أشتات

النبي محمد: وشيجة القربى العدنانية القحطانية

مدخل:

مشجَّرة الأنساب البشرية مهما تفرَّعت تجتمع في أصولها وتتلاقح في زهورها وبراعمها، وتصوُّر جنس بشري نقيٍّ لا يختلط بغيره مِن الأجناس والأعراق والقوميَّات تصوُّر خاطئ، تنفيه حقائق التَّاريخ ونتائج العلوم ومعطيات الواقع. فسيولة الاتِّصال والانتقال والحراك والتَّمازج البشري يفرض آثاره، حتَّى على أكثر الأسر والعوائل انغلاقًا وانعزالًا. وبالتَّالي، فكلُّ الشُّعوب اليوم هي نتاج تمازج واختلاط، ولذلك لم يقف القرآن الكريم عند حدود القبيلة في ذكر ظاهرة الاختلاط البشري، بل أكَّد على الامتزاج بعطف القبائل على الشُّعوب، فإذا كان مصطلح “القبيلة” يشير للأصل، فمصطلح “الشُّعوب” يشير للتَّشابك، يقول تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلنَاكُم شُعُوبًا وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكرَمَكُم عِندَ اللَّهِ أَتقَاكُم إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ))، {الحجرات: 13}.

وادِّعاء النَّقاء العنصري، أو التَّمايز العنصري، أو الانفكاك العنصري، مخالفة للطَّبيعة والحقائق البدهيَّة، على أيِّ مرتكز استندت، ديني أو غير ديني. ومِن ثمَّ ينبغي على البشر أن ينظروا لبعضهم على قدر مِن المساواة الإنسانية، لأنَّ الأصل واحد، والطَّبيعة البشرية واحدة، وإنَّما جاء التَّنوُّع على سبيل إظهار القدرة الإلهية، والتَّباين الإبداعي، وجعل ذلك ثراءً للجنس البشري، يضفي عليه مزيدًا مِن الثَّراء المتجدِّد. وهذا ما حصل في الألسن واللُّغات، وفي ألوان البشرة والشَّعر، وفي هيئة الأبدان.

عربي النبي محمد: وشيجة القربى العدنانية القحطانية

الذَّات والانتساب:

يبدأ الإنسان بإدراك ذاته أوَّلًا، ومِن خلال تمييزه عن محيطه، وإعطائها تعريفًا مستقلًّا عن هذا المحيط؛ وهو ما يُعبَّر عنه بالـ”أنا”. ولأنَّ أوَّل تجلٍّ للإنسان في الحياة، والذي يسبق التَّجلي الرُّوحي والإدراكي، هو التَّجلِّي المادِّي، فإنَّ هذا التَّجلِّي المادِّي معلوم الامتداد، قابل للتَّحديد والتَّمييز، وهو لا يتأتَّى باختيار الإنسان وإرادته هو، بل نتاج اختيار وإرادة مَن تناسل مِنهم. وإذا كان الاسم والتَّعريف جرى ربطه في عرف البشر وتقاليدهم بهذا النُّوع مِن الامتداد، فإنَّ الذَّات لا تتوقَّف في وجودها عليه، إذ الإنسان مدنيٌّ بالطَّبع، لا يمكنه أن يعيش في مجال ضيِّق مهما حاول اعتزال البشر، لأنَّ طبيعته تتنافى مع ذلك، واحتياجاته وضرورات عيشه لا تقوم مِن دونهم.

وإذا كان الإنسان ينتسب لأبيه تعريفًا فإنَّ مادَّته هي نتاج تلاقح سلالات مِن قبائل وشعوب مختلفة، إذا لم يكن مِن جهة الأب والأم فمِن جهة الآباء والأمَّهات العلويِّين، كالجدِّ والجدَّة ومَن فوقهم. فإذا كان الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلم- منتسب إلى عدنان ابن إسماعيل مِن جهة الآباء، فإنَّ له مِن جهة الآباء هؤلاء امتداد إلى نسل قحطان، لذا فإنَّ أصحاب السِّير يذكرون أنَّ والدة جدَّ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم، عبد المطلب، هي سلمى بنت عمرو، مِن بني النَّجَّار، وهم بطن مِن بطون الخزرج. وعلى هذا فالخزرج هم أخواله مِن جهة جدِّه. وفي الحديث عنه عليه الصَّلاة والسَّلام: (إنَّ ابنَ أُختِ القَومِ مِنهم)، رواه البخاري ومسلم، فالرَّسول محمَّد على هذا الاعتبار له انتساب بالقبائل اليمنية بوجه مِن الوجوه. فهو ليس نقي “العرق” كما يرى أصحاب النَّظرية العنصرية، سواء مِنهم المتعصِّبة العدنانية أو القحطانية. ومثله يصحُّ على قبائل قريش وقبائل الأوس والخزرج وبطون العرب المختلفة في جزيرة العرب، إذ كانت العادة هي التَّناكح فيما بينهم.

بل لو عدنا لما هو أبعد مِن عبد المطلب لوجدنا أنَّ قبيلة جرهم التي سكنت مكَّة المكرمة، في زمن هاجر وإسماعيل، هي أساسًا مِن قبائل اليمن المهاجرة، وقد تزوَّج إسماعيل -عليه السَّلام- مِنهم، وعن ذريَّة إسماعيل نشأت القبائل العدنانية. وعليه فإنَّ اختلاط الدِّماء والرَّحم والأنساب بين القبائل القحطانية والعدنانية يعود إلى عهد إبراهيم -عليه السَّلام، أي قبل بعثة محمَّد -صلَّى الله عليه وسلَّم- بآلاف السِّنين.

إذن، فرسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- تختلط في ذاته الشَّريفة أمشاجٌ عدنانية وقحطانية، وإن ظلَّ انتساب التَّعريف مرتبطًا بالجانب الذُّكوري، فإنَّ ذلك لا يلغي كونه ينتسب دمًا ورحمًا للقبائل العدنانية والقحطانية.

النبي محمد: وشيجة القربى العدنانية القحطانية

المجتمع والانتماء:

يمثِّل المجتمع الحاضنة الأهم للإنسان، ابتداء مِن دائرة الأسرة وحتَّى دائرة القرية أو المدينة بمفهومها العمراني. حيث فيه ينشأ، ويترعرع، ويتلقَّى العادات والتَّقاليد والأعراف والثَّقافة ونمط العيش. وفي تتشكَّل شخصيَّة الإنسان الأولى، خاصَّة في طفولته وفتوَّته. وإذا كانت قريش هي مجتمع الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- فإنَّ هذا المجتمع تنكَّر له بعد إعلانه النُّبوَّة وقيامه بالرِّسالة والدَّعوة، وناصبه الخصومة والعداء. ما دفعه إلى الهجرة عنه، ومفارقته موطنه، حتَّى قال، لمـَّا أُخرِج مِن مكَّة: (أنتِ أحبُّ بلاد الله إلى الله، وأنتِ أحبُّ بلاد الله إليَّ، فلو أنَّ المشركين لم يُخرِجُوني لم أَخرُج مِنكِ) ؛ وقال مخاطبًا مكَّة، حين وداعها، في فتح مكَّة: (ما أطيَبَكِ مِن بلدٍ، وأحبَّكِ إليَّ؛ ولولا أنَّ قومِي أخرجُوني مِنكِ ما سَكنتُ غيرك) .

فلمَّا هاجر إلى المدينة، وتحوَّل إليها، انصهر في كيانها، لا انخلاسًا مِن نسبه، ولكن انتماء لحاضنته الجديدة. ولم يكن هو الوحيد هو الذي هاجر للمدينة، برضا أصحابها وأهلها، بل وصحابته الذين وصفهم القرآن الكريم بـ”المهاجرين”، تلك الوصفة التي ستلازمهم في أعظم نصٍّ إلهي خالد، تأكيدًا على أنَّ العلاقة في يثرب قامت بعد اندماج المجتمع المهاجر في المجتمع المستقبل المستضيف قامت على أساس مِن تباين الوطن واتِّحاد الهوية، فإذا كان أولئك مِن مكَّة وهؤلاء مِن يثرب، فإنَّهم جميعًا مسلمون مؤمنون عباد الله إخوانًا. وعلى أساس هذه الهويَّة الإيمانية جرى بناء هذا المجتمع الذي آخى الرَّسول بين عنصريه “الأنصار” و”المهاجرين”. وتمازج الكيانان في جسد واحد، لكلٍّ مِنهما خصائصه غير أنَّهما مرتبطان عضويًّا، بهوية جامعة واحدة، يتساوى فيها الجميع أمام الشَّرع والقضاء، وفي منظور العقيدة والأخلاق.

ولمَّا وجد بعض الأنصار في نفوسهم على رسول الله، لما فاتهم مِن غنائم معركة حنين، حيث تألَّف بها الرَّسول مسلمة الفتح، قال لهم: (الأنصَارُ شِعار والنَّاس دِثار، ولولا الهجرة لَكنتُ امرءًا مِن الأنصارِ، ولو سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وشِعبًا، لسلكتُ وادِي الأنصار وشِعبَهم)، رواه مسلم: (1061). فهو هنا يؤكِّد على الانتماء الشُّعوري الذي بات يربطه بالأنصار، الذين آووه ونصروه وعزَّروه، بشهادة القرآن الكريم وشهادته هو، إذ يقول لهم، في ذات المناسبة: (واللهِ لو شِئتم لقُلتم فصدقتم، وصُدِّقتُم: جئتَنا طريدًا فآوَيناك، وعائلًا فآسَيناك، وخائفًا فأمَّنَّاك، ومخذولًا فنصرناك). هذا التَّعاطف الذي بذلوه، والولاء الذي قدَّموه، ليس بالشَّيء الهيِّن، ونادرًا ما تتنازل الأنفس عن حظوظها ومطامعها ومصالحها لصالح “الوافد” الغريب، فإن صدر مِن الأوس والخزرج ذلك فإنَّما هو تعبير عن إيمان صادق ويقين عميق وحبٍّ خالص. هنا وهنا فقط يجد الإنسان ذاته مع هذا المجتمع وفي ذلك الوطن.

هذا الاحتضان اليماني لم يتوقَّف في حدود المدينة، فإنَّ اليمن في غالبها الأعم دخلت الإسلام طواعية وآمنت بالرِّسالة سلمًا دون إكراه. وهذا ما جعل الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- يحتفي بوفودهم، الوفد تلو الوفد، ويثني عليهم، ويضفي عليهم صفات الإيمان والفقه والحكمة واللِّين ويرى فيهم المدد ونفس الرَّحمن.

1624384497642 النبي محمد: وشيجة القربى العدنانية القحطانية

الخلاصة:

لقد أعلن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- انتماءه للأنصار، وإن كان نسبه إلى قريش، وقد حمل للأنصار كلَّ معاني الاعتراف بفضلهم وإحسانهم له، واحتفى بهم وبقبائل اليمن عمومًا كما لم يحتفِ بغيرهم. وظلَّ وصف المهاجرين والأنصار في القرآن والسُّنَّة ثابتًا يحكي قصَّة مجتمعين التحما في هويَّة واحدة دون العنصرية والنَّسب، حتَّى بات الدَّم الدَّم والهدم الهدم. وما أنتجه التَّشيع مِن فكر عنصري وسلالي لصناعة التَّمييز بين مكوِّني مجتمع المدينة، بل الأمَّة عمومًا، لتفكيك ثقافة التَّعايش والتَّلاحم بين القبائل والشُّعوب، القائمة على قاعدة المساواة والعدالة، والأصل الواحد، والهوية الواحدة، واستبدال ذلك بالدَّعاوى الإبليسية الاستعلائية القائمة على تجميد الذَّات والعنصر، أو النَّسب والسُّلالة.

وقد ظهر لنا كيف أنَّ محمَّدًا في تكوينه المادِّي يجمع الدَّم والرَّحم العدناني والقحطاني، وكيف أنَّ انتماءه الأخير كان “أنصاريًا” لولا الهجرة، لقد أحبَّهم وأحبُّوه، واختارهم لنفسه دثارًا واختاروه لهم قائدًا وقدوة. ولم يفضِّل عليهم أحدًا، حتَّى مات، ودفن بينهم وفي أرضهم، وفاء خالدًا؛ كي لا يدَّعي مدَّع، وينكر جاحد.

فمَن فهم الإنسانية والإسلام بهذا الفهم الواسع كان أوعي النَّاس بخلق الله ودينه، وقدره وشرعه، ومَن مال عن ذلك كان إبليس الهوى والهوية.

أنور الخضري

كاتب وباحث يمني مهتم بالقضايا السياسية والشأن اليمني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى