عُرف العرب قبل الإسلام بمجالسهم العامرة بأنواع الشِّعر، يحتشد فيها أصناف الناس، ويتناولون أبيات الشعر وإنشادها بينهم حتى يشحنوا العقول بأعمق المشاعر وأفضل الأفكار، ويتبادلونها بينهم بالإعجاب وضده، واستمرت هذه المجالس بعد مجيء الإسلام حتى عصور دول الخلافة الإسلامية وما تلاها، وكانت هذه المجالس يتنوع جُلّاسها بتنوع موضوعاتها، فمجلس الفقهاء يلتف فيه أهل الفقه لنقاش مسائل الأوزاعي ومالك وأبي حنيفة وغيرهم من أثبات الأمة والترجيح بينهم، ومجالس السِّياسة لا يفتأ أهلها عن النقاش في شؤون العامة وتنظيم حياتهم، ومجالس الأدب يتراقص فيها المرء بسماع جميل القوافي، ومجالس المناظرات يشتد فيها النقاش حتى تستشعر سجال السُّيوف، ولا ننسى مجلس الحاكم الذي يميل جلاسه ميل حاكمهم، وله ندماؤه وأحبابه فيه، وكذلك تجمع الناس لمجلس العزاء، يعزون المكلوم بفقيده، راجين من الله أن ينزل سكينته ويربط على قلبه.
وظلت المجالس في عصرنا مستمرة على الرغم من مصائب الدهر ومشتتات البال التي لم تتركنا ولا لحظة، كطيف ليلى الذي لم يفارق قيس حتى رحيله، ومن مجالس عصرنا الشهيرة مجلس عباس العزاوي بمكتبه للمحاماة، يتوارد عليه الناس لسؤاله في عدة أمور، منها الأنساب، كذلك مجلس جلال الحنفي، الذي كان يتوارد عليه أهل الأدب والدين لسؤاله، فله المنتهى في معرفة العروض الشعرية، ومما أفدتُ من أستاذنا حسين عجيل أنه كان يزوره ويسأله عن التقطيع العروضي لبعض القصائد، ومجلس هبة الدِّين الشهرستاني في مكتبته أشهر من أن يُعرَّف، ولعلَّ القارئ يتهمني بهواي لبغداد وأهلها، فأقول: صبرًا، وكن لأخيك عونًا لاستمرار دفق الكتابة حول مجالس رجالات أمتنا، ففي مغربنا مجلس عبد الحي الكتاني في مكتبته ومجلسه، وكان شدة ولعه بجلسائه وكرمه الشديد، يقول خالد السِّباعي: “بل كان في بيته ومكتبته أجنحة وغرف خاصة بالضيوف والواردين، موصولة بمصاعد يدوية لإيصال الكتب التي يطلبها الضيوف إلى محال إقامتهم ونُزلهم دون حاجة للخروج وقطع خلواتهم العلمية والمعرفية، حرصًا من صاحبها على مساعدة العلماء على استجماع الفكر والتفرغ التام للبحث العلمي وإنجاز مشاريعهم”(1)، فلله در العرب وكرمهم وخدمتهم وتوقيرهم لضيفهم.
يُعد يوم الجمعة ملاذًا للموحدين، وأنيسًا للمستوحشين، وطريقًا معبدًا للخير الثمين، يومٌ يدور في فلك الجمال، بل يكاد يكون قطبه الوحيد، يستشعر فيه المسلم شعور الأمة الواحدة والعبادة الخاشعة. يومٌ يبدأ صباحه بذكر سيد البرايا، وفي آخر ساعاته تُغفر الذنوب والخطايا. ولا يخفى على أصحاب العقول السليمة أن دنيانا لم ولن تكون موئلاً لكل حادثة سعيدة، بل يجب أن تتخللها العقبات العصيبة والصعوبات الشديدة حتى يُمحَّص فيها العبد ويصل إلى ربه نقياً. ومن جملة مراتب التمحيص، اعتلاء منابر الجمعة أشخاص لا مكان لهم سوى الهتاف في سوق الجمعة لبيع الحاجات القديمة؛ فلا خطبة مفيدة ولا لغة سليمة، بل على العكس، خطبة قميئة ولغة سقيمة تنفر منها النفوس، ويشتعل الشيب للحضور في الرؤوس. إذ إن النفس فُطرت على محبة كل مأنوس والنفرة من كل قميء منكوس. وفي هذا يقول الرافعي: “ألَا ليتَ المنابرَ الإسلاميةَ لا يخطبُ عليها إلَّا رجالٌ فيهم أرواحُ المدافع، لا رجالٌ في أيديهم سيوفٌ مِن خشب” (2).
كانت هذه الخطب الباردة، المليئة بالقصص المكذوبة والأحاديث الموضوعة، سبباً لاستجلاب الهم وتكثير الغم عند كل الناس. ولكن كان الحظ حليفاً لرواد المجلس الشاكري، وكان لهم رأيٌ آخر. إذ إنهم إذا لم تعجبهم خطبة الجمعة التي يلقيها خطيبهم، يهرعون إلى ملاذ أهل العربية وقطبها في زمانه وشيخها الأوحد الإمام محمود محمد شاكر -طابت نفسه حيث صارت-. ذلك المجلس الذي يغنيك عن المواعظ الباردة ويثريك بالدروس النافعة، كيف لا، والمجلس متأصلٌ بالنهج النبوي الشريف الذي اتصل به شاكر من ناحية نسبه ومن ناحية حبه، فهو الهائم بتراث أمته. ومن ناحية العناية بما كُتب عنه، فهو المحقق المعتني بما كُتب عنه. وقبل هذا كله، هو النسيج الأصيل للمسلم المعتز بدينه ولغته، المتتبع لآثار نبيه ﷺ.
كان مجلس شاكر مجلسًا فريدًا من نوعه، فهو وطن صغير بكل تفاصيله، تجد فيه سادة القوم وصغارهم، وعالمهم ومتعلمهم، وغيرهم من أهل الوطن. ولكن الفرق بين هذا الوطن الصغير وأوطاننا الكبيرة أن وطن شاكر وسع الكل على الرغم من صغر مكانه، بينما أوطاننا الواسعة ضاقت بنا وبأحلامنا حتى غدونا نبحث عن معنى الوطن.
وظلت ملحمة البحث عن الوطن ومعناه شاغلة الناس كلها، حتى ترنم المغني بقوله:
“يللي مضيع ذهب.. بسوق الذهب تلقاه
واللي مضيع حبيب.. يمكن سنة وينساه
واللي مضيع ولده.. في حضن أمه يلقاه
واللي مضيع وطن.. وين الوطن يلقاه؟”
أما أنا فأجد الوطن بين أربعة جدران تحوي مجموعة من الكتب والأحبة، نرفع بيننا الكلفة. وهذا ما وجده رواد المجلس الشاكري، حتى قال تلميذه محمود الطناحي: «ذلك البيت المفتوح دائمًا، والذي خلا من الرسميات والدعوات المضروبة من قبل» (3). فدونكم الحديث عن هذا المجلس.
الميراث الحميد
لطالما تراقص المرء طربًا وهو يسمع كلمة «ابن أبوك»، دلالة على الميراث الذي ورثه عن والده بخصلة حسنة في المظهر أو السلوك، فنجد الشيخ محمود شاكر قد ورث عن والده، الشيخ محمد شاكر، أمين الفتوى بالأزهر الشريف، صفة مجلسه، فتقول عايدة الشريف: «قيل لي إن بيت الشيخ محمد شاكر كان منارة لقصاد المعرفة من كل البلاد العربية والإسلامية، وكان مجلسه حافلاً بالعلماء والأدباء ورجال السياسة من مختلف الاتجاهات السياسية» (4).
رواد المجلس الشاكري
حضر مجلسه الكثير، كما ذكرنا، وكان من أبرز الحضور عنده:
إحسان عباس، أحمد المانع، أحمد راتب النفاخ، إحسان النص، إسماعيل الأكوع (المؤرخ اليماني)، محمد يوسف نجم، ناصر الدِّين الأسد، إبراهيم شبوح، يحيى حقي، عبد الرحمن صدقي، علي أدهم، محمود حسن إسماعيل، علي باكثير، شاكر الفحام، عبد الله عسيلان، محمد شريفة، فتحي رضوان، عايدة الشريف، أحمد الباقوري، محمود الطناحي، الحبيب اللمسي، عبد السلام الهراس، عبد الله الغنيم، يعقوب الغنيم، كمال النجم، محمود رشاد مهنا، محمد جلال، حسين ذو الفقار صبري، صبري حافظ، الحساني حسن عبد الله، عبد الحميد البسيوني، علي السالوس، محمود الربيعي، محمد رشاد سالم، أيمن فؤاد سيد، أحمد فؤاد سيد، أحمد مختار عمر، حمد عبيد الكبيسي، رجب إبراهيم الشحات، محمد عبد الخالق عضيمة، محمد مصطفى هدارة، محمود علي مكي، أحمد حمدي إمام، عبد الرحمن شاكر، شوقي علي هيكل، رمضان عبد التواب، عادل الجمال، السيد إبراهيم محمد، عبد اللطيف عبد الحليم، عبد الله الطيب، محمد حسن عواد، محيي هلال السرحان، الأسطى أنور الحلاق وغيرهم.
السمات العامة للمجلس الشاكري
الكرم
إن الكرم ملازم لمجالس العرب ومرتبط بهم ارتباط الرضيع بأمه، يفاخرون به، ويقدمه بعض الشعراء على غيره في المدح. فهذا الفرزدق يبتدئ بذكر مناقب زين العابدين بقوله:
يا سَائِلي أَيْنَ حَلَّ الجُـودُ وَالكَرَمُ
عِنْدِي بَيَانٌ إِذَا طُلّابُهُ قَـدِمُوا
فهنا تدري أن الكرم سرى في العرب مسرى الروح في الجسد، وكرم العالم يختلف عن كرم صاحب المجلس العادي، فالعالم يجود بعلمه ووقته. فكيف وشاكر جاد بماله أيضًا، إذ كان بيته كعبة لأهل العلم، كما يصفه ضيف مجلسه الدكتور إحسان عباس.
دخلت زوج الشيخ، أم فهر -رحمها الله- التاريخ من أوسع الأبواب، إذ كان اسمها لصيقًا بمجلس العلماء الذين يرتادون بيتها، وكانت تعد الطبخة الشهيرة “الملوخية”، التي كان ينتشي على أثرها رواد المجلس، بل وصفها الشاعر عبد الرحمن صدقي بأنها من طعام أهل الجنة!(5).
وكانت أم فهر ترسل مع أصدقاء زوجها بعض الهدايا لبيوتهم، وكأنها رسالة طمأنة لأهلهم بأن أزواجهم نزلوا سهلاً ولقوا أهلاً(6).
ومما يذكر الدكتور عبد الله عسيلان، أنه أثناء تحضيره للدكتوراه، كان دائم التردد على مجلس شاكر، يحضر عنده ثلاثة أيام أسبوعياً من الساعة الحادية عشرة صباحاً إلى الخامسة مساءً، يقتبس من علمه ويستشيره. وكان ضمن هذا الوقت وقت الغداء، فكان الدكتور عسيلان يجلس معه وسط أهله كأنه واحد منهم. وقد تكرر الأمر أكثر من مرة، مما تسبب ببعض الإحراج من طرف د. عسيلان. فنزل مرة وقت الغداء ليأكل في المطعم دون علم الأستاذ شاكر، وعند عودته سأله أستاذه عدة مرات عن مكانه. فتمتم بالإجابة، وكشف شاكر أمره، وقال له: «تخرج من بيتي وقت أكل؟ إذا كنت تعمل كذا، ما تجيش تاني»(7).
رفع الكلفة
أول خطوة للراحة في مجلسك رفع الكلفة، فهي السبيل للسعادة وتوطيد الألفة. وكان ديدن الأستاذ شاكر هذا مع كل جليس له. وما يدلك على هذا صنيعه مع عايدة الشريف، إذ دعاها لمساعدة زوجته، أم فهر، في رفع الصحون ومساعدتها في الطبخ. وهو بهذا ينصب نفسه كأب لها، يرشدها لمساعدة أمها ويوطنها على عمل البيت(8).
وكان كذلك يبادر بنفسه لعمل شؤون البيت أمام ضيوفه دون أي تكبر أو عجرفة. وبذلك التعامل يشعر جلساءه بأنهم ليسوا غرباء عنه أو عن بيته. وكان طروباً مرحاً للنكتة عندما تُلقى في مجلسه(9)، وكان شديد الحرص على تمام عدد حضور مجلسه ويتفقد الغائب منهم(10).
احترام الضيف وحفظ حقه
من الفضائل الجليلة التي تزيد الضيف حبًّا بمجلس مضيفه أن يكون دائم الإنصات له، معتبراً بكلامه، مستقبلاً له بالترحيب، مودعاً له عند عتبة منزله، ومشيعاً له بالدعوات. ولا يلوك لحمه بغيابه لغرض التندر أو غيره.
وقد اتصل آنذاك الشيخ أحمد الباقوري -وزير الأوقاف- بالشيخ شاكر ناقلاً شكوى صديقهما محمد فؤاد جلال -وزير الشؤون الاجتماعية- بسبب وجود الأسطى أنور الحلاق بين الجلوس. فما كان من شاكر إلا أن غضب وقال: «اسمع يا فؤاد، أنت وزير في مجلس الوزراء، ولكنك هنا في بيتي واحد من عامة الناس مثلك مثل الأسطى أنور وغيره» (11). ولعل هذا يدلك على أي نفس كريمة حوى شاكر، إذ لم يفرق بين أحد من جلسائه، حتى أن بعضهم لا يكاد يربطه بشاكر سوى معرفته له بالسجن، فكان يجلس بالمجلس حاله حال الوزراء (12).
إمامة الصلاة
كان الشيخ محمود شاكر يؤم الجلوس في منزله للصلاة حين مجيء وقتها، ولا أظن من الحاضرين أشد حفظاً وعلماً منه بكتاب ربه.
النقاش العلمي
أما ما كان يجري في مجلسه من النقاشات العلمية، فدونها الكتب الكبار والتفتيش عنها في كتب من جالسوه وسلوكهم. وقد سجل لنا يعقوب الغنيم بعض آمالي الأستاذ حول كتاب “الأصمعيات”، وقد صدر في الكويت عام 1434 هجرياً الموافق لعام 2013 ميلادياً تحت عنوان “قراءة في دفتر قديم”.
لعل ما كُتب يظهر جانبًا مشرقًا من جوانب الشيخ شاكر ومجلسه، ولعلّه أيضاً يكون دعوة لمن لديهم فسحة في المنزل والعقل لإحياء المجالس العلمية من جديد. رحم الله شاكر وعفا عنه، فقد كان مجلسه بذرة صالحة لكثير من الثمار النافعة التي نضجت وقطفت في أيامنا.
الهوامش:
- تاريخ المكتبة الكتانية لخالد السباعي 1/8.
- وحي القلم لمصطفى الرافعي 1/28.
- محمود شاكر “قصة قلم” لعايدة الشريف ص6.
- المصدر السابق ص23.
- العلامة محمود محمد شاكر كما عرفته لعبد الله عسيلان، ص19.
- المصدر السابق ص22.
- المصدر السابق ص139.
- محمود شاكر “قصة قلم” لعايدة الشريف، ص141.
- العلامة محمود محمد شاكر كما عرفته، عسيلان، ص29.