Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
أشتات

صيامٌ وجهاد واستشهاد

أيُّ عَبَقٍ زكيٍّ لِرائِحةِ الجنَّةِ يَفوحُ من كلِّ شبرٍ في قطاعِ غزَّةَ العزَّة، وهو يَرتوِي على مَدارِ السَّاعةِ بِدماءِ الشُّهداءِ المُجاهدينَ الصَّائمينَ؟ وأيُّ ريحٍ مُنتنةٍ خبيثةٍ تَنبعثُ من ديارِ العُملاءِ والمُتواطئينَ والمُتخاذلينَ؟ فهما -وربِّ الكعبةِ- ضِدَّانِ لا يَجتمعانِ، بينهما بَرزخٌ لا يَبْغِيانِ، وَما يَسْتَوِي ‌الأَعْمى ‌وَالبَصِيرُ * وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الحَرُورُ * وَما يَسْتَوِي الأَحْياءُ وَلا الأَمْواتُ،

وَمَا ‌تَسْتَوِي ‌الرِّجْلَانِ: رِجْلٌ صَحِيحَةٌ  

وَرِجْلٌ رَمَى فِيهَا الزَّمَانُ، فَشَلَّتِ

قُبيلَ شهرِ رمضانَ الحالي توالتْ دَعواتٌ حثيثةٌ لوقفِ إطلاقِ النارِ في غزَّةَ، منها ما جرى على لسانِ المُقْسَئِنِّ الخَرِفِ (جو بايدن)، ونفرٍ من حُجَّابِه، وسَدَنِةِ أبوابِه، في المنطقةِ العربيَّةِ المنكوبةِ بهم، حتَّى إنَّ القرارَ الشَّكْلِيَّ لوقفِ إطلاقِ النَّارِ الذي تبنَّاهُ مجلسُ المَيْنِ، المعروفُ زُورًا بمجلسِ الأمنِ، يومَ الاثنينِ الماضي، نصَّ على الدَّعوةِ إلى أنْ تَحترمَ وقفَ إطلاقِ النارِ جميعُ الأطرافِ خلالَ شهرِ رمضانَ، وكأنَّ الدِّماءَ المعصومةَ حلالٌ في غيرِهِ، وكأنَّ رمضانَ شهرُ نومٍ وخُمولٍ وتعطيلٍ لفريضةِ الجهادِ، وهو ما يقتضي مِنَّا وضعَ جُملةٍ من النِّقاطِ على الحروفِ؛ تأصيلًا للمسألةِ دعويًّا وفقهيًّا، وجلاءً لِصفحاتِها النَّاصعةِ تاريخيًّا:

أولًا: أنَّ الصِّيامَ والجهادَ يَنبعانِ من مِشكاةٍ واحدةٍ، هي الصَّبرُ ومُجاهدةُ النَّفسِ ومُخالفةُ الهَوى، فالصَّائمُ يَصبرُ على حاجاتِ النَّفسِ المُعتادةِ من طعامٍ وشرابٍ وشهوةٍ؛ إيمانًا واحتسابًا، ولذا جاءَ في الحديثِ: (وَالصَّوْمُ ‌نِصْفُ ‌الصَّبْرِ)، والمُجاهِدُ يَصبرُ على لَأْوَاءِ القتالِ، حاملًا رُوحَهُ على راحَتِهِ؛ إعلاءً لكلمةِ الله، ومجابهةً لأعداءِ الله، سخيَّةً نفسُهُ بِروحِهِ التي قد تَفوتُ إلى غير خَلَفٍ، وتلك أقصى غاياتِ الجُودِ، فالمجاهدُ الحقُّ

يَجُودُ بِالنَّفْسِ؛ إِذْ ضَنَّ الجَوَادُ بِهَا  

  ‌وَالجُودُ ‌بِالنَّفْسِ أَقْصَى غَايَةِ الجُودِ

ولا يَعزُبُ عنْ فَهْمِ مُتَدبِّرٍ اتفاقُ صِيغةِ الأمرِ بِالصِّيامِ والجهادِ، حيثُ قالَ اللهُ: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ‌كُتِبَ ‌عَلَيْكُمُ ‌الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)، وقال: (‌كُتِبَ ‌عَلَيْكُمُ ‌الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ)، ولا شك أنَّ التعبيرَ بالفعلِ (كتب) أقوى وأوثقُ من (فرض) أو (أمر) أو (وجب) ونَحوها، يقول العلَّامةُ الطاهرُ بنُ عاشورٍ (ت1393هـ): «وَأَصْلُ الكِتَابَةِ ‌نَقْشُ ‌الحُرُوفِ فِي حَجَرٍ أَوْ رَقٍّ أَوْ ثَوْبٍ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ النَّقْشُ يُرَادُ بِهِ التَّوَثُّقُ بِمَا نُقِشَ بِهِ دوَامُ تَذَكُّرِهِ، أَطْلَقَ (كتب) على معنى حَقَّ وَثَبَتَ»، وكونُ الفعل ماضيًا، ومَبنيًّا لِمَا لم يُسَمَّ فاعِلُهُ، ومُتعلِّقًا به حرفُ الجرِّ (على) الدَّالُّ على الاستعلاءِ والفوقيَّةِ؛ كلُّها ممَّا يؤكِّدُ الحُكْمَ ويُقرِّرُهُ.

ثانيًا: أنَّ الفقهاءَ أصَّلُوا جُملةً من المسائلِ الفقهيَّةِ المُتعلِّقةِ بالجهادِ في رمضانَ، وهل يُباحُ للمُجاهدِ أنْ يُفطِرَ أو لا؟ وهل عِلَّةُ الفطرِ هي السَّفرُ أو المشقَّةُ؟ وهو ما يدلُّ على أنَّ الجهادَ في رمضانَ ليسَ استثناءً أو شذوذًا، بل أمرٌ طبيعيٌّ مُطَّرِدٌ.

وخلاصَةُ آرائهِمْ أنَّه إذا كان المُجاهدِ في سَيْرٍ أو مُرابطةٍ أو حراسةٍ، ولا يُضْعِفُهُ الصَّوْمُ عن أداءِ مهمَّتِهِ فَمَعَهُ رُخْصةٌ في الإفطارِ، لكنَّ الصَّوْمَ أفضلُ، أمَّا إذا كانَ في قتالٍ مُتلاحِمٍ، والصَّومُ يُضعِفُهُ في تلكَ المُواجهةِ التي تَحتاجُ مَجْهودًا بَدَنِيًّا هائلًا، فالإفطارُ أفضلُ، وقد وقعَ الأمرانِ مَعًا في فتحِ مكَّةَ، فأثناءَ المسيرِ، ومعَ الاقترابِ من مكَّةَ، رخَّصَ النَّبيُّ، صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، لأصحابِهِ في الإفطارِ، فَمِنْهُم مَنْ صامَ، ومِنْهم مَنْ أفطرَ، وفي يومِ الهُجُومِ أمرهمْ بالإفطارِ، فكانتْ عَزيمةً، فقد روى الإمامُ مسلمٌ في صحيحِهِ عن أبي سعيد الخُدريّ، رضي اللهُ عنه، «سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ، صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، إلى مَكَّةَ، وَنَحْنُ صِيَامٌ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ، صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (إِنَّكُمْ قَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ، وَالفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ)، فَكَانَتْ رُخْصَةً، فَمِنَّا مَنْ صَامَ، وَمِنَّا مَنْ أَفْطَرَ، ثُمَّ نَزَلْنَا مَنْزِلًا آخَرَ، فَقَالَ: (‌إِنَّكُمْ ‌مُصَبِّحُو عَدُوِّكُمْ، وَالفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ، فَأَفْطِرُوا)، وَكَانَتْ عَزْمَةً، فَأَفْطَرْنَا»، وفي غيرِ صحيحِ مُسلمٍ أنَّ النبيَّ، صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، بلغَهُ أَنَّ بَعْضَ أصحابهِ قد صامَ، فَقَالَ: (‌أُولَئِكَ ‌العُصَاةُ)؛ لأنَّهمْ قد خالفوا أمرَ الرَّسولِ، صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكلَّفُوا أنفسَهُمْ فوقَ طاقَتِها بعد ذُيوعِ الشَّكوى العامَّةِ، وأضْعَفُوها عن البلاءِ أثناءَ المُواجَهَةِ، وربَّما أدخلَ الشَّيطانُ نزغًا من الرِّياءِ الخفيِّ إلى قلوبِ بعضِهم.

صورة من حروب الردة

ثالثًا: أنَّ التاريخَ الإسلاميَّ حَافلٌ بمعاركَ رَمضانيَّةٍ حاسمةٍ، مُسجَّلةٍ في تاريخِ المجدِ بحروفٍ من نورٍ، وقد كان النَّصرُ في مُعظَمِها حليفًا للمسلمينَ، أكتفي بذكرِ بعضِها دون استقصاءٍ:

1. غزوةُ بدرٍ الكُبْرَى، التي سمَّاها الله يومَ الفرقانِ، وقد وقعتْ في السابعِ عشرَ من رمضانَ عام 2هـ، وكانتْ فُرقانًا بين أولياءِ الرحمنِ وأولياءِ الشَّيطانِ، وإعلانًا عن أنَّ الدَّولةَ الإسلاميَّةَ صارتْ قُوَّةً ذاتَ بأسٍ شديدٍ، يجبُ أنْ يَحسبَ لها الأعداءُ ألفَ حسابٍ.

2. فتحُ مكَّةَ، وهو يومُ الفتحِ الأعظمِ، الذي جاءَ فيه الحقُّ، وزهقَ الباطِلُ، وطُهِّرتِ الكعبةُ من رجسِ الأوثانِ، وقد وقعَ في العاشرِ من رمضانَ عام 8هـ.

3. معركةُ (البُوَيْبِ)، وهي إحدى أهمِّ المعاركِ المُمهِّدَةِ لفتحِ بلادِ فارسَ، وقد قادَ فيها الجيشَ الإسلاميَّ المُثنَّى بنُ حارثةَ، وانتصرَ على الجيشِ الفارسيِّ بقيادةِ مهرانِ بنِ باذانِ انتصارًا ساحقًا، وكان ذلك في رمضانَ عام 13هـ.

4. معركةُ (القادسيَّة)، وهي تلك الملحمةُ العُظمَى التي قاد فيها الجيشَ الإسلاميَّ سعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ، أمامَ جيشٍ فارسيٍّ هائلٍ بقيادة رستم، وكانتْ أهمَّ مِسْمَارٍ دُقَّ في نعشِ الإمبراطوريَّةِ الفارسيَّةِ، وقد وقعتْ في رمضانَ عام 15هـ.

5. فتحُ بلادِ (النُّوبةِ)، وقد قاد فيه عبدُ الله بنُ سعدِ بن أبي السَّرْحِ جيشًا ضِدَّ النُوبيِّينَ، الذين كانوا مشهورينَ بالرِّمايَةِ، حتَّى إنَّهمْ في مواجهةٍ سابقةٍ أصابُوا عددًا كبيرًا من الجنودِ المُسلمينَ في عيونِهم، فسُمُّوا (رُماةَ الحَدَقِ)، ولكنَّهم هُزموا هذه المرَّةَ هزيمةً نكراءَ؛ ممَّا مهَّد لانتشارِ الإسلامِ جنوبًا في القارة الإفريقيَّةِ، وكان ذلك في رمضانَ عام 31هـ.

6. فتحُ (الأندلس)، فبعد عبورِ طارقِ بن زيادٍ إلى الأندلس، التقى بالجيشِ القُوطيِّ بقيادةِ (لُذْريق) في معركةِ (وادي برباط)، فانتصرَ عليهمْ انتصارًا ساحقًا فتح أبوابَ أوروبَّا للمسلمين، وأسَّسَ دولةً إسلاميَّةً باسقةً دامتْ ما يزيدُ على ثمانيةِ قرونٍ، وكان ذلك في رمضان عام 92هـ.

7. فتحُ (السِّندِ)، وهي المعركةُ الفاصلةُ التي قادَ فيها جيشَ المُسلمينَ أصغرُ قائدٍ في تاريخِ الفتوحاتِ الإسلاميَّةِ، وهو محمَّدُ بنُ القاسم الثقفيِّ، إذ تولَّى قيادةَ الجيشِ، وعمرُهُ 17 عامًا، وقد وَصَلَ إلى الدَّيبلِ (كراتشي حاليًا)، فانتصر على أهلِها، ثمَّ انساحَ جيشُهُ في رُبوعِ نهرِ السِّندِ، يفتحُ مدينةً تلوَ الأخرى، حتَّى تمَّ للمسلمينَ فتحُ مُعظمِ شبهِ القارَّةِ الهنديَّةِ، التي بها ثلثُ المسلمينَ في العالمِ اليومَ، وكان ذلك في رمضانَ عام 92هـ.

8. معركةُ (بلاط الشُّهداء)، والتي كانتْ على أرضِ فرنسا في (بواتييه) بالقربِ من باريسَ حاليًا، وقد قاد فيها جيشَ المسلمينَ عبدُ الرَّحمنِ الغافقيُّ، وقد وقعتْ في رمضانَ عام 114هـ، ولكنَّ المُسلمينَ انهزموا فيها؛ لأسبابٍ عديدةٍ، أهمُّهما: السُّرعةُ في حيازةِ الأرضِ وتركُ تأمينِ خطوطِ الإمدادِ مع طولِ المسافةِ، وطمعُ البعضِ في الغنائمِ التي بلغتْ حدًّا هائلًا.

9. وقعةُ (عمُّوريَّة)، وهي التي قاد فيها الخليفةُ المُعتصمُ جيشَ المسلمينَ؛ تلبيةً لنداءِ أسيرةٍ مُسلمةٍ نادتْ “وامعتصماه”، فلم يكتفِ بتحريرِها، وتحريرِ قريةِ (زِبَطْرَة) التي كانتْ فيها، بل سار حتَّى فتح عَمُّوريَّة، وهي ثانيةُ أهمِّ المدنِ لدى الرُّومِ بعدَ القُسطنطينيَّة، وكان ذلك في رمضان عام 223هـ.

10. معركةُ (الزلَّاقَة)، وهي التي خاضَها المرابطونَ بقيادة يوسف بن تاشفين، مع المعتمدِ بنِ عبَّادٍ، ضدَّ ألفونسو ملك قُشتالةَ، فهزموهم هزيمةً نكراءَ، حَمَتْ بيضةَ الإسلامِ في الأندلسِ، وأطالتْ بقاءَ المسلمين هناك لأربعةِ قرونٍ لاحقةً، وكانتْ في رمضانَ عام 479هـ.

11. فتحُ (حارم)، وهي معركةٌ فاصلةٌ فتحَ فيها البطلُ المغوارُ نور الدّين محمود حِصْنَ (حارم)، بالقرب من حلب، وكانَ تحتَ سيطرةِ الغُزاةِ الصَّليبيِّينَ، وكانَ نورُ الدينِ يبكي في المعركةِ، ويتضرَّعُ قائلًا: “اللَّهُمَّ، انصرْ دِينَكَ، وَلَا تنصرْ مَحْمُودًا، مَنْ هُوَ ‌مَحْمُودٌ ‌الكَلْبُ ‌حَتَّى يُنْصَرَ”، فنصره الله نصرًا مُبينًا، قتل فيه عشرةُ آلافِ صليبيٍّ، وأُسِرَ عددٌ من أمرائِهم، وكان مُقدمةً لتحريرِ المسجدِ الأقصى على يدِ صلاحِ الدِّينِ الأيوبيِّ، بعدَ بضعةٍ وعشرينَ عامًا، وقد فُتِحَ الحِصْنُ في 22 رمضانَ عام 559ه.

12. معركةُ (المنصورةِ)، وهي التي خاضَ فيها الجيشُ المصريُّ بقيادةِ عزِّ الدين أيبك، والظَّاهر بيبرس معركةً ضدَّ الصَّليبيَّينَ الذين توغَّلوا حتَّى بلغوا المنصورةَ، وانتهتْ بهزيمةٍ مُدوِّيةٍ لِلغُزاةِ، وأسْرِ (لويسِ التاسع) ملك فرنسا، وقد وقعتْ في رمضانَ عام 647هـ.

13. معركةُ (عَيْنِ جالوتَ)، وقد خاضَها جيشُ المماليكِ في مصرَ بقيادةِ سيف الدين قطز ضدَّ التتارِ، فانتصرَ عليهم انتصارًا حاسمًا، كُسِرَتْ فيه شَوكةُ التَّتارِ، وكانَ مُقدِّمةً لتطهيرِ ديارِ المسلمينَ من رِجسِهم، وقد أسلمَ عددٌ كبيرٌ منهم، وصاروا قوَّةً تَحْمِي بيضةَ الإسلامِ، بعدما كانوا ألدَّ أعدائِهِ، وقد وقعتْ في رمضانَ عام 685هـ.

14. وقعة (شَقْحَب)، وقد وقعتْ ضدَّ بقايا فُلولِ التَّتارِ في منطقةِ (مَرْجِ الصُّفَّرِ) بالقربِ من دمشقَ، وقد نُصِرَ فيها المسلمونَ نَصرًا مؤزَّرًا، وقُتلَ من التَّتارِ ما لا يعلمُ عَدَدَهُ إلَّا الله، وقد شاركَ فيها شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّة (ت728هـ) بنفسِهِ، وكانَ يَدورُ على الجنودِ فيأكلُ أمامَهُمْ مِنْ شَيءٍ في يَدِهِ؛ لِيُعْلِمَهم أنَّ الإفطارَ أفضلُ؛ لِيتقَوَّوْا على القِتالِ، وكانَ لِشِدَّةِ إيمانِهِ بنصرِ اللهِ يقولُ للأمراءِ: “إنَّكمْ في هذهِ الكَرَّةِ مَنْصورونَ”، فقال له أحدُهُم: قُلْ إنْ شاءَ الله، فكانَ يقولُ: إنْ شاءَ اللهُ ‌تَحقيقًا ‌لا ‌تعليقًا، وكانَ يتأوَّلُ في ذلكَ قولَ اللهِ تَعالى: (ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ)، وقد وقعتْ في رمضانَ عام 702هـ.

15. فتحُ (قُبرص)، وكانتِ الجزيرةُ تحت حكمِ المُسلمينَ منذُ عهدِ معاويةَ بنِ أبي سُفيانَ، رضي الله عنه، ولكنَّ ضَعْفَ الدَّولةِ الإسلاميَّةِ لاحقًا، وطمعَ مُلوكِ أوروبَّا في تلكَ الجزيرةِ الإستراتيجيَّةِ أدَّى إلى سُقوطِها بأيديهمْ، وقد استعادَها السُّلطانُ المملوكيُّ الأشرفُ برسباي، بعد معركةٍ طاحنةٍ، قُتِلَ فيها ما لا يُحْصَى من النَّصارى، وأُسِرَ (جانوس) ملك قبرص، وذلك في رمضانَ عام 829هـ.

16. حربُ العاشرِ من رمضانَ 1393هـ، الموافقِ السَّادسِ من أكتوبر 1973م، والتي قامَ بها الجيشانِ المصريُّ والسُّوريُّ ضِدَّ الكِيانِ الصُّهيونيِّ الغاصبِ، وحطَّمُوا فيها أسطورةَ جيشٍ قيلَ إنَّهُ لا يُقهَرُ، ولكنَّ نتائجَها لم تكنْ في صالحِ الأمَّةِ كَفَاتِحَتِها، والأعمالُ بخواتِيمِها، ولا حولَ ولا قوَّة إلَّا باللهِ العليِّ العظيمِ.

لَمْ أستقصِ كلَّ المعاركِ، وثمَّةَ معاركُ مُختلفٌ في تاريخِها، وأخرى جَرى الإعدادُ لها والمسيرُ لِلَّقاءِ في رَمضانَ، ولكنَّ القتالَ الفعليَّ وقعَ بُعَيْدَهُ، أو وَقَعَ القِتالُ قُبَيْلَ رمضانَ، ثم جاءتْ توابعُ المعركةِ في رمضانَ، والاستعدادُ والتَّوابِعُ لا يَقلَّانِ أهميَّةً عن القتالِ المُتلاحِمِ.

انتصرت غزة؟ صيامٌ وجهاد واستشهاد

رابعًا: تُعَدُّ معركةُ (طُوفانِ الأقصى) المَجيدةُ دُرَّةً في تاجِ المعاركِ الرَّمضانيَّةِ، فنحن لا نعلمُ أيَّ معركةٍ من المعاركٍ المذكورةٍ آنفًا استمرَّتْ ستَّةَ أشهرٍ مُتواصِلَةٍ، بَيْنَ قُوَّتَيْنِ غيرِ مُتكافئتيْنِ من الناحيةِ العسكريَّةِ، والأنكى أنَّ الجانبَ الأقوى عسكريًّا تَمدُّهُ كلُّ قُوَى الشَّرِّ بأعْتَى الأسلحةِ، والجانبَ الأضعفَ يخذُلُهُ، بل يتآمَرُ عليه جُلُّ ظهيرِهِ العربيِّ والإسلاميِّ، في واحدةٍ من أحطِّ صُوَرِ الخِذلانِ الدَّنِيءِ، بل التواطُؤِ الرَّخِيصِ، ومع ذلكَ قدَّمَتِ المقاومةُ من المفاجآتِ ما أذهلَ العالمَ بأسرِهِ، وفَاجأَ العدوَّ والصديقَ، ومهما تكنْ نتائِجُها، فقد سُجِّلَتْ بحروفٍ من نورٍ في جبينِ المقاومةِ، وستكونُ علامةً فارقةً في تاريخِ الصراعِ مع هذا الكيانِ الغاصب، حتَّى تأتيَ لحظةُ استئصالِ ذلك الورمِ السَّرطانيِّ الخبيثِ قريبًا إنْ شاء اللهُ، ‌بِعِزِّ ‌عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللهُ بِهِ الإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ اللهُ بِهِ الكُفْرَ.

وختامًا، فهنيئًا لأهلِ غزَّةَ العزَّة الجمعَ بينَ أجرِ الصِّيامِ الذي يَجزي اللهُ وحدَهُ بِهِ، وشرفِ الجهادِ الذي هو ذِروةُ سَنامِ الإسلامِ، وجلالِ انضمامِ الآلافِ إلى قوافلِ الشُّهداءِ من الأحياءِ المَرزوقينَ، لِتغدو أرواحُهم ‌فِي ‌حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَسْرَحُ فِي أَنْهَارِ الجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ تَحْتَ العَرْشِ.

فأيُّ فَضْلٍ ينالَهُ الأحبَّةُ رغمِ قَسوةِ الأحداثِ، وأيُّ عارٍ يُلطِّخُ جبينَ المُتخاذلينَ المُتواطِئينَ الأنجاسِ؟ فإلى أبطالِ المُقاوَمةِ الصَّناديدِ، ليكنْ شِعارُكمْ “المَنِيَّةُ ولا الدَّنِيَّةُ”:

وَمَا لِلْمَرْءِ خَيْرٌ فِي حَيَاةٍ

إِذَا مَا عُدَّ مِنْ سَقَطِ المَتَاعِ

وإلى كلِّ جَبانٍ مُتخاذِلٍ، أو عَميلٍ مُتواطِئٍ:

‌فَأَنْتَ ‌أَخُو شَيْنٍ، وَخِدْنُ دَنَاءَةٍ

وَصَاحِبُ عَارٍ، وَابْنُ أُمِّ شَنَارِ

‌فَأَنْتَ ‌أَخُو شَيْنٍ، وَخِدْنُ دَنَاءَةٍ

وَصَاحِبُ عَارٍ، وَابْنُ أُمِّ شَنَارِ

د. مصطفى السواحلي

د. مصطفى السواحلي أستاذ اللغة العربية وآدابها في جامعة السلطان الشريف علي الإسلامية، سلطنة بروناي دار السلام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى