أشتات

أبعاد ودلالات ثورة الـ 26 من سبتمبر

قبل قيام دولة بيت حميد الدين كان اليمن الشمالي تحت حكم الدولة العثمانية، والدولة العثمانية حكمت اليمن فترتين، الأولى امتدت ما بين 1539م و1634م، وأما الثانية؛ فكانت من 1849م إلى 1918م، وبينما كان الشمال تحت حكم الدولة العثمانية في الفترة الثانية، كان يقبع جنوب الوطن تحت الاحتلال الإنجليزي.

تعايش اليمنيون مع الدولة العثمانية باعتبارها الدولة الإسلامية الحاكمة لمعظم العالم الإسلامي فترة ستة قرون، والتي شيدت بنى تحتية ومشاريع كبيرة في اليمن.

في مطلع القرن التاسع عشر لم يكن هناك من حركات تمرد ومشاغبة ضد الدولة العثمانية في اليمن سوى هوس أدعياء الحق الإلهي، والذي تصدر مشهده هذه المرة يحيى حميد الدين، الذي بدأ يدعو لنفسه عام ١٩٠٤م، وربما كان ذلك بإيعاز من جهات خارجية؛ بغية زيادة التشويش والإرباك للدولة العثمانية التي يمكر بها الأعداء من كل اتجاه، وتمر بلحظات حرجة في تاريخها، ولم يكن ذلك هو رأي أغلب أهل اليمن؛ بدليل أن اليمن ظلت تخضع للدولة العثمانية حتى سنة ١٩١٨ وأن اليمن كانت آخر ولاية عثمانية بقيت تحت السيادة العثمانية وآخر ولاية انسحب منها الجيش العثماني نهاية ١٩١٨ وبداية ١٩١٩م.

استمرت مشاغبات يحيى حميد الدين حتى عام ١٩١١م حيث رأت الدولة العثمانية التي تواجه مخاطر كبرى أن تمنحه صلاحية دينية على مناطق ما يسمى بالزيدية، في بعض محافظات الشمال، وجرى اتفاق دعان (نسبة إلى قرية دعّان بعمران) في 9 أكتوبر 1911م، وبموجب الاتفاق حصل يحيى حميد الدين على مبلغ سنوي عشرين ألف ليرة عثمانية، على أن يخضع لسلطان الدولة العثمانية ويتخلى عن ادعائه بأنه (أمير المؤمنين) ويتوقف عن جمع الأموال والجبايات من الناس كما هي عادتهم في جبابة الأموال واختلاسها.

ظل يحيى حميد الدين مواليا للدولة العثمانية؛ كونها منحته حكما ذاتيا لبعض المناطق اليمنية وتحقق حلمه المزعوم بالإمامة ولو على فتات سلطة.

في العام 1914م اندلعت الحرب العالمية الأولى وكانت الدولة العثمانية أحد أطراف هذه الحرب؛ وقد خرجت منها منهزمة؛ فاستغل يحيى حميد الدين هذا الوضع لتزداد الهجمات على الحاميات والجنود العثمانيين ونهبهم في مناطق مختلفة من اليمن، وكان العثمانيون مضطرين للانسحاب على كل حال فقد تفككت الدولة العثمانية وبات انسحاب من تبقى من الأتراك واجب الساعة.

بانسحاب القوات العثمانية أعلن يحيى حميد الدين قيام المملكة المتوكلية اليمنية عام 1918م.

خرج العثمانيون وكان في اليمن خمس كليات صناعية تتبع الجامعة الصناعية بصنعاء (المتحف الحربي حالياً)، حولها الإمام يحيى إلى سجن عرف بسجن (الصنائع).

وفيها الكليات العليا للمعلمين لتخريج كبار المعلمين، ومنها دار المعلمين العليا بصنعاء، هدمها بحجة أنها كانت تدرس الفقه السني، كما ذكر ذلك البردوني في مجلة الإكليل عام 1983م.

وفيها كليات عليا للإداريين والمحاسبين، وكلية البنات في ميدان التحرير، والكليات الشرعية (في أماكن ومدن مختلفة) والكليات الحربية، أغلقت جميعها في عهد يحيى حميد الدين.

كان مبنى دار السعادة (المتحف الوطني بصنعاء) مكانا لتصنيع الدواء وتأهيل الأطباء والصيادلة المتخصصين وتوزيع الأدوية مجانا، فحوله الإمام يحيى إلى إسطبلات للخيول ومخازن لأعلاف الخيول والبقر.

كان في اليمن الصحف منذ  العام 1872م منها صحيفة (اليمن) وصحيفة صنعاء الصادرة عام 1876م وقد استمرت تلك الصحف في الصدور إلى حين تولى الإمام يحيى الحكم عام 1918م فأمر بإغلاقها وتوقيفها كغيرها من مجالات النهضة الأخرى.

وغيرها من مقومات بناء الدولة التي لا يتسع المقام لذكرها، فجاء يحيى حميد الدين ودمرها تماما.

يتساءل الأكاديمي اليمني زيد علي الفضيل في هذا السياق بقوله: بينما خلق الملك عبدالعزيز دولة من العدم! تسلم الإمام يحيى دولة جاهزة من العثمانيين، ورغم تهيئة الظروف له بعد الاستقلال لم ينشئ دولة كما فعل أقرانه في بلدان عربية أخرى!!!

والجواب على ذلك يرجح المقولة التي تذهب إلى أن أهل هذا الفكر السلالي المدعوم والمخترق فارسيا ليس لهم من مهمة سوى الثأر من اليمن وأهله وإفقاره وتدمير مقدراته؛ وهذا أقرب تفسير لأفعالهم.

ولذلك فقد هب اليمنيون من اللحظات الأولى لمقاومة هذا السرطان الخبيث المتشكل باسم المملكة المتوكلية؛ إذ يدركون ما صنعه أسلافهم في فترات ومناطق مختلفة، وكانت أولى التحركات أثناء انسحاب العثمانيين حيث طالبهم أهالي الحديدة وإب وتعز بالبقاء وعدم تسليم مقاليد الأمور للسلاليين، ولم يكن يدرك اليمنيون أن العثمانيين قد أفل نجم دولتهم،  ولم يكن أمامهم سوى الرحيل فقط.

وهنا كان لا بد من مواجهة تسلّط بيت حميد الدين، سواء بالفعل السلمي أو الفعل المسلح، ولم تمض سوى بضع سنوات على إعلان المملكة المتوكلية حتى كانت أولى المواجهات الثورية.

– ففي عام 1925م اندلعت أولى الثورة التهامية (ثورة الزرانيق) حيث انتفضت معظم قبائل تهامة وعلى رأسها قبائل الزرانيق بقيادة الشيخ أحمد فتيني جنيد ضد الإمام يحيى ودارت معارك كثيرة وشرسة وحوصرت قبائل الزرانيق، واستمرت ثلاث سنوات من 1925- 1928، هزمت فيها جيوش الإمام يحيى شر هزيمة مرات عدة، لكن بفعل الخيانات الداخلية واستمرار حشود الإمام للجيوش والمرتزقة التي بلغت في الحملة الأخيرة نحو عشرة آلاف مقاتل، ونتيجة أيضا لفارق التسليح انكسرت هذه الثورة ونُكل بها بكل وحشية، حيث جعل الإمام يحيى تهامة منطقة مستباحة للمجاميع الغازية.

ودلالات لثورة الـ 26 من سبتمبر أبعاد ودلالات ثورة الـ 26 من سبتمبر

ثم تتابعت بعد ذلك صور النضال والمقاومة من كل أبناء اليمن وفي مختلف المناطق ومن أهمها:

-حركة تعز وإب ضد الإمام يحيى عام ١٩٢٨، حيث قرر مجموعة من وجهاء المحافظتين الثورة ضد الإمام منهم: سلطان عبدالله يحيى الصبري، وأبرموا اتفاقاً على الثورة، وفصل بلاد إب وتعز عن سلطة الإمام يحيى، غير أن أمرهم انكشف؛ فأرسل عليهم الإمام يحيى حملة هدموا بيوتهم وأحرقوها، وأسروهم جميعاً وكبلوهم بالحديد، وسيقوا راجلين إلى صنعاء حيث أعدم بعضهم والبعض الاخر مات في سجون الإمام يحيى.

-في ديسمبر عام 1938م صدرت المجلة الوطنية مجلة (الحكمة) واستمرت عامين تبث روح الوطنية والوعي بين الناس، حتى أغلقها الإمام.

-‏عام 1940 تم تشكيل أول منظمة سياسية سرية في القاهرة، ما عرف باسم (كتيبة الشباب اليمني) التي عبرت عن رغبتها في تجذير المعارضة في الداخل وقدمت رؤيتها للإمام يحيى ثم لابنه أحمد (ولي العهد) في تعز، إلا أن رؤاهم قوبلت بالرفض وبدأت مطاردة رموز المعارضة وتهديهم بالويلات.

-عام ١٩٤٤م تشكل حزب الأحرار اليمنيين أو ما عرف فيما بعد بــــــــ (حركة الأحرار)، وقد أخذ هذا الحزب يعلن عن طموحاته في التغيير والإصلاح ويكشف عيوب النظام الإمامي المتخلف. 

-في عام ١٩٤٦م شكّل الأحرار الجمعية اليمنية الكبرى في عدن وأصدروا جريدة صوت اليمن الشهيرة التي أخذت تفضح ممارسات الإمام الظالمة تجاه الشعب وتطالب بالإصلاح والتغيير. 

-أما عام ١٩٤٨م فقد توجت الجهود السابقة بقيام الثورة الدستورية (ثورة 48)  تخلص فيها الثوار من الإمام يحيى، في ١٣ فبراير ١٩٤٨م، ونصبوا عبد الله الوزير إماماً دستورياً جديدا لليمن. غير أنها لم تنجح في الإطاحة بنظامه كما خطط الثوار، أمثال الزبيري والنعمان وجمال جميل والفضيل الورتلاني، ويعود ذلك إلى عوامل داخلية وخارجية منها وقوف جامعة الدول العربية إلى جانب الإمام أحمد.

وانتقاماً من هذه الثورة والثوار أعدم الإمام أحمد رموز الثورة ونهب صنعاء نهباً ذريعا لم تنهب مثله في التاريخ.

-في عام ١٩٥٥م جرت محاولة للتخلص من الإمام أحمد في تعز، بقيادة المقدم أحمد الثلايا وبعض الضباط في الجيش، حيث استفاد هؤلاء الضباط من الخلافات العائلية بين الإمام أحمد وأخيه عبدالله وتم التواصل مع الأمير عبد الله واستمالته إلى صفوف الثوار، وقبل الوطنيون أن يستبدلوا الإمام بأخيه عسى أن يكون أفضل، فحاصر الجيش قصر الإمام في تعز، وتم إجباره على التنازل لأخيه عبد الله، إلا أن الإمام أحمد استطاع خداع الثوار والضباط وقام بشراء العديد من الضباط، ولم يكتب لها النجاح، لكنها هزت عرش أحمد حميد الدين. 

-في العام ١٩٥٦م أصدرت المعارضة برنامجاً جديداً بعنوان (مطالب الشعب) أكدت فيه مطالبها السابقة، ومع ذلك وبفعل دأب الإمام على شق الصف الوطني، شهدت معارضة الأحرار المنضوية تحت مسمى (الاتحاد اليمني) بعض الانشقاقات.

– في عام 1961م جرت محاولة الإطاحة بالإمام أحمد في مدينة الحديدة يوم 6 مارس 1961م، من قبل بعض الضباط على رأسهم الملازم عبدالله اللقية، والملازم محمد عبدالله العلفي، ومحسن الهندوانة، ومن خلفهم كان الزعيم عبدالله السلال مدير ميناء الحديدة يومها. وقام اللقية والهندوانة والعلفي بمحاولة اغتيال الإمام أحمد بإطلاق النار عليه في مستشفى الحديدة؛ مما أدى إلى إصابته إصابات غير قاتلة، وظل مثقلاً بالجراح التي لازمته حتى وفاته في ١٩ سبتمبر ١٩٦٢م

خلف البدر محمد أبيه في الحكم وألقى خطاب العرش يوم الـــــــ 20من سبتمبر 1962م، أعلن فيه تمسكه بخط أبيه في السياسة والحكم؛ وكانت قناعة القوى الوطنية في البلاد لإحداث التغيير الجذري في طبيعة الحكم قد دفعت بترتيبات الثورة قدماً.

– في يوم ٢٦سبتمبر 1962م وبعد أيام من تولي الإمام البدر مقاليد الحكم، انطلقت أم الثورات اليمنية تتويجاً لنضالات اليمنيين المستمرة ضد الإمامة طيلة قرون وسميت بثورة الألف عام لأنها كانت المحطة الفاصلة في تاريخ اليمن، التي اطاحت بالإمامة جسداً وفكراً.

لقد كان لانطلاق الثورات ضد حكم السلالة من أول سنوات تسلطهم دلالات وأبعاد، منها:

1- أن هذه السلالة لا يأتي من ورائها خير للوطن على مدار تواجدها؛ فهي مشروع دماء ودمار. 

2- أن تتابع الثورات وديمومتها حتى تحقق النصر في 62م دليل على رفض الشعب لوجود هذا الفكر البغيض أو تسلطه على رقاب أحرار اليمن. 

3- حيوية أحرار اليمن وقواه المختلفة في العزم على التخلص من تلك الجرثومة التي أنهكت اليمن ودمرت مقدراته. 

4- أن ثورة السادس والعشرين من سبتمبر لم تكن مجرد ثورة على حاكم؛ بل كان تحولا اجتماعيا وسياسيا كبيرا تجاوز حقبة حكم بيت حميد الدين السلالية فكرا وسياسيا وحياةً اجتماعية. 

5- أن الثورة لم تكن وليدة لحظة عابرة، أو رغبة مجموعة من الأشخاص في الوصول إلى السلطة؛ بل كانت ثمرة جهود امتدت لعقود من الزمن، خطط لها وصاغ مبادئها وأهدافها علماء وقادة ومفكرون، هم نخبة المجتمع اليمني وخيرة أبنائه حينها. فتحية لثورة الشعب المجيدة وأنصارها الاحرار في كل جيل وزمان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى