لعلَّ كثيرًا من المُشاركين في الحراك الثقافي لمْ يسمع بـ”علم أصول النحو” من قبل، أو سمع به محض سماع لم يتعدَّ اسمه. وهنا نأتي لصُلب المشكلة التي تواجهنا. أقصد بالضمير “نا” العربَ الواعين لحالهم المُريدين للتقدُّم، وكذلك المُعترضين على الأصول والجذور واللغة والتاريخ. إنَّنا جميعًا لمْ نعطِ أنفسنا فرصةً لنعرف حقًّا ما الذي نُدافع عنه -من جانب المُدافعين-، وما الذي نُهاجمه -من جانب المُهاجمين-. وهذا يدلُّ على أنَّ الموقف الحضاريّ الذي نحن فيه موقف انفعاليّ لا فكريّ.
· مُشكلات اللغة العربيَّة، وسببها الأساس
أمَّا في جانب اللغة العربيَّة فنشهد في زمننا هذا الكثير من مظاهر الاعتداء السافر عليها من كلّ حَدَبٍ وصَوْب. على عدد من الأصعدة والمستويات؛ فعلى مستوى الاستخدام الرسميّ لها (أيْ في تلك المحلَّات والمظان التي لا بُدَّ أنْ تُستخدم فيها، مثل الكتب والمقالات وبيانات السياسيين والإداريين وأهل العلم، المكتوبة منها والمنطوقة، وغيرها من المظانّ الرسمية كالخُطب في المساجد، والدروس الدينية) وقد تحوَّلت في جزء لا يستهان به إلى العاميات والدارجات؛ وعلى مستوى الاستخدام العُرفيّ (أقصد الحديث بين الناس بعضهم بعضًا، ومدى الانحدار غير المسبوق فيه خلال العقدين السابقين خاصةً، كذا في جانب الحفاظ الشكلي على اللغة ومفرداتها في عملية التسمية، والتي مالت إلى انتقاء أسماء أجنبية تناوئ العربية في بيئتها، مثل أسماء الأطفال والمحالّ التجارية والشركات وغيرها)؛ وعلى مستوى تعليم اللغة العربية الذي صار يناصبه العداءَ تعليمٌ أجنبيٌّ كامل صار هو الرائد؛ وأخيرًا على مستوى احترامنا لها وفهمنا إيَّاها. والأخير هو الأخطر لا شكَّ في ذلك؛ لأنَّه مصدر كلّ ما سبقه. فعدم احترام اللغة العربيَّة أدَّى إلى عدم تقديرها قدرها وإلى مُجاوزتها إلى لُغات أخرى هي محلّ احترام عند بعض مِنَّا -أو فلنُقل كثرة مِنَّا، إنْ أردنا الدِّقَّة-.
وعدم احترام اللغة العربيَّة مصدره عوامل عدَّة، خارجية وداخلية. لعلَّ من أهمَّ العوامل الداخلية إطلاقًا هو عدم فهمنا للغة العربيَّة، لا أقصد بهذا أنَّنا لا نفهمها حين نسمعها أو نقرأها، بل أنَّنا نتعامل مع كيان لُغويّ صدَّقنا من الدَّعاوى والشائعات عنه أنَّه كيان لُغويّ صعب، وأنَّ نظامه التركيبيّ (النحو العربيّ) لا يُفهم للدرجة التي صار تعلُّمه محض عقبة دراسيَّة نحاول تجاوزها كلَّ عام. وهذا الوضع المُؤسف ما أوصلنا إليه إلا الادعاء بأنَّ اللغة العربيَّة قديمة لا دخل لنا بها، وأنَّها مرتبطة بزمن السيوف لا بزمن الصواريخ، وأنَّ اللائق بها هو الدَّفتر لا الحاسوب. وكلُّها دعاوى لها أسباب كثيرة غالبها فكريّ.
ومن هذا المنظور، يأتي دور إعادة التصالح مع اللغة العربيَّة وإعطاء الفرصة لأنفسنا للتعرُّف على هذا الكيان اللغويّ الذي نريد الدفاع عنه، أو نريد الهجوم عليه. وبعد هذا القرار بالمعرفة عن كثب ستتبدَّل الأمور في أعيننا من الاتجاهَيْن. فإنَّه من المستغرب إلى أقصى الحدود أنْ يحاول المُدافع استلهام حُجج للدفاع عن العربيَّة ويحاول المُهاجِم اقتناص أيّ تشنيع عليها -في ظنِّه أقصد- مُتناسِيْنَ جميعًا أنَّ لغةً حكمَتْ ألسنة غالب الأرض -على المستوى الثقافي الرسمي- لقرون طويلة، وأزالتْ لغات كثيرة من ألسُن أهلها حتى تحلَّ محلَّها لا يمكن إلا أنْ تتصف بالحِكمة، ولا يمكن إلا أنْ يكون نظامها مُلائمًا للمنطق الإنسانيّ وللفطرة السليمة، ولا يمكن إلا أنْ تكون مُؤهَّلةً لحمل الفكر والعِلم الإنسانيَّيْن.
أوفِدُ هذه الكلمات الموجزة في التعريف بهذا العلم الجليل؛ وفدَ تعقُّل ونظر وحكمة في مسيرة اللغة العربية، وما أسهم به فيها علماء أجلاء من كل حدب وصوب، طوال قرون. لعلَّ هذا الوفد يزيل غشاوة الغُربة عن أنظارنا إلى اللغة العربية، ومنطقيتها، ورصانة المبادئ التي عليها استقرَّت، وبها امتدت.
· الحِكمة من معرفة "علم أصول النحو"
هنا يجب أنْ نورد الحِكمة من معرفة العرب والمسلمين جميعًا بعلم أصول النحو. وأكتفي منها -من وجهة نظري- بالعوامل الآتية:
1- معرفة علم أصول النحو تُعلِمُنا أمرًا ينقصنا التنبُّهُ إليه؛ وهو أنَّ قواعد النحو التي نتعامل معها لمْ تأتِ عبثًا، بل تعتمد على نظام عقليّ رصين وجهود ضخمة بذلها آلاف العلماء -على أقلّ تقدير مُمكن- على مدار مئات الأعوام -وما زالت تُبذل حتى اللحظة-؛ في محاولة فهم وتأمُّل وتدبُّر النظام اللُّغويّ عمومًا والعربيّ خصوصًا. فإنَّ ما نراه من قواعد ليستْ تحكُّمات خالية من الغرض والهدف، بل هي النتيجة الأخيرة لعمليَّة طويلة جدًّا من الجهد العلميّ لاستخلاص هذه القواعد التي ننفر منها ونعتبرها ثقلًا علينا. ومتى عرفنا ما وراءها من نظام وترتيب لتغيَّر مِنَّا الشعور تجاهها قطعًا، ولما استساغ أحدٌ أنْ يسخر من قواعد النحو كما نرى كثيرًا في الأعمال التمثيليَّة وبين ألسنة الطلاب في وطننا العربيّ.
2- نعرف من هذا العلم جهود المُفكِّرين المُسلمين، واكتمال منظومة العلم العربيّ والإسلاميّ. حيث إنَّ علم أصول النحو أقرب ما يكون للمنطق العامّ وعلم المنهج وفلسفة اللغة. وجهود العلماء في هذا المَنحَى تمثِّل الظهير الفكريّ للعلوم الإجرائيَّة -وهي التي تتعامل مُباشرةً مع أهدافها كالنحو والفقه-، وتُبيِّن لنا اكتمال تلك المنظومة العلمية الإسلاميَّة والعربيَّة، تنظيرًا وفلسفةً للكُليَّات الحاكمة، ثم إجراءً ومتابعةً للجزئيَّات المباشرة.
3- نعرف من هذا العلم وحدة منظومة العلوم العربيَّة والإسلاميَّة التي تتضامُّ وتتشابه في وحدة وتناغم؛ حتى يعيى من يحاول فصلها أو اجتزاءها مهما حاول. فعلم أصول النحو يتضامّ ويتآصَرُ مع علم أصول الفقه من وجوه كثيرة. وهكذا في كامل المنظومة العلميَّة الإسلاميَّة. ومن هنا يأتينا الثبات والاطمئنان إلى تاريخنا، وتاريخنا العلميّ خاصَّةً وننشر هذا بين أبناء أمِّتنا حتى تتمُّ استعادة الثقة التي يحاول الكثير النَّيل منها.
· ما هو "علم أصول النحو" ببساطة؟
كلُّنا يعلم أنَّ النحو العربيّ علم التركيب اللُّغويّ في اللغة العربيَّة؛ أيْ أنَّ أهمَّ موضوعاته وأهدافه هو تحديد كيفيَّات التركيب اللُّغويّ الصحيح أو -ببساطة- كيف تكون الجُملة -التي هي وحدة المعنى الكامل- صحيحةً تؤدِّي معاني صحيحة مُرادة منها. فإذا كان هذا هو النحو العربيّ فمَنْ أين تأتي القواعد التي في النحو العربيّ؟ وكيف كوَّنها النُّحاةُ؟ ومن أيَّة مصادر؟ وهل اختلفوا في قواعدهم؟ وماذا نفعل عندما تختلف القواعد أو تتعارض؟ .. مجموع هذه الأسئلة وإجاباتها هو كيان “علم أصول النحو”.
ولمزيد من بسط الفهم أقول: إذا كُنَّا ندرس “النحو” على أنَّه القواعد التي تحكم التركيب المَعنويّ الصحيح؛ فإنَّ “أصول النحو” هي قواعد وأُطُر تركيب هذه القواعد، أو هي مجموع الأُسس والمصادر التي أتى منها النحاة بهذه القواعد -التي هي موضوع علم النحو-. فإذا كان النحو عِلمًا إجرائيًّا فعلم أصول النحو هو رأسه. وهو الفكر النَّحْوِيّ والمنطق النحويّ والمنهج النحويّ.
وللتبسيط أكثر فإنَّه بمثابة “علم أصول الفقه” من “علم الفقه”. فإذا كان الفقه موضوعه تحرِّي حُكم الله في أفعال المُكلَّفين؛ فأصول الفقه موضوعه مصادر هذه الأحكام، وبنيتها الداخلية التفصيليَّة، والقواعد الفقهيَّة (عند مَن اعتبر القواعد الفقهيَّة داخلةً فيه)، وكيف نرجِّح بينها إذا تعارضتْ، وغيرها من الموضوعات؛ فكذلك هو بالنسبة للنحو نفسه. كلُّ هذا سيتضح في القادم باختصار بالغ.
· تعريف "علم أصول النحو"
سأكتفي هنا بتعريف الجلال السيوطيّ (ت 911هـ) له. يقول في أوَّل كتابه “الاقتراح”: “علم يُبحَثُ فيه عن أدلَّة النَّحْو الإجماليَّة -من حيثُ هي أدلَّتُهُ-، وكيفيَّةِ الاستدلال بها، وحالِ المُستدلّ”. وكما نرى واضحًا أنَّ السيوطيّ قد تأثَّر كل التأثُّر بالتعريف العامّ لعلم أصول الفقه، فقد صاغَه على صوغه تمامًا بتمام؛ يقول القاضي البيضاوي (ت 685هـ) في مبدأ “منهاج الوصول إلى علم الأصول”: “أصول الفقه معرفة دلائل الفقه إجمالًا، وكيفيَّة الاستفادة منها، وحال المستفيد”. وبالعموم هو يقصد بتعريفه السابق الأدلَّة التي سنأتي عليها هنا، ويقصد أنَّ العلم يبحث في كلّ أصل؛ من حيث إفادتُهُ للهيكل النحويّ لا لشيء آخر؛ فعندما يبحث في الكلام المنقول إلينا من العرب لا يقصد به الاعتبار بمعناه مثلًا؛ إنَّما بما يدلّ فيه على القواعد والتركيب، وكذلك كيف ننتقل من الدليل إلى القاعدة، ومَن يقوم بهذه العمليَّة.
· تاريخ "علم أصول النحو"
علم أصول النحو لمْ يتوفَّرْ عليه النُّحاة بالتدوين فيه رأسًا منذ القديم. فلمْ يكُن موجودًا بكيانه الكامل منذ القِدَم كعلم النحو نفسه. لا يعني هذا أنَّه لمْ يكُن موجودًا بل هو موجود منذ لحظة البدء في الجهود النحويَّة لكنَّ إفراده بالتأليف تأخَّر كثيرًا عن بدئه. وقد كان موجودًا مُفرَّقًا في كُتُب النُّحاة خاصَّةً تلك الكُتُب التي تهتمُّ بالأصول أو بالتقعيد الأقرب للعمل الفلسفيّ الخالص، وكذلك كُتُب التأسيس في علم اللغة. وأبرز هذه المُؤلَّفات كتاب “الخصائص” لـ”ابن جِنِّيّ”، و”الإغراب في جدل الإعراب” و”لُمَع الأدلة في أصول النحو”، وكلاهما لكمال الدين أبي البركات الأنباريّ (ت 577هـ).
ثمَّ أتى الإمام “جلال الدين السِّيُوطِيّ” فجمع مباحث العلم التي كانت مُفرَّقةً هنا وهناك في كتاب واحد، أسماه “الاقتراح في علم أصول النحو”. وهو أوَّل كتاب شامل لمباحث هذا العلم -كما رآها السيوطيّ- وهي محاولة تُحمَد له بالقطع. ومثل هذه الخطوات هي التي تطوِّر العلوم وتُنشئ الحضارات. وقد بذل فيه جهدًا لا بأس به مع أنَّه نقل كثيرًا من السابقين (وهذه إحدى أهمّ سمات السيوطيّ عمومًا. وهي سمة تأليفيَّة يحتاج الجُهد العلميّ إليها، وليست عيبًا كما يعيب عليه الكثير بها).
وهناك فرع علميّ -أو فلنُقل فكريّ- آخر أودُّ التنويه عنه -لعلَّه يكون موضوعًا للبسط في القريب بإذن الله- وهو “فلسفة النحو العربيّ”. ولا أريد أنْ أبسط القول أكثر حتى لا نتفرَّع عن القصد الرئيس هنا، لكنْ لا يمكنني هنا إلا الإشادة البالغة بالسيد العلَّامة “علي أبو المَكارم” أستاذ النحو بدار العلوم (ت 2015م)، على جهوده الرائدة في إحياء هذا الفرع بل ريادته له بمُؤلَّفات لا يمكن تصنيفها إلا في الطراز الأرفع من التأليف العلميّ، من أهمِّها “أصول التفكير النحويّ”. وليس فيه مُبتدعًا ابتداءً؛ فقد اتصلت دومًا جهود العلماء في التأمُّل النحويّ والتفكير فيه، رحم الله كلّ مَن ساهم في نشر الخير.
هدف "علم أصول النحو"
لقد عرفنا من السابق أنَّ علم أصول النحو ينصبُّ في موضوعه على مصدر القاعدة النحويَّة والبناء النحويّ بشكل عامّ، وعلى كيفيَّة الاستدلال من هذا المصدر. وبهذا نرى تمحوُر علم أصول النحو حول “البنية النحويَّة” التي تهدف إلى بناء سليم للقاعدة النحويَّة. وبذلك نحدِّد هدف العلم في استنباط صحيح للبنية النحويَّة من مصادرها، والقدرة على الاستدلال على صحَّتها، أو على بُطلانها من المُخالف لها (النحو علم له مذاهب كأي علم، وليست القواعد المسرودة في كتب التعليم إلا أوفق ما وصل إليه النحاة والمستقر عند جمهورهم). وكما نلحظ فموضوعات العلم نظريَّة كُليَّة لا تتعامل مع الواقع اللُّغويّ، بل مع ما يُكوِّن هذا الواقع اللُّغويّ وكيف يُكوَّن.
· موضوعات علم أصول النحو
باختصار شديد، يتمحور العلم حول مصدر وكيفيَّة بناء القاعدة النحويَّة؛ نظريًّا وكُليًّا فقط، وليس كلّ قاعدة على حدة، فهذا من عمل علم النحو لا الأصول. فموضوعه: أصول القواعد النحويَّة، وكيف نتعامل مع كلّ أصل من هذه الأصول تعامُلًا سليمًا، ومعالجة الخلافات النحويَّة عن طريق الترجيح بينها بقواعد ترجيح، ونضمُّ له -بالتبعة والتضامّ- المدارس النحويَّة. وتعني المدرسة -في العلوم والفلسفات والآداب- الاتجاه؛ فـ”المدرسة الكلاسيكيَّة” في الأدب فمعناه الاتجاه الكلاسيكيّ أو التقليديّ أو المُحافظ، وكذلك “المدرسة الشافعيَّة” في الفقه فمعناها الاتجاه أو المذهب الذي ارتضى مسلك الإمام الشافعي عمومًا.
· ما هي أصول النحو باختصار؟
لن نتَّبع هنا طريقة السيوطيّ في عرض وتقسيم أصول النحو، بل سنتَّبع ترتيبًا يخضع لفكرة “المصدر والآليَّة” أيْ مصدر القواعد كُليَّةً وآليَّات العمل فيها كُليَّةً. وعلى هذا سنقسِّمها إلى منابع القواعد النحويَّة أو مصادرها، وآليَّات صناعة القواعد النحويَّة. وذلك لأنَّ النحو هو جهد علمي حول تقعيدات، تمَّ استخلاصها من مجموع لغة العرب المنقولة إلينا، عن طريق آليَّات عُظمى استخدمها النُّحاة لتوليد وإقرار هذه التقعيدات. وعلى هذا نقسِّم مصدر القاعدة النحويَّة إلى مصدَرَيْن:
أوَّلًا: السَّماع:
ويقصد به النُّحاة مجموع ما سُمِعَ ونُقِل إلينا من الكلام العربيّ الفصيح، الصالح للتقعيد من خلال التأمل فيه. وهو أقسام:
1- القرآن الكريم:
ويُستدلّ به كلّه، بكلّ قراءاته المُتواترة منها والشَّاذَّة (والقرآن هو قراءاته). لاتفاق العرب الأقحاح أنَّه النموذج الأعلى للفصاحة والسلامة والبلاغة والتمام. فأجمع العرب -مُسلمهم وغير مُسلمهم- على أنَّه المِقياس الذي عليه يُقاس الكلام، من حيث التركيب ومن حيث الكلام المُفرد.
2- الأحاديث النبويَّة:
وهنا سنرى موقفَيْن للنُّحاة؛ غالبهم رفض أخذ اللغة عن أحاديث النبيّ ﷺ، وقلَّة قليلة ارتضتْ ذلك -ومنهم ابن مالك صاحب الألفيَّة الشهيرة-. وهذا الموقف يبيِّن مدى جدِّيَّة ونزاهة النُّحاة؛ لأنَّ المِقياس هو صدور الكلام عن العربيّ الفصيح الخالص. وقد رفضوا الحديث النبويّ لأنَّ غالب الحديث رُوي بالمعنى لا باللفظ. وهذا أمر يختلف عن الرأي العامّ في علم الحديث ومنظومته؛ فمعروف أنَّ الأحاديث كانت تُدقَّق إلى أقصى حدّ مُمكن بألفاظها لأنَّها مصدر التشريع واللفظ فيها حاكم ومُنشئ للحُكم الشرعيّ. بالعموم على اعتقاد النُّحاة أو تخوُّفهم من مسألة الرواية بالمعنى رفضَ غالبُهُم الاستناد إلى الأحاديث النبويَّة في مسألة الاستشهاد اللُّغويّ. ولمْ يكُن هذا إلا تخوُّفًا. أمَّا النبيّ ﷺ فيُسلِّم الجميع أنَّه بليغ فصيح لا شَوبَ في ذلك إطلاقًا، وقد قال هو نفسه “أنا أفصح العرب”. وهذا الأمر كما سلف يدلُّ على وضوح المعيار والمِقياس في العمل العلميّ النحويّ حتى مع وجود مؤثِّر وهو نسبة الحديث – ألفاظًا وتراكيبَ- إلى النبيّ ﷺ.
3- كلام العرب المنقول:
شعرًا ونثرًا وأقوالًا عاديَّة. ويشترطون للمَنقول عنهم أنْ يكونوا فُصحاء خُلَّصًا -أيْ عربًا أصِيْلِيْنَ لا هُجنة فيهم-. وقد حدَّدوا حيِّزًا مكانيًّا للنقل منه هو قلب الجزيرة العربيَّة، ومنعوا الأخذ عن العرب المُتطرِّفين -أيْ الذين على أطراف الجزيرة العربيَّة- لاختلاطهم بغيرهم من الأُمم، مَخافة تأثير هذا الاختلاط على ألسنتهم. وقد حدَّدوا حيِّزًا زمنيًّا معيَّنًا سَمَّوْه “عصر الاستشهاد” أيْ الذي يُقبل منه اللغة القياسيَّة ويحقُّ الاستشهاد به. أنهوا هذا العصر بشاعر يُدعى “إبراهيم بن هَرْمَة” تُوفِّي 176هـ (أيْ في الخلافة العباسيَّة).
وقد اشترطوا صحَّة النقل والنسبة إلى الشُّعراء الذين يتمُّ أخذ اللغة عنهم. فكانوا يشترطون صحَّة الإسناد عن الشاعر فيما قال، ويستوثقون من هذا كما يفعل المُحدِّثون مع الحديث النبويّ.
وهنا وجب التنويه إلى أن غالب تراث المُسلمين والعرب منقول بالإسناد: دواوين الشِّعر والكُتُب والرسائل والوصايا والخُطَب…. على خلاف الفكرة السائدة -عند الكافة تقريبًا- من ربط الإسناد بالأحاديث فقط.
ثانيًا: الإجماع:
والمقصود به إجماع النُّحاة؛ فإنَّ إجماعَ النُّحاة على قاعدةٍ أو حُكمٍ مصدرٌ لهذا الحُكم. وقد ضممتُه إلى قسم المصدريَّة لأنَّه ليس آليَّةً من الآليَّات، كما أنَّه حُجَّة وحدَه لا يحتاج إلى العودة إلى اللغة التي أُخذ عنها -وهناك اتجاه قليل لا يعتمد الإجماع دليلًا-. وينقل السيوطيّ أنَّ المُراد بالنُّحاة نُحاةُ البَصرة والكُوفة. لكنَّ حالات إجماع النُّحاة نادرة. وينقسم الإجماع إلى إجماع تصريحيّ: أيْ يُصرِّح به النُّحاة، وإجماع سُكُوتيّ: أيْ أنَّ النُّحاة سكتوا عن أمر فدلَّ سكوتهم على حُكم فيه بالجواز أو المنع (وواضح مدى توافق البنية العلمية الإسلامية لكل راءٍ).
آليَّات صناعة القواعد من الأصول المنقولة إلينا
وهي آليَّات كثيرة ومناهج عدَّة، سأكتفي بأهمِّها:
1- الاستقراء:
وهو جمع اللغة المنقولة من السماع، وفحصها فحصًا جيِّدًا غرضَ استخلاص القواعد منها. والاستقراء هو أوَّل مناهج النُّحاة العلميَّة. ومنه عرفنا أنَّ الفاعل مرفوع، وأنَّ المبتدأ وخبره كذلك، ومنه عرفنا تراكيب الجمل الأساسيَّة، وكلّ القواعد الرئيسة التي نعرفها جميعًا.
2- القياس:
وهو أكبر الآليَّات والمناهج النَّحويَّة بعد حصر اللغة والنظر فيها. ويكون بقياس التركيب على التركيب والصيغة على الصيغة. وله أربعة أركان: المَقيس عليه وهو المنقول إلينا عن العرب، والمَقيس وهو الذي نريد قياسه على الأصل المنقول إلينا، والعلَّة وهي الرابط بين الاثنين الذي به سنُتبع الآخر بالأوَّل، والحُكم وهو الذي نريد إثباته للفرع من الأصل لهذه العلَّة.
3- الاستصحاب:
وهو الإبقاء على حالة الأصل. مثل أنَّ الأصل في الألفاظ المُفرد وليس المُثنى ولا الجمع، ومثل أنَّ الأصل في الأسماء الإعراب (أيْ تغيُّر أواخرها)، وأنَّ الأصل في الحروف والأفعال البناء (أيْ ثبات أواخرها).
· التعارض والترجيح بين القواعد النحويَّة
وهي حالة اختلاف المنقول إلينا فيكون بعضه على وضع والآخر على مُخالفه، أو اختلاف الأقيسة النحويَّة أو القواعد الفرعيَّة بين المذاهب المختلفة. ويعتمدون على معايير الإسناد الصحيح، والأكثريَّة في المنقول -أيْ الأخذ بما نُقل أكثر من الآخر-، وترجيح لغة قريش التي نزل بها “القرآن الكريم”، واستقامته مع القواعد العامَّة أو مع القياس. وهي مباحث كثيرة بها تفاصيل تختصُّ بكلّ حالة فرديَّة. لكنَّها تعرِّفنا الجهد العلميّ في النحو العربيّ.
· المدارس النحويَّة
وفي هذا الجهد العلميّ الضخم اختلف النُّحاة فيما بينهم وأسَّسوا مدارس كبيرة. وسأنقل هنا التعريف المُختصر الذي أوردته في بحث لي بعنوان “الأصول الفكريَّة للجهد النحويّ” مُكتفيًا به. علمًا بأنَّ أبرز محاولة عموميَّة لعرض المدارس النحويَّة كانت للسيد الدكتور “شوقي ضيف”، في كتابه “المدارس النحويَّة” -وهو ما اعتمدت عليه في صوغ هذا المختصر-. وفي السطور القادمة أهمُّ المدارس النحويَّة:
1- مدرسة البَصرَة:
وهي أوَّل المدارس النحويَّة إطلاقًا، نشأتْ في مدينة “البصرة”. وقد كانت كثيرة الاعتماد على العقل وإعماله في تصنيف اللغة واستخراج قواعدها. وفيها تولَّدت أوَّل نظريَّة في النحو؛ وهي نظريَّة “العمل النَّحويّ” على يد “الخليل بن أحمد” (ت 173هـ). ومن أعلامها غيره “سِيْبَوَيْهِ” (ت 180هـ) صاحب كتاب “الكتاب”، و”المُبرِّد” (ت 286هـ) صاحب كتب كثيرة وهامَّة مثل “الكامل”.
2- مدرسة الكُوفة:
نشأتْ في مدينة “الكُوفة” العراقيَّة. وبينها وبين “مدرسة البصرة” خلافات كثيرة غالبها في الاصطلاح. فمثلًا، يفضِّل البصريُّون مصطلح “الجرّ”، واسم “مجرور”. والكوفيُّون يعبرون عن النوع نفسه بـ”الخَفْض”، واسم “مَخفوض”. وأيضًا الخلاف حول مدى إعمال العقل أو الالتزام بالنصّ. حيث اهتمَّتْ “المدرسة الكوفيّة” بالنصّ كثيرًا. ومن أعلامها: “عليّ بن حمزة الكِسائيّ” (ت 189هـ)، “أبو زكريا يَحْيَىْ بن زياد الفرّاء” (ت 207هـ)، “أبو العباس أحمد بن يحيى بن زيد ثعلب” (ت 291هـ).
3- مدرسة بغداد:
ونشأت في مدينة “بغداد”. وهي مدرسة النضج الفكريّ والفلسفيّ للنحو. حيث فيها بدأت بلورة شديدة للتفكير النحويّ، وأوَّل تصنيف في “علم أصول النحو”. ومن أعلامها “أبو عليّ الفارسيّ” (ت 377هـ)، “أبو الفتح عثمان بن جِنِّيّ” (ت 392هـ). وهو صاحب الجهود العظيمة في التصنيفِ، ووضعِ أصول النحو، منها كتابه بالغ الأهميَّة “الخصائص”، وكتاب “سرّ صناعة الإعراب”.
4- مدرسة الأندلُس:
ونشأتْ في “الأندلُس”. وهي مدرسة غالب عملها الترجيح ما بين المدرستَيْنِ الرَّئيستَيْنِ: البصرة والكوفة. وقد اهتمَّت بالتعليلات النحويَّة للاختيارات والترجيح، ومناقشة الآراء السابقة عليها. وصُنع المنظومات التعليميّة للنحو. من أعلامها “جمال الدين محمد بن عبد الله بن مالك” صاحب الألفيّة الشهيرة “ألفيَّة ابن مالك”، و”أبو حيَّان أثير الدين محمد بن يوسف الغرناطيّ” (ت 745هـ).
5- المدرسة المِصريَّة:
ونشأتْ في “مصر”. وهي مدرسة تغليب بين المذاهب أيضًا، مع اهتمام بالتعليلات المُرجِّحة بين المذاهب. ولمع منها اسم شهير هو “جمال الدين عبد الله بن يوسف بن هشام” (ت 761هـ)، وكُتُبُه في غاية من الشهرة. منها: “مُغنِيْ اللَّبيب عن كُتُب الأعاريب”، والعالم المَوسوعيّ “جلال الدين السيوطيّ” (ت 911هـ) وقد عقد أوَّل كتاب في “علم أصول النحو” وهو “الاقتراح” -كما سلف-. وله في كافة فروع اللغة أيضًا تآليف كثيرة مُتعدَّدة.
شكر الله لك أيها الأستاذ الكريم.. لطالما عجبتُ من استصعاب الطلاب لقواعد النحو العربية، فقد وجدتها منطقية أبدًا؛ إذ كيف للفاعل المبادر ألا يكون مرفوعاً وهو ضد العاطل! أليس من الجدير بالمفعول أن يقف منصوباً بين يدي فاعله؟ وهل يستوي بقاء المدّ في مقام الأمر أو الزجر؛ والحال تقتضي العجلة والخضوع للآمر أو الطالب.. وهكذا لو استقرأنا معظم القواعد النحوية لعثرنا على ما يشفي الغليل من الموافقات والحكمة بين الصورة وعلّتها.. وبين ظاهر الحال ومقتضاه.
زادك الله علماً وعملاً ورزقك الإخلاص.