أشتات

فقدان الرموز؛ هل هو فقدان للقضية؟

كُلَّما اغتِيلَ رمزٌ من رموز المقاومة، أو قضى نحبه؛ سارعت نفوسنا نحو التشاؤم والأُفُول، وأحسستْ قطاعاتٌ منا بالضياع، واسودَّتْ في عين القليلِ منا الحياةُ، وانغلق أُفُقُها. ولعلَّ في هذه الأفعال ردَّ فعلٍ متوقَّعًا بعض الشيء، ردَّ فعلٍ انفعاليًّا يتسارع آليًّا. لكنْ، هنا يأتي دور التفكير الهادئ في هذا الفقدان، كي نسابق نفوسنا قبل الوصول إلى لحظة الجزع التي تصيب النفوس، والتي قد تترك أثرًا ثابتًا يدعو للتشاؤم، ويُنكِّس رأس صاحبه، حائلًا دون تنبُّهه أنَّ لحظة الانتصار تأتي وبصرنا مُوجَّهٌ إلى الأمام، يكشف كل الصورة، لا مُنكَّس للأرض يشعر أن الدنيا تتهاوى عليه.

وبسبب أثر هذه اللحظات العصيبة، سأحاول هنا الإجابة عن سؤال: هل فقدان رمز أو أكثر فقدان للقضية؟ .. سأجيب ببساطة حتى يفهم الجميع، وبإيجاز شديد، في إجابات فكرية عقديَّة لا سياسية. وبعيدًا عن الضجة الضخمة التي تملأ الساحة، تُصاحب كلَّ حدثٍ مُشابهٍ، فإن نور العقل كالشمعة لا تتلألأ إلا وهي مَحُوطة بأجواء صافية هادئة.

قضايا الأمم أكبر من الأشخاص

يُقصد بتعبير “قضايا الأمم” أمثالُ: قضية فلسطين، تبعيَّة الأمة الإسلامية لغيرها، تأخُّر الأمة الإسلامية، تذبذب الالتزام الإسلامي داخل الأمة،…. هذه ما تُسمَّى بقضايا الأمم، وكما ترى هي قضايا ضخمة هائلة الحجم. وقضايا الأمم لا تشبه قضايا الأشخاص -إلا من وجوه-. فإن كانت قضية الشخص تستغرقه وتشمله وحده، فإنَّ قضية الأمة تستغرق وتشمل مجموع الأمة -رضوا بالاشتراك أم لم يرضوا-.

والأمر هنا -ببساطة- أشبه ما يكون بالشجرة الضخمة، التي لها جذور ضاربة في الأرض. والشخصيات -باختلافها- في هذا التشبيه محلُّها أوراقُ هذه الشجرة؛ تلك الأوراق التي تتبدَّل وتتغيَّر كل حين. فلا تفتأ تتفتَّقُ تلك الورقاتُ عن نضجها؛ فإذا ببعضها ورقات ضامرة ينضوي في جوفها العفن والخبث (الشخصيات الخائنة والمُتخلِّية والمُدينة لأهلها)، وإذا ببعضها ورقات نحيلة قليلة النفع (الشخصيات غير المؤثرة)، وإذا بالأخرى ورقات مُشرقة تُزيِّن تلك الشجرة، وتصير مَعلَمًا لها (الشخصيات المؤثرة)، يعرف الناس تلك الشجرة من بعيد بزهو تلك الورقات المشرقة ونصاعتها. لكنْ في النهاية، كلُّ الورقات تبذل وتموت، بطريق أو بأخرى، كل الورقات ستقع أرضًا. فلا تتوقع غير هذا.

وبكلام أشد معقوليَّة، وأبعد عن التشبيه، فإن قضايا الأمة أكبر من الشخصيات التي تتعاطى معها وفي سياقها؛ لأن الكلَّ أكبر من الجزء يقينًا. فقضايا الأمم تخرج عن حيز الشخص؛ لأنها متعلقة بوجود أمة معينة، على أرض معينة، في ظرف صعب معين. هذه هي القضية. ووجود الأشخاص لَبِنةٌ من لبنات الجدار، وورقةٌ من ورقات الشجر. فليس قضاءُ نحبها قضاءً للقضية، بل حدثًا في تاريخ القضية. يمضي الشخص وتبقى القضية.

فقدان الرموز؛ هل هو فقدان للقضية؟

معالجة القرآن لموضوع فقدان الشخصيات في معارك الأمم

وللقرآن الكريم نصٌّ صريح واضح، في قضية أثر فقدان الشخوص على القضايا. جاء النص في مجموع آيات تتعلق بالهزيمة التي لحقت المسلمين في “غزوة أُحُد”، ويا لدفء آيات القرآن، وصفاء معالجتها للنفس البشرية؛ فقد حاكت الآياتُ مجموعةً من العِبَر والخلاصات التي تحشد الموقف، في نسيج واحد مُتناغم. ومتى تأملَّناها في يومنا هذا عرفنا أن خطاب القرآن مُمتدٌّ مُتجذِّرٌ مالكٌ لزمام نفوس البشر؛ فكأن تلك الآيات تخاطبنا الآن.

والنص الصريح من الآيات في قضية الفقدان؛ هو قوله تعالى ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ﴾. هنا نجد أمرين أو مسألتين في الآية: الأولى أن الشخصيات -وإنْ بلغ تأثيرها عنان السماء، والمثال هنا بسيدنا محمد ﷺ نفسه- هم عباد لله -تعالى-. وما أدرج القرآنُ هذا التنبيه -على عظمه وجلال شأن مثاله- إلا ليُذكِّر النفوس بأنها تعبد الله -وحده- لا تعبد الشخصيات، وأن المؤثر في الكون هو الله -وحده- لا الشخصيات، وأن مُدبر الكون كله هو الله -وحده- لا الشخصيات؛ مهما بلغت هذه الشخصيات من عظم شأن وجليل مرتبة وسُمُوق أثر، فليس هناك مَن هو أشد أثرًا على الموقف في الآيات من رسول الله ﷺ.

والمسألة الثانية: هي لهجة الإنكار البالغ الذي واجه بها الخطابُ القرآنيُّ نفوسَ المؤمنين. وهنا نستحضر موقف هذا الخطاب؛ فقد كان المسلمون في الحرب المشتعلة (يوم أُحُد)، يرون أنفسهم منهزمين منسحقين، ويرون أحباءهم وأبناءهم وآباءهم وذوِيْ القُربى منهم يُقتلون ويجرحون ويُمزَّقون. وما ينظرون حولهم إلا ويكرُّ إليهم النظر صادعًا بهزيمة نكراء. فإذا -وهم على هذه الحال- بمُشيعٍ يُشيع بينهم أن رسول الله ﷺ قد قُتل. فيا لها من طامة كبرى! لا مثيل لها، فإنَّ العروة الوثقى -في نظرهم- قد انفصمتْ.

ثم تجد القرآن يُخاطب المؤمنين الذين عاشوا هذه التجربة بهذا الخطاب الإنكاريّ على سلوكهم، وفزعهم وجزعهم يوم سمعوا هذه الفرية. وتأمَّلْ قمة هذا الإنكار عليهم في اختيار تعبير ﴿انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ﴾، وهو كناية عن قلة الإيمان بالله في بعض حالات النفوس. فمتى حلَّ بالنفس مُصابٌ كانت جزعة مذهولة، وكأنَّ الدنيا تدور بلا مُدبِّر، وكأنَّ الله لمْ يُصبهم بتلك المُصيبة، وكأنَّ الله لمْ يقدِّر موت هذا أو ذاك من عباده، في أجلٍ مُعين مرتَّب لا مَحيد عنه. ومن تلك الإغفالات العديدة التي تراكمت على جماعة المؤمنين في سماعهم خبر موت الرسول ﷺ؛ استحقتْ نفوسهم هذا اللوم الصريح المباشر المُعنِّف، الذي يكاد يصفع الذاهلين السكارى من أثر المصيبة ليُفيقوا من غفوة ذهولهم.

ولننظر لبقية سياق الآيات التي عالجتْ الموقف العصيب؛ لنرى تلك الصورة الكُلية التي يرسمها القرآن لفلسفة مُجريات الحياة، خاصةً تلك الأحداث التي نعتبرها حزنًا خالصًا، وشرًّا محضًا. وسياق الآيات -ببساطة شديدة- يؤكد على فكرة الاختبار في الحياة، وأنَّ الدنيا دار عمل وامتحان وفتنة، وأنَّ المؤمنين يُفتنون بالسهل والصعب، بالهين والهائل من الأمور، بالخير والشر في اعتبارهم. وأنَّ أحدًا من الخلق لن يمضي دون اختبار، وأنَّ الجنة طريقها الثبات أمام الاختبارات، وأنَّ النفوس لا تموت إلا بتقدير الله -تعالى-، وأنَّ الثبات في صف قضايا الأمة هو الطريق إلى ثواب الدنيا وآخرة. والآن نقرأ تلك المعاني التي رسمتْ فلسفةً كاملةً، بسبك القرآن وخطابه الرائق:

﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (143) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا ۗ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ – آل عمران.

الرموز؛ هل هو فقدان للقضية؟2 فقدان الرموز؛ هل هو فقدان للقضية؟

الحق لا يحتاج إلى مَن ينصره

وإنْ دلَّتْنا هذه الآيات على شيء بطريق الدلالة الخفي؛ فتدلنا على أنَّ جهدنا ليس المُؤثر الحقيقيّ في مُجريات الأمور. فكل الآيات معًا تدل على أنَّ الله يسوق تلك المُجريات ليُنقي النفوس، ويُمحِّصها، ويضعها في خضم اختبار حقيقيّ، ومَحَكٍّ معتبر تستبين به النفوسُ أمام ذواتها وأمام الآخرين. وهذا بطريق دلالة خفيّ يخبرنا أنَّ الحق لا ينتصر بنصرك إياه؛ لأن الحق ابتداءً مُنتصر، وأنك مَن تحتاج إلى الوقوف في صفه وخانته. فإن الحق قديم، والحق اسم من أسماء الله. فكُن في صف الحق، دون تردُّد أو انتظار لما يجري أمامك، فالذي صنع ما أمامك هو مَن أخبر بخطابه حقيقة المواقف، وهو الذي يريد أن يكشفك أمام نفسك، سواءً وثقت في الحق والتزمت صفه مهما استبان لك من مظاهر، أو انخدعت في تلك المظاهر فناصرت الحق عندما رأيته منتصرًا في عالم الظاهر أمامك، وتنكَّبت عنه لمَّا ظهر لعينك الكليلة أنه ضعيف وفي مأزق.

مفهوم الشخصيات المُؤثرة

الشخصيات المؤثرة ليست سوى نماذج امتلكت المهارة والقدرة وحازت ما يؤهِّلها من جانب، ثم اهتمَّتْ وانشغلتْ وانخرطتْ انخراطًا في القضايا الهامة والعامة في تاريخ كل أمة من جانب آخر. فالعاملان معًا يصنعان الشخصيات المؤثرة؛ فلا التأهيل وحده يجعل الشخصية مؤثرة، ولا محض الانخراط دون تأهيل يصنع شخصية مؤثرة.

وتألُّق تلك الشخصيات المؤثرة في الحياة أو موتها؛ كلاهما فرصة  لعرض النموذج، وتوضيح هذا المفهوم أمام العامة، خاصةً الناشئة. وبهذا السلوك نحوِّل الحدث إلى حدث مُعتَبَر، بل نُحيي حدث موت شخصية، ليصير طريقًا لصناعة ألف شخصية غيرها.

مُذكِّرين أنفسنا ومَن نعلِّم أن الله قد كتب الموت على الجميع، وأن عمر بن الخطاب قد مات، وصلاح الدين قد مات، وعمر المختار قد مات. حتى الشخصيات الاعتبارية (تُسمَّى الدول والمؤسسات شخصيات اعتباريَّة في العُرف العام الحديث) كلها ماتت؛ فالخلافة العباسية انقضت، ومملكة بيت المقدس قد وقعتْ من قبل في أيدي الأعداء مرَّات. ولم يكن موت شخص أو دولة أو وقوع حدث نهاية الأمر؛ بل مجرى من مُجريات الحياة.

وإنْ كنتَ تظنُّ أن الشخصية المؤثرة -أيًّا كانت- قد عاشتْ مُخلصةً لقضيتها، ناصبةً جهودها حيالها؛ فلتعلمْ أن حياة تلك الشخصية كانت اختبارها هي، فماذا عن اختبارك أنت؟! .. هو قد انقضى أجله، وانتهى اختباره؛ أما أنت فما زالت الحياة تعتريك، وما زال اختبارك دائرًا؛ فتنبه، وأعدَّ العدة لإكمال الطريق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى