آثار

من البيضاء إلى العواذل: بُطولاتٌ ومَلاحم (2-2)

لا هم أنا الشامي

لم يكن سقوط بلاد المشرق (البيضاء وما جاورها) بيد القوات الإمامية سَهلًا، ولم يكن مُكوث تلك القوات الغاشمة في تلك المناطق الثائرة سهلًا أيضًا؛ خاصة بعد أنْ كثر تعدي تلك القوات على المواطنين وأملاكهم؛ الأمر الذي جعل عددًا ممن ساندوها وأذعنوا لها يعضون أصابع الندم، ويستعدون للتمرد والثورة، وقد تولى الشيخ علي عبدالرب الحميقاني قيادة غالبية المجاميع القبلية الثائرة، وتوجه بها لمـُحاصرة القوات الإمامية في مدينة البيضاء فبراير 1924م.

ما أنْ شعر الأمير عبدالله الوزير بالهلاك، حتى سارع بطلب النجدة من الإمام يحيى، وبالفعل توجهت مطلع الشهر التالي قوات إمامية من ذمار، ويريم، وإب، والحدا لإنقاذه، تحت قيادة عامل الأخيرة محمد بن علي الشامي، وعن هذه الحملة قال أحد الشعراء (قيل أنَّه الشيخ صالح بن هادي الظُّفري، وقيل أنَّه الشاعر جحاف) الموالين للإمامة:

يــــا درب ذي نــاعم ويـا حيد امْسما

بــاتْخبَّرش كم جــــت من امْقِبلة زيود

سبعــه وسبــــعـيـن ألف ذي عدَّيـت نا

مـن عسكر امْشـــــامي توطَّي يالحيود

فما كان من الشيخ علي الحميقاني إلا أنْ رد عليه قائلًا:

لا هـــــم أنـا الشامي ولا احسب عسكره

وعـــادني بـــــاسي مــــن ام زيــــدي جلــود

بــــــدحــــــق بهــــــا بــــــالشــــوك ولا بـــــالــــرثى

لا مـــــا يـــــبان اللحـــم مــن بيــن اللحــود

والرثي المذكور في الشعر هي الأرض المبتلة، وحسب الذاكرة الشفهية أنَّ القبائل المجاورة لم تفِ بالتزاماتها تجاه القبائل المقاومة، وأنَّ قِوى بعض أفراد قبائل البيضاء خارت بِمُجرد سماعها بأخبار تلك الحملة، وسارع مشايخها بعقد تحالفات سرية مع الأمير المحاصِر عبدالله الوزير؛ وهو الأمر الذي أربك المشهد، ومهد لفك الحصار عن ذلك القائد الإمامي.

صحيح أنَّ الشيخ علي الحميقاني ومجاميع من قبيلته، ومعهم أفراد من قبيلة دبان، وآل وهاش، وآل عزان، وآل مظفر السفلان في القاع، قد تصدوا جميعًا لتلك الحملة، إلا أنَّ صمودهم لم يستمر طويلًا، فالقوات الإمامية تحت قيادة العامل محمد الشامي تمكنت من فك الحصار عن الأمير عبدالله الوزير، وذلك بعد مَعارك كثيرة سقط فيها كثير من القتلى من الجانبين.

وهكذا، وبعد ثلاثة أيام من القتال الشديد، انسحب آل حميقان ومن ساندهم إلى الزاهر، واتخذوا من حُصون وجبال ممدود والعادية مَقرًا جديدًا لهم، لتشهد الأخيرة آخر مَعاركهم مع القوات الإمامية، وتمكنوا من قتل العشرات، وصلبوهم – كما أفادت الذاكرة الشفهية – على جدران الحصون، وجذوع الأشجار، وخسروا الشيخ صالح محمد طاهر الحميقاني أحد أبرز قادتهم.

لم يستقر للقوات الإمامية في منطقة البيضاء قرار؛ بدليل أنَّ الإمام يحيى بعث في 16 مايو 1924م رسالة لأبنائها، ذَكَّرهم فيها بالأحداث السابقة، بصورة تُوحي أنَّه جاء مُنقذًا لا غازيًا، وأنَّ قواته توجهت إلى تلك الجهة لإصلاحها، وإيقاف الحرب الدائرة بين آل الرصاص، وآل الحميقان، وحقن الدماء المسفوكة في غير مرضاة رب العالمين!

وعن انتفاضة أبناء البيضاء الأخيرة، قال الإمام يحيى مُتحاملًا: «فلما حصل ذلك البغي والغدر والعدوان، ونقض العهود والعقود، واتباع الشيطان، والإحاطة بالولد عبدالله الوزير ومن معه؛ عظم لدينا الأمر، وجل استنكاره، ولم يسعنا غير إرسال بعض الجند المنصور، وكان ما كان مما جنته أيدي الغرور، وساءنا كل ما كان من سفك الدماء، وذهاب الأموال».

لم يفِ الإمام يحيى بوعده بتعيين السلطان حسين الرصاص عاملًا على قضاء البيضاء؛ بل عين – كما سبق أنْ ذكرنا – عبدالله إسحاق بدلًا عنه، وهو أمرٌ كان له ما بعده، ترك الأمير عبدالله الوزير أمر القضاء للعامل الجديد، وعاد لـمقر عمله في مدينة ذمار 29 يونيو 1924م، وكان العامل محمد بن علي الشامي قد سبقه بالعودة بعدة أيام، إلى مقر عمله في ناحية الـحدا، وقد كان للأخير عودة أخرى إلى مدينة البيضاء، وذلك لإنقاذ العامل ابن إسحاق من تمرد عاصف – سنأتي على تناوله – كاد أنْ يطوي صفحته وللأبد.

صادر الأمير عبدالله الوزير قبل مغادرته البيضاء نحو خمسين ألف طلقة رصاص، كانت كما أفاد المؤرخ زبارة بـ «أيدي مشايخ المشرق من النصارى»! واصطحب معه إلى ذمار نحو سبعين رهينة، كان الشيخ عبدالقوي الحميقاني وابن أخيه أبرزهم، وهما – كما أفاد ذات المؤرخ – من أبرز من تصدوا للقوات الإمامية على الرغم من الخلاف الدائر بينهما.

أما الشيخ علي عبدالرب الحميقاني من وصفه المؤرخ زبارة بـ (صاحب بلاد البيضاء)، فإنَّه وبعد أنْ دارت الدائرة عليه، يمم خطاه صوب صنعاء 3 سبتمبر 1924م، ومعه الشيخ الرماح، والشيخ العزاني، وهناك التقى الإمام يحيى، وعن طبيعة تلك الزيارة قال المؤرخ زبارة: أنَّها كانت «للمُراجعة فيما به الصلاح التام لبلادهم بعد المعارك العظيمة التي كانت في العام الماضي – يقصد عام 1342هـ – فيما بينهم وبين جند الإمام».

وفي موضوع مُتصل، هناك من قال أنَّ الاتفاق بين السلطان حسين الرصاص والإمام يحيى – سبق أنْ تحدثنا عنه – قضى بأنْ يسحب الأخير قواته فور هزيمة الشيخ علي الحميقاني، وهو مالم يكن، عاثت القوات الإمامية في البيضاء فسادًا؛ الأمر الذي حفز السلطان الرصاص على تصدر المشهد مرة أخرى، خاصة وأنَّ قبائل البيضاء تعاضدت معه هذه المرة، وذلك بعد أنْ أنكرت عليه فعلته السابقة، ويُؤكد ذلك قوله:

يـــــا قلــعــة ام بــــيـضاء ســـــلامــي

جبـــــنــا ام مـــــرادي لـــــــبـنِ مــــــره

مـــن بعــد خي صالح بن أحمد

مــــــــا جــــــرت الـــــدنــــيــــا تـــجـــــره

والمرادي المذكور في الشعر هو الشيخ ناصر القردعي، وقد كانت تلك الحرب آخر الحروب التي خاضها هذا الشيخ المسن، وقيل أنَّه أصيب أثناء عودته إلى قبيلته (مراد) بحمى شديدة، وتوفي قبل أن يصل إلى الأخيرة في إحدى مناطق البيضاء، ليتولى ولده علي – أحد أبطال الجولة التالية – قيادة القبيلة من بعده.

وهكذا، تجددت الحرب بين قبائل البيضاء بقيادة السلطان حسين الرصاص، وبين القوات الإمامية بقيادة عبدالله إسحاق، فالتجأ العامل بعد أنْ تم طرده من مدينة البيضاء إلى الشيخ علي عبدالرب الحميقاني، واشترط الأخير عليه تقسيم الخراج بين قبيلته ودولة الإمامة.

صحيح أنَّ الشيخ علي الحميقاني ساعد العامل عبدالله إسحاق في السيطرة على مدينة البيضاء، إلا أنَّه – أي الحميقاني – كان – كما أفادت الذاكرة الشفهية – حاكم البيضاء الفعلي، وهو الوضع الذي لم يستمر طويلًا، فقد أراد ابن إسحاق الزواج من إحدى بنات الشيخ الرماح عنوة، الأمر الذي دفع الأخير إلى الالتجاء بالشيخ الحميقاني؛ فتجددت الحرب.

ثارت ثائرة الشيخ علي الحميقاني، وقام – كما أفادت الذاكرة الشفهية – بطرد العامل عبدالله إسحاق من مدينة البيضاء، فما كان من الإمام يحيى إلا أنْ أرسل حملة عسكرية تحت قيادة عامل الحدا محمد الشامي، وقد نجح الأخير بالقبض على الشيخ الحميقاني، وإرساله إلى صنعاء، وفي سجن القلعة تعرف على الشيخ علي بن ناصر القردعي، وهو أمرٌ كان له ما بعده.

لم يدم ارتباط البيضاء بلواء ذمار طويلًا، فقد قام الإمام يحيى بفصلها عن ذلك اللواء، وجعلها قضاءً مُستقلًا مُرتبطًا بالعاصمة صنعاء، وقد أورد المؤرخ علي محمد عبده سببًا لذلك الفصل، مَفاده أنَّ أمير اللواء عبدالله الوزير طلب من الإمام يحيى مبلغ 2,000 ريـال فرنصي كروتب للجيش المرابط في تلك المنطقة، وأنَّ الأخير أجابه بقوله: «إذا كانت وارداتها لا تفي بمصاريفها فلتلحق بأخواتها»، أي فلتعود للمحميات الجنوبية!

وأضاف المؤرخ علي محمد عبده أنَّ الإمام يحيى استدعى بعد ذلك عاملها عبدالله إسحاق، وسأله: هل بمقدوره الانفاق على قواته منها في حال تم فصلها عن لواء ذمار، فأجابه بالإيجاب، فتم ذلك الفصل، وما هي إلا سنوات معدودة حتى جعل منها – أي الإمام يحيى – لواءً مستقلًا بعد أنْ ضم إليها قضاء رداع بناحيتيه (جُبن، والسوادية).

guardiansofthepeacesana e1658766187444 من البيضاء إلى العواذل: بُطولاتٌ ومَلاحم (2-2)

انتفاضة الدباغ

قبل أنْ أختم هذه التناولة، وجب التذكير أنَّ البيضاء تَاريخيًا وجُغرافيًا مُرتبطة بيافع، وسبق أنْ تَحدثنا في كتاب (المتاهة.. الحلقات المفقودة للإمامة الزيدية في اليمن) عن ذلك الارتباط الكبير وبإسهاب، وما انتفاضة الطامح حسين بن عبدالله الدباغ في مَطلع أربعينيات القرن الفائت، التي شهدت فصولها تلك الأرض الصامدة إلا امتدادًا لذلك الارتباط والترابط الوثيق.

ينتمى قائد تلك الانتفاضة إلى أسرة الدباغ، وهي أسرة علوية مكية حجازية مشهورة، كانت مُناصرة لحكم الشريف حسين بن علي، وبسقوط دولة الأخير على يد قوات الملك عبدالعزيز آل سعود منتصف عشرينيات القرن الفائت، تحول مُعظم أفراد تلك الأسرة لمناهضة الحكم الجديد، إلا أنَّ الملك السعودي استطاع بدهائه أنْ يحتويهم، ويستفيد من قُدراتهم في خدمة دولته.

حوت تلك الأسرة طامحين كُثر، كان حسين الدباغ أشهرهم، تنقل بعد أنْ انهارت دولة أشراف مكة ما بين مصر، والهند، والعراق، وإندونيسيا، ثم يمم خطاه صوب صبيا، مُحاولًا إقناع حاكمها الأمير الحسن بن علي الإدريسي بالثورة على من أسقطوا تلك الدولة، وحين لم يجد منه تجاوبًا توجه صوب صنعاء، مُعتقدًا أنَّه سيجد عند الإمام يحيى بغيته، إلا أنَّ الأخير خيب أمله، وقام بِطرده استجابة لطلب نظيره الملك السعودي، وكانت حضرموت تبعًا لذلك وجهته التالية.

قال المؤرخ صالح البكري عنه أنَّه كان على جانب كبير من الدهاء، وقوة الشخصية، وفَصاحة اللسان، وأفاد أنَّه وأثناء مُكوثه في مدينة المكلا أنشأ مدرسة الفلاح، التي اعتبرت حينها الأولى من نوعها، وحين لم يجد هناك ما يرضي تَطلعاته؛ يمم خطاه صوب لحج، ثم عدن، وفي الأخيرة أنشأ مدرسة ثانية، أطلق عليها تسمية (مدرسة النجاح).

ركز الطامح حسين الدباغ في هذه المدرسة جهوده على إعطاء الطلاب جرعة كافية من التربية العسكرية، من خلال إدخال فرق الكشافة، وتدريب الطلبة على السير والاصطفاف بالطريقة العسكرية، وهم يرددون – كما أفاد المؤرخ سلطان ناجي – نشيد حماسي فيه تمجيد له، ومن ذلك النشيد نقتطف:

كــــــلنـــــا لــلــــــوطــن

لــلعــــــلا لــلــــعــــــــلـــم

شيخنـــا هو الفتى

عند صوت الوطن

أصــــــلـــــه جنـــســـــه

من بـــــــلاد العـــرب

صـــــــانــــــهــــا ربـــــــها

من جميـع الكرب

قام الطامح حسين الدباغ – بعد أو قبل ذلك – بزيارة مدينة تعز 1935م، وهناك التقى كما أفاد المؤرخ أحمد الوزير بأمير اللواء علي بن عبدالله الوزير، وذلك في مقر إقامته في دار النصر، وعنه قال ذات المؤرخ أنَّه كان يناوئ حكم الإمام يحيى، ويزور العلماء لهذا الغرض، وأضاف مُشيدًا: «وكان رجلًا طويل القامة، أسمر اللون، له مَهابة تظهر عليه الفحولة، وكمال الرجولة، وقد اجتمع بالأمير – يقصد عمه أمير تعز – عدة اجتماعات على انفراد».

صحيح أنَّ المؤرخ أحمد الوزير لم يفصح عما جرى في تلك الاجتماعات، إلا أنَّه أكد علم واستياء الإمام يحيى بها ومنها، وقَدَّم خلاصتها بقوله: «وقد سمعت الأمير في عدة جلسات يقول: إن مطالب الدباغ عادلة ولازمة، وأنَّه يُؤيدها»، ثم عاد فاستدرك: «ولا أدري هل عرض الدباغ على الأمير أنَّه سيقوم بثورة على الإمام أم لا؟ إلا أنني أؤكد أنَّ الأمير كان راضيًا عن كل تحركاته».

وما يجدر ذكره أنَّ علي الوزير كانت له حينها طموحات في إقامة دولة مستقلة في لواء تعز، وقد فضحت وثائق بريطانية استعداداته تلك، وكشفت أنَّه صارحهم أواخر عام 1934م برغبته بتدريب وتسليح 1,000 رجل صومالي ليكونوا تحت إمرته، وذلك عند حلول اللحظة المنتظرة، إلا أنَّ الإنجليز الباحثين حينها عن رضا الإمام يحيى، والموقعين مع الأخير – في ذات العام – اتفاقية صداقة، رفضوا مُقترحه وبشدة، ومن يدري ربما كان توجه الطامح حسين الدباغ إلى تعز، بطلبٍ منه، وإشباعًا لتلك التطلعات.

بدأت بتوجه حسين الدباغ صوب جبال يافع السفلى طموحاته تتبدى 11 سبتمبر 1938م، قابله أبناؤها بحفاوة بَالغة، وكانت إقامته تبعًا لذلك في بلاد المفلحي، وتحديدًا في منطقة صنفرة، وأنشأ فيها مدرسة ثالثة، أطلق عليها تسمية (مدرسة الفلاح)، وانضم إليه – كما أفاد المؤرخ صلاح البكري – عدد كبير من أبناء مشايخ يافع وكبرائها، وجاءته الوفود من القبائل المجاورة، ومن منطقة الشعر في لواء إب قدم إليه الشيخ صالح مُرشد المقالح (والد الشاعر عبدالعزيز المقالح) مؤيدًا ونصيرًا، ووصلته دعوة من بعض مشايخ البيضاء، وهي الدعوة التي كان لها ما بعدها.

تلبية لتلك الدعوة، توجه الطامح حسين الدباغ وبصحبته 300 مُسلح بَعضهم من طلابه صوب البيضاء 18 سبتمبر 1940م، وسيطر على قرية الجديد وما حولها من قرى، وما أنْ علم الإمام يحيى بتحركاته تلك؛ حتى أرسل إلى تلك الجهة بـ 8,000 مُقاتل، مزودين بالرشاشات والمدافع، تحت قيادة عبدالله الضمين، وحين لم تتمكن تلك القوات من القضاء عليه، راسل الإمام الإنجليز طالبًا مُساندتهم، وخلص المؤرخ سلطان ناجي ناقل تفاصيل هذه الجزئية إلى القول: «فتعاونت السلطتان، وقضتا عليه، وقد سلب أصحابه الرايات والطبول».

وأكمل المؤرخ سلطان ناجي ذلك المشهد بقوله: «وبعد إخماد حركة الدباغ استولى الجيش الإمامي على بعض الأراضي المحمية؛ فقامت حكومة عدن بإرسال بعض طائراتها.. فخيم عليهم الهلع، وانسحبوا تاركين وراءهم جميع الذخائر والمعدات الحربية.. وتنازل الإمام للإنجليز عن بعض الأراضي نتيجة تلك الحادثة».

أما المؤرخ صلاح البكري فقد أفاد هو الآخر أنَّ الطامح حسين الدباغ انسحب فور علمه بقدوم القوات الإمامية إلى بلدة حمرة اليافعية، وأنَّ أنصاره تضاعفوا إلى الـ 2,000 مُقاتل، وأنَّ تلك البلدة شهدت معركة شرسة، استمرت لثلاثة أيام، كانت خسائر الطرفين فيها فادحة.

أمام تلك الانتكاسة توجه الطامح حسين الدباغ صوب جبال ردفان، مُلتجئًا – كما أفاد المؤرخ الردفاني سالم راشد ذيبان – بمشايخ آل قطيب، الذين عقدوا فور مقدمه اجتماعًا طارئًا في منطقة الثمير، وحين اقتربت قوة من القاعدة العسكرية في الحبيلين للقبض عليه، طمأنه الشيخ صالح صائل الوحّدي أنهم لن يسلمونه إلا على جثثهم، ثم صعد به إلى معقله في جبال وحّدة الوعرة.

دفع الشيخ صالح صائل وعشيرته ثمن مناصرتهم لحسين الدباغ كثيرًا، فقد تعرضت منطقتهم – كما أفاد الباحث حافظ قاسم صالح – للقصف والحصار المتواصل، ولمدة ستة أشهر، وبالأخص بعد اعتراضهم لإحدى القوافل العسكرية أكتوبر 1940م، وقتلهم لضابطين بريطانيين، وأتبعوا ذلك بتهريب الطامح الدباغ إلى حضرموت، وهناك ألقى الإنجليز القبض عليه، وسلموه لآل سعود، وفي جيزان كانت وفاته 1942م، فيما كان مصير رفيقه الشيخ صالح المقالح الحبس في سجون الإمام يحيى لأكثر من 12 عامًا، وعلى مرحلتين مُنفصلين.

وبالعودة إلى موضوعنا، وبعد مرور 19 سنة من انتفاضة حسين الدباغ السابق ذكرها، شهدت عدد من المناطق اليمنية انتفاضات عسكرية وقبلية مُناهضة لحكم الإمام أحمد حميد الدين، وكانت البيضاء واحدة من تلك المناطق، حيث خرج جنود حاميتها عن طاعة حاكم اللواء مايو 1959م؛ بسبب عجز الأخير عن دفع مُرتباتهم، وقاموا بإطلاق النار على مَباني الحكومة، وأشاعوا الفوضى في المدينة الصغيرة؛ الأمر الذي جعل الأمير محمد البدر يتدخل، ويُسارع باعتقال ذلك النائب، ويرسل للجنود المتمردين مَبلغًا من المال، كحل مُؤقت، وكذلك فعل بعض أبنائها احتجاجًا على الجبايات التعسفية التي أثقلت كاهلهم.

ولم تكاد تمر ثلاثة أعوام على تلك التحركات، حتى قامت ثورة 26 سبتمبر 1962م المجيدة، وهبَّ أبناء محافظة البيضاء كغيرهم للدفاع عنها، وتجسدت أدوارهم البطولية المائزة في معارك فك الحصار عن صنعاء فبراير 1968م، تحت قيادة الشيخ أحمد عبدربه العواضي، أحد أبرز وأشهر قادة تلك الملحمة الخالدة، وللقصة بقية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى