أشتات

المقاربات السيكولوجية للجماعة (ج3)

الحديث عن ديناميكية الجماعات يقتضي الحديث عن المدارس/ المقاربات العلمية التي اشتغلت على هذا الحقل، كما أن الحديث عن المقاربات العلمية/ المدارس يقتضي تعريف ماهية الديناميكية الفاعلة في الجماعة، حتى تتضح ملامح هذا المقبس المحرك، أو الفاعل الترابطي. الديناميك dynamic مفهومٌ مقتبسٌ من الفيزياء، والمراد منه المجال الميكانيكي ومختلف العلاقات التي تكون بين القوى الناتجة عنه، ما يترتب على ذلك حركة دؤوبة تناقِض السكون. هذا المرجع التعريفي العام لهذا المصطلح، في الحقل الأساس الذي ينتمي إليه أصالةً. أما في الحقل السيكو اجتماعي فيعني الديناميك؛ أو بالأحرى الدينامية مختلف القوى الإيجابية والسلبية الفاعلة في الجماعة، والتي بدورها تؤثث مساءل التوازن والاندماج، أو الانكماش والتشتت. بشكلٍ أخص: الديناميكية هي المحركات النفسية التي تتفاعل بطريقة دائمة داخل الجماعات؛ بين أعضائها، متخذة طريقتان للتفاعل:  بنيوية، ووظيفية.

يرى هولنبك (Hollenbeck) بأن الديناميكية هي: “القوى التي تؤثر في العلاقات والتفاعلات داخل الجماعة، والتي يكون لها تأثير على سلوك الجماعة. هذه الدينامية قد تعمل على نمو وتطور الجماعة، وتنظيم العلاقات داخلها، أو قد تعمل على تطور التوترات وقيام الصراعات في العلاقات، مما يؤدي إلى انحلال الجماعة وتفككها”. بينما يرى جان ميزونوف(1) J.Maisonneve . في كتابه دينامية الجماعات، بأن ديناميكية الجماعات هي: “التي تهتم بالمكونات والسيرورات التي تتداخل في حياة الجماعات، بمعنى أشكال التواجد والترابط والتفاعلات البين-فردية داخل الجماعة”.

لا نكاد نلاحظ فوارق جوهرية بين الرؤيتين لكلا الباحثين، إذ المحصلة النهائية لديهما تكمن في التفاعلات الداخلية، من ديناميكية مؤثرة، ينتج عنها أشكال من التماسك، أو التفكك.

*يذهب كورت لوين(2)  Kurt -Lewin في مقاربته العلمية إلى أن الجماعة: “بنية كلية، غير قابلة للاختزال، مكونة من الأفراد الذين يشكلونها، ومن تطابق أهدافهم وسمات شخصياتهم.”  يُردف قائلاً: “الجماعة نَسَق أو منظومة من التبادلات التفاعلية المعبرة عن محدد اللاإستقلالية بين الأفراد”.

أي أن الحرية بمفهوم الاستقلال لا تعد ممكنة، وإنما الممكن الحرية الشكلانية، أو الحرية الواسعة أو الضيقة داخل الجماعة ذاتها، بحسب موقع الفرد في الجماعة، كموقع الكلمة من الجملة. يعاود كورت حديثه ليقرر : “الجماعة نسيج متماسك بين أعضاء؛ تجمَع بينهم وحدة الأهداف، والقواعد التنظيمية، وإدراك الوسط الداخلي والخارجي، وتقسيم الأدوار، والمراكز. إن نسق اللاإنفصال/ اللاإستقلالية بين مكونات الجماعة، هو الذي يفسر الاشتغال الوظيفي للجماعة، وسلوكها الداخلي والخارجي.”

ثمة تعارض بين الحرية في مفهومها الواسع، وبين التأطرية الجماعاتية، إذ الاستقلالية تتنافى وتتجافى وماهية التكوين للجماعة. من يستطيع أن ينال استقلاله، فقد استطاع أن ينال حريته، أما حرية الاختيار، فهو استقلال من الدرجة الثانية، يتأثر أكثر مما يؤثر، فيُذيب قيمه الفردانية في قيم الجماعة، حتى تتلاشى نهائيًا أو تكاد، فلا يفرِغ بعد إذ إلا بالقيم الجماعاتية، التي اعتقدها قيَمُه، بينما هي قِيَم الجماعة والجماعة فقط.

يحوصل كورت هذا الاندماج الفرداني في الجماعي في عباراة ذكية، فيقول: “الجماعة كُلٌ دينامي، وهذا الكل الدينامي لا يساوي مجموع أجزائه، أو أعضائه، بل هو ناتجٌ ومحصلةٌ لصراع القوى المتمثلة في هذه الأجزاء.” القوى الفاعلة هي التي تحصد مبتغيات هذا الصراع، على حساب الأطراف، أو الأجزاء بتعبير كورت، ما يجعلنا نقف مع هذا الإشكال اللافِت، لنتساءل: لماذا يرغب الإنسان أن يكون جزء من كل، وفي إمكانه أن يكون كلًا في استقلاله، خاصة إذا ما نظرنا إلى واقعنا العربي وما يتعاوره من تبعية تأطّرية، راثت على أصحابها، وأزْرَت بهم!؟

السيكولوجية للجماعة ج3 المقاربات السيكولوجية للجماعة (ج3)

ثمة ظواهر مستهدفة في دينامية الجماعات، نضعها في النقاط التالية:

ظواهر السلطة. 

•ظواهر اتخاذ القرار وسيرورات تحقيق الأهداف. 

•سيرورات التواصل وشبكات تبادل المعلومة/الإشاعة. 

•شبكات التفاعل/التبعية/المقاومة/الإبداعية/التجديد. 

•ظواهر الدينامية والانتقال والتغير داخل الجماعة. 

•القواعد/الصيانة/الإدراك/المعرفة/ والوجدانات بناء الجماعة. 

•أنماط القيادة وتدبير العلاقات التفاعلية.

القوانين الهامة للجماعة، تتضمن في ذاتها أبعادها الغائية، الداخلية منها والخارجية، كما أنها تكشف للدارس عن نفسها مواطنًا للفهم: أو كيفية فهم الجماعة، وهي على النحو التالي:

القوانين المتعلقة بظروف ونشأة وتكوين الجماعة. 

•القوانين المتعلقة بسمات وخصائص الجماعة. 

•القوانين المتعلقة بمعايير تكوين (البنية/القواعد/التغيير). 

•القوانين المتعلقة بسيرورات نمو وتطور وانحلال الجماعة. 

•القوانين المتعلقة بتأثير الجماعة في تفكير الفرد ووجدانه. 

•القوانين المتعلقة بعوامل القوة والضعف في الجماعة. 

•القوانين المتعلقة بقيم الفرد وقيم الجماعة، التأثير والتغيير. 

•القوانين المتعلقة بعوامل تماسك وتفكك الجماعة.

*قام جاكوب ليفي مورينو(3)  j.h.Mareno ببناء وتجريب تقنية القياس السوسيومتري(4)  كمقاربة علمية لتحليل وقياس وضبط خريطة الديناميات التفاعلية في الجماعة.

فرضية جاكوب الأساسية بواسطة السوسيوغرام(5) Sociogramme تتمثل في أن كل الكائنات البشرية ترتبط فيما بينها بثلاثة أنواع من الروابط الوجدانية:

الأول: الانجذاب. 

الثاني: النفور. 

الثالث: اللامبالاة.

أداته العلمية في ذلك، استبانة/ استمارة تمكن كل فرد من الجماعة تحديد واختيار الفرد الذي يريد أن يكون رفيقه في مهمة أو نشاط. وعند تحليل النتائج، يمكن رسم خريطة العلاقات السوسيوعاطفية.

الأبعاد المستهدفة بالقياس في الاستبانة/الاستمارة:

درجات التجاذب/ الانجذاب المعرفي والوجداني داخل الجماعة. 

•درجات النفور والإقصاء المعرفي والوجداني داخل الجماعة. 

•التبادلات التواصلية ودرجات تكون سلسلة التماسك. 

•قياس أسباب الإبعاد والإقصاء والتهميش تجاه الأفراد. ثم دلف إلى تحليل التفاعلات داخل الجماعة، من حقل المنطق النفسي الاجتماعي للانجذاب/ النفور البين-فردي، ليخلُص إلى : 

•الإدراك الاجتماعي للذات/الوجدان. 

•الإدراك الاجتماعي للآخر/الوجدان. 

•الإدراك الاجتماعي للسياق/للمركز/للمهمة/للأدوار. 

•الإدراك الاجتماعي للأهداف/ للقواعد والقيم.

المناهج العلمية التي طُبِّقت لدراسة ظواهر دينامية الجماعات ثلاثة مناهج:

الأول: المناهج الإكلينيكية. 

الثاني: منهج التحليل النفسي. 

الثالث: المناهج التجريبية(6).

طُبقت الدراسات لتحليل ظواهر دينامية الجماعات، على جماعات واقعية طبيعية، أو جماعات مصطنعة. المقاربات العلمية السابقة، كانت أقرب إلى التنظير منها إلى التطبيق، بالمقارنة وما ذهبت إليه مناهج التحليل النفسي، والإكلينيكي، وكذا التجريبي. صحيح أن الاستمارات/الاستبيانات التي قام بها مورينو كانت تطبيقًا هامًا، خلص من خلالها إلى ما ألمعنا إليه سالفًا، بيد أن المناهج طبقت على جماعات واقعية، لا فردانية أحادية، يفهم من خلالها الجماعة، كما طبقت على جماعات صناعية-أي المناهج- تم تصميمها وما يتواءم والجماعة الواقعية. في الجزء الرابع سنتطرق إلى مقاربات علم دينامية الجماعات لظاهرة القيادة، بواسطة ثلاث نظريات، كما سنتحدث عن ثلاثة نماذج للقيادة.

الهوامش:

  1. جان ميزونوف(1918-2017) عالم اجتماع، وعالم نفس فرنسي. 
  2. كورت ليفين((1947-1890 هو عالم نفس أمريكي ألماني المولد، يُعرف باعتباره أحد روّاد علم النفس الاجتماعي والتنظيمي والتطبيقي الحديث في الولايات المتحدة. بعد نفيه من مسقط رأسه، بدأ ليفين حياة جديدة، عرّف فيها نفسه ومساهماته ضمن ثلاث عدسات من التحليل: البحث التطبيقي، والبحث الإجرائي، والتواصل الجماعي. 
  3. جاكوب ليفي مورينو (18 مايو 1889- 14 مايو 1974) هو طبيب نفسي وعالم نفس واجتماع ومدرّس أمريكي، مؤسس السيكودراما (الدراما النفسية)، والرائد الأساسي في مجال العلاج الجماعي. عُرف خلال حياته كواحد من قادة علماء الاجتماع. 
  4. القياس السوسيومتري هو طريقة و أداة قياس تهدف إلى معرفة و فهم طبيعة العلاقات الاجتماعية بين أفراد الجماعة بطريقة موضوعية ، من خلال استخدام الأساليب العلمية الدقيقة التي تسمح باكتشاف مواطن التجاذب و التنافر، و التعرف على المعزولين و المنبوذين داخل الجماعة، حيث يستخدم الأشكال و الرسوم البيانية ، إضافة إلى الأساليب الكمية و الكيفية في تحليل و تفسير بياناته، و هذا ما يجعل منه أداة قياس تسمح بالوصول إلى نتائج أكثر دقة ، و إعطاء صورة واضحة عن البناء الداخلي للجماعات و العلاقات القائمة بين أفرادها حيث تكتسي النتائج المتحصل عليها من خلال تطبيق الاختبار السوسيومتري أهمية بالغة في الحياة النفسية والاجتماعية و العملية للأفراد و الجماعات. 
  5. السوسيوجرام (بالإنجليزية: Sociogram) في علم النفس، هو تخطيط أو رسم بياني يمثل العلاقات الاجتماعية بين أعضاء جماعة معينة، سواء أكانت علاقات إيجابية كالتفضيل والصداقة والود والتقدير، أم علاقات سلبية كالنفور، والكراهية، والازدراء، والرفض. يعتبر عالم النفس مورينو هو رائد هذا المجال من دراسات علم النفس الاجتماعي. 
  6. للاستزادة الرجوع إلى محاضرات أ.د حميد بودار.(قضايا سيكولوجية) أكاديمية نماء للعلوم الإسلامية والإنسانية https://www.namaeacademy.com/

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى