أشتات

الإسلام أوسع من ذلك..

قريش.. وارثة مجد قصي بن كلاب!

قريش.. جوار وأهل بيتِ الله الذي تعظمه سائر العرب!

قريش صاحبة القدح المعلى شرفًا ونسبًا بين سائر القبائل العربية.. ها هي اليوم تغزى في عقر دارها، ومجدها الموروث يتهاوى تحت أقدام الفاتحين الذين لا يعترفون لها بشيء من المجد الذي روثته كابرًا عن كابر!

الزلزال العظيم حدث اليوم!

الرسول الذي طالما حاربته قريش دخل مكة فاتحًا منتصرًا!

لقد وقعت الكارثة التي كانت تخشاها قريش وبذلت في سبيل مدافعتها فلذات أكبادها، وصناديد رجالها، ونفائس أموالها!

وبطون قريش تدرك اليوم أن مجدها الموروث الذي طالما دافعت عنه انتهى، وأصبح من الماضي.. الماضي الذي يسميه الفاتحون الجدد: الجاهلية!

بنو جُمَح الذين كانوا يفخرون بتوليهم (الإيسار) أي الاستقسام بالأزلام عند الصنم الأكبر هُبل (1)، انتهى مجدهم الموروث وعليهم من الان فصاعدًا أن يخجلوا منه!

بنو سهم الذين كانوا يتولون فصل الخصومات والمرافعات، وتنظيم القربات والنذور التي كانت تهدى إلى الأصنام (تحجير الأموال)، انتهت وظائفهم وأصبحت من الماضي الجاهلي المرفوض!

بنو تيم الذين كان إليهم تنظيم أمر الأشناق (الديات والغرامات) يدركون أن هذا الأمر خرج من أيديهم ولم يعد لهم من الآن فصاعداً وإنما هو لشريعة الإسلام.

بنو مخزوم الذين كانت إليهم (القبة)؛ أي تنظيم المعسكر وقيادة الخيل، يدركون أنَّ الواقع اختلف الآن، وأنَّ تلك الرئاسة التي كانوا يفخرون بها زالت.

بنو عدي الذين كانت فيهم وظيفة السفارة (العلاقات الخارجية) يدركون أيضًا أن دوام الحال من المحال!

بنو عبد الدَّار حملة اللواء في الجاهليةِ يبدو أنهم لم يستوعبوا الواقع الجديد بعد! أو لعل قرابتهم من الرَّسول عليه الصلاة والسلام هي التي شجعتهم أن يطلبوا منه الاحتفاظ ببعض مجدهم الموروث؛ فجاءوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقالوا: يا رسول الله اجعل فينا اللواء. فرد عليهم بقوله: الإسلام أوسع من ذلك (2)!

نعم.. الإسلام أوسع من قريش.. ومن تقاليد قريش.. وأمجاد قريش.. وموروث قريش!

وتنظيم الإسلام السياسي والاجتماعي أوسع وأشمل وأرقى من تنظيم قصي بن كلاب لقبيلة قريش!

المجد الجاهلي الموروث انتهى… وعلى قريش أن تخضع للمعايير الجديدة التي جاء بها الإسلام..

الفخر بالأحساب والأنساب انتهى.. والتنظيم السياسي والاجتماعي القديم انتهى، ومآثر الجاهلية انتهت ولم يعد لها قيمة، وعلى قريش أن تعي هذه الحقيقة وأن تتكيف معها من الآن فصاعدًا!

وفي يوم الفتح العظيم كانت هنالك رسائل من النبي الكريم موجهة ومقصودة..

وأول تلك الرسائل: الأمر النبوي لبلالٍ رضي الله عنه أن يصعد على سطح الكعبة ويؤذن لصلاة الظهر!

488554 الإسلام أوسع من ذلك..

وكانت هذه الرسالة العملية أشد ما وقع على قريش في ذلك اليوم!

وكانت ردة فعل قريش الجاهلية عنيفة!

وهذه بعض من ردود أفعالها:

ـــــ قال عكرمة بن أبي جهل: لقد أكرم الله أبا الحكم [يعني أباه] حيث لم يسمع هذا العبد يقول ما يقول!

ــــ وقال صفوان بن أمية: الحمد لله الذي أذهب أبي قبل أن يرى هذا!

ــــ وقال خالد بن أسيد: الحمد لله الذي أمات أبي فلم يشهد هذا اليوم حين يقوم بلال بن أم بلال ينهق فوق الكعبة! (3).

وقال الحارث بن هشام: واثكلاه! ليتني مت قبل أن أسمع بلالًا ينهق فوق الكعبة!

وقال الحكم بن أبي العاص: هذا والله الحدث الجليل أن يصبح عبد بني جُمح [يقصد بلالاً] ينهق على بَنِيَّةِ أبي طلحة! (4) وهو ويقصد هنا بِبَنِيَّةِ أبي طلحة: الكعبة، وكانت مفاتيحها بيد آل أبي طلحة من بني عبد الدار بن عبد مناف.

وأما سهيل بن عمرو ورجال معه فقد غطوا وجوههم ألمًا وحسرةً! (5).

وتلا تلك الرسالة العملية رسالة أخرى سجلها التاريخ بحروف من نور.. خطبة بليغة، شن فيها النبي الكريم أعنف هجوم على الموروث الجاهلي الذي تتشبث وتستعلي به قريش، فلنستمع إلى ذلك الخطاب التاريخي الهام:

( لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الاحزاب وحده.

ألا كل مأثرةٍ أو دمٍ أو مالٍ يُدّعَى فهو موضوعٌ تحت قدمي هاتين إلا سَدَانَةَ البيت وسقاية الحاج.

يا معشر قريش: إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وَتَعَظّمَهَا بالآباء.

الناس رجلان: برٌ كريمٌ على الله، وفاجرٌ شقيٌ هينٌ على الله.

الناس بنو آدم، وآدم من تراب: )يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ( (الحجرات/ 13).

يا معشر قريش ما ترون أني فاعل فيكم؟  قالوا خيرًا؛ أخٌ كريم وابن أخٍ كريم: قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء ) (6).

وهكذا أعلن النبي الكريم “أمام قريش وغيرهم من سائر الناس، عن المجتمع الجديد وشعاره، وهو الشعار الذي يتجلى في قوله تعالى:) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ( (الحجرات/ 13). وإذن فلتدفن تحت أقدام المسلمين بقايا تلك المآثر الجاهلية العتيقة العفنة، من التفاخر بالآباء والأجداد، والتباهي بالقومية والقبلية والعصبيات، والاعتداد بفوارق الشكل واللغة والأنساب، فالناس كلهم لآدم، وآدم من تراب. 

لقد طويت منذ اللحظة جاهلية قريش، فلتُطوَ معها سائر عاداتها وتقاليدها، ولتدفن في غياهب الماضي الذي أدبر، ولتغتسل قريش من بقية أدرانها لتنضم إلى القافلة وتسير مع الركب…” (7).

ولقد سارت قريش مع الركب.. ولكن بقايا الجاهلية سرعان ما عادت بعد ذلك متقمصة ثوب الإسلام، فانبعثت العصبية القرشية من مرقدها متلمسة غطاء تستر به عورة جاهليتها، ولم تجد أفضل من دعاوى الاصطفاء السلالي والحق الإلهي في السلطة، فجنت بذلك أخطر جناية على الإسلام وأهله، وأججت العصبيات الجاهلية في أقطار المسلمين، فذاق المسلمون من وبال العصبيات ما أشغل بعضهم ببعض، وأشعل بينهم الإحن والصراعات، وجعلهم في ذيل الأمم والحضارات.

ولا مخرج من ذلك النَّفق المظلم إلا بالعودةِ إلى قيم الرسالة الخالدة، وتحرير المفاهيم الحضارية الإسلامية كالمساواة والعدل والحرية من ثقافة عصور الانحطاط وما أنتجته من مفاهيم وممارسات.. ويبقى الإسلام أوسع من أن يحصر  في سلالة، أو قبيلة، أو تجربة تاريخية، أو  مرحلة ما من مراحل التاريخ..

هوامش:

1- الاستقسام: طلب معرفة القَسْم ــــ بفتح القاف وسكون السين ـــ من الأصنام؛ أي معرفة ما قُسم وقدر، ومالم يقسم ولم يقدر، وذلك عن طريق الاستقسام بالأزلام، والأزلام هي القداح، وكان المشركون يخصون أصناماً بعينها بذلك، وكان مشركو مكة يخصون هبل بطلب الاستقسام منه، وكانت عنده سبعة قداح (أزلام) يضرب بها لطالب الحكم والإرشاد في أمور مختلفة، قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} [المائدة:3].

2- انظر:  ابن الأثير، علي بن محمد بن عبدالكريم: الكامل في التاريخ (1/623).

3- انظر: البيهقي: دلائل النبوة (4/437).

4- الأزرقي، أبو الوليد محمد بن عبد الله: أخبار مكة (1/217).

5- انظر: البيهقي: دلائل النبوة (4/ 43).

6- البغوي، الحسين بن مسعود: شرح السنة (3544)، الطبري، محمد بن جرير: تاريخ الرسل والملوك (2/ 161)، ابن كثير، إسماعيل الدمشقي: البداية والنهاية (4/ 344).

7- البوطي، محمد سعيد رمضان: فقه السيرة النبوية. ص282-283. (دار الفكر، دمشق، سوريا، ط/11، 1412ه/1991م).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى