز جثمانه، وشهدت صنعاء مقر ابنه الأمير محمد البدر إعلان قيام الجمهورية العربية اليمنية، وذلك بعد سبعة أيام فقط من تولي الأخير الحكم.

انتهى دور تنظيم الضباط الأحرار السري في ذلك اليوم الخالد، ولولا السرية المُتناهية التي تميز بها ذلك التنظيم لما قامت الثورة، ليُصبح العمل الثوري بعد ذلك على المكشوف، وصار الأحرار جميعهم في مَعركة واحدة، مَعركة الدفاع عن الجمهورية الوليدة، وضم مجلس قيادة الثورة اثنان من أعضاء تنظيم الضباط الأحرار، هما: النقيب عبداللطيف ضيف الله، والملازم علي عبدالمغني، وقد استشهد الأخير بعد أيام معدودة من تحقيق حلمه الكبير.

وهكذا قامت ثورة 26 سبتمبر 1962م، وتصدر الضباط الأحرار المشهد، وتحقق على يد هؤلاء الأبطال (البزغة) – كما كان يحلوا للإماميين أنْ يسمونهم – تحقق وعد القائد العراقي الرئيس الشهيد جمال جميل الذي قال قبل 14 عامًا من ذلك التاريخ في وجه قاتليه: «حَبّلناها وستلد».

 

هوامش:

1- اعتمدت في هذه الجزئية على ما ذكره المُؤرخ محمد يحيى الحداد، وللمُؤرخ علي صالح الجمرة رواية مُغايرة مَفادها أنَّ سيف الإسلام أحمد أعلن نفسه إمامًا بعد مقتل والده بثلاثة أيام، ومن مدينة باجل تحديدًا.

2-  قيل بأنَّ هذا الزامل من كلمات الشيخ ناجي بن علي الغادر، وقيل أنَّه من إنشاء بعض أنصار الأمير الحسن ليوقعوا بالشيخ حميد الأحمر، ويوغروا صدر الإمام أحمد عليه.

3- سبق للشيخ حميد الأحمر أنْ تَعرض للاحتجاز في مدينة حجة كرهينة، وهو لم يتجاوز مرحلة الطفولة بعد، ومع مُرور الوقت تعرف هناك على عدد من الأحرار الأوائل، كان الأستاذ أحمد محمد نعمان وولده محمد أبرزهم، وقد وصفه الأخير فيما بعد بداعية الجمهورية اليمنية، فيما عده الأول حينها واحدًا من أولاده، وعمل على تعليمه أبجديات العلم والعمل الوطني، وإقناعه بالنضال من أجل القضية، وتقرب منة أكثر بأنْ عرض عليه تزويجه من إحدى قريباته، إلا أنَّ الشاب الثائر اعتذر بأدب، لأنَّه كان – كما أفاد العميد محمد علي الأكوع – شديد الغرام بالتوجه الوطني، والانشغال بتحرير الوطن من القداسة الوثنية البشرية، والظلم والتعالي والتخلف، وقد بقي حتى استشهاده كالرمح المشرع في نحر الطغيان، بعيدًا عن الترهل البدني، وخور العزيمة، ووهن الطموح.كان التوجه حينها أنْ يكون أحد المشايخ المُستنيرين رئيسًا للجمهورية الوليدة، وينوبه أحد الأحرار، وقد نقل لنا الأستاذ محمد أحمد نعمان جانبًا من أراء الأحرار الأوائل حول هذه الجزئية، في كتابه (من وراء الأسوار)، أسوار سجن نافع في حجة، حيث قال المناضل محمد أحمد السياغي أنَّ النظام الجمهوري يُعد من أفضل أنواع الحكم، حيث يُباشر الشعب الحكم فيه بنفسه.فيما رأى المُناضل عبدالرحمن الإرياني بنبرة يائسة أنَّ حركة الأحرار لا يمكن أنْ تنجح في المناطق الشمالية إلا على أساس حطم صنمًا وانصب صنمًا آخر، من نوع الأصنام التي ألفوا عبادتها، ودعا إلى أنْ يركز الاحرار جهودهم في العمل على اتخاذ المناطق الأخرى مَركزًا لحركتهم ودولتهم الجديدة، ولا ضير أنْ يتولى قيادتها مناضل زيدي – قحطاني.شاركهما الرأي المُناضل محمد عبدالله الفسيل الذي ختم مُداخلته بالقول: «فإذا تكونت حكومة الأحرار وأصبحت حقيقة واقعية في المنطقة الشافعية أمكن اكتساح المنطقة الزيدية، وإعادة اليمن إلى وحدتها».وما دعوة الاتحاد اليمني – كيان الأحرار الثالث – لإقامة نظام جمهوري فيما بعد (أكتوبر 1957م)؛ إلا امتداد لهذا التوجه المُتدرج، وقد رشح معظم قادة وأعضاء ذلك الاتحاد الشيخ حميد الأحمر أنْ يكون أول رئيس للجمهورية الوليدة، حسب وثائق للأستاذ الشهيد محمد أحمد نعمان، قال العميد محمد الأكوع أنَّه اطلع عليها.وتأكيدًا لهذا القول قال المُناضل محمد الفسيل في إحدى شهاداته المُتأخرة: «وأذكر أنَّ الأخ محمد أحمد نعمان كان يُفكر في ترتيب الوضع الجمهوري، وكان يَرى أنْ يكون حسين بن ناصر الأحمر أو حميد بن حسين الأحمر رئيسًا للجمهورية، على أساس أنْ يكون نائب رئيس الجمهورية عالمًا دينيًا مُستنيرًا، وأنْ يكون رئيس الوزراء أحد المُثقفين ثقافة عصرية».

4- هناك من قال أنَّ الملك سعود عمل أثناء زيارته لصنعاء يوليو 1954م على التوسط لحل الخلاف الدائرا على ولاية العهد، وأنَّه أخفق حينها في ذلك، وأعلن حياده، ثم عاد وشجع الأمير محمد البدر سرًا، واعدًا والده بتأييده ودعمه عند اللزوم.

5**–**  مثلًا: نَشرت صحيفة (النصر) في عددها الصادرة يوم 28 يوليو 1955م تقريرًا مُطولًا عن حضور الأمير محمد البدر إحدى الفعاليات، عنوانه: (حفل تكريم لولي العهد المُعظم)؛ وفي عددها الصادر يوم 1 فبراير 1956م نشرت خبرًا مطولًا عنوانه: (ولي العهد المعظم يزور المستشفي الملكي بصنعاء)، وفي عددها الصادر يوم 2 مارس 1956م نشرت خبرًا قصيرًا عنوانه: (ولي العهد المُعظم يتفقد الأعمال بوزارة الصحة). والأكثر أهمية أنَّ تلك الصحيفة أطلقت على الأمير محمد البدر لقبه الإمامي الذي حكم به فيما بعد (المنصور بالله)، وجاء في أحد أخبارها ما نصه: «تجمهرت الناس في مدينة تعز مُعلنة أفراحها، زاهية ببشرها ومرحها، بقدوم ولي عهدها المحبوب، وزعيمها الكريم، سيف الإسلام وبدره، المنصور بالله محمد بن أمير المؤمنين الناصر لدين الله».وما يجدر ذكره أنَّ تلك الصحيفة نشرت في عددها الصادر يوم 17 أبريل 1955م، خبرًا أقر مضمونه بولاية العهد للأمير محمد البدر، ومنه نقتطف: «في 16 من الشهر الجاري – أي شعبان 1374 / 9 أبريل 1955م – صدر تصريح ملكي شريف من جلالة مولانا أمير المؤمنين الناصر للدين.. يقضي بإسناد ولاية العهد للعرش اليمني إلى حضرة صاحب السمو الملكي الأمير سيف الإسلام البدر محمد..». ويبدو أنَّ ذلك التصريح الذي صدر بعد مرور أربعة أيام من إخماد حركة 1955م لم يكن سوى ردة فعل آنية من قبل الإمام أحمد؛ بدليل أنَّ الأخير لم يقر ولاية العهد رسميًا إلا بعد مرور ست سنوات، وبعد فشل محاولة اغتيالة في مستشفى الحديدة تحديدًا.

6- خاطبت تلك المنشورات جميع فئات الشعب، وجاء في إحدى منشوراتها العامة ما نصه: «أيها الشعب اليمني: بأي وسيلة حاول الطغاة والمُستبدون أنْ يبذروا روح التفرقة والعداء، فهم يقولون تارة شافعي وزيدي، وتارة أخرى قحطاني وعدناني، ويخلقون لهذه الكلمات المعاني السيئة، ويبذرون في قلوبكم الأحقاد، ليشغلونكم عنهم.. وقد قصدوا من ورائها أنْ يَعبثوا بأموالكم وحُقوقكم، وأنتم لاهون عنهم.. فاجمعوا أمركم، واتحدوا لمُقاومة كل مُستبد.. فقد أهلكتكم الآفات، فأنتم فُقراء لا مال لكم، ومَرضى لا علاج لكم، وجهال لا مدارس أو معلمين إلا مَا يخدعونكم به». وجاء في المنشور الخاص بالجيش ما نصه: «إنَّ الجيوش تُحترم، فهي عماد البلاد، والساهر على حمايتها. هل تعلم أنَّه لا يوجد عسكري في العالم يتنفذ على قبيلي؛ لأنَّ هذه إهانة، فهو الذي يحمي القبيلي، لا الذي يخرب بيته.. لا أيها الإخوة، إنكم تأكلون وتختنقون بكدمة يابسة مملوءة بالحَشرات.. وتنامون على الحصير، والسبب أنَّ الحكام يحتقرونكم.. فهل تطمع أيها الجيش أنْ تعمل لكرامتك، وتأخذ العبرة والمثل من إخوانك الأبطال، عبدالناصر وإخوانه، أيها الجيش: ينعقد عليك الأمل، وننتظر اليوم الذي تخرج فيه حاملًا مشعل الحرية والسعادة لأمتك وبلادك».

7- تعددت الروايات الناقلة لتفاصيل تأسيس تنظيم الضباط الأحرار، وقد كانت رواية العميد صالح علي الأشول – أحد قادة ذلك التنظيم الفاعلين – الأكثر وضوحًا وإلمامًا، وقد عقدت الاجتماعات التمهيدية – حد قوله – في منزل الأستاذ عبدالوهاب ناصر جحاف – بداية ديسمبر 1961م، حضرها الملازم صالح الأشول، والملازم عبدالله محسن المُؤيد، والملازم علي بن علي الجائفي، والملازم علي محمد الشامي، والملازم هاشم صدقة، والملازم محمد مُطهر زيد، والملازم يحيى ناصر جحاف، والملازم حسين شرف الكبسي، والملازم صالح العريض. وأضاف أنَّه في العاشر من ذات الشهر عقد أولئك الضباط اجتماعهم التأسيسي المُوسع في منزل الملازم عبدالله المؤيد، وأنَّه استدعي لذلك الاجتماع ضباطًا آخرين لهم نفس التوجه، وهم: الملازم عبدالكريم السكري، والملازم أحمد الرحومي، والملازم ناجي علي الأشول، والملازم حسين الغفاري، والملازم محمد هاشم مرغم، والملازم محمد حميد، والملازم عبدالوهاب الشامي، والملازم حمود محمد بيدر، والملازم يحيى جحاف، والملازم محمد الحمزي. وأكد أنَّه تم استدعاء النقيب عبداللطيف ضيف الله، والنقيب حسين السكري، والملازم علي قاسم المُؤيد إلى ذلك الاجتماع، إلا أنَّ الظروف حالت دون حضورهم، وأنَّ الملازم علي عبدالمغني، والملازم محمد مطهر زيد كانا في مدينة تعز، وأنَّ الحاضرين اعتبروهما عضوين في قاعدة التنظيم التأسيسية.

وأضاف أنَّ اللجنة القيادية الأولى انتخبت فور التأسيس، وباقتراع سري، وتشكلت من: الملازم صالح الأشول، والملازم أحمد الرحومي، والملازم علي الجائفي، والملازم حمود بيدر، والملازم ناجي الأشول، وعقدت أثناء دورتها اجتماعين مُغلقين، وثلاثة اجتماعات عامة بحضور القاعدة التأسيسية، دارت معظمها في منزل الملازم محمد الرحومي، وأنَّها أقرت في الاجتماع الأخير الصيغة النهائية لأهداف الثورة 1 فبراير 1962م. وأردف أنَّه وقبل أنْ ينتصف الشهر التالي اجتمعت القاعدة التأسيسية للمرة الخامسة 11 مارس 1962م، وانتخبت قيادة جديدة، وهم: النقيب عبداللطيف ضيف الله مدير مدرسة الإشارة، والملازم علي عبدالمغني، والملازم أحمد الرحومي، والملازم صالح الأشول، والملازم ناجي الأشول، وتم اختيار الملازم محمد مطهر زيد سكرتيرًا للجنة.

وقال أنَّه في 8 يونيو 1962م تشكلت اللجنة القيادية للمرة الثالثة من الأعضاء أنفسهم، باستثناء ناجي الأشول، فقد صعد بدلًا عنه الملازم حمود بيدر، وأنَّ اللجنة أقرت أنْ يكون الملازم ناجي الأشول أمينًا للسر، إلى جانب كونه مسؤولًا ماليًا. وأضاف أنَّه في 4 سبتمبر من ذات العام انتخبت اللجنة القيادية كلًا من: علي عبدالمغني، والنقيب عبداللطيف ضيف الله، والملازم أحمد الرحومي، والملازم صالح الأشول، والملازم محمد مطهر زيد، وتم توسيع اللجنة القيادية من خمسة إلى سبعة أعضاء، وأنَّه أضيف إليهم الملازم ناجي الأشول أمينًا للسر، وأنَّ هذه القيادة كانت هي أعلى قيادة في تنظيم الضباط الأحرار حتى عشية قيام ثورة 26 سبتمبر.

وخلص العميد الأشول إلى القول أنَّ نشاط الضباط الأحرار التنظيمي تركز في صنعاء، وتعز، والحديدة، وأنَّه في صنعاء كان هناك الضباط السابق ذكر أسماؤهم. وفي تعز كان هناك الملازم سعد علي الأشول، والملازم عبدالله عبدالسلام صبرة، والملازم محمد حاتم الخاوي، والملازم أحمد الكبسي، والملازم علي محمد الضبعي، والملازم أحمد علي الوشلي، والملازم عبدالخالق القاسمي، والملازم يحيى الشامي، والملازم أحمد الحوثي، والملازم يحيى غوث الدين. وفي الحديدة كان هناك النقيب محمد الرعيني، والملازم محمد الطشي، والملازم عبدالوهاب الشامي، والملازم حسين الغفاري، والملازم عتيق الحدا، والملازم عبدالكريم السكري، والملازم محمد المطري، والملازم محمد سعد عبدالمغني، والملازم يوسف الشحاري، والملازم عبدالكريم وحيش.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى